عن العناية الإلهية
۳۱ يوليو ۲۰۲۲العناية الإلهية كما قدَّمها إقرار إيمان وستمنستر
۹ أغسطس ۲۰۲۲عناية الله المُعلنة في الكتاب المقدس
ملاحظة المُحرِّر: المقالة 2 من سلسلة "العناية الإلهية"، بمجلة تيبولتوك.
هل سمعتَ يومًا شخصًا غير مؤمن يقول: "كلُّ شيء يحدث لسببٍ"؟ أنا سمعتُ ذلك، وربما سمعتُه عددًا من المرات يفوق قدرتي على الإحصاء. لا أدري تمامًا فيمَ يجب أن أفكر عندما أسمع ذلك. فمن ناحية، أُسَرُّ بأن أسمع شخصًا غير مؤمن يشك في أن الأشياء تحدث بلا هدف. ففي النهاية، يمكن لأحدهم أن ينتقل سريعًا من الاعتقاد بأن بعض الأمور تحدث بلا هدف، إلى الاعتقاد بأن الحياة نفسها بلا هدف، ثم إلى العدمية البحتة التي تؤدي إما إلى الانتحار، أو إلى اتباع سلوك اجتماعي عدائي. لكن من الناحية الأخرى، أعلم جيدًا أنه عندما يقرُّ معظم غير المؤمنين بأن كل شيء يحدث لسبب، هم لا يفكرون في السبب الصحيح. فهم يرون عادة أن القدر الأعمى وغير العاقل هو الذي يتحكم في كل شيء. لكن، كيف يمكن أن يكون لدى قدر أعمى وغير عاقل سبب لكلِّ شيء؟ فالمعنى والهدف لا ينبعان إلا من كائنات عاقلة تضع خطة وتسعى إلى تنفيذها. فإذا كان كل شيء يحدث لسبب، فإن شيئًا - أو بالأحرى شخصًا – هو حتمًا مَن يقرر السبب وراء حدوثه.
كمؤمنين، نعلم أن كلَّ شيء يحدث لسبب لأن شخص الله، الواحد في ثلاثة أقانيم، خلق كلَّ شيء، ولديه خطة لكلِّ ما يحدث. فهو المتحكِّم في كل شيء إلى حد أنه لا يمكن لعصفور أن يسقط إلى الأرض دون أن يشاء ذلك (متى 10: 29). وهو يعمل كلَّ شيء، وليس فقط بعض الأشياء، حسب رأي مشيئته (أفسس 1: 11). هذا هو في الأساس ما يعنيه اللاهوتيون بمصطلح العناية الإلهية [providence]، وهو أن لدى الله خطة وقصدًا للعالم، وأنه يحكم التاريخ بحيث يساهم كلُّ شيء من أصغره إلى أكبره في تتميم تلك الخطة وهذا القصد. فهو ليس مجرد مراقب سلبي للتاريخ، لكنه بالأحرى عيَّن التاريخ من أجل تحقيق غاية محددة، وهو يوجه هذا التاريخ أيضًا بحيث يبلغ تلك الغاية لا محالة.
لا يوجد ما يُسمَّى بالمصادفة
لدى كلُّ المسيحيين عقيدة من نوع ما عن العناية الإلهية، وذلك لأن الكتاب المقدس يُعلِّم بوضوح بأن الله متسلِّط على كل شيء. لا أعرف شخصًا قد يقول إنه مؤمن بينما ينكر في الوقت نفسه أن الرب متحكم في الأمور الكبرى، مثل الانتخابات الرئاسية، أو البراكين، أو الحروب العالمية. لكن في العقيدة الكتابية الخاصة بالعناية الإلهية، لسنا نحدُّ تحكم الله فقط في أحداث التاريخ الكبرى، لكننا نتحدث أيضًا حتى عن أصغر الأمور، التي تصل إلى نتيجة إلقاء النرد. يقول أمثال 16: 33، "الْقُرْعَةُ تُلْقَى فِي الْحِضْنِ، وَمِنَ الرَّبِّ كُلُّ حُكْمِهَا". فإن إلقاء النرد، وهو المكافئ التقريبي في العصر الحديث لممارسة إلقاء القرعة في القديم، تبدو نتيجته عشوائية تمامًا. لكن الأمر ليس كذلك. فقد عيَّن الرب تحديدًا نتيجة إلقاء النرد.
لكن، كي يحصل الله على نتائج إلقاء النرد التي عيَّنها، يجب بالتأكيد أن تحدث عدة أمور أخرى. فينبغي أن يُلقَى النرد بالمقدار الصحيح تمامًا من القوة. فإذا زادت القوة عن الحد، سينقلب إلى رقم آخر غير الرقم المعيَّن. وإذا قلَّت القوة عن الحد، فربما لا يتدحرج النرد على الإطلاق. وبالتالي، على الله أن يتحكَّم في ذراع مُلقي النرد حتى يحصل على النتيجة التي ينشدها. وماذا لو كانت هناك نسمة هواء خفيفة عند إلقاء النرد، أو أُلقِي النرد أمام مروحة مكيِّف الهواء؟ في كلتا الحالتين، ستلعب شدة الهواء دورًا، ولو بسيطًا، في نتيجة إلقاء النرد. إذن، هذا أمر آخر على الرب أن يتحكم فيه حتى يحصل على الناتج الذي عيَّنه. لكنَّ حركة الهواء متصلة أيضًا بدرجة حرارة الغرفة، المتصلة بدورها بحركة جزيئات الهواء، تلك الحركة التي تتحدد عن طريق الذرات الموجودة في تلك الجزيئات، وفي النهاية عن طريق الجسيمات دون الذرية. فينبغي أن تتحرك تلك الجسيمات والجزيئات بالطريقة الصحيحة تمامًا اللازمة لخلق درجة حرارة الغرفة الصحيحة تمامًا، اللازمة بدورها لخلق الظروف اللازمة كي يعطي النرد الرقم الذي اختاره الرب. هذا تبسيط زائد عن الحد للأمر. فبمجرد الوصول إلى المستوى دون الذري، تتعقد الأمور حقًّا.
الهدف من كل ذلك هو أن نقول، مثلما ذكَّرنا د. أر. سي. سبرول مرارًا، إنه لا يوجد "جزيء منشق" واحد في كل الخليقة، يعمل خارج نطاق تحكم الرب السيادي وتوجيهه. فلا يمكن أن يحدث ذلك، لأنه إذا حادت أصغر الأشياء عن تحكم الله، فإن النتائج المتتالية المترتبة على ذلك يمكن أن تغيِّر كل شيء. ففي النهاية، ومثلما ذَّكرنا د. سبرول أيضًا، لا يوجد ما يُسمَّى بالمصادفة.
العناية الإلهية اليومية
إن إدراكنا لعدم وجود ما يُسمَّى بالمصادفة يجب أن يعيد صياغة نظرتنا إلى الحياة اليومية بشكل كبير. دعونا نواجه الأمر، فمعظمنا لا يمثل أهمية كبيرة في نظر العالم. فربما يكون لنا تأثير يدوم على حفنة قليلة من الأشخاص، وبعد موتنا، سرعان ما سنُنسى. لأجل هذا، من السهل جدًا أن نظن أن أفعالنا لا تمثل أهمية، أو أن الله ليس متداخلًا في حياتنا إلى هذا الحد. ربما نظن أنه متداخل في شؤون قادة العالم، لكنه قطعًا لا يولي اهتمامًا كبيرًا لنا فيما نغيِّر الحفاظات، ونحاول الحفاظ على أولادنا المراهقين بعيدًا عن المتاعب، ونعمل لساعات طويلة لتسديد قيمة القرض العقاري، ونتجاذب أطراف الحديث مع جيراننا، ونصارع للذهاب إلى الكنيسة كل أسبوع، ونحاول الاسترخاء في المساء، ونلعب اللعبة نفسها مع أطفالنا الصغار للمرة المليون، ونستذكر استعدادًا للاختبار القادم، إلى آخره.
لكن حقيقة العناية الإلهية تخبرنا بعكس ذلك. فأولًا، العناية الإلهية تعني ليس فقط أن الله يحكم كل شيء ويوجهه، بل أيضًا أنه يحفظ كل الأشياء. يخبرنا عبرانيين 1: 3، على سبيل المثال، بأن الله، بابنه، هو "حَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ". لم يكتفِ الله بخلق كل شيء، لكنه أيضًا يحفظ كل الأشياء (نحميا 9: 6). كنتُ أقول لأولادي مؤخرًا إنه إذا توقف الرب عن الحفاظ على وجود العالم، فإن كلَّ شيء - بما في ذلك نحن أيضًا - سيتلاشى في الحال إلى العدم. فإننا معتمدون بالكامل، في كل لحظة، على استمرار الله في حفظ خليقته. فالكون لا يستمر بقوته.
وبناء على حق العناية الإلهية الحافظة للخليقة، يمكن أن نكون محقين في استنتاجنا بأن الرب يرى أن ثمة أهمية كبيرة لكل شيء في الخليقة، حتى تلك الأمور التي نرى أنها دنيوية وتافهة. فخالقنا ليس الشخص الذي قد يهدر وقته وطاقته، إن جاز التعبير، على أمور تافهة وعديمة الأهمية. ولذا، فإن حقيقة حفظه لكل شيء، بما في ذلك حياتنا العادية وقراراتنا، تعني في حد ذاتها أن تلك الأشياء تمثل قيمة. هذه القيمة ليست نابعة في النهاية، بالتأكيد، منا نحن؛ بل بالأحرى، تكمن القيمة في الكيفية التي يجعل بها الله كل الأشياء تعمل معًا لخيرنا ولمجده، وفي الكيفية التي ينسج بها كل شيء معًا في خطته السيادية (إشعياء 43: 6-7؛ رومية 8: 28). عبَّر رومية 11: 36 عن هذه الفكرة قائلًا: "لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ. لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ".
وبالتالي، فإن حكم الله وحفظه لكلِّ شيء يتجلى في الأمور الحياتية البسيطة نوعًا ما. فإن تفضيلنا تناول الدجاج على الغداء بدلًا من الأسماك، واختيارنا لنوع الورود التي سنزرعها في حديقتنا، وتفضيلنا لرياضة كرة القدم على البيسبول، واتخاذنا قرارًا بسلوك الطريق ذي المناظر الخلابة بدلًا من الطريق السريع المباشر، ورغبتنا في أن يقص مصفف الشعر نصف بوصة من شعرنا بدلًا من بوصة كاملة، واختيارنا أن تتلقَّى بناتنا دروسًا في رقص الباليه بدلًا من كرة القدم - كل هذا محكوم وموجَّه من الرب في النهاية، وبالتالي يمثِّل قيمة في خطته. لا يُقصد بهذا الحق أن يصيبنا بالشلل. فإننا لن نتسبَّب في خروج ملكوت الله عن مساره إذا فضَّلنا الدجاج على الأسماك. وفي حقيقة الأمر، إن قرارًا كهذا، في المعتاد، لا يمثل أية أهمية. فلا توجد في تناوُل الدجاج أو الأسماك في حد ذاته خطية أو بر. ومع ذلك، فإن القرار الذي نتخذه، حتى في أمر يبدو عديم الأهمية كهذا، له تأثيرات على الملكوت لا يسعنا إدراكها.
وكي نصيغ الأمر بطريقة أخرى، يمكن أن نقول إن العناية الإلهية هي واقع يومي إلى حدٍّ كبير. فالكتاب المقدس لا يعلن لنا عن الإله الذي تؤيِّده الربوبية، الذي هو غير مكترث وغير متداخل بشكل كبير في حياة خليقته. بل يحدثنا لنا الكتاب المقدس عن الإله الواحد الحقيقي، القريب منا (إرميا 23: 23-24)، ليس فقط بمعنى أنه موجود في كل مكان مع خليقته، بل أنه موجود ومتداخل في أحداث الخليقة وقرارات مخلوقاته، ومن خلالها أيضًا. فهو يظل مختلفًا ومنفصلًا عن هذه الأمور، لكن مع ذلك، فإن يده تحمل تلك الأمور وتوجهها، عاملًا كل شيء - وليس فقط بعض الأشياء- حسب رأي مشيئته (أفسس 1: 11).
العناية الإلهية غير العادية
إن قراراتنا التي تبدو عديمة الأهمية لن تضرب بخطط الله عرض الحائط. لكن ماذا عن القرارات والأفعال الأكبر والأشد أهمية؟ لن تفسد تلك القرارات والأفعال خطة الرب، لأن عنايته الإلهية لا تسري فقط على الأمور اليومية، بل أيضًا على الأمور التي يمكن أن نسميها بغير العادية – أي تلك الأفعال التي تؤثر بمزيد من الوضوح على مسار تاريخ العالم وامتداد ملكوت الله. في واقع الأمر، يمكن أن نقول إنه بسبب تحكُّم العناية الإلهية في الأمور اليومية العادية، لا بد أنها تتحكم أيضًا في الأمور غير العادية.
يقول دانيال 2: 21 إن الله "يَعْزِلُ مُلُوكًا وَيُنَصِّبُ مُلُوكًا". لا توجد الكثير من الأمور التي تُعَد وثيقة الصلة بشكل مباشر بمسار التاريخ مثل حُكَّام العالم. فإن صعود الملوك وسقوطهم هو أحد الأمور غير العادية التي ينبغي أن تحدث وفقًا لمقاصد الله تمامًا، حتى تتحقق خطته للتاريخ ولشعبه. سنتناول فيما يلي اعتلاء الملك كورش العظيم عرش فارس في عام 538 ق.م. كمثال توضيحي على ذلك.
فقبل هذا التاريخ بمئتي عام، وقبل أن يصير لبلاد فارس دور رئيسي في المشهد العالمي بزمان طويل، بل وقبل أن يولد كورش، وقبل سبي مملكة يهوذا إلى بابل، تنبأ إشعياء النبي بأن كورش سيصعد إلى السلطة، ويغلب، ويطلق سراح اليهود المسبيين كي يعودوا إلى أرضهم (إشعياء 45: 1-13). لكن قطعًا، كي يحدث ذلك، كان ينبغي وقوع عدد ضخم من الأحداث، واتخاذ عدد كبير من القرارات بطريقة محدَّدة، حتى يصبح كورش رئيسًا لفارس، ويملك، بحيث يتمكَّن اليهود من العودة إلى أرضهم. فأولًا، كان لا بد أن يُسبي اليهود إلى بابل. لكن، لم يكن من الممكن أن يحدث ذلك إلا إذا غزت بابل الإمبراطورية الأشورية، التي كانت تبدو آنذاك كلية القدرة، والتي كانت هي القوة التي تحكم العالم في أيام إشعياء. لكن، لم يكن من شأن بابل أن تقوم بذلك إلا إذا قام الأباطرة الأشوريون باتخاذ سلسلة من القرارات الخاطئة، فيصير البابليون بهذا أكثر نجاحًا من أشور في أرض المعركة. وكي يحدث ذلك، كان ينبغي أن يبرز في بابل رجال سياسة محنَّكون، وأن يتبع ملك أشور مشيرين أردياء، أو يتخذ هو نفسه قرارات خاطئة. لكن، لم يكن من الممكن أن يبرز رجال السياسة المحنَّكون هؤلاء في بابل دون أن يحصلوا أولًا على التعليم الجيد، ويكتسبوا الخبرات الجيدة، الأمر الذي من شأنه أن يتطلب أن يولد رجال السياسة المحنَّكون هؤلاء في العائلات المناسبة التي يمكن أن توفر لهم ذلك التعليم وتلك الخبرات. ثم لم يكن من الممكن أن تتكوَّن مثل هذه العائلات إلا باتخاذ قرارات زواج سليمة، إلى آخره. من الناحية الأخرى، يتطلَّب وجود مشيرين أردياء في أشور سلسلة مماثلة من الأحداث.
وكي يرتقي كورش إلى السلطة، كان ينبغي أن يكون موجودًا أولًا. وبالتالي، كان ينبغي أن يجتمع الزوجان المناسبان معًا لينجبوا هذا الطفل. ولبلوغ هذه المرحلة، كان ينبغي أن تتفق عائلتان معًا على زواج والدة كورش من والده. وكان ينبغي أن يكون كلٌّ منهما في السن التي تسمح له بإنجاب الأولاد، وذلك حتى يُحبل بكورش. وبالتالي، كان ينبغي أن يحظى والدا كورش بحماية من الحوادث، والأمراض، والمزيد من الأمور الأخرى التي قد تقضي على حياتهما قبل ولادة كورش. وكي يحدث ذلك، كان ينبغي أن يتخذ أجداد كورش القرارات الصحيحة من جهة الاعتناء بوالدي كورش في أثناء نشأتهما، الأمر الذي يعني أنه كان ينبغي على الأجداد من الجيل الرابع أن يتخذوا القرارات السليمة من جهة تربية أجداد كورش، إلى آخره.
إنني أبسِّط الأمور هنا، لكن الفكرة التي أود توصيلها هي أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعيِّن الله ارتقاء شخص مثل كورش إلى السلطة، وإطلاق سراح اليهود، وأن يتحكَّم في ذلك، بمعزل عن التحكُّم في عدد لا يُحصى من التفاصيل الدقيقة الأخرى، مثل قرارات الأهل، وأحداث التاريخ الشخصية. ولا بد أن يمتد هذا التحكُّم حتى إلى الجينات الوراثية، لأنه لم يكن من الممكن أن يعتلي كورش العرش إلا إذا أبقاه جهاز مناعة جسمه على قيد الحياة لفترة طويلة بما يكفي لتولِّي السلطة. فإذا وقع له خطب ما، حتى في أتفه الأمور، وفي أية مرحلة من المراحل -لنقل مثلًا إنه ورث قابلية جينية للإصابة بمرض مميت – فسيضيع كلُّ شيء.
إن القرارات التي تُتخذ والأفعال التي تمارَس لها تأثير متتالٍ. لنتتبَّع، على سبيل المثال، تاريخ أبطال حدث من الأحداث غير العادية، وذلك بالرجوع إلى الوراء لمسافة بعيدة بما يكفي، وسنكتشف حينئذ أن الحدث وأبطاله أصبحوا واقعًا فقط بعد تلاقي الملايين من القرارات متناهية الصغر، التي اتخذها عدد لا يحصى من الأشخاص المختلفين، من أجل الوصول بالشخص المناسب إلى الظرف المناسب في الوقت المناسب تمامًا، حتى يتخذ القرارات التي تتسبَّب في وقوع الحدث. فكي يولد المسيا من نسل داود (إشعياء 11: 1-10)، بحسب النبوات، كان ينبغي أن يظل نسل داود على قيد الحياة حتى وقت ميلاد المسيا. وولم يكن لنسل داود أن يظل على قيد الحياة إلا إذا ساهم عدد لا يُحصى من القرارات، يتخذها أفراد من نسل داود، إلى جانب عوامل أخرى خارجة عن سيطرة نسل داود، جميعها بطريقة ما، ولو بشكل بسيط، في حفظ هذا النسل. يتضح هذا في سفر راعوث، حيث تنتهي سلسلة من الأحداث يبدو أنها تقع بمحض الصدفة بزواج بوعز وراعوث، سلفا داود. نقول كل هذا لنبيِّن أن عناية الله تعمل في الأمور غير العادية لأجل تنفيذ خطته فقط إذا تحكَّم الله أيضًا في أمور الحياة اليومية. فكل شيء يحدث لسبب لأن الله يرتب حدوث كلَّ شيء لسبب.
العناية الإلهية فينا ومن خلالنا
يجب أن نفهم من ذلك أنه في حين أن الاختيار بين الدجاج والسمك ليس في حد ذاته قرارًا أخلاقيًّا بوجه عام، أو قرارًا يمثل أهمية مباشرة، لكنه ليس في نهاية المطاف قرارًا عديم الأهمية. فمن الممكن أن يلعب هذا القرار دورًا، على سبيل المثال، في إصابة واحد من الذرية المستقبلية بنوع من الحساسية، فيختار هذا الشخص بدوره ألا يذهب إلى مطعمٍ للمأكولات البحرية بل إلى مقهى. وفي هذا المقهى، يلتقي بفتاة من أهل المنطقة تحب القهوة التي يقدمها هذا المقهى، فيتزوج بها في النهاية، وينجبان مبشرًا مؤثرًا، أو قاضيًا، أو رئيس جمهورية، يؤثر في تاريخ العالم. فكِّر معي قليلًا. فلم يكن لوالدا هذا القائد أن يلتقيا البتة إذا فضَّل جدهما الأكبر الدجاج على السمك أو العكس.
في الوقت نفسه، في حين تتحكم العناية الإلهية في كل شيء، لا يجعل هذا من الله مُحرك عرائس عظيم يمسك بكل الخيوط، بحيث لا تكون القرارات هي فعليًّا قراراتنا نحن، وبحيث لا تمثل دوافعنا أهمية، وبحيث لا يكون لنا أي تأثير حقيقي على مجرى التاريخ. لكنَّ الرب يعمل في ومن خلال قراراتنا، وأفعالنا، ودوافعنا، بحيث تظل هذه هي قراراتنا، وأفعالنا، ودوافعنا نحن، لكنها تعمل مع ذلك نحو تتميم مقاصد الله. فإن قراراتنا، وأفعالنا، ودوافعنا تتوافق مع قرارات الرب، وأفعاله، ودوافعه، بمعنى أنها تعمل جميعها معًا، وفقًا لطبيعة كل فاعل لها، سواء كان الإنسان أم الله، من أجل تتميم ما عيَّنه الله. يُسمي اللاهوتيون هذا المبدأ باسم عقيدة التوافق. ويمكن العثور على أفضل شرح لهذه العقيدة بالنظر إلى بعض الأمثلة الكتابية التوضيحية.
من بين الأمثلة التوضيحية الشهيرة هو قصة حياة يوسف، ولا سيما الملخص الذي نقرأه على لسان يوسف نفسه لمجمل ما مرَّ به. فبعدما باعه إخوته عبدًا، وقاسى سوء المعاملة في مصر، ثم ارتقى عن يمين فرعون، وتصالح مع عائلته، قال لإخوته: "أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا، لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا الْيَوْمَ، لِيُحْيِيَ شَعْبًا كَثِيرًا" (تكوين 50: 20). فعندما قام إخوة يوسف ببيعه عبدًا، كانت نواياهم الوحيدة شريرة ومتمثلة في التخلُّص منه. فقد كان هذا هو دافعهم والسبب في قيامهم بهذا. لكن، كانت لدى الرب خطة أخرى مختلفة. فقد أراد الرب أن يأتي بيوسف إلى مصر، حتى يتسنَّى له في النهاية أن ينضم إلى بلاط فرعون، وأن يخلِّص من المجاعة ليس فقط العالم بوجه عام، بل نسل إبراهيم المختار بصفة خاصة. وكانت الوسيلة التي استخدمها الرب لتحقيق هذا القصد الصالح وهذه النتيجة الجيدة هي السماح لإخوة يوسف بالتخطيط لغرض شرير، بل وتنفيذ أفعالهم الشريرة، حتى يتسنَّى ليوسف أن يصل إلى مصر. وقد فعل الله كل ذلك دون أن تكون لديه أية نوايا شريرة، ودون أن يرتكب الشر. لكن نوايا إخوة يسوف وأفعالهم، ونوايا الرب وأعماله توافقت معًا، على الرغم من الاختلاف الجوهري بينها، بحيث ذهب يوسف في النهاية إلى مصر.
في تعليم د. سبرول عن العناية الإلهية، كان يستشهد في المعتاد بنص أيوب 1 كمثال توضيحي لمبدأ التوافق. ففي هذا الأصحاح، سعى الشيطان إلى القضاء على أيوب، وسمح له الرب بضرب أيوب، فسرق الكلدانيون جماله. ثم وقعت أحداث كثيرة، وعانى أيوب من شعور شديد بالفقدان، فعل أبطال هذه الأحداث جميعهم أمورًا مختلفة بدوافع مختلفة. فقد سعى الشيطان إلى تشويه سمعة أيوب، وإثبات أنه لم يكن عبدًا أمينًا للرب، ولذا هيج كل الأحداث ضد أيوب. أما الرب، فسعى إلى تزكية أيوب، وإثبات أنه عبده الأمين، ولذا سمح للشيطان أن يعمل ضده. ولم يكن الكلدانيون يدرون شيئًا عن الحوار الذي دار بين الله والشيطان، بل كل ما رأوه أمامهم هو رجل ثري، فاشتهوا خيراته لأنفسهم، ولهذا سرقوا مقتنيات أيوب. كل هذه الأحداث سارت بطرق مختلفة، لكن أيوب لم يعانِ من خسارة مادية إلا بعدما أراد الشيطان تشويه سمعته، وسمح له الله بذلك، ورأى الكلدانيون ثراء أيوب واشتهوه. فإن هذه العناصر الثلاثة توافقت معًا كي تتسبب في معاناة أيوب، بينما ظل الله قدوسًا وعادلًا طوال الوقت.
ربما أفضل مثال للتوضيحي لعقيدة التوافق هو صلب ربِّنا ومخلِّصنا. فعندما نتطلع إلى الشخصيات المختلفة التي ساهمت في هذا الحدث، نجد الكثير من الدوافع والأفعال المختلفة. (مع أننا سنذكر، في الأمثلة التالية، أن أقانيم الثالوث الثلاثة متحدون معًا في الدافع نفسه، وكل منهم متداخل في عمل الآخر، لكننا في حدث تتميم الخلاص، يمكن أن نسلِّط الضوء على أعمال خاصة ومحدَّدة متصلة بكلِّ أقنوم على حدة). فقد أسلم يهوذا يسوع لأن دافعه كان الحصول على المال. ولم ترق للسلطات اليهودية الشهرة التي كان يسوع يحظى بها، وشعروا بالتهديد من انتقاداته لهم. أما السلطات الرومانية، فأرادت فقط أن يتوقف اليهود عن الشجار حتى لا يتحول شجارهم إلى ثورة أو انقلاب. وأراد الشيطان أن يضع نهاية لخدمة المسيح وهجماته على مملكته. وذهب يسوع إلى الصليب طواعية حتى يُكفر عن خطايا شعبه ويطيع أباه. أما الآب، فأرسل يسوع إلى الصليب حتى يتمِّم وعوده بأن يُخلِّص شعبه. والروح القدس حفظ يسوع على الصليب حتى تُصنَع كفارة فعالة، ويتمجَّد المخلص (إشعياء 53؛ متى 26: 3-5، 14-16؛ 27: 24-26؛ يوحنا 3: 16؛ 11: 45-49؛ رومية 8: 32؛ عبرانيين 9: 14؛ رؤيا 12: 4). هؤلاء جميعهم الذين لعبوا أدوارًا في أعظم حدث وقع في تاريخ الفداء كان عليهم أن يؤدوا تلك الأدوار حتى تُصنَع الكفارة. وفي حين اختلف كل واحد منهم عن الآخر من حيث دوافعه وأفعاله، توافقت كل الأشياء معًا لتنفيذ خطط الرب ومقاصده. وقد أدار الله كلَّ ذلك دون أن يرتكب أي خطأ، ودون أن ينتهك إرادة أبطال هذا الحدث من أفراد. قال بطرس للجمهور في يوم الخمسين: "هذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّمًا بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ" (أعمال الرسل 2: 23).
كل شيء يحدث لسبب
إن العناية الإلهية معناها أن كلًّ شيء يحدث لسبب، سواء الأمور الكبيرة أو الصغيرة، وسواء الخير أو الشر. ففي النهاية، يحدث كل شيء لسبب وجيه، لأن الله، بموجب العناية الإلهية، يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته الصالحة والكاملة (أفسس 1: 11). يمكننا أن نقول المزيد عن هذا، وسنفعل هذا بالفعل في مقالات لاحقة، لكننا رأينا في هذا المقال أساسيات التعليم الكتابي: فإن حُكم الله، بموجب عنايته الإلهية، يعمل يسري على كلٍّ من أمور الحياة اليومية والأمور غير العادية أيضًا. وحكمه هذا يتحقق فيما يفعله مخلوقاته، ومن خلال ما يفعلونه. فهو متسلط على كل ما يحدث، ويضفي معنى وهدفًا على كل شيء، حتى وإن عجزنا نحن عن تمييز هذا الهدف وهذا المعنى. علاوة على ذلك، فإن عنايته الإلهية السيادية، التي تتحكم في كل شيء، لا تجعل ما نفعله عديم المعنى أو الأهمية. فبدون العناية الإلهية، لن يكون لشيء معنى.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.