
القلب مصنعُ أصنام
۱۲ أبريل ۲۰۲۵العَيْش في المِحَن والتجارب والامتحانات

لن أنسى أبدًا الصباح الذي تلا ولادة ابني الأوّل. فبعد ولادةٍ آمنة في البيت، وضّبتْ القابلة أغراضها، وتركتنا لننام. تفاجأ زوجي بالسلاسة التي نمنا جميعًا فيها تلك الليلة، واستيقظَ متحمِّسًا ليغوص في حياة الوالدية ويغيِّر الحفاض. كانت تلك اللحظةَ التي فيها أدركنا أنّ في كلّ تخطيطنا أوَّل مرّة طيلة الشهور التسعة الماضية لم نشترِ ولا حتّى كيسًا واحدًا من مناديل الأطفال.
الإعداد أمرٌ مهمّ، سواء كُنّا سنستقبل طفلًا جديدًا، أو نهدف لإعداد العشاء على المائدة في الساعة 5.30 بعد الظهر. والحياة المسيحيّة ليست استثناءً لهذه الحقيقة. المِحَن والامتحانات والتجارب من كلّ الأشكال والأحجام آتيةٌ بصورة محتومة في أرضنا. ونُذكَّر في كلّ يومٍ بحقيقة أنّنا مخلوقاتٌ ساقطة نعيش في عالمٍ ساقطٍ يمتلئ بِكل أشكال الألم والمعاناة وخيبة الأمل، وكذلك الأحمالِ اليوميّة الآتية بسبب خطيتنا وعواقبها الحاضرة والمستقبلة. طبعًا كلّ هذا بالإضافة إلى عدوّ مُصمِّم بكلِّ شراسة على أن يعوق أبسط درجةٍ من النموّ في التقوى أو أقلّ تمتُّع بالله. بالنسبة لكثيرين منّا، ليست هذه الحقائق مفاجَأةً صادمة. ولكن السؤال هو: ماذا نعمل للاستعداد لها؟
في رسالة بطرس الأولى، يكتب الرسول بطرس إلى المؤمنين الذين كانوا يتعرّضون للاضطهاد. إنّهم "[يُحْزَنُونَ] ... بِتَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ" كانت تمتحن إيمانهم بشدّة وألم (1بطرس 1: 6). يتضمَّن الضيق ما يتجاوز الاضطهاد الذي من خارج. فينبغي لهم أن يتجاوبوا مع ذلك الاضطهاد، ومؤكَّد أنّ خطيّتهم التي فيهم ستعرِّضهم لتجربة أن يفكِّروا ويتكلَّموا ويتصرَّفوا بطريقة غير مُقدَّسة. في الحقيقة، هم تحتَ ضغطٍ هائل. واللافت للنظر أنّ بطرس لا يقضي معظم وقته في تقديم شروحاتٍ وتفاسير لأسباب حدوث هذه المِحَن أو في تقديم النصائح بشأن كيفيّة النجاة والهروب منها. وبدلًا من ذلك، يذكِّر بطرس قرّاءه بما هو حقّ في الإنجيل، ويُخبِرهم بكيف يكونون مُقدَّسين في سيرهم في خطواتِ يسوع المسيح. لا يكتب بطرس بهدف أن يحرِّر قرّاءه وينجِّيهم من المِحَن، بل يعمل جاهدًا على أن يساعدهم على الاستعداد.
هذا تمييز هام. فليس الاستعداد المسيحي محاولةً بأن يكون المؤمن سيّدًا على ظروفه، وبأن يتنبَّأ بكلّ ظرفٍ قد يسبِّب الألم أو الإحباط، وبأن يتجنَّبها. نحنُ نستعد للمِحَن والامتحانات ليس لكي لا نتعرَّض لأيٍّ منها، بل نتحضَّر ونستعد لمجيئها حتّى نستجيب بطريقةٍ عاقلة وراسخة، لا آثمة وقصيرة النظر. وبكلماتٍ أخرى، لا يمنع الإعداد أن تكون ظروفنا صعبة، ولكنّه يساعد في أن تكون استجابتنا أكثر قداسةً.
هذا ما كان بطرس يفكِّر به بشأن قرّائه:
لِذلِكَ مَنْطِقُوا أَحْقَاءَ ذِهْنِكُمْ صَاحِينَ، فَأَلْقُوا رَجَاءَكُمْ بِالتَّمَامِ عَلَى النِّعْمَةِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا إِلَيْكُمْ عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. ... بَلْ نَظِيرَ الْقُدُّوسِ الَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ. (1بطرس 1: 13، 15)
يدعو بطرس قرّاءه إلى أن يتألَّموا بذهنٍ صاحٍ، أي إلى استعدادٍ يبدأ بتفكيرٍ كتابيٍّ صاحٍ وواعٍ ينتهي بسلوكٍ مُقدَّس. ينبغي ألا تتشوَّش عقولهم بأنصاف حقائق وعواطف مندفعةٍ ومتهورة. أليس هذا ما تعمله المِحَن لأذهاننا؟ علينا أن نجعل عقولنا تعمل، ولكنّ ظروفنا المؤلمة أو الخطيرة المُهدِّدة وأنماطنا الفكريّة وعواطفنا التي تنتج عن هذه الظروف تصعِّب علينا التفكير والاستجابة بالطريقة التي ينبغي أن نتّبعها. ولكنّ المؤمن المُستعدّ يعيش في يقظةٍ وصحوٍ كتابيّ. فعقله منظَّم وقادر على أن يقيِّم ويستجيب للظروف والأوضاع بحسب الحقّ.
استعداد الذهن الصاحي أمرٌ لا يمكننا تنميته بين ليلةٍ وضُحاها. بل هو ليس أمرًا يمكننا أن ننجزه بجهودنا، لكنّه أمرٌ يستطيع أن يشكِّله الروح القدس فينا. لا يعني هذا أنْ نجلس دون أن نعمل شيئًا. فقد وفَّر الله لنا وسائط نعمة بسيطة ومباشرة لمساعدتنا في رحلتنا الزاخرة بالألم نحو السماء. واستخدام هذه الوسائط يوميًا يساعدنا في تنمية عقلٍ (وحياة) راسخٍ في حقائق سماويّة، لنكون متجهّزين لمواجهة المِحَن والتجارب حين تأتي.
العبادة الخاصّة
تعد قراءة كلمة الله ودراستها وحفظها عن ظهر قلب والتأمُّل بها أقوى الأسلحة التي يمتلكها المؤمن. وسواء كُنّا نواجه تجربةً مألوفة أو نتعثَّر في محنةٍ لم تكن متوقَّعة، فإنَّ الكتاب المُقدَّس منارةٌ تُرشِدنا في المياه العميقة المظلمة وتساعدنا في الوصول إلى مرفأنا المراد.
في بعض الأحيان يكون تفكيرنا وسط المحنة "في الاتّجاه السليم،" ولكنّه يحتاج إلى مزيدٍ من الفهم. حينَ كنتُ في الخامسة عشر من عمري، وكنتُ أفقد حاسّة السمع بسبب مرضٍ عصبيّ أدّى أخيرًا إلى إصابتي بالصمم، بدأتُ أخفي في ذهني صورةً لله وهو يصوِّب سهامًا نحوي، وبدأتُ أفكِّر به بأنّه يأخذ ويزيل الأشياء التي كنتُ أحبُّها بالأكثر واحدةً بعد الأخرى. أدّى هذا إلى علاقةٍ مشحونةٍ عاطفيًّا بالله مدّةً من الزمن. وبمعنى ما، كان فهمي صحيحًا. كانت يد الله تعمل في الظرف المؤلم الذي أعانيه. لقد أزال الأشياء بالفعل. ولكنّ مجرّد معرفة سيادة الله لم تكن ستنهي هذه المشكلة. فإنْ كنتُ سأخرج سليمًا من هذه المحنة، كان عليّ أن أسأل: ما الأمور الصحيحة الأخرى التي يجب أن أفكر فيها؟ ما الذي في قلب الله بشأني؟ أين الشيطان في هذا الأمر وما دوره؟ هل عليّ أن أتوقّع أن يشفيني الله بسيادته؟
الله صاحب السيادة، والخطية ما تزال موجودة، وينبغي توقُّع الألم في حياتنا هنا على الأرض. كل هذا صحيح، ولكنْ هناك المزيد. فحين نغمر أنفسنا في كلمة الله (وفي الكتب الصحيحة التي تشرحها) يتّسع فهمنا ويزداد، وحين يكون ضروريًّا، يتصحَّح هذا الفهم.
تعد تجربة يسوع في البرّيّة أحد أوضح الأمثلة على "الذهن المستعدّ/ الصاحي" في الكتاب المُقدَّس. فحين جرَّب الشيطان أن يشوِّه كلمة الله، كان يسوع يحتاج إلى أنْ يعرف في تلك الظروف ما هو صائب. وقد عرفه فعلاً. كانت كلمة الله مُخزَّنة في قلبي، وكان فهمها الصحيح سلاحًا فاعلًا في أوقات التجربة. فيقول الرسول بولس في 1كورنثوس 10: 13 إنّ الله في التجارب، "يَجْعَلُ مَعَ التَّجْرِبَةِ أَيْضًا الْمَنْفَذَ، لِتَسْتَطِيعُوا أَنْ تَحْتَمِلُوا." كثيرًا ما نتصوَّر "المنفذَ" قوّةً خارجيّةً تُمسِك بأكتافنا وترفعنا بعيدًا عن التجربة. لكنْ كثيرًا ما يكون منفذ الربّ المقصود ليس إنقاذًا غير اعتياديٍّ، بل تذكُّرٌ حيٌّ لكلمات الكتاب المُقدَّس، يستخدمه الروح القدس بقوّة لمساعدتنا في الصبر والثبات.
تتأثَّر الطريقة التي نُصلّي بها بالتدريب والتهذيب الذي يحصل لأذهاننا بحقّ الكتاب المُقدَّس. الحرّيّة بأن نتقدَّم إلى عرش الله ونسكب قلوبنا أمامه تعزية عظيمة حين نكون محاطين بنيران صعوبات الحياة. ولكنْ إن لم نكُن حذرين، فإن صلواتنا المُحمَّلة بالكثير من المشاعر يمكن أن تنتهي بتعثُّرنا مع أنّه يُفترَض أنْ تساعدنا في أن نقف ثابتين وراسخين. كثيرًا ما ننجذب إلى صلوات داود في سفر المزامير والصراحة التامة التي يعبِّر بها نحو الربّ في أخفض قيعان حياته. لم يكن رجلًا رزينًا تعلو وجهه بسمةٌ مُزيَّفة. ولكنّ صلوات داود كانت إعلاناتٍ صادقة بما كان يشعر به أو ما كان يرغب به. كانت إعلاناتٍ صاحيةً وصادقةً عن الحقّ، وبصورة خاصّة عن طرق الله وصفاته. فالكلمة الأخيرة هي للحقّ، وليست للمشاعر. وحين يكون العقل مغمورًا بالكتاب المُقدَّس، فإن هذا يشكِّل صلواتنا الحارّة، وتصير شركتنا مع الله مكانًا آمنًا للتسبيح والثقة والتعزية بدلَ حجر عثرة التوقُّعات غير الكتابيّة والكلمات التي نتهوَّر بالنّطق بها.
العبادة الجماعيّة
لا أرغب دائمًا بالذهاب إلى الكنيسة أيّام الأحد. فلأنّني صمّاء فإنّني سأقرأ العظة في تعليقاتٍ على هاتفي، وسيكون الترنيم صامتًا، وستكون الشركة مُتعِبَةً في أفضل أحوالها، ومزعجة في أسوأها. ومع هذا، اختارني الله لأن أكون زوجة راعٍ، ولذا عادةً ما أحضر خدمات الكنيسة. في إبحاري في محنة مرضي العصبي هذا عبر العقدين الماضيين، كانت أكبر التجارب التي أواجهها أن أعزل نفسي عن جسد المسيح. فهم لا يفهمون وضعي. الوضع مزعج وغريب. حتّى إنّني لا أستطيع أن أشارك. قد يكون هذا أكثر راحةٍ لي، ولكنّه لم يكن أكثر إثمارًا قط. فقد أعطانا الله هبة العبادة الجماعيّة مع جسد المسيح، وهي وسيلة قيّمة للتشجيع والنموّ والصبر من أجل دفعنا في مسيرنا نحو السماء.
حين نجعل حضورَنا خدماتِ كنيسة أمينة كتابيًّا أولويّةً، ونفعل هذا بصورة منتظمة، تكون لدينا فرصة أسبوعيّة لبناء استعداد صحونا الذهنيّ من خلال مشاركتنا بعناصر الخدمة المتنوّعة، وخاصّة الوعظ. كما أن تكريس أنفسنا للعبادة في يوم الربّ يمثِّل تذكيرًا يدفعنا إلى التواضع (وقد يكون مؤلمًا) أنّ الله، لا أنا، مركزُ كلّ الأشياء. فثمّة شيءٌ يحدث أعظم من صراعي، وأحتاج إلى ذلك الحقّ من أجل أن أعيد توجيه تفكيري.
الجلوس في المقعد والبقاء فيه حتّى البركة الرسوليّة أمر يختلف عن التوجُّه إلى غرفة القهوة والالتقاء بالناس للشركة معهم. الشركة أمرٌ معقَّد لأنّها تشتمل على النّاس، والناس مسألةٌ مُعقَّدة لأنّهم خطاة. فنحنُ نخطئ في تواصلنا، وننشغل فننسى احتياجاتنا، ونثرثر بشأن الطقس بعد سماع عظةٍ عن الثالوث. ومع هذا، يستخدم الله صانع العجائب حتّى هذا الجزء الفوضوي من العبادة الجماعيّة لتقوية نفوسنا وتصويب تفكيرنا، في حين كان بقاؤنا في البيت سيتركنا في حالة الإحباط واليأس. ونحسِن إن صلينا في صباح أيّام الأحد قائلين: "يا ربُّ، ساعدني في أن أكون صبورًا في استماعي، وحريصًا في كلامي. استخدم تفاعلاتي اليوم مع الناس في جعلي وجعل الآخرين أكثر قداسة في الأسبوع القادم."
نحو مثابرتنا
الحياة المسيحيّة هي طريق ضيّق من الألم والتقديس، وتنمية استعداد الذهن الصاحي تحفظنا من الانحراف عن الطريق، خاصّة حينما يصير صعبًا. يتساءل البعيدون عن المسيح عن سبب بذلنا كلَّ جهدٍ للبقاء في الطريق. وقد نتساءل نحنُ أيضًا بشأن الأمرِ نفسه. الحقيقة هي أنّ الطريق يكون صعبًا في بعض الأحيان، ولا تظهر في الأفق نهاية للألم. الألم مُزمن، وتبقى العلاقة متوترة، ويكون الانتصار على تلك الخطية بطيئًا بطريقةٍ مدهشة. فلماذا الاستمرار؟
ربما كان لدى قرّاء بطرس السؤال نفسه، وهو يقدِّم الإجابة عنه: الألم بذهنٍ صاحٍ هو ألم يحتمله الشخص برجاءِ بما سيأتي نابعٍ من ذهنٍ صاحٍ. وفي الحقيقة، هذا هو النمط الذي نراه في رسائل العهد الجديد. ففي اهتمام الكُتّاب بشأن الحاضر، كانوا يُوجِّهون اهتمامهم بصورة أسمى ونهائيّة نحو عودة المسيح، وتجديد الخليقة، وتمجيد المؤمنين. ففي كلّ وصية، وكلّ تشجيع من الإنجيل، وكلّ توبيخ وطمأنةٍ، وكلّ شرحٍ لصفات الله وطرقه، ليس الهدف النهائي هو حياة مسيحيّة سعيدة على الأرض، بل حياة أبديّة آتية مع المسيح في السماء. هذا هو الانتظار السعيد عند المسيحيّين الحقيقيّين، فالإنجيل الذي نقبله اليوم بالإيمان سيصير عيانًا. سنرى ذراعيّ الآب المفتوحتين، وسنركع أمام يدي المسيح المثقوبتين بالمسامير. والقداسة التي نسعى إليها الآن ستُكمَّل، وبتثبيت عيوننا إلى قداسة المسيح الكاملة، سوف "نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ" (1يوحنا 3: 2).
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.