شهادة متى
۱۰ نوفمبر ۲۰۲۲شهادة لوقا
۱۷ نوفمبر ۲۰۲۲شهادة مرقس
ملاحظة المُحرِّر: المقالة 3 من سلسلة "الأناجيل"، بمجلة تيبولتوك.
يتضمن إنجيل متى نسبة 97% من آيات إنجيل مرقس. لمَ يوجد إنجيل مرقس إذن، إذا كان بإمكاننا الاكتفاء بقراءة إنجيل متى؟ تجيب نظريتان متنافستان بأنه إما أن إنجيل مرقس كُتب كملخَّص لإنجيل متى الأطول، وإما أن إنجيل متى كُتب في وقت لاحق كمحتوى أكثر توسعًا من إنجيل مرقس. بغض النظر عن الأصول المحتمَلة للأناجيل، يجب ألا نتوانى عن تقدير القيمة الخاصة لإنجيل مرقس في قانون العهد الجديد، بمعزل عن المقارنة بينه وبين الأناجيل الأخرى. فإن إنجيل مرقس هو عرض بارع، ونابض بالحياة، ومشوِّق عن شخص يسوع، بصفته المسيا، الذي سار على نحو حتمي إلى الصليب، حيث عقد العزم على تقديم نفسه فدية عن شعبه. ثم بعد موته، أُقيم ليصير الملك المجيد في ملكوت الله. دعونا نتناول بعض الأمور المحدَّدة في هذا الإنجيل شديد الأهمية.
يبدأ إنجيل مرقس ويختتم بشكل فجائي. تشبه الافتتاحية بداية سباق للخيل، حيث لا نجد روايةً لحدث ميلاد يوحنا المعمدان، أو ميلاد يسوع. فإن الآية الأولى شبيهة بالعنوان: "بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ". ثم بعد اقتباس سريع ومركَّب من العهد القديم، كان إشعياء هو النبي الرئيسي فيه، وهو الاقتباس الذي يتعلق بكون يوحنا هو السابق للمسيا الذي يعد له الطريق (مرقس 1: 2-3)، نقرأ فقط ملخصًا موجزًا لحياة يوحنا وخدمته (1: 4-8). ثم قبل أن يتاح لنا الوقت لالتقاط أنفاسنا، يظهر يسوع، فتنتقل الرواية إلى التمحور حوله طوال بقية الإنجيل، بسرعة سباق الخيل نفسها.
يعود سبب سرعة السرد في إنجيل مرقس إلى تركيز الإنجيل على أعمال يسوع، مع التركيز نادرًا على الكلمات، وذلك على النقيض، مثلًا، من الموعظة على الجبل المذكورة في إنجيل متى (متى 5-7؛ انظر أيضًا لوقا 6؛ 12-13)، يحوي إنجيل مرقس كتلتين قصيرتين من تعاليم يسوع (مرقس 4؛ 13)، بالإضافة إلى بعض المقاطع التعليمية القصيرة المتناثرة عبر الإنجيل. ففي معظم الإنجيل، ركَّز مرقس على أعمال يسوع.
قارن، على سبيل المثال، بين ما ذكرته الأناجيل عن حدث تجربة يسوع. تضمَّن إنجيل مرقس آيتين فحسب (مرقس 1: 12-13)، مقارنةً بالوصف الأكثر تفصيلًا لهذا الحدث في الأناجيل الإزائية الأخرى (متى 4: 1-11؛ لوقا 4: 1-13). ففي الأناجيل الأخرى، "اقتيد" يسوع إلى البرية، ثم سُجِّلت أحداث التجربة نفسها؛ أما في إنجيل مرقس، فقد أُخرِج يسوع إلى البرية ليكون مع الوحوش، لكن لم يُسجَّل محتوى التجربة نفسها. يُركِّز مرقس على حقيقة تعرض يسوع للتجربة، وكيف افتتحت معموديته اجتيازه البرية وتعرُّضه للعنة الحيوانات البرية نيابة عن شعبه (انظر مرقس 10: 39؛ لاويين 26: 22؛ إرميا 12: 9؛ 50: 39؛ حزقيال 14: 21)، وذلك حتى يتسنَّى لنا نحن الآن، نتيجةً لذلك، أن نسكن آمنين في البرية (حزقيال 34: 25؛ رؤيا 12: 14-16).
يمكن رصد سرعة أسلوب مرقس في الكتابة بعدة طرق. فقد استخدم جملًا قصيرة وحيوية، بدلًا من استخدامه الأسلوب غير المباشر الذي يحبِّذه الكُتّاب اليونانيون. كذلك، يفضِّل مرقس الاقتباسات المباشرة الواضحة، كما يتسم ببعض الإطناب غير المعتاد، مثل: "وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ، إِذْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ ..." (مرقس 1: 32)؛ أو "حِينَ احْتَاجَ وَجَاعَ..." (2: 25). والسمة الأكثر وضوحًا لإنجيل مرقس هي أسلوبه المفضل عند تقديم حدث جديد، حيث استُخدِم التعبير "وللوقت.." أكثر من أربعين مرة في هذا الإنجيل، وهو ضعف عدد مرات ظهوره في إنجيلي متى ولوقا مجتمعَين.
عندما تقرأ إنجيل مرقس آية آية، تفقد التأثير الكامل للسمات الاستثنائية لأسلوب مرقس النابض بالحياة والمتسم بالإطناب. لكن، يقودنا هذا إلى ملاحظة مهمة. فقديمًا، كانت معظم الكتب تُكتَب لتُقرَأ بصوت عال، وبالتالي تُختَبَر عن طريق السمع (انظر بصفة خاصة رؤيا 1: 3). فلم تكن القدرة على القراءة والكتابة شائعة آنذاك، وحتى أولئك الذين كانوا يجيدون القراءة، كانوا يُفضلون الاستماع إلى قراءة لكتاب، في أسلوب إلقاء جيد على فم قارئ يستطيع أن يضيف بعض المشاعر، والإيماءات، بل وأصواتًا مختلفة للشخصيات المختلفة التي يقرأ عنها. وفي سياق القراءة العلنية، كان من الطبيعي أن يندمج المستمعون في القصة، فيطلقوا صرخات عدائية ضد الأشرار، ويصفقوا ويهللوا للأخيار.
في السنوات الأخيرة، استُكشِفت السمات الشفهية لإنجيل مرقس بطريقة مثمرة وناجحة. ومن بين الاستنتاجات التي استُخلِصت هو أن التعبيرات المتكررة في الإنجيل، مثل تعبير "وللوقت"، التي قد تبدو منفصلة عند قراءة إنجيل مرقس على أجزاء أو مقاطع صغيرة مثلما نفعل اليوم، تساعد في واقع الأمر في توجيه المستمع إلى تطور الحبكة، وإلى تسلسل القصة. ونظير يسوع وهو يروي أمثاله، كان مرقس راويًا بارعًا. وكي تختبر هذا الأمر بنفسك، استمع إلى إنجيل مرقس وهو يُقرأ بصوت عال. يستغرق الاستماع إلى الإنجيل بأكمله نحو تسعين دقيقة فحسب، وهي خبرة جديرة بالعناء.
واحدة من سمات إنجيل مرقس التي تبرز بوضوح عند الاستماع إليه هي الترابُط بين الأحداث والوقائع التي يفصل بينها تقسيم الأصحاحات. لننظر معًا إلى بعضٍ من الأحداث المحورية، التي يمكن أن تبيِّن لنا المخطط الرئيسي لإنجيل مرقس.
في مرقس 6: 30-44، أطعم يسوع خمسة آلاف شخصًا، وأصيب التلاميذ بالارتباك والحيرة من أمر يسوع القائل: "أَعْطُوهُمْ أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا" (مرقس 6: 37). ثم انتقلت القصة سريعًا إلى مرقس 8: 1-10، حيث أخبر يسوع التلاميذ بأنه مُشفق على الأربعة آلاف الذين تبعوه، وبأنه يريد أن يطعمهم. لكن الاثني عشر أجابوه قائلين: "مِنْ أَيْنَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يُشْبِعَ هؤُلاَءِ خُبْزًا هُنَا فِي الْبَرِّيَّةِ؟" (مرقس 8: 4). وكمستمعين، قد نفكر قائلين: "انتظر لحظة، ألم يروا لتوِّهم يسوع وهو يطعم الخمسة آلاف؟ ألا يدركون أن يسوع يستطيع أن يفعل أي شيء؟!" وهنا يكون مرقس قد نجح في اجتذابنا إلى داخل أحداث القصة.
وبتَكَشُف أحداث إنجيل مرقس تدريجيًّا، بعد معجزة الإشباع الثانية في مرقس 8، أوصى يسوع التلاميذ بأن يتجنبوا خمير الفريسيين، لكنهم لم يفكِّروا سوى في رغيف الخبز المادي الواحد الذي كان بحوزتهم. ولهذا، ذكَّرهم يسوع بمعجزتي إشباع الجموع (مرقس 8: 14-21). وعند هذه المرحلة من رواية إنجيل مرقس، نبدأ نحن المستمعون في الشعور باليأس من التلاميذ. ثم بعد ذلك، تحدث المعجزة في مرقس 8: 27-30. فقد سأل يسوع التلاميذ عن هويته، وأخيرًا، اعترف بطرس، الذي يمثِّل التلاميذ المتبلِّدي الذهن، قائلًا: "أَنْتَ الْمَسِيحُ!" (مرقس 8: 29؛ قارن مع متى 16: 16؛ لوقا 9: 20).
يمثِّل اعتراف بطرس بيسوع محور ومركز إنجيل مرقس، الذي قادتنا أحداثه ببراعة إلى أن نحسبه كذلك. ففي النصف الأول من الإنجيل، تشهد أعمال يسوع القديرة عن هويته بصفته المسيح (أو المسيا)، الذي سيملك في ملكوت الله. وكان هذا هو التوجُّه الأساسي لتعاليم يسوع: "قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ" (مرقس 1: 15). لكن باستثناء مرقس 1:1، لم يُستخدم لقب "المسيح" إلا عند الوصول إلى محور الإنجيل، عندما اعترف بطرس قائلًا: "أَنْتَ الْمَسِيحُ!" (8: 29). الآن أدرك التلاميذ الأمر! فإن معجزتي إشباع الجموع قادتنا وإياهم إلى أن ندرك أخيرًا من هو يسوع.
إذن، يتمحور الجزء الأول من إنجيل مرقس حول إظهار يسوع هويته المسيانية للجميع. لكن، كان الجميع متحيِّرين بشأنه - عدا الأرواح الشريرة! (مرقس 1: 24، 34؛ 3: 11). وقد أبرز مرقس رد فعل الناس المتحير تجاه يسوع في تسعة وعشرين موضعًا، عن طريق استخدام ثماني كلمات يونانية مختلفة عبَّرت عن خوفهم، ودهشتهم، وتعجُّبهم، وتحيُّرهم، بل وذهولهم أيضًا. فمن هو يسوع هذا الذي لا يشبه كتبتهم (1: 22)؟ ظن الفريسيون أن به شيطانًا (3: 22-30)؛ وظن هيرودس أنه يوحنا وقد عاد إلى الحياة، بينما ظن آخرون أنه إيليا أو النبي (6: 14-16؛ انظر تثنية 18: 15)؛ وظنت عائلة يسوع أنه أصيب بالجنون (مرقس 3: 20-21)، بل وحتى تلاميذه أنفسهم أصيبوا بالحيرة: "فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا، وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «مَنْ هُوَ هذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضًا وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ!»" (4: 41).
تسلط حيرة الناس هذه الضوء على سلطان يسوع الحقيقي والملوكي: "فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ" (مرقس 1: 22). فإن يسوع، ابن الله (1: 9-11)، والأعظم من يوحنا (1: 7-8)، قد أثار خوفًا مقدَّسًا ورهبة بكلماته وأعماله القوية، عندما غفر الخطايا (2: 1-12)، وانتصر على كتيبة كاملة من الأرواح الشريرة (5: 1-20؛ قارن هذا بالرواية الأقصر في متى 8: 28-34؛ لوقا 8: 26-39)، وفي النهاية خاض نزاعًا مع السلطات في أورشليم حول سلطانه الذي خوَّله للقيام بهذه الأمور (مرقس 11: 27-33). لكن مُلك الرب يسوع يختلف تمامًا عن ملك رؤساء الأمم، من حيث كونه قد جاء لتتميم نبوة إشعياء عن العبد المتألم (مرقس 10: 42-45؛ انظر إشعياء 40-66).
إذن، باعتراف بطرس، صرنا نعرف الآن مَن هو يسوع: فهو المسيا كليُّ السلطان، والله-الإنسان. صنع يسوع أعماله في النصف الأول من إنجيل مرقس في سبيل الوصول إلى هذا الإقرار بالإيمان به، حتى يبدأ في النصف الثاني من الإنجيل يعلن لتلاميذه عن إرساليته الفدائية الحقيقية على الصليب. وتلك النقلة التي حدثت في إنجيل مرقس، على عكس إنجيل يوحنا تحديدًا، تتبرهن من خلال وقوع الأعمال في النصف الأول من إنجيل مرقس في الجليل بشكل يكاد يكون حصريًّا، بينما في النصف الثاني من الإنجيل، ثبَّت يسوع وجهه نحو أورشليم، حيث كان ينبغي أن يتألم على أيدي رؤساء إسرائيل فديةً عن شعبه (على سبيل المثال، مرقس 8: 31؛ 9: 12؛ 10: 45).
ختامًا، يقدِّم إنجيل مرقس للمستمع رواية ديناميكية عن سلطان يسوع العظيم الذي يتجلَّى ليس فقط في كلماته، بل بصفة خاصة في الأعمال القديرة التي أذهلت معاصريه بسبب طبيعتها الاستثنائية. كانت هذه الأعمال إثباتًا لاقتراب ملكوت الله بالفعل بمجيء يسوع. إلا أن افتتاح هذا الملكوت لم يحدث بواسطة ثورة سياسية، بل بتقديم الملك نفسَه ذبيحة بدلية عن شعبه، ثم قيامته من بين الأموات، وصعوده "عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا فِي سَحَابِ السَّمَاءِ" (مرقس 14: 62). روى مرقس هذه القصة بحيث يُدفَع المستمع المنتبه إلى الاعتراف مع التلاميذ الأوائل قائلًا: "أنت المسيح".
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.