مثل البذار النامية
۱٦ يوليو ۲۰۲۱اللامبالاة بالعقيدة
۲۸ يوليو ۲۰۲۱الأمانة والإثمار
ريتشارد جرينهام (Richard Greenham)، أحد علماء اللاهوت البيوريتانيِّين المشهورين في القرن السادس عشر، كان محبوبًا جدًا في أيامه بسبب المساعدة الروحيَّة التي كان يُقدِّمها لكثير من المؤمنين في إنجلترا، وكذلك لزملائه من الرعاة البيوريتانيِّين. كان عدد لا بأس به من الرعاة البيوريتانيِّين يرسلون رعاياهم إلى جرينهام لما اعتبروه "حالات الضمير" الأكثر صعوبة. ومع ذلك، أعرب جرينهام عن أسفه لعدم رؤية الكثير من الثمر وسط شعب كنيسته في دراي درايتون (Dry Drayton) –وهي بلدة ريفيَّة صغيرة للغاية كان الراعي فيها– خلال خدمته التي استمرت حوالي واحد وعشرين عامًا هناك. تحدَّث جرينهام، مُتأمِّلًا في الحالة الروحيَّة لشعب كنيسته، عن "اعتلال العظة" و "قلَّة الثمر". وقد وصف أحد الكُتَّاب ذات مرة خدمة جرينهام في دراي درايتون بالعبارات التالي: "كان لديه مراعي خضراء، لكن الخراف كانت عُجاف تمامًا". بعد وفاته، نمى شعب الكنيسة الصغيرة في دراي درايتون روحيًّا وازدهر عدديًّا تحت قيادة خليفة جرينهام. سأل أحدهم ذات مرة الراعي الذي خلفه عمَّا فعله من أجل اختبار هذا النمو. ودون تردُّد، أشار إلى أنها كانت ثمر خدمة جرينهام الأمينة. بينما لم يعش ريتشارد جرينهام أبدًا ليرى هذا الثمر بين الناس الذين رعاهم، كانت لأمانته في دراي درايتون دورًا أساسيًّا في إعداد أراضي حياة الشعب الذي خدمه لتؤتي ثمارها في السنوات التالية.
إن فهم العلاقة بين الأمانة والإثمار له أهميَّة كبيرة بالنسبة لأولئك الذين يبذلون حياتهم في خدمة الإنجيل. والأمر كذلك بنفس القدر لجميع المؤمنين. إذا كان هناك سؤال واحد يشغل عقل كل من الخدَّام وشعب الكنائس فهو: كيف أعرف أن خدمتي من أجل المسيح كانت مثمرة؟
من المهم بالنسبة لنا أن نضع أولًا أساس التعليم الكتابي حول الإثمار. عندما أتى الفريسيُّون إلى يوحنا ليُعمِّدهم، قال لهم: "فَاصْنَعُوا أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ" (لوقا 3: 8). وبالمثل، قال الرب يسوع: "كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَارًا جَيِّدَةً" (متى 7: 17). بالإضافة إلى ذلك، وعد الرب يسوع أنه عندما تقع بذار كلمة الله على قلب قد تجدَّد، سوف "يَأْتِي بِثَمَرٍ" (13: 23). أعلن الرسول بولس عن اهتمامه الشديد بالإثمار في الخدمة عندما قال للكنيسة في فيلبي: "وَلكِنْ إِنْ كَانَتِ الْحَيَاةُ فِي الْجَسَدِ هِيَ لِي ثَمَرُ عَمَلِي" (فيلبي 1: 22). كما اهتمَّ الرسول بشدَّة بالإثمار في حياة وعمل المؤمنين. عندما كتب إلى الكنيسة في كولوسي، ذكَّر المؤمنين بالطريقة التي كان بها الإنجيل: "مُثْمِرٌ كَمَا فِيكُمْ أَيْضًا مُنْذُ يَوْمَ سَمِعْتُمْ وَعَرَفْتُمْ نِعْمَةَ اللهِ بِالْحَقِيقَةِ" (كولوسي 1: 6). بالطبع، تسترجع أذهاننا بشكل طبيعي مرارًا وتكرارًا النص الشهير للرسول بولس عن ثمر الروح (غلاطية 5: 22-23). عندما نفكِّر في تعاليم الرب يسوع والرسل، نكتشف أن الإثمار هو عمل الله، وهو مُؤسَّس على عمل المسيح الخلاصي وينتجه روحه القُدُّوس بسيادته في كل من حياة (الشخصيَّة التقيَّة) وعمل (عمل الملكوت) شعبه.
لكن ما الذي يحدِّد طبيعة الإثمار؟ هل الإثمار يتناسب مع عملنا؟ أم أنَّنا ببساطة نسعى لأن نكون أمناء وليحدث ما يحدث؟ شكرًا لله، فإن الكتاب المُقدَّس يزوِّدنا بعدد من الطرق التي يُمكننا من خلالها الإجابة عن هذه الأسئلة المُتعلِّقة بالعلاقة بين الأمانة والإثمار.
الإثمار هو في نهاية المطاف عمل الله، ويتحقَّق عندما نُكرِّس أنفسنا لله ساعين أن نكون أمناء في كل جوانب حياتنا وفى كل ما يدعونا إليه. يجب أن نقاوم إغراء النظر إلى الإثمار بنفس الطريقة التي ينظر بها سمسار البورصة إلى محفظته الماليَّة. إنها زَلَّة روحيَّة كبيرة جدًا بالنسبة لنا أن ننظر إلى حياتنا وعملنا ونقول: "إذا فعلت هذا اليوم وذلك غدًا، ستكون النتيجة كذا وكذا وكذا". بينما كان الرسول بولس يدافع عن خدمته ضد الخدَّام الذين يتفاخرون بإنجازاتهم، كتب قائلًا: "أَنَا غَرَسْتُ وَأَبُلُّوسُ سَقَى، لكِنَّ اللهَ كَانَ يُنْمِي. إِذًا لَيْسَ الْغَارِسُ شَيْئًا وَلاَ السَّاقِي، بَلِ اللهُ الَّذِي يُنْمِي" (1 كورنثوس 3: 6-7). علَّم كاتب المزمور بعبارات أكيدة نفس المبدأ عندما كتب قائلًا: "إِنْ لَمْ يَبْنِ الرَّبُّ الْبَيْتَ، فَبَاطِلاً يَتْعَبُ الْبَنَّاؤُونَ" (مزمور 127: 1). كلما فهمنا هذا المبدأ واعتنقناه أكثر، سنكون أكثر استعدادًا للالتزام به بطريقة تجعلنا على استعداد بأن يستخدمنا الله بأي طريقة يريدها هو.
بينما ندرك أن الإثمار هو عمل الله، يجب أن نفهم أن الاجتهاد عنصر أساسي في حياتنا وعملنا الأمين. يُمكن أن يتسلل شكل خفي من الكالفينيَّة المُفرَطة إلى تفكيرنا بمجرَّد أن نعترف بأن الإثمار هو عمل الله. يُمكننا أن نبدأ في التفكير بداخلنا، أو نجد أنفسنا نقول للآخرين أشياء مثل: "لا يهم حقًا ما نفعله لأنه في النهاية الله هو مَن يعمل كل شيء". ومن المثير للاهتمام، أنه في الرسالة نفسها التي اعترف فيها بولس بأن "اللهُ الَّذِي يُنْمِي"، أعلن قائلًا: "أَنَا تَعِبْتُ أَكْثَرَ مِنْهُمْ جَمِيعِهِمْ. وَلكِنْ لاَ أَنَا، بَلْ نِعْمَةُ اللهِ الَّتِي مَعِي" (1 كورنثوس 15: 10). في سفر الأمثال، لاحظ سليمان بحكمة أن "يَدُ الْمُجْتَهِدِينَ تَسُود" (أمثال 12: 24). يلخِّص أحد الكتَّاب بشكلٍ مفيد مسؤوليَّتنا في أن نكون مجتهدين في عملنا الروحي قائلًا: "يمكنك القيام بالخدمة بمعونة الله، لذا أبذل قصارى جهدك. كما لا يمكنك القيام بالخدمة بدون معونة الله، فأهدأ وتمتَّع بالسلام". هذا صحيح في كل مجال يسعى فيه المؤمن إلى أن يكون أمينًا لله. الاجتهاد في تنفيذ الأشياء التي دعانا الله إليها بأمانة سيؤدِّي في النهاية إلى الإثمار.
تعتبر المهارة جانبًا حيويًّا آخر من جوانب الأمانة التي تؤدِّي إلى الإثمار. هناك أشياء كثيرة لن أفعلها أبدًا لأن الله لم يمنحني المواهب والدعوة للقيام بها. فلن ألعب رياضة محترفة ولن أكون عازف بيانو محترف. لن أكون أبدًا فيزيائيًّا نوويًّا أو طبيب قلب. أنا راضٍ تمامًا عن حقيقة أنني لم أُمنَح هذه المواهب للقيام بذلك. بالطريقة نفسها، لا يدعو الله كل مؤمن إلى التفرُّغ الكامل لخدمة الإنجيل. تأمَّل في وصيَّة الرسول بولس للمؤمنين في رومية:
وَلكِنْ لَنَا مَوَاهِبُ مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ النِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَنَا: أَنُبُوَّةٌ فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى الإِيمَانِ، أَمْ خِدْمَةٌ فَفِي الْخِدْمَةِ، أَمِ الْمُعَلِّمُ فَفِي التَّعْلِيمِ، أَمِ الْوَاعِظُ فَفِي الْوَعْظِ، الْمُعْطِي فَبِسَخَاءٍ، الْمُدَبِّرُ فَبِاجْتِهَادٍ، الرَّاحِمُ فَبِسُرُورٍ. (رومية 12: 6-8)
يجب علينا أيضًا أن ندرك أن الإثمار لا يعتمد على الظروف أو الأوضاع. يُمكننا إقناع أنفسنا عن طريق الخطأ أنه كلما كانت المنصَّة أكبر، سيتم تحقيق المزيد من الإثمار. يُمكننا أن نقع في فخ التفكير في الثمار الروحيَّة بطرقٍ دنيويَّة – أي نتصرَّف كما لو أن الأفراد الموهوبين بطبيعتهم، أو الأغنياء، أو ذوي النفوذ هم أولئك الذين يُرجَّح أن يكونوا مثمرين. لكن الرسول بولس قدَّم هذا التذكير الذي تشتد الحاجة إليه إلى الكنيسة في كورنثوس:
أَنْ لَيْسَ كَثِيرُونَ حُكَمَاءَ حَسَبَ الْجَسَدِ، لَيْسَ كَثِيرُونَ أَقْوِيَاءَ، لَيْسَ كَثِيرُونَ شُرَفَاءَ، بَلِ اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ، لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ. (1 كورنثوس 1: 26-29)
تأمَّل في الثمار التي رآها الرسول بولس في خدمته أثناء سجنه. استخدم الرب بولس لا ليؤمن قيصر بل ليؤمن بعض حراس سجن قيصر. بالإضافة إلى ذلك، أخبر بولس فليمون أن العبد الهارب أُنِسِيمُس هو "الَّذِي كَانَ قَبْلاً غَيْرَ نَافِعٍ لَكَ، وَلكِنَّهُ الآنَ نَافِعٌ لَكَ وَلِي" (فليمون 1: 11؛ كولوسي 4: 9). هذا مثال رئيسي على ذلك النوع من الأفراد غير المُتوقَّعين والمُستبعَدين الذين يعطيهم الله إثمارًا عظيمًا.
علاوةً على ذلك، يجب أن نتذكَّر أيضًا أن الإثمار يأتي في أوقات ومواسم مختلفة. لا يُمكننا أن نعرف متى ستظهر الثمار الروحيَّة. نعرف أن أبطال الإيمان من القدِّيسين كانت لهم نتائج مختلفة في حياتهم وعملهم في هذه الحياة (عبرانيين 11). البعض انتصروا – قهروا ممالك، وصنعوا برًا، ونالوا المواعيد، وسدُّوا أفواه أسود، وأطفأوا قوَّة النار، ونجوا من حد السيف، وما إلى ذلك. والبعض الآخر تألَّموا – عُذِّبوا، ولم يقبلوا النجاة، وتجرَّبوا في هزءٍ وجلد، وفي قيود وحبس، ورُجموا، ونُشروا، وكانوا تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض. ولكن في النهاية، نال كل واحد منهم ثمر عمله في المجد. سوف يعطي المسيح المُتوَّج إكليل النصرة لكل واحد منهم. وفى القيامة، سيذوقون الثمر الكامل لحياتهم وعملهم مع جميع القدِّيسين.
في النهاية، فإن موت الرب يسوع وقيامته هو أساس أمانتنا وإثمارنا. أوضح بولس أن تعبنا ليس باطلًا في الرب، لأن المسيح قام من بين الأموات (تأمَّل في 1 كورنثوس 15: 58 في ضوء السياق الأوسع للإصحاح). لقد ضمن موت وقيامة المسيح ثمارًا روحيَّة في حياة شعبه. في النهاية، تأتي كل ثمارنا من اتحادنا بيسوع المسيح، الكرمة المُحيية والمُزوِّدة بالثمار (يوحنا 15: 1-11، 16). فالمسيح ملتزم بأن يجعلنا مثمرين في حياتنا وأعمالنا حتى يتمجَّد الله من خلال العمل الذي قام به في شعبه. بينما نسعى إلى أن نكون راسخين وغير متزعزعين في كل ما يدعونا الرب إليه في كلمته، يمكننا أن نطمئن إلى أن تعبنا ليس باطلًا في الرب.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.