العناية الإلهية كما قدَّمها إقرار إيمان وستمنستر
۹ أغسطس ۲۰۲۲نموت عن الخطايا ونحيا للبرِّ
۱۵ أغسطس ۲۰۲۲التطبيق العملي للعناية الإلهية على حياتنا
ملاحظة المُحرِّر: المقالة 4 من سلسلة "العناية الإلهية"، بمجلة تيبولتوك.
إن عقيدة العناية الإلهية عملية أكثر من أية عقيدة أخرى، وذلك لأنها تولِّد فينا كلًّا من الإيمان والمخافة. عندما علَّمنا المسيح كيف نتعامل مع القلق، ذكَّرنا بأن الله الآب يُطعِم كل عصفور صغير، ويُلبس كل زهرة بألوانها الجميلة (متى 6: 25-30)، فكم بالحري إذن ينبغي أن نثق في عنايته بأولاده الأحباء؟ فسواء كنا على استعداد أن نقرَّ بذلك أم لا، يعيش كل إنسان طوال الوقت في محضر الله الحي. وكلما ازداد وعي المؤمن بالعناية الإلهية، قيل عنه، مثلما كتب ب. ب. وارفيلد (B. B. Warfield)، إنه "في كلِّ مكان يرى الله بتدخلاته القديرة، ويشعر بعمل ذراعه القديرة، ويسمع نبض قلبه القدير".
إن إلهنا ممسك بزمام الأمور. وفي حين أننا لا نستطيع أن نسبر غور طرق الله بشكل كامل، نستطيع أن نؤكد أن "مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ. لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ" (رومية 11: 36). لسنا نعلم أسباب الكثير من الأمور، لكننا نعلم مَن هو الذي عيَّن كلَّ شيء. كتب أوبديا سيجويك (Obadiah Sedgwick) يقول: "لا يوجد مَن هو مؤهَّل لحُكم العالم مثل الشخص نفسه الذي خلقه". فإن حكمة الله الكاملة، وقداسته، وبره، وقوته، ومحبته، وصلاحه لن تخيب أو تفشل أبدًا.
وبالتالي، نستطيع أن نكون مثل ذلك الطفل الذي كان على متن سفينة، وظل في سلام فيما كانت الرياح والأمواج تعصف من حوله. وعندما سُئل عن السبب الذي أبقاه هادئًا في وسط هذه العاصفة الشديدة، أجاب: "لأن أبي هو قبطان السفينة". فكم وكم إذن يمكن للكنيسة أن تتغنَّى قائلة: "اَللهُ لَنَا مَلْجَأٌ وَقُوَّةٌ. عَوْنًا فِي الضِّيْقَاتِ وُجِدَ شَدِيدًا. لِذلِكَ لاَ نَخْشَى وَلَوْ تَزَحْزَحَتِ الأَرْضُ، وَلَوِ انْقَلَبَتِ الْجِبَالُ إِلَى قَلْبِ الْبِحَارِ" (مز 46: 1-2).
تقدِّم العناية الإلهية العديد من الفوائد للمؤمنين، وسنتناول فيما يلي خمس منها.
الثقة في سيادة الله الأبوية
أولًا، إن فلسفة حياة المؤمن التي مركزها الله ترسخ ثقته في أن أباه يملك ويتسلَّط على كلِّ شيء، بواسطة ابنه، وبالروح القدس. يقول دليل هايدلبرج لتعليم الإيمان عن طريق السؤال والجواب:
أنَّ الآب الأزلي، أبا ربنا يسوع المسيح (الذي خلق من العدم السماوات والأرض، وكل ما فيها، والذي يحملها ويديرها أيضًا بمشورته الأزلية وعنايته)، هو إلهي وأبي، وذلك بفضل المسيح ابنه. وأنني أتكل عليه تمامًا، ولا يساورني أدنى شك في كونه سيعطيني كلَّ ما هو لازمٌ للنفس والجسد. كذلك، أنَّه سيجعل كل الشرور التي يأتي بها عليَّ، في وادي الدموع هذا، تتحول إلى خير ومنفعة لي، لأنَّه قادر على ذلك، كونه هو الله القدير وضابط الكل، وكونه يريد ذلك، لأنه أب أمين. (السؤال والجواب 26)
إن عقيدتي العناية الإلهية والتبني تتشابكان الأيدي معًا من أجل تأييد أولاد الله بثقة عجيبة. فإن الله كلي السيادة هو أيضًا الأب المحب للمؤمنين، في يسوع المسيح، الذي في كل حياتهم، "يترأف عليهم، ويحميهم، ويعتني بهم، ويؤدبهم كأب لبنيه دون أن يرفضهم"، كما يقول إقرار إيمان وستمنستر (12. 1). تعجَّب جون كوتون (John Cotton) قائلًا: "أهو أمر هيِّن أن يُدعَى إله السموات والأرض أبًا لكم، وأنتم مجرد بشر؟" والله، أبونا، سيعطي بكل تأكيد "كلَّ ما يلزم لابنه في الحاضر وكلَّ ما يلزم لوريثه في المستقبل"، وذلك لأن "الله يقوتنا"، "وقد أعطانا ميراثًا".
إننا نعيش في عالم محفوف بالمخاطر. فالأمراض، والكوارث، والحروب تحصد أرواح الكثيرين، وترسلهم إلى الأبدية كلَّ يوم. والأشرار يظلمون الأتقياء والأبرياء، ويسيئون معاملتهم. وما لسنا نراه بأعيننا هو أن الشيطان وجنوده يجولون كأسود زائرة ملتمسة ابتلاع البشر وجرَّهم جرًّا إلى الدينونة (1بطرس 5: 8). وخداع الخطية وشهواتها تثور بداخل قلوبنا، حتى أننا لسنا بمأمن البتة من أنفسنا. وتطالبنا الواقعية بأن نعيش بحكمة وتعقل في مثل هذا المكان المحفوف بالمخاطر.
لكن، لا داعي أن يعيش المؤمنون في خوف أو قلق، بل يمكنهم التمسك بالوعد الذي جاء في رومية 8: 28، الذي يقول: "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ". كتب توماس واطسون (Thomas Watson) يقول: "كلُّ تعاملات الله المختلفة مع أولاده تؤول بفعل عناية إلهية خاصة إلى خيرهم. ‘كُلُّ سُبُلِ الرَّبِّ رَحْمَةٌ وَحَقٌّ لِحَافِظِي عَهْدِهِ وَشَهَادَاتِهِ’" (مزمور 25: 10)". ثم اختتم حديثه قائلًا: "السبب الأهم الذي يجعل كلَّ الأشياء تعمل للخير هو اهتمام الله الشديد والقدير بشعبه. فقد قطع الرب عهدًا معهم. ‘وَيَكُونُونَ لِي شَعْبًا وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلهًا’ (إرميا 32: 38)"
وإن العناية الإلهية تعزِّي شعب الله الذين دخل معهم في عهد. قال سيجويك عن ذلك:
لم يفتقر أيُّ إنسان صالح قط إلى خيرٍ يخصه. قد أفتقر إلى خيرٍ ما، لكن لا يمكن أن أفتقر إلى خير يخصني: "الرَّبُّ يُعْطِي رَحْمَةً وَمَجْدًا. لاَ يَمْنَعُ خَيْرًا عَنِ السَّالِكِينَ بِالْكَمَالِ" (مزمور 84: 11).
يتعامل الله مع كنيسته الحية بعناية إلهية خاصة، وذلك لأننا قرة عينه، وخرافه، وأولاده، وجواهره النفيسة (زكريا 2: 8؛ إشعياء 40: 11؛ 49: 15؛ ملاخي 3: 17). فإن عنايته بشعبه عناية مترفقة، ورقيقة، وغامضة، ومجيدة، ودقيقة، وعادة ما تكون استثنائية.
كذلك، الإيمان بعناية الله يدعم خدمة المؤمن له. فهذا الإيمان هو ترسه ضد كل هجمات الشيطان (أفسس 6: 16). قال وارفيلد: "إن الإيمان الراسخ والثابت بالعناية الإلهية الشاملة هو الحلُّ لكل المشكلات والمتاعب الأرضية". فبدلًا من أن يصيب الخوف المؤمن القوي بالشلل، وبدلًا من أن يحرِّكه القلق، سيقف هذا المؤمن على أرض العناية الإلهية الثابتة، ويتقدم إلى الأمام في طاعة وخضوع راسخين لمشيئة سيده.
إيمان الأطفال في الصلاة
ثانيًا، أولئك الذين يؤمنون بالعناية الإلهية هم رجال صلاة، يعرفون ويؤمنون بأن إلههم الذي يعتني بهم يوصي بالصلاة، ويسمعها، ويستجيب لها. وهم يعلمون أيضًا أن "كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ" (يعقوب 1: 17).
قال جون كالفن:
لا يكفي أن نؤمن بأنه يوجد شخص واحد يستحق أن يكرمه الجميع ويعبدوه، ما لم نقتنع أيضًا بأن هذا الشخص هو ينبوع كلِّ خير، وبأننا يجب ألا نطلب شيئًا إلا منه ... فما من قطرة واحدة من الحكمة والنور، أو من البر أو القدرة أو السدادة، أو من الحق الأصيل، إلا وسنجدها نابعة منه، وإلا وسنجد أنه هو علتها.
إن الصلاة هي صرخة إيمان الأطفال. فعندما نصلِّي قائلين: "أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ... خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ"، مثلما علَّمنا الرب يسوع (مت 6: 9، 11)، فإننا نقر بأن الله هو "الينبوع الوحيد لكلِّ خير، وبأنَّ لا اهتمامنا ولا مثابرتنا" سيقدران أن يأتيانا بما نحتاجه ونرغب فيه من دون مباركة الله؛ وبالتالي، فإننا "نسحب ثقتنا من كلِّ المخلوقات ونضعها فيه وحده" (إقرار إيمان هايدلبرج 125).
يُعلِّمنا الرب بأن نذهب إليه بكل احتياج لدينا، وبكل ضعف فينا، وبكلِّ همومنا. ولأننا نعلم أنه هو من يعتني بنا، علينا أن نطلب منه طعامنا وشرابنا، وصحتنا، وثيابنا، والعلاقات العائلية الطيبة، والنجاح في دعوتنا، وقوة الروح القدس في كنائسنا، وسلام أمتنا. فعلينا أن نلقي "كُلَّ [همِّنا] عَلَيْهِ، لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي [بنا]" (1بطرس 5: 7).
وتعزِّز معرفة العناية الإلهية من الاتضاع، الذي هو سمة حيوية في الصلاة. يّذكِّرنا الكتاب المقدس بأنه مهما عملنا بجد، لن يتسنى لنا الحصول على شيء ما لم نأخذه من يده (مزمور 104: 28؛ يوحنا 3: 27). فحقًّا، لا يمكننا أن نحرك إصبعًا، أو نطرف عينًا، أو نفكر فكرة واحدة دون أن يمكِّننا الله من ذلك. قد نتمتع بأعظم المهارات، وبأروع قائمة من الخبرات والمراجع، ولكنه "هُوَ الَّذِي يُعْطِيكَ قُوَّةً لاصْطِنَاعِ الثَّرْوَةِ" (تثنية 8: 18). وحتى مع وجود القوة والمهارة، قد نكدح اليوم كله لكن نخفق في بلوغ أهدافنا. "إِنْ لَمْ يَبْنِ الرَّبُّ الْبَيْتَ، فَبَاطِلًا يَتْعَبُ الْبَنَّاؤُونَ. إِنْ لَمْ يَحْفَظِ الرَّبُّ الْمَدِينَةَ، فَبَاطِلًا يَسْهَرُ الْحَارِسُ" (مزمور 127: 1).
ولذلك، ينبغي أن نتكل على الله وحده، ونطلب منه كلَّ الخير. ما أروع أن يكون لدينا شعور حقيقي باعتمادنا المستمر عليه! ففي كثير من الأحيان، يذهب الناس إلى العمل كلَّ يوم، ويشترون حاجياتهم، ويتناولون الأدوية، ويدفعون الفواتير، ويستمتعون بالملذات، دون أن يفكروا للحظة في الله، وفي حقيقة أن كلَّ شيء متوقف على مشيئته. فإن قلوبهم منتفخة في كبرياء، وهم ينسون الرب، قائلين: "قُوَّتِي وَقُدْرَةُ يَدِيَ اصْطَنَعَتْ لِي هذِهِ الثَّرْوَةَ" (تثنية 8: 17). وخلو حياتهم من الصلاة هو المسمار الذي يُغلق نعش موتهم الروحي. أما ابن الله، فلديه روح التبني الذي به يصرخ في قلبه قائلًا: "يَا أَبَا الآبُ" (غلاطية 4: 6). فهو يعرف بواسطة غريزة غرسها فيه الروح القدس أن كلَّ نجاة من الشر وكل تمتع بالخير إنما مصدرهما أبوه؛ ولهذا يصلي. وماذا عنك؟ هل تصلي؟ وهل صلواتك هي طلب صادق لذاك الذي هو ينبوع كل خير؟ هل تؤمن حقًا بإله العناية الإلهية؟
الصبر في الشدائد
دليل هايدلبرج لتعليم الإيمان عن طريق السؤال والجواب يسلط الضوء على ثلاث فوائد أخرى لإدراك العناية الإلهية:
أن نصبر في الشدائد، ونشكر في الرخاء. وفي كلِّ ما قد يأتي علينا، أن نضع ثقتنا الراسخة في إلهنا وأبينا الأمين، واثقين بأن لا شيء سيفصلنا عن محبَّته. فلأن كلَّ المخلوقات في يده، هي لا تستطيع حتى أن تتحرَّك دون مشيئته. (السؤال والجواب 28)
لذا، فإن الفائدة الثالثة هي الصبر في الشدائد. فإننا نتجاوب بالطبيعة مع الشدائد بأن نغوص في شعور بالمرارة محوره الذات، أو نسقط في اليأس. لكن، حتى عندما تكون الظروف صعبة أو مؤلمة، على المؤمن أن يسعى وراء السكينة الداخلية، وذلك عن طريق ممارسة الإيمان بالعناية الإلهية. قال داود: "صَمَتُّ. لاَ أَفْتَحُ فَمِي، لأَنَّكَ أَنْتَ فَعَلْتَ" (مزمور 39: 9). إن السكينة الحقيقية في وقت الألم لا تأتي من ممارستنا لرباطة الجأش، أو من سيطرتنا على مشاعرنا، بل من التمسك بالله والتعلُّق به في وسط العاصفة.
يُعَد الصبر المسيحي في الشدائد ("طول الأناة") إحدى ثمر الروح الفائق للطبيعة (غلاطية 5: 22). يمكن لغير المؤمنين أن يستسلموا في كآبة للظروف التي يعجزون عن تغييرها. أما المؤمنون، فيثابرون في الإيمان، مؤمنين بأن أشد الشرور ستؤول لمنفعتهم، وتعمل لخيرهم، ما دامت في يدي إله محب وأمين. وبنعمة الله، وفي استجابةٍ منه للصلاة، يتسنَّى لنا أن نكون "مُتَقَوِّينَ بِكُلِّ قُوَّةٍ بِحَسَبِ قُدْرَةِ مَجْدِهِ، لِكُلِّ صَبْرٍ وَطُولِ أَنَاةٍ بِفَرَحٍ" (كولوسي 1: 11). فبالروح القدس، يصير تلاميذ المسيح حملة طوعيين للصليب (لوقا 9: 23).
أولئك الذين يؤمنون بالعناية الإلهية يتحدَّثون عن مقاصد الله من شدائدهم. فهم يفهمون ويؤيِّدون قصد الله المتمثل في تدريب أولاده كي يبلغوا النضج في القداسة من خلال آلامهم وضيقهم (أمثال 3: 11-12؛ عبرانيين 12: 5-11)، ويقولون: "قَبْلَ أَنْ أُذَلَّلَ أَنَا ضَلَلْتُ، أَمَّا الآنَ فَحَفِظْتُ قَوْلَكَ ... خَيْرٌ لِي أَنِّي تَذَلَّلْتُ لِكَيْ أَتَعَلَّمَ فَرَائِضَكَ" (مزمور 119: 67، 71). وهم يثقون، حتى وإن كانوا عاجزين عن رؤية كيفية تحقُّق ذلك، بأن الله يتمجد من خلال صراعاتهم، ولا سيما عن طريق إظهار أنه جديرٌ بإيمانهم ومخافتهم حتى وإن لم يمنحهم السعادة في الحاضر (أيوب 1: 1، 8-11، 20-21). فهم يعيشون في اتحاد وشركة مع المسيح، مبتهجين بتألمهم معه، وعالمين أنهم يومًا ما سوف يملكون معه في المجد (رومية 8: 17). وهم يعزمون على أن "[يحاضروا] بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ [أمامهم]، نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ" (عبرانيين 12: 1-2).
يعتمد رجاء المؤمن في مقاصد الله على إيمانه بأنه متحكِّم بالفعل في كلِّ شيء. قال يوهانس فاندركمب (Johannes VanderKemp): "لو لم يكن هناك حاكم كوني يتحكَّم في كلِّ ما يحدث، فكيف للبشر الصالحين أن يسكِّنوا ويعزُّوا أنفسهم في كل ضيقاتهم؟ ألن يكون حالهم أسوأ من حال الأشرار؟"
واحدة من أشد الضيقات التي يمكن للمؤمن أن يقاسيها هي الظلمة الروحية. يقول إقرار إيمان وستمنستر 18. 4 هذه الكلمات: " يمكن للمؤمنين الحقيقيين أن يتزعزع يقين خلاصهم، أو يتناقص، أو يختفي بطرق مختلفة، في بعض الأحيان، بسبب حجب الله لنور وجهه، سامحًا بأن يسلك حتى الذين يخافونه في الظلمات دون أن يكون لهم نور" (انظر إشعياء 50: 10). أوضح أنتوني بورجس (Anthony Burgess) أنه من الممكن أن يسحب لله من المؤمن فرحه ويقينه في محبة الله بصورة مؤقتة، وذلك حتى يذوق ابنه الحبيب هذا مرارة الخطية، فيتعلَّم كيف يبغضها أكثر كثيرًا، وكيف ينمو في الاتضاع، ويُقدّر قيمة الفرح والسلام فلا يعتبرهما أمرًا مسلَّم به، وكيف يمجد الله بطاعته، ويزداد رأفة حتى يعزِّي الآخرين أيضًا.
وسواء أمكن للقديس الذي يسلك في الظلمات أن يميِّز الفائدة الروحية لهذا الأمر أم لا، يمكنه أن يستريح في معرفته بأن إلهه كلي السيادة يعمل دائمًا لمجده ولخير مختاريه. قال ويليام جورنال (William Gurnall): "على المسيحي أن يثق في إله منسحب من المشهد".
عزيزي المؤمن، تخيَّل للحظة أن كل شيء في الحياة سار دائمًا "على هواك"، فلم تتعرَّض لضيق قط، ولم تواجه أية شدائد على الإطلاق؛ فكيف سيصير حالك عندئذ؟ أعلم جيدًا ما سأصير عليه: سأصير خاطئًا مدللًا، وغير ناضج، ومتمحورًا حول ذاتي، ومتكبرًا، ولا أؤمن إلا بنفسي. فمع أن جسدي لا يريد دائمًا الاعتراف بذلك، إلا إنني أعلم في قرارة نفسي أنني كنتُ بحاجة إلى كلِّ ضيقة أرسلها أبي السماوي في طريقي، حتى ينقذني من ذاتي، ويغيِّرني أكثر فأكثر إلى صورة ابنه. فبدون الضيق، لم أكن لأصبح مبغضًا للخطية، ومحبًا للمسيح، ومتبعًا للقداسة. ولم أكن لأصبح مؤمنًا من النوع الذي أنا عليه الآن. وأعتقد أنك لا تختلف عني في شيء.
في كل ضيقنا، وبصفة خاصة بعد خروجنا من الضيق (عبرانيين 12: 11)، نكتشف أن حلاوة مقاصد الله الصالحة تفوق كثيرًا مرارة آلامنا. فإن أبانا المحب لن يُهدر دمعة واحدة تسقط من عيون أولاده الأحباء (مزمور 56: 8). قال صمويل راذرفورد (Samuel Rutherford): "عندما أقبع داخل قبو الضيقات، أفتِّش هناك عن أفخر أنواع النبيذ التي اختارها الله".
الشكر في السرَّاء
الفائدة الرابعة للعناية الإلهية، التي ربما يكون تنفيذها صعبًا بقدر الصبر في الشدائد، هي الشكر في وقت الرخاء والسرَّاء. فمع أن الضيقات حقيقية، ومتكررة، وفي بعض الأحيان تكون ساحقة، إلا أننا منغمسون أيضًا في خليقة الله الجيدة، التي يجب أن تؤخذ "مَعَ الشُّكْرِ" (1تيموثاوس 4 :4). فالله "يَمْنَحُنَا كُلَّ شَيْءٍ بِغِنًى لِلتَّمَتُّعِ" (1تيموثاوس 6: 17)، ولا تعوزنا البتة عطاياه الصالحة، ومن ثم لا تعوزنا الأسباب التي تدعونا إلى أن نسبح ونحمد إله العناية الإلهية (أفسس 5: 20). قال فيلهلموس آ. براكل (Wilhelmus a Brakel) هذه الكلمات: "إن الاستخدام السليم للعناية الإلهية سيجعلك نموذجًا استثنائيًا للامتنان، وسيعلِّمك كيف يكون الله وحده هو ملاذك، لكونه هو الواهب الوحيد لكلِّ الخير الذي يمكن أن تناله لنفسك ولجسدك أيضًا".
إن الامتنان ضروريٌّ للتقوى. ودون الشكر، لن نتمكن من إطاعة مشيئة الله: "اشْكُرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ، لأَنَّ هذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ اللهِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ مِنْ جِهَتِكُمْ" (1تسالونيكي 5: 18). قال كالفن:
أعرِّف "التقوى" بأنها ذلك التوقير المقترن بالمحبة لله، الذي تسبِّبه معرفة منافعه. لأنه فقط عندما يقرَّ البشر بأنهم يدينون لله بكلِّ شيء، وبأنهم يقتاتون على عنايته الأبوية، وبأنه هو مصدر كل خير عندهم، لن يطلبوا غيره، وسيقدِّمون له خدمة طوعية.
لكل من الضيق والرخاء أخطاره. "لاَ تُعْطِنِي فَقْرًا وَلاَ غِنًى. أَطْعِمْنِي خُبْزَ فَرِيضَتِي، لِئَلاَّ أَشْبَعَ وَأَكْفُرَ وَأَقُولَ: «مَنْ هُوَ الرَّبُّ؟» أَوْ لِئَلاَّ أَفْتَقِرَ وَأَسْرِقَ وَأَتَّخِذَ اسْمَ إِلهِي بَاطِلًا" (أمثال 30: 8-9). فكلٌّ من الضيق والرخاء تصحبه واجبات: "أَعَلَى أَحَدٍ بَيْنَكُمْ مَشَقَّاتٌ؟ فَلْيُصَلِّ. أَمَسْرُورٌ أَحَدٌ؟ فَلْيُرَتِّلْ" (يعقوب 5: 13).
في لُبِّ الشكر، يَكمُن الإيمان المتمثِّل في النظر إلى ما وراء عطايا الله الصالحة من أجل تقدير صلاحه هو نفسه. فالمؤمن الحقيقي يحب الله أكثر مما يحب عطاياه. وبينما يشعر بالامتنان من أجل المراحم اليومية، هو يحسب الرب نصيبه (مراثي إرميا 3: 22-24)، ويتغنَّى قائلًا: "مُبَارَكٌ الرَّبُّ، يَوْمًا فَيَوْمًا يُحَمِّلُنَا إِلهُ خَلاَصِنَا [بالمنافع والخيرات]" (مزمور 68: 19).
نادرًا ما يقدِّر البشر قيمة الخيرات التي يحصلون عليها، لأنهم يخدعون أنفسهم بالظن أنهم يستحقونها. فقليلون هم من تعلَّموا الدرس الذي تعلَّمه يعقوب حين قال: صَغِيرٌ أَنَا عَنْ جَمِيعِ أَلْطَافِكَ وَجَمِيعِ الأَمَانَةِ الَّتِي صَنَعْتَ إِلَى عَبْدِكَ" (تكوين 32: 10). ففي حقيقة الأمر، نحن نستحق أن نتعذَّب في لهيب غضب الله، وأن نُحرَم حتى من قطرة مياه واحدة (لوقا 16: 24-25).
عندما زرتُ أبي بعد خضوعه لعملية القلب المفتوح، وجدتُه يبكي بشدة شكرًا وامتنانًا. وعندما سألته عن السبب الذي جعله ممتنًّا إلى هذا الحد، قال: "دخلَت إليَّ ممرضة لتوِّها، ورطبت شفتيّ بمكعب من الثلج، فلم أستطع أن أمنع نفسي من التفكير في ذلك الغني الذي كان يتعذب في الجحيم، ولم تعطَ له ولو قطرة مياه واحدة لتبرد لسانه. فإنني كنتُ أستحق هذا المصير نفسه".
هل شعرتَ يومًا بالامتنان من أجل مكعب ثلج؟ ليساعدك الله وإياي لنكون ممتنين بحق من أجل أبسط لطف يبديه الله أو الآخرون من نحونا.
توقع جيد بشأن مستقبل مجهول
أخيرًا، تمدُّنا العناية الإلهية نحن المؤمنين بثقة يقينية في الله من جهة المستقبل المجهول. ولذلك، على المؤمنين أن يكونوا أناسًا متفائلين أبديًا. يقول دليل هايدلبرج لتعليم الإيمان عن طريق السؤال والجواب، في الجواب 28، إن عقيدة العناية الإلهية تحثنا على أن "نضع ثقتنا الراسخة في إلهنا وأبينا الأمين". وحرفيًّا، تقول هذه الجملة في اللغة الهولندية الأصلية ما ترجمته: "أن يكون لدينا توقُّع جيد". يا ابن الله، هل لديك توقع جيد بشأن مستقبلك؟ إن يد أبينا تحكم هذا العالم، ولا أحد يقدر أن يمنع مقاصده من التحقق (دانيال 4: 35). "لأَنَّ اللهَ لَمْ يَجْعَلْنَا لِلْغَضَبِ، بَلْ لاقْتِنَاءِ الْخَلاَصِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (1تسالونيكي 5: 9). فإنك بين يدي الآب والابن، وما من موضع في كل العالم أكثر أمانًا من ذلك (يوحنا 10: 28-29).
وبما أن الله يملك على كلِّ شيء، نستطيع إذن أن نبتهج الآن لأننا سنصل يومًا ما سالمين إلى ميراثنا الأبدي. يقول بولس: "إِنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا، فَمَنْ عَلَيْنَا؟ اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟" (رومية 8: 31-32). فقد افتخر بولس بالنتيجة اليقينية للعناية الإلهية، قائلًا:
فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ، وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ، وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً، وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ، وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى، تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا". (الآيتان 38-39)
توحي عقيدة العناية الإلهية أيضًا بأن العكس صحيح. فإذا كان الله ضدك، فمن سيقدر أن يعينك؟ لا شيء في كل الخليقة يمكن أن يحميك أو يسترك من غضب الله إذا واصلتَ العيش في خطاياك، ورفضتَ أن تقبل ابنه في إيمان منسحق القلب. فإذا كنتَ خاطئًا غير تائب، اعلم جيدًا أنك عدوُّ إله العناية الإلهية. فإنك لست تثق في سلطانه الأبوي، بل تزدري به بشدة، وتفضِّل أن تعبد آلهة من وحي خيالك. وأنت تتكل في كبرياء على نفسك بدلًا من أن تطلب نعمة الله بالصلاة. كذلك، ليس لديك قلب شاكر، مع أنك تتنفس كل يوم هواء الله وتشرب من مياهه. وإذا لم تتب، سيسحب منك الله كل الخير، وسيستخدم قوته السيادية ليعاقبك إلى الأبد.
إن الرب، في عنايته، يجمع شعبًا لنفسه من هذا العالم الشرير. وأروع فعل من أفعال العناية الإلهية هو إرسال الله ابنه كي يفتدي الخطاة (غلاطية 4: 4-5). وعندما صلب البشر الأشرار يسوع المسيح، كانوا بهذا يتمِّمون قصد الله السيادي المتمثل في أن يموت ابنه فدية عن كثيرين (مرقس 10: 45؛ أعمال الرسل 4: 27-28). وقد أقام الله المسيح من بين الأموات بقوته، والآن يجلس المسيح عن يمين الله، بصفته ملك الملوك ورب الأرباب (مزمور 2: 6؛ 110: 1).
واليوم، يعمل الله بواسطة الإنجيل، حتى أن كل من يرجع عن خطاياه، ويؤمن بالمسيح، ويدعو باسم الرب، يخلص (رومية 10: 13). هل من الممكن أن تكون العناية الإلهية قد رتبت أن تصطدم بهذا المقال حتى ترجع إلى الله وتتبع المسيح؟ إذا كنت لم تخلص بعد من خطيتك، أود منك أن تدرك أنك لم تقرأ هذه الكلمات بمحض الصدفة. فالله يتحدث إليك. وبنعمته، تستطيع أن تترك ما كنت تتكل عليه فيما سبق، وتضع رجاءك في الله الحي. ثم يمكنك حينئذ أن تفرح، لأن الله يجعل كل الأشياء تعمل معًا لخير الذين رجعوا إلى الله بفعل دعوته، والذين يحبونه (رومية 8: 28). وفي كلِّ الشدائد التي يقاسيها هؤلاء، فيما هم سائرون على طريق المجد، يمكنهم أن يقولوا: "فِي هذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا (الآية 37).
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.