شهادة مرقس
۱۵ نوفمبر ۲۰۲۲شهادة يوحنا
۲۲ نوفمبر ۲۰۲۲شهادة لوقا
ملاحظة المُحرِّر: المقالة 4 من سلسلة "الأناجيل"، بمجلة تيبولتوك.
تخيَّل للحظة أنك مواطنٌ تعيش في الإمبراطورية الرومانية في القرن الأول، في حقبةٍ من السلام والرخاء تحت حُكم القيصر، الذي يدعوه الكثيرون "ربًّا"، وأنك كنتَ مولعًا خلال فترة طويلة من حياتك بالأخلاقيات اليهودية، رغم رفضك لبعض الممارسات اليهودية من قبيل الختان. بل وربما صرتَ شخصًا "خائف الله"، أي أمميًّا يعتنق مبدأ التوحيد اليهودي، لكن دون تبنِّي القوانين الطقسية للشريعة الموسوية.
تخيَّل الآن أنك سمعتَ لتوِّك بإنجيل الخلاص من فم رجل يُدعَى بولس. وقد أخبرك هذا الرسول بأن الربوبية هي فقط لابن الله، يسوع المسيح، مع أنك ينبغي مع ذلك أن تحترم السلطة المدنية. ثم سمعتَ أيضًا بأن الذين يخضعون ليسوع هذا يمكن أن يصيروا ورثةً لكافة الوعود التي قُطِعت للشعب اليهودي، دون أن يضطروا لاتباع التقويم الطقسي اليهودي، أو ممارسة شرائعهم بخصوص تناول الطعام، أو ممارسة الختان. وبعدما سمعتَ هذه الأخبار السارة، ابتدأتَ تتبع يسوع بصفتك عضوًا في تلك الجماعة التي يدعوها الذين هم خارجها في ازدراء "الجماعة المسيحية".
لكن نتيجةً لتأثير الفلسفة اليونانية على الكثير من الوثنيين، صاروا يتهكمون على معتقداتك بأن الله اتخذ جسدًا في شخص يسوع الناصري، ثم في وقتٍ لاحقٍ أقام الله هذا الإنسان من بين الأموات. والأمر المحزن هو أن معظم أصدقائك من اليهود لم يحنوا ركبهم ليسوع. بل وقد أصاب البعض منهم الذهول لأنك أنت، الأممي، تظن أن إله إسرائيل قبلك بالفعل ابنًا لإبراهيم من دون أن تضطر لحمل نير الناموس. والأسوأ من ذلك أن أخبارًا جاءت من بولس ورفيقيه، بطرس ويوحنا، تقول إن بعضًا ممَّن يحملون لقب مسيحيين ليسوا تلاميذ ليسوع على الإطلاق. فإن أناسًا يدَّعون أنهم رسل يعلِّمون تعاليم خاطئة عن حياة يسوع وخدمته.
ماذا ينبغي أن تفعل أمام كلِّ ذلك؟ كيف يمكنك أن تَعلَم يقينًا بأن الله تجسَّد حقًّا، وبأن يسوع قام من بين الأموات؟ هل لديك أيُّ دليل على أنك أنت، الأممي الوثني، تستطيع الآن أن تنضم إلى قصة إسرائيل؟ وهل ستتمكن من التمييز بين الكذبة وأولئك الذين يقولون الحق عن يسوع؟
يجب أن تدفعنا كلُّ هذه الأسئلة إلى التفكير في الغرض من كتابة أي إنجيل من الأناجيل على الإطلاق، ناهيك عن الإنجيل بحسب القديس لوقا. فلأن نسخًا من العهد الجديد بأكمله لطالما كانت متاحة لدينا، ربما نُغوَى بالظن بأن الأناجيل الأربعة غرضها ومحور تركيزها واحدٌ. من المؤكَّد أن الأناجيل الأربعة صالحةٌ لكلِّ أنواع القراء، وأنها تعرض الحقائق عن الرب يسوع حتى يتسنَّى لنا أن نتبعه ربًّا ومخلِّصًا. لكن، لم يكتب أيُّ واحد من كُتّاب الأناجيل إنجيله في انفصال عن الظروف والبيئة المحيطة به، بل كان في ذهن كلِّ واحد منهم مستمعون أصليون، لديهم احتياجات محددة. وهذا هو ما أثَّر في اختيار هؤلاء الكُتَّاب للأحداث التي يجب أن يسلِّطوا الضوء عليها في كتاباتهم. وإن فهم محور تركيز كلِّ إنجيل يمدُّنا بفهم عن شخص المسيح وعمله أعمق وأغنى من الفهم الذي قد نكتسبه لو لم يكن لدينا سوى إنجيل واحد.
من الجيد أن إنجيل لوقا يبدأ بتصريح واضح عن غرض الكاتب من كتابته، وهو أن يمدَّ شخصًا يُدعى ثَاوُفِيلُسُ باليقين عن طريق سرد منظَّم على التوالي لقصة حياة المسيح (لوقا 1: 1-4). من الواضح أن قصصًا كثيرة عن يسوع كانت متداولة آنذاك، وعلى الأرجح كانت عبارة عن سجلات لأحداث فردية من حياته، وأراد لوقا أن يقدِّم إلى ثَاوُفِيلُسُ وقراء آخرين تاريخًا أكثر اكتمالًا لخدمة المخلِّص. وباستخدام لوقا لهذه السجلات المجزَّأة، والأناجيل الأخرى، ولقاءات مع شهود عيان، وغير ذلك أيضًا، جلس، تحت وحي الروح القدس، كي يقدِّم لثاؤفيلس وثيقة مكتوبة يمكن أن تعالج مخاوفه وهمومه.
وكما هو متوقَّع، أهَّلت عناية الآب الإلهية لوقا على نحو فريد لتسجيل سرد منظَّم ومتوالٍ لحياة مخلِّصنا وخدمته. فإذ كان لوقا هو رفيق بولس الأقرب والأشد إخلاصًا في رحلاته (2تيموثاوس 4: 11)، لابد أنه حصل على قدر كبير من المعلومات عن يسوع ليس فقط من بولس نفسه، بل أيضًا من الرسل الذين كان بولس على تواصل معهم. نعلم أيضًا أن لوقا كان طبيبًا خبيرًا (كولوسي 4: 14)، وربما كان مستوى تعليمه هذا عاملًا لا يقدَّر بثمن، ساهم في مساعدته على إجراء البحث والكتابة اللازمين لكتابة هذا الإنجيل. علاوة على ذلك، كان الله هو الذي دبَّر للوقا صديقًا مثل ثاوفيلس، الذي كان بحاجة إلى علاجٍ لشكوكه ومخاوفه بشأن يسوع. وهذه الظروف أعطت لوقا الحافز والدافع اللازمين ليكتب إنجيلًا، كي يواجه به أسئلة ثاوفيلس، ويقدم لنا لمحة عن مقاصد الله، ربما لم نكن لنحصل عليها بأية وسيلة أخرى.
على سبيل المثال، بيَّن لوقا في إنجيله أن إله إسرائيل، أي يهوه، هو ربُّ الأمم أيضًا، وأنه مهتم كثيرًا بحالتهم وورطتهم. صحيح أن متى، ومرقس، ويوحنا طرحوا هذه الفكرة أيضًا، لكنها كانت بارزة بشكل خاص في إنجيل لوقا. فإن اللغة اليونانية المستخدمة في هذا الإنجيل راقية، وتحمل سمة أدبية، الأمر الذي قد نتوقعه من شخص من أصل أممي، مع أن لوقا ربما تحوَّل إلى الديانة اليهودية قبل أن يسمع عن المسيح. فهل توجد وسيلة يمكن بها لله أن يبيِّن محبته للأمم أفضل من أن يوحي لواحدٍ من بينهم بتسجيل قصة حياة ابنه؟ كذلك، أبرز لوقا اهتمام يهوه بالأمم من خلال سلسلة نسب يسوع التي وردت في لوقا 3: 23-38. فقد تتبَّع لوقا نسب يسوع بحسب الجسد رجوعًا إلى آدم، معلنًا أن المسيا اليهودي جاء أيضًا من أصل أممي، لأن جميع أسلافه بين آدم وإبراهيم كانوا من الأمم.
كذلك، أظهر لوقا، كاتب الإنجيل الثالث، محبة الآب للأمم عن طريق اهتمامه الخاص بتاريخ العالم. قطعًا، كلُّ الأناجيل الأربعة، وكلُّ أسفار الكتاب المقدس أيضًا، تتسم بالدقة التاريخية، وبالاهتمام بعمل الله في الزمن المُسجَّل. إلا أن البنية التاريخية لإنجيل لوقا تمدُّنا بنظرة فريدة عن غرض خالقنا من افتداء البشر من كلِّ الأمم. فمن خلال تقسيم وبنية الإنجيل، يمكن رصد ثلاث مراحل من تدرُّج عمل الله في تاريخ العالم في كتابات لوقا، التي تشمل إنجيله وسفر أعمال الرسل. يركز لوقا 1: 1-3: 22 على عمل الله القدير في أمة إسرائيل. وبالتالي، فإن المرحلة الأولى من تاريخ العالم هي حقبة الأمة اليهودية، التي فيها أعدَّ الله شعبًا مقدَّسًا حتى يولد منه المخلِّص. ثم يمثِّل لوقا 3: 23-أعمال الرسل 1: 26 حقبة خدمة المسيح على الأرض، وهي المرحلة الثانية من تاريخ العالم، التي فيها هزم يسوع قوة الخطية، والموت، والشيطان، وشهد لمجد الله أمام اليهود والأمم، مثل بيلاطس البنطي. ثم يمثِّل أعمال الرسل 2-28، بالإضافة إلى تاريخ الكنيسة بأكمله، حتى مجيء يسوع ثانيةً (المشار إليه ضمنًا في أعمال الرسل 28: 28)، حقبة خلاص جميع الشعوب، ذلك الخلاص الذي أتمَّه الله بواسطة عمل الكنيسة المؤيَّدة بالروح القدس. وخلال هذه المرحلة الثالثة من التاريخ البشري، يخرج الإنجيل من أورشليم إلى أقصى الأرض، فيما دفع الروح القدس الكنيسة إلى أن تنادي بنعمة الله في المسيح لجميع الأمم. والحدث المفتاحي لهذه المرحلة يتمثَّل في امتداد الإنجيل والروح القدس إلى الأمم، من خلال اختبار إيمان كرنيليوس بالمسيح، الذي كان علامة على أن غير اليهود صار بإمكانهم أيضًا أن يجدوا "التَّوْبَةَ لِلْحَيَاةِ!" (أعمال الرسل 10: 1-11: 18).
كذلك، يسهم اهتمام لوقا الخاص بتاريخ العالم في طمأنة قرائه بشأن صحة المسيحية. فقليلون من الكُتَّاب الآخرين للأسفار الكتابية يمكن أن يضاهوا ما نجده في إنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل من عدد الإشارات إلى شخصيات وأحداث من التاريخ العلماني. فإننا في هذين السفرين نُخبَر بأن يسوع ولد عندما كان أُوغُسْطُسَ هو القيصر، وكِيرِينِيُوسُ هو وَالِيَ سُورِيَّةَ الروماني (لوقا 2: 1-7). يضع هذا التجسُّد في مكان وزمان حقيقيين، ويدحض كل مَن قد ينادي بأن هذه القصة خرافية، أو خارجة عن نطاق التاريخ. وبالمثل، أشار أعمال الرسل 11: 27-30 إلى مجاعة حدثت " فِي أَيَّامِ كُلُودِيُوسَ قَيْصَرَ"، الأمر الذي يضع أعمال الله داخل إطار تاريخي حقيقي، مظهرًا بذلك أن الرب لا يرى أن عمله داخل الزمن هو أمر أدنى من مستواه. وبالنسبة للعقلية اليونانية، التي كانت تعتبر العالم المادي شرًّا غير جدير بأن يحظى بالاهتمام الإلهي، كان وضع أعمال الله في إطار التاريخ المادي والحقيقي أمرًا جذريًّا ومثيرًا للاهتمام، يُظهِر أن الرب لا يهدف فقط إلى أن يفتدي العالم الروحي، بل أيضًا عالم الأحداث المادية، والأشخاص الماديين، والأشياء المادية.
وكان الاهتمام باليونانيين وباقي الأمم الذي تجلَّى بوضوح في كتابات لوقا بمثابة خبر سار بالفعل للذين هم خارج دائرة العهود مع إسرائيل، والذين هم بلا رجاء في العالم. فإذا كان ممكنًا حتى للمنبوذين أن يخلصوا، يكون هناك إذن رجاء حقيقي للخليقة الساقطة. ويبيِّن لنا إنجيل لوقا أن محبة الله للمنبوذين لا تقتصر على الأمم وحدهم، ولكنها موجَّهة أيضًا إلى الذين كانوا يُعتبرون من المنبوذين من داخل الأمة اليهودية. ففي القرن الأول، كانت النساء محتقَرات في المجتمع اليهودي، ولكنَّ المسيح أظهر احترامه لهن من خلال استعداده لتعليمهن تمامًا مثلما علَّم الرجال (لوقا 10: 38-42). كان هذا عملًا ثوريًّا، لأن غالبية معلِّمي اليهود كانوا يرفضون أن يكون لديهم تلميذات من النساء. لكن يخبرنا لوقا أيضًا بأن العديد من النساء الثريات كنَّ يدعمن إرسالية يسوع ماديًا (لوقا 8: 1-3)، كما أظهر، مثلما فعل باقي كُتّاب الأناجيل أيضًا، كم كنَّ مخلصات ووفيات بملازمتهنَّ ليسوع في أصعب ساعة اجتاز فيها، في حين هرب تلاميذه من الذكور عند أول بادرة متاعب (لوقا 23: 44-24: 10؛ انظر أيضًا متى 27: 45-28: 10؛ مرقس 15: 33-16: 8؛ يوحنا 19: 25-27؛ 20: 1-3).
هكذا أيضًا حظي الفقراء، الذين كانوا يُعتبرون منبوذين في أجزاء كثيرة من المجتمع اليهودي في القرن الأول، بسبب الاعتقاد بأن البر والغنى أمران متلازمان، باهتمام خاص في إنجيل لوقا. أخبرنا لوقا بأن الله يبدي اهتمامًا خاصًا بالفقراء. كان مريم ويوسف فقيرين بحسب مقاييس العالم، لأنهم لم يقدرا أن يقدِّما سوى حمامًا ويمامًا في الهيكل (لوقا 2: 22-24؛ انظر لاويين 5: 1-13؛ 12)؛ لكن من المفارقة العجيبة أن هذين الزوجين كانا غنيين بما لا يُقاس، لأنهما كُلِّفا بمهمة تربية المسيا حتى سن البلوغ. كذلك، أبرز لوقا اهتمام يسوع بالذين في احتياج وعوز، عندما سجَّل لنا تعليم الرب القائل إن ملكوت الله هو للمساكين والجياع الذين يتكلون على المسيح (لوقا 6: 20-21؛ 12: 13-21؛ 16: 19-31). لم تكن الفكرة المراد توصيلها قطعًا هي أن الفقراء أبرار بشكل ما بطبيعتهم، أو جديرون بمحبة الله؛ بل في المقابل، يدل هذا الاهتمام بالفقراء على أن خالقنا يبحث عن أولئك الذين قد ينسى المجتمع أمرهم أو ينبذهم في المعتاد. فإن ملكوته ليس للأقوياء، بل للمتضعين والضعفاء، والمساكين والفقراء، لأن هؤلاء الذين ليست لديهم مقتنيات مادية يمكن أن يتكلوا عليها، هم على الأرجح الأشد وعيًا بضعفهم. ومثل هذه المسكنة بالروح مطلوبة من جميع الذين يريدون أن يخلصوا، سواء كانوا محقَّقين ماديًا أم لا.
من المنظور البشري، لم يكن هناك ما دفع لوقا إلى تسجيل تلك الجوانب من حياة يسوع وخدمته. فقد كان بإمكانه أن يختار أحداثًا أخرى ليرويها، لأنه، تمامًا مثل باقي كُتّاب الأناجيل، لم يكن لديه أيُّ عجز أو نقص في المحتوى الذي يمكن أن يستقي منه (يوحنا 21: 25)؛ غير أنه قدَّم لنا، بإرشاد الروح القدس، إنجيلًا يُثبِت تاريخية الإيمان المسيحي، ويشدِّد على اهتمام الله القدير بالأمم والمنبوذين. ينبغي أن نشعر بالامتنان لأجل تلك الأفكار التي ركز عليها هذا الإنجيل، لأنها تمدُّنا جميعًا، نحن الذين قد نُبِذنا ورُفِضنا من الملكوت بسبب خطايانا، يهودًا كنا أو أممًا، برجاءٍ حقيقيٍّ في أن الله قد تدخَّل في التاريخ، وأنه لن يحسب الذين يؤمنون بابنه منبوذين إلى الأبد.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.