الخدَّام الأمناء
۱۵ يوليو ۲۰۲۱مثل البذار النامية
۱٦ يوليو ۲۰۲۱الكفَّارة المحدودة
قال جي. سي. رايل ذات مرة: "الافتقار إلى التعريفات الدقيقة هو منشأ الجدالات الدينيَّة". هذا هو الحال تحديدًا حين يتعلَّق الأمر بعقيدة الكفَّارة المحدودة. فالصفة "المحدودة" في حد ذاتها ما تخلق المشكلة. بحسب تاريخ الفداء، إن كفَّارة المسيح هي ذروة خلاص الله المُنتظر طويلًا، فلماذا قد يرغب أي شخص في جعلها محدودة؟
من ناحية، بالتأكيد يُحدِّد الجميع كفَّارة المسيح: فالبعض يحد من نطاقها (على أنها من أجل مختاري الله فحسب)؛ والبعض الآخر يحد من فاعليَّتها (على أنها لا تُخلِّص كل مَن قُصِدت لهم). وبالتالي، فالأمر ليس إن كان المرء يُحد كفَّارة المسيح أم لا؛ بل كيف يُحدَّها. لهذا السبب، أقترح مصطلحًا أكثر إيجابيَّة وأقل غموضًا: الكفَّارة المُحَدَّدَة.
تنص عقيدة الكفَّارة المُحَدَّدَة على أنَّه في موت الرب يسوع المسيح، قصد الله الثالوث تتميم الفداء لكل إنسان أعطاه الآب للابن منذ الأزل، وقصد أيضًا تطبيق ما حقَّقته ذبيحته على كل منهم بواسطة الروح القدس. بإيجاز، كان القصد من موت المسيح هو ربح خلاص شعب الله وحده، ولم يكن القصد منه القيام بذلك فحسب، بل سيتمِّمه أيضًا في الواقع. من هذا المنطلق، تقوم الصفة "المُحَدَّدَة" بعمل مزدوج: فهي تشير إلى قصد موت المسيح (من أجل مختاريه وحدهم)، وتشير أيضًا إلى فاعليَّة موت المسيح (بأنَّه يُخلِّص حقًا مختاريه، ويضمن إيمانهم بالإنجيل). فالرب يسوع صادق في معنى اسمه: "يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ" (متى 1: 21).
منذ الصياغة التفصيليَّة لعقيدة الكفَّارة المُحَدَّدَة في سنودس دورت (1618-1619)، وهي تنال قدرًا ليس بالقليل من النقد. ففي القرن الثامن عشر، نادى جون ويسلي بأن هذه العقيدة تتعارض مع "مضمون العهد الجديد بالكامل". وفي القرن التاسع عشر، قال جون ماليود كامبِل (John McLeod Campbell)، وهو قسيس في طائفة كنيسة اسكتلندا، إن هذه العقيدة سلبت المؤمن يقينه الشخصي بأن المسيح "أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لِأَجْلِي" (غلاطية 2: 20). وفي القرن العشرين، تذمَّر كارل بارت من أن "العقيدة القاتمة" كانت استنتاجًا منطقيًّا من وجهة نظر جون كالفن المُضلَّلة عن التعيين المُسبَق المزدوج. وآخرون أثاروا مخاوف من أن الكفارة المُحَدَّدَة تعمل كعُقب أخيل في اللاهوت المُصلَح، وأنها ضُعف يُدمِّر الكرازة والإرساليَّة.
مع ذلك، على الرغم من هذه الانتقادات، أريد أن أقترح أنه يجب علينا (إعادة) التأكيد على عقيدة الكفارة المُحَدَّدَة لثلاثة أسباب على الأقل.
أساسها الكتابي:
يتحدَّث عدد من نصوص العهد الجديد عن محبَّة الله، أو موت المسيح، "لِلْكَثِيرِينَ" (رومية 5: 15، 19)، ومن أجل "الْجَمِيعِ" (11: 32؛ 2 كورنثوس 5: 14-15؛ كولوسي 1: 20؛ 1 تيموثاوس 2: 6؛ 4: 10؛ تيطس 2: 11)، ومن أجل "العالم" (يوحنا 3: 16؛ 2 كورنثوس 5: 19؛ 1 يوحنا 2: 2). غالبًا ما يتم استخدام هذه النصوص من قبل أولئك الذين يرغبون في الدفاع عن الكفَّارة العالميَّة الشاملة. في المقابل، نجد في العهد الجديد أيضًا عدد من النصوص التي تتحدَّث عن محبَّة الله، أو موت المسيح، من أجل جماعة بعينها من البشر: "لِأَجْلِي" (غلاطية 2: 20)، ومن أجل "الكنيسة" (أعمال الرسل 20: 28؛ أفسس 5: 25)، ومن أجل "شعبه" (تيطس 2: 14)، ومن "أجلنا" نحن المؤمنين (رومية 5: 8؛ 8: 32؛ 1 كورنثوس 5: 7؛ غلاطية 3: 13؛ أفسس 5: 2؛ 1 تسالونيكي 5: 10؛ تيطس 2: 14). عندما تُقرأ النصوص العالميَّة الشاملة مع نصوص الكفَّارة المُخصَّصة معًا، يبدو أن العبء يقع على كاهل مُؤيِّدي الكفَّارة الشاملة لشرح سبب حديث العهد الجديد عن محبَّة الله، أو موت المسيح، بمصطلحات تحديديَّة إن كان في الواقع ليس هناك هذا التحديد.
ومع ذلك، فإن مُجرَّد تقديم مجموعة من "النصوص الإثباتيَّة" بمصطلحات مُخصَّصة لا يبرهن على عقيدة الكفارة المُحَدَّدَة تمامًا كما الأمر مع "النصوص الإثباتيِّة" التي تبرهن على الثالوث أو ألوهيَّة المسيح. فمثل هذه العقائد لا نصل إليها بمُجرَّد تجميع نصوص كتابيَّة تدعمها؛ فهي أيضًا تستلزم تآلفًا داخليًّا من العقائد ذات الصلة والتي تمس عقيدة بعينها محل البحث. فالتآلف اللاهوتي عنصر مهم في أي بناء عقائدي.
تآلفها اللاهوتي:
إن عقيدة الكفَّارة المُحَدَّدَة ليست سابحة في فضاء؛ بل مرتبطة بعدد من العقائد الأخرى التي بدورها تمسها. يمكن توضيح ذلك من أفسس 1: 3-14. في هذا المقطع الطويل المُكوَّن من جملة واحدة (في الأصل اليوناني)، يسرد بولس البركات التي لنا في المسيح. فالرسول يتحدَّث عن عمل الله الخلاصي من ثلاثة أوجه.
أولًا، عمل الله الخلاصي غير قابل للتجزئة. فبولس يُقدِّم عمل الله الخلاصي على لوح زمني يمتد من أزل الماضي إلى أبد المستقبل. وهذا العمل يتضمَّن على أربع لحظات خلاصيَّة متمايزة، وهي: سبق تعيين الفداء، حين اختارنا الله قبل تأسيس العالم (الآيتان 4-5)؛ وإتمام الفداء، حين فدانا المسيح بدمه (آية 7)؛ وتطبيق الفداء، حين ختم الله كلمته على قلوبنا بروحه القُدُّوس (آية 13)؛ واكتمال الفداء، حين نرث ميراثنا العتيد الذي يهبه لنا الروح القدس (آية 14). هذه اللحظات الأربع لعمل الله الخلاصي غير قابلة للتجزئة؛ بمعنى أنها لحظات متمايزة ولكنَّها لا تنفصل عن العمل الخلاصي الواحد لله. هذا يعني أن كفَّارة المسيح المُحَدَّدَة (إتمام الفداء) يستحيل فصلها عن قضاء الله الأزلي (سبق تعيين الفداء) أو عمل تقديس الله بواسطة روحه القُدُّوس (تطبيق الفداء)، الذي بدوره مرتبط بتمجيدنا في اليوم الأخير (اكتمال الفداء).
ثانيًا، عمل الله الخلاصي غير القابل للتجزئة هو عمل الأقانيم الثلاثة. في هذا المقطع، يشير بولس إلى كل أقنوم في الثالوث وإلى دوره في عمل الخلاص. فالآب اختارنا وسبَّق فعيَّننا (الآيتان 4-5)؛ والابن فدانا بدمه، مانحًا لنا غفران خطايانا (آية 7)؛ والروح القدس يختم كلمة الله على قلوبنا (آية 13) وفي الوقت ذاته يعمل ضامنًا لميراثنا العتيد (الآيتان 13-14). فأقانيم الثالوث الثلاثة يعملون معًا لإتمام عمل الخلاص الواحد من أزل الماضي إلى أبد المستقبل. لذا، حين يتعلَّق الأمر بقصد كفَّارة المسيح، لا تتعارض مقاصد الأقانيم الثلاثة بل بالأحرى يعملون معًا في تناغم لإتمام الخلاص.
ثالثًا، عمل الله الخلاصي غير القابل للتجزئة للأقانيم الثلاثة يتحقَّق في المسيح. يُكرِّر بولس استخدامه لتعبير "في المسيح" أو "فيه" في هذا المقطع عدَّة مرات. تتحدَّث هذه الصياغة عن اتحاد المؤمن بالمسيح، والذي يمر بلحظات الخلاص الأربع: لقد اختارنا الآب "فيه" قبل تأسيس العالم (آية 4؛ سبق تعيين الفداء)؛ و"فيه" لنا الفداء بدمه (آية 7؛ إتمام الفداء)؛ و"فيه"، قد خُتمنا بروحه القُدُّوس (آية 13؛ تطبيق الفداء)؛ و"فيه" قد نلنا ميراثًا عتيدًا (آية 11؛ اكتمال الفداء). وبالتالي، ما من لحظة في خلاصنا لا يشتملها نطاق اتحادنا بالمسيح. وهذا يضمَّن أنَّه في حين أن لحظات الفداء متمايزة، إلا أنَّها لا تنفصل.
زخمها الرعوي:
ينشأ محفِّزان رعويَّان من عقيدة الكفَّارة المُحَدَّدَة المبنيَّة كتابيًّا والمتآلفة لاهوتيًّا. أولًا، على الرغم من الاعتراضات بخلاف ذلك، فإن الكفَّارة المُحَدَّدَة لا تسلب المؤمن يقينه الشخصي؛ بل بالأحرى تُرسِّخه. عندما مات الرب يسوع على الصليب، كُنَّا في ذهنه. وكما علَّق مارتن لوثر قائلًا: "حلاوة الإنجيل تكمن في الضمائر الشخصيَّة في قوله 'ابْنِ اللهِ الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لِأَجْلِي' (غلاطية 2: 20)".
ثانيًا، بخلاف ما يجادل به البعض، فإن الكفارة المُحَدَّدَة لا تقطع عصب إمداد الكرازة والإرساليَّة؛ بل بالأحرى تُعزِّزه. إن كان حقًا أن المسيح قد مات من أجل جميع البشر دون تفرقة –أي أنه كفَّر عن جميع أطياف البشر: الأغنياء، والفقراء، والذكور، والإناث، والأسيويُّون، والأفريقيُّون، والأوربيُّون إلخ– كما يعلن الإيمان المُصلَح دومًا، فمن ثَمَّ تصبح الإرساليَّة عملًا مُبهجًا ومُجزيًا. فبما أن المسيح قد فدى شعبًا لله فداءً أكيدًا من كل قبيلة ولسان وشعب وأمَّة، فبالتأكيد سيؤمن البعض من كل قبيلة ولسان وشعب وأمَّة بالإنجيل (رؤيا 5: 9). فالكفَّارة المُحَدَّدَة إذن لا تُشكِّل عائقًا أمام الكرازة والإرساليَّة؛ بل هي بكل تأكيد مُحَفِّز ودافع لها.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.