مملكة كهنة
۲۵ أكتوبر ۲۰۲۲الإنجيل غير المتغيِّر
۹ نوفمبر ۲۰۲۲فيه الكفاية
ملاحظة المُحرِّر: المقالة 8 من سلسلة "صلاة يسوع الكهنوتية"، بمجلة تيبولتوك.
الفيلم الغنائي الذي صدر عام 2017 بعنوان "رجل الاستعراض الأعظم" (The Greatest Showman)، المستوحى من قصة حياة رجل الاستعراضات ب. ت. بارنوم (P. T. Barnum) الذي عاش في القرن التاسع عشر (مؤسس سيرك رينجلينج بروس وبارنوم آند بايلي)، يروي قصة رجل خرج في مهمة للبحث عن الشهرة. وإذ كان طموح بارنوم بلا حدود، صعد من أعماق الفقر إلى مستويات مرتفعة لا يمكن تصوُّرها من الشهرة والتأثير في كل أنحاء العالم. لكن هذه ليست قصة تحول عادية من الفقر إلى الثراء. فإذ لم يكتفِ بارنوم بالنجاح الاستثنائي، اشتهى المزيد. وفي أوج شهرته، خاطر بكلِّ شيء ليوظف نجمة أوبرا شهيرة حتى يُرضي نقاده. وقد عبَّرت الأغنية الأخيرة، التي توجت بها مغنية الأوبرا استعراضها، عن المفارقة الحقيقية في رغبات بارنوم، حيث ردَّدت الأغنية صرخة متكررة لا يمكن أن تُنسَى تقول "لا شيء سيكفي أبدًا"، وهو ما يعبر عن جوع بارنوم الذي لا يمكن إشباعه، وعن سقوطه في نهاية المطاف. غنت هذه السيدة قائلة: "أبراج الذهب تظل أقل مما يمكن. فهاتان اليدان يمكن أن تمسكا بالعالم، لكن يظل هذا غير كافٍ البتة".
هذه القصة والأغنية مؤثِّرتان لأنهما يردِّدان بلا شك صدى صرخة قلب الإنسان. فمنذ اشتهت حواء المزيد، واستسلمت لغواية الحية، ابتلى عدم الاكتفاء عالمنا. وشخصية بارنوم في فيلم "رجل الاستعراض الأعظم" هي بلا شك مثال نموذجي لأمريكا القرن الحادي والعشرين. فلم يوجد من قبل هذا الكم من الفيض والغنى المصحوب بعدم اكتفاء واسع النطاق. وما القدر الذي قد يكفي؟ "ربما أكثر قليلًا"، كما قال جون د. روكفلر (John D. Rockefeller) ساخرًا. وحتى إذا تمكنَّا من مقاومة هذا التوجه الشائع في عصرنا هذا، لا تزال الإعلانات تنهمر علينا، محاولةً إقناعنا بأن ما لدينا الآن لن يكفي البتة.
كيف يعالج إنجيل يسوع المسيح إذن هذا السعي الشائع وراء المزيد؟ الوصية العاشرة القائلة "لاَ تَشْتَهِ" (خروج 20: 17) تخاطب جوهر هذه المسألة مباشرة. وإن إجابة السؤال 147 من دليل وستمنستر الموسَّع لتعليم الإيمان عن طريق السؤال والجواب، تُعرِّف الواجبات المطلوبة منا في هذه الوصية بأنها "القناعة التامة بظروفنا وحالنا، مع تبنِّي توجه من الإحسان تجاه قريبنا، وتجاه كلِّ ما له". نرى في هذا توجهًا من القناعة الحقيقية بجانبيه الإلهي والخارجي على حدٍّ سواء.
الجانب الإلهي من القناعة يُفهَم بأفضل صورة من خلال مقدِّمة الوصايا العشر، عندما ذكَّر الرب إسرائيل بأنه هو من "أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّة" (خروج 20: 2). فلأن يهوه هو ربُّ العهد، فقد نجَّى شعبه من العبودية، وأظهر سلطانه وربوبيته على العالم المخلوق، وعلى كلِّ ما يُدعَى إلهًا في هذا العالم، وقد فعل ذلك من منطلق محبته الشديدة لهم، وليس لأنهم استحقوا ذلك أو ربحوه بجهدهم. ولم يتوقف الأمر عند فداء الرب لشعب إسرائيل، لكنه أعطاهم أيضًا أرض الراحة، ووعدهم بأن يلبي احتياجاتهم الأرضية في أيامهم القادمة.
ما نتعلَّمه هنا هو أن القناعة الحقيقية تَكمُن في إدراك طبيعة الله، والتطلُّع إلى تاريخ أمانته، وتكمن أيضًا في الثقة في حكمته السيادية، وفي صلاحه من جهة تسديد الاحتياج. فالقناعة التي بحسب مشيئة الله بعيدة كل البعد عن الفكرة الرواقية المتعلِّقة بالاستسلام السلبي للقدر، لكنها بالأحرى يقين إيجابي، وفرح، وامتنان لكون الله نفسه يحرسنا ويسدد كل احتياجاتنا. فالقناعة الحقيقية تعني أن تكون مكتفين به، وواثقين في أمانته، وأن نتمسك بالحق القائل إن لا شيء هنا على الأرض يمكن أن يُقارن بالميراث الذي ينتظرنا في الأبدية. فالقناعة الحقيقية هي الخضوع طواعيةً لعناية الله الأبوية بنا، والتلذُّذ بها، أيًّا كان شكلها.
أما ممارسة القناعة تجاه قريبنا، فهي أشد تعقيدًا إلى حدٍّ ما. من المفارقة العجيبة أن هذه الوصية تتعلَّق تحديدًا بقريبنا، ومع ذلك هي الوصية الوحيدة التي لا يمكن لقريبنا أن يراها. فحتى إن عشنا حياة من البساطة، يمكن للشهوة أن تظل موجودة في داخلنا، أو يمكن أن ينُظَر إلى نمط حياتنا على أنه مجرد تفضيل شخصي. ففي النهاية، يكمن نوع من الفخر والرفعة في يومنا هذا في تعمُّد امتلاك القليل. وإن مذهب البساطة، بصفته وسيلة لتحسين حياة الفرد وبلوغ السلام، هو مظهر معروف للمذهب الأخلاقي والتديُّن الزائف. في مقابل ذلك، تتألَّف القناعة التي بحسب مشيئة الله من فرح حقيقي بما يتمتع به قريبنا من رخاء، وتوق إلى العطاء للذين هم في حاجة، وعيش حياة تشهد عن حضور المسيح وسيادته على ظروفنا وممتلكاتنا. نحن مدعوون ليس فقط إلى أن نكون مكتفين بالقليل، بل أيضًا إلى أن نكون غير مكتفين وغير قانعين عندما لا يكون لدى قريبنا ما يكفي، إلى حد أن نكون على استعداد أن نعطي مما عندنا لتلبية احتياجاته. لهذا السبب تتألف القناعة مما يتعدَّى كثيرًا مجرد العيش بأقل من إمكانياتنا.
كيف، إذن، يمكن أن نتجنَّب ما تصفه قصة حياة بارنوم والأغنية القائلة "لا شيء سيكفي أبدًا"، ونعيش كملح ونور في عالم لا يكتفي البتة؟ الإجابة تكمن ليس في انعدام الرغبة بل في الرغبة الشديدة في الأمور الصالحة. صلَّى أوغسطينوس صلاته الشهيرة قائلًا: "قلوبنا لن تهدأ حتى تجد راحتها فيك". المسيح وحده هو الذي يستطيع أن يُشبع جوعنا ويُروي ظمأنا (يوحنا 6: 35)، لأنه وضع نفسه أولًا، وأخضع نفسه لمشيئة الآب، ثم غلب بحياته الكاملة، وموته الكفاري، وقيامته المنتصرة. أطاع المسيح كل شيء، وربح كل شيء، بما في ذلك السماء نفسها، التي يهبنا إياها مجانًا بالنعمة، والتي ننالها بالإيمان وحده. وبالتالي، فعندما نعيش في وعيٍ بأنه بذل نفسه لأجلنا، وبأنه حاضرٌ ولن يتركنا أو يهملنا البتة (عبرانيين 13: 5)، سنتعلم القناعة، ونكون نموذجًا لها بالمسيح الذي يقوينا باستمرار (فيلبي 4: 12-13) حتى ذلك اليوم الأخير الذي فيه سنرث كلَّ شيء فيه. إذن، القناعة ليست فقط الرغبة فيما هو أقل، بل الرغبة الصادقة فيما لا يمكن أن يؤخذ منا البتة.
في بعض الأحيان، عندما كنتُ أتقدَّم للتناوُل من مائدة الرب، كنت أجد نفسي راغبًا في أخذ ما يتعدَّى قليلًا مجرد قطعة خبز صغيرة وكأس صغيرة الحجم. لكن في مثل تلك الأحيان، أتذكَّر أن هذه الوجبة المقدسة ليست سوى عربونًا للمائدة الأخيرة الآتية. فمع أنها قطعة صغيرة للغاية، لكن هذا هو ما اختار الله أن يهبنا إياه. وبما أن لنا وعدًا بحضوره عندما نشترك في المائدة، فإن هذا الحضور يكون دائمًا أكثر من كافٍ.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.