الأنبياء: بعد السبي
۲۰ أغسطس ۲۰۲۰ما هي كنيسة العهد الجديد؟
۲۸ أغسطس ۲۰۲۰سفر أيوب
في ميدان الدراسات الكتابيَّة، هناك خمسة أسفار يندرجون بشكلٍ عام تحت عنوان "أدب الحكمة" أو "الأسفار الشعريَّة للعهد القديم". وهي أسفار: الأمثال، والمزامير، والجامعة، ونشيد الانشاد، وأيوب. ومن بين هذه الأسفار الخمسة، يبرُز أحدها بنقش بارز، ويُظهر اختلافات كبيرة عن الأسفار الأربعة الأخرى. وهو سفر أيوب. إن الحكمة الموجودة في سفر أيوب لا تُقدَّم لنا في شكل أمثال. بل إن سفر أيوب يتناول أسئلة تتعلَّق بالحكمة في سياق سرد أحداث قصصيَّة تتناول آلام أيوب العميقة وأوجاعه الشديدة. خلفية هذه القصة هي في زمن الآباء. وقد أُثيرت أسئلة حول القصد من كتابة هذا السفر، سواء كان المقصود منه أن يكون سردًا تاريخيًّا لشخصٍ حقيقي أو ما إذا كان هيكله الأساسي هو هيكل دراما لها مُقدِّمة، بما في ذلك مشهد افتتاحي في السماء، يتضمَّن حديثًا بين الله والشيطان، ثم تأتي ذروة الأحداث في الخاتمة، حيث تم تعويض خسائر أيوب الكثيرة خلال تجاربه.
على أي حال، فإن جوهر رسالة سفر أيوب هو الحكمة المتعلِّقة بالإجابة عن السؤال حول دور الله في مشكلة المعاناة البشريَّة. في كل جيل، تنشأ احتجاجات تقول إنه إن كان الله صالحًا، فلا ينبغي أن يكون هناك أي ألم، أو معاناة، أو موت في هذا العالم. إلى جانب هذا الاحتجاج ضد الأشياء السيئة التي تحدث للأبرار، كانت هناك أيضًا محاولات لإنشاء عمليَّة حسابيَّة للألم، والتي من خلالها يُفترض أن قدر معاناة الفرد يتناسب بشكلٍ مباشر مع درجة الإثم أو الخطية التي ارتكبها. توجد إجابة سريعة على هذا في الأصحاح التاسع من إنجيل يوحنا، حيث أجاب الرب يسوع على سؤال التلاميذ حول مصدر معاناة الإنسان المولود أعمى.
في سفر أيوب، وُصفت شخصيَّة أيوب على أنه رجل بار، في الواقع كان أكثر الرجال الأبرار على الأرض، ولكنه كان الشخص الذي ادَّعى الشيطان أنه بار فقط لأنه ينال بركات من يد الله. وقد وضع الله سياجًا حوله وباركه أكثر من جميع البشر، ونتيجة لذلك اتَّهم الشيطان أيوب بأنه يخدم الله فقط بسبب البركات السخيَّة التي ينالها من خالقه. وجاء التحدِّي من الشيطان أن ينزع الله حمايته عن أيوب ويرى ما إذا كان أيوب سيبدأ بعد ذلك في لعن الله.
بينما تتوالى أحداث القصة، تزداد معاناة أيوب بشكلٍ سريع من سيء إلى أسوأ. كانت معاناته شديدة لدرجة أنه وجد نفسه جالسًا على كومة من الرماد، يلعن اليوم الذي وُلد فيه، ويصرخ بألم شديد. كانت معاناته كبيرة لدرجة أنه حتى زوجته نصحته أن يلعن الله، حتى يموت ويرتاح من عذابه. ما يتَّضح أكثر في القصة هو المشورة التي قُدمت إلى أيوب من أصدقائه، أليفاز، وبلدد، وصوفر. وتُظهر شهادتهم مدى فراغ وضحالة ولائهم لأيوب، ومدى تخمينهم بالافتراض بأن بؤس أيوب الذي لا يُوصف لا بد أنه مُتعلِّق بانحطاط شديد في شخصيَّة أيوب.
وصلت مشورة أيوب إلى مستوى أعلى مع بعض الأفكار العميقة التي قالها أليهو. طرح أليهو العديد من الأحاديث التي تحمل معها الكثير من عناصر الحكمة الكتابيَّة، لكن الحكمة الأخيرة التي نجدها في هذا السفر العظيم لا تأتي من أصدقاء أيوب أو من أليهو، بل من الله نفسه. عندما طلب أيوب إجابة من الله، استجاب الله بهذا التوبيخ: "مَنْ هذَا الَّذِي يُظْلِمُ الْقَضَاءَ بِكَلاَمٍ بِلاَ مَعْرِفَةٍ؟ اُشْدُدِ الآنَ حَقْوَيْكَ كَرَجُل، فَإِنِّي أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي" (أيوب 38: 2–3). ما ترتَّب على هذا التوبيخ هو الاستجواب الأكثر حدة لإنسان من قبل الخالق. يبدو للوهلة الأولى كما لو أن الله يحاول مضايقة أيوب، بقدر ما يقول: "أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الأَرْضَ؟" (الآية 4). أثار الله سؤالًا بعد الآخر بهذه الطريقة. "هَلْ تَرْبِطُ أَنْتَ عُقْدَ الثُّرَيَّا، أَوْ تَفُكُّ رُبُطَ الْجَبَّارِ؟ أَتُخْرِجُ الْمَنَازِلَ فِي أَوْقَاتِهَا وَتَهْدِي النَّعْشَ مَعَ بَنَاتِهِ؟" (الآيات 31-32). من الواضح أن الإجابات على هذه الأسئلة الاستنكاريَّة التي جاءت بسرعة شديدة هي دائمًا "لا، لا، لا". ظلَّ الله يشدِّد على دونيَّة وتبعيَّة أيوب في استجوابه. واستمر الله في طرح سؤال بعد الآخر حول قدرة أيوب على القيام بأشياء لا يمكن لأيوب فعلها ولكن من الواضح أن الله يمكنه القيام بها.
أخيرًا في أصحاح 40، قال الله لأيوب: "هَلْ يُخَاصِمُ الْقَدِيرَ مُوَبِّخُهُ، أَمِ الْمُحَاجُّ اللهَ يُجَاوِبُهُ؟" (الآية 2). هنا، لم تكن إجابة أيوب طلبًا مُتحدِّيًّا للحصول على إجابات لشقائه. بل قال: "هَا أَنَا حَقِيرٌ، فَمَاذَا أُجَاوِبُكَ؟ وَضَعْتُ يَدِي عَلَى فَمِي. مَرَّةً تَكَلَّمْتُ فَلاَ أُجِيبُ، وَمَرَّتَيْنِ فَلاَ أَزِيدُ" (الآيات 4-5). ومرة أخرى، رجع الله إلى الاستجواب وذهب أكثر عمقًا في الاستجواب السريع الذي يُظهر التناقض الساحق بين قوة الله، المعروف في سفر أيوب باسم إيل شدَّاي، وعجز أيوب في المقابل. أخيرًا، أقرَّ أيوب بأن مثل هذه الأشياء عجيبة جدًا. حيث قال: "بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. لِذلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ" (42: 5-6).
الجدير بالملاحظة في هذه الدراما هو أن الله لم يجب أبدًا بطريقةٍ مباشرة على أسئلة أيوب. لم يقُل: "أيوب، سبب معاناتك هو لهذا أو ذلك"، بل إن ما فعله الله في سر بشاعة هذه المعاناة الشديدة هو أنه قدَّم نفسه كإجابة لأيوب. هذه هي الحكمة التي تجيب على سؤال الألم —ليست الإجابة عن سبب وجود الألم بطريقة معيَّنة، وفي وقت معيَّن، وفي ظروف معيَّنة، ولكن أين يكمن رجائي في وسط الألم.
الجواب على ذلك يأتي بوضوح من حكمة سفر أيوب التي تتفق مع المبادئ الأخرى لأدب الحكمة: مخافة الرب، أي الرهبة والتبجيل أمام الله، هي رأس الحكمة. وعندما نشعر بالارتباك والتشويش بسبب أشياء لا يمكننا فهمها في هذا العالم، فإننا لا نبحث عن إجابات محدَّدة دائمًا على أسئلة محدَّدة، ولكننا نتطلَّع إلى معرفة الله في قداسته، وفي برِّه، وفي عدله، وفي رحمته. هنا تكمن الحكمة الموجودة في سفر أيوب.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.