علم اللاهوت والكنيسة
۷ سبتمبر ۲۰۲۱تاريخ هيئة خدمات ليجونير
۸ سبتمبر ۲۰۲۱علم اللاهوت والحياة اليوميَّة
قدَّم البيوريتاني ويليام بيركنز (William Perkins) تعريفًا شهيرًا لعلم اللاهوت بأنه "علم الحياة المُبارَكة إلى الأبد". وتمثَّل به معاصره، ويليام إيمز (William Ames)، داعيًا علم اللاهوت بأنَّه "علم الحياة لأجل الله". وبما أن الحياة لأجل الله واجبٌ على كل مؤمن، ومصدر لفرحه، فعلى كل مؤمن أن يكون لاهوتيًّا – بل وأن يكون لاهوتيًّا جيِّدًا. تتجلَّى الصلة بين علم اللاهوت والحياة اليوميَّة بوضوح من خلال الأمثلة الثلاثة التالية المُستمَدَّة من رسائل بولس.
أوَّلًا، في كنيسة فيلبِّي، حدث نزاعٌ بين سيِّدتين ذُكِرتا بالاسم في الرسالة، وشعر بولس بوجوب علاج هذه المشكلة (فيلبي 4: 2). فالحمقى يركضون إلى حيث تخشى الملائكة أن تذهب. ربما كان هذا صحيحًا. لكن بولس كان رسولًا، وكان صيت الكنيسة وشهادتها على المحك، ولم يكن من الممكن تجاهُل المشكلة وكأنَّها لم تحدث.
وماذا فعل بولس؟ استخدم أكبر قدر ممكن من اللاهوت الذي أمكنه حشده، مُتحدِّثًا عن تجسُّد ابن الله الأزلي، "الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا لِلهِ"، الأمر الذي ربما كان معناه هو أنَّه لم يتمسَّك بلاهوته إلى حدِّ رفض وضع نفسه في التجسُّد (فيلبِّي 2: 6). فمع أن يسوع كان "إله حق من إله حق، مولود غير مخلوقٍ، مساوٍ للآبِ في الجوهَرِ، الذي بِهِ كانَ كلُّ شيءٍ"، مثلما يقول قانون الإيمان النيقاوي الذي يعود تاريخه إلى عام 325م، لكنَّه "أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ" (الآية 7). ولأنَّ كلمة "أخلى" محفوفة بالمخاطر اللاهوتيَّة، أحجمت الكثير من الترجمات عن وضع الترجمة الحرفيَّة لها، مُستخدِمَة بدلًا من ذلك لفظًا مُخفَّفًا (على سبيل المثال، "جعل نفسه بلا اسم أو صيت"، بحسب ترجمة الملك جيمس الإنجليزيَّة). هذا النص الذي نحن بصدده جدير بدراسة أكثر تمعُّنًا وتفصيلًا، لكن يَلزَمنا أن نشدِّد فيما يلي على فكرته الرئيسيَّة. فقد أراد بولس من أهل فيلبِّي (ومنك ومني أيضًا) أن يكون لهم فكر المسيح: "لَا تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِآخَرِينَ أَيْضًا. فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا" (الآيتان 4-5). فقد استُخدِمت عقيدة التجسُّد الضخمة من أجل الحديث عن الاتضاع، أي من أجل تقديم "الْحَقِّ، الَّذِي هُوَ حَسَبُ التَّقْوَى" (تيطس 1: 1).
ثانيًا، في كنيسة كورنثوس. أراد بولس أن تُظهِر هذه الكنيسة إحسانًا تجاه الكنيسة المُتألِّمة في أورشليم، وهي القضية التي شغلت ذهن هذا الرسول لبعض الوقت (2 كورنثوس 8-9). وما الحافز الذي أمكنه استعماله لتشجيعهم على العطاء بسخاء؟ من بين أهداف أخرى لهذا العطاء، كان من شأن عطائهم أن يبرهن على "حقيقة" إيمانهم (2 كورنثوس 8: 8، 24). وفي إحدى أجزاء هذا النص، بدا كما لو أن بولس يناشد فيهم كبرياءهم: فلم يكن أهل كورنثوس يريدون أن يظهروا بمظهر سيء أمام كنائس الشمال (9: 1-5). إلا أن حُجَّة بولس الرئيسيَّة كانت حُجَّة لاهوتيَّة: "فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ (8: 9). فمرَّةٍ أخرى، استُخدِم التجسُّد من أجل توضيح مسألة عمليَّة.
ثالثًا، في كنيسة رومية. بعدما كتب بولس أحد عشر أصحاحًا تحدَّث فيهم عن طبيعة وشكل الإنجيل، أوضح جيِّدًا الشكل الذي يمكن أن تبدو عليه التقوى العمليَّة: أنتم (يا مؤمني كنيسة رومية) ستتغيَّرون "بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ" (رومية 12: 1-2). فقد كان الهدف الأساسي من رسالة بولس إلى مؤمني رومية هو التقوى العمليَّة، أي: إظهار المحبَّة الأخويَّة (الآيتان 9-10)، والتخلُّص من الكسل (الآية 11)، وإظهار الصبر في التجارب والضيقات (الآية 12)، والمساهمة في احتياجات القدِّيسين من خلال حُسن الضيافة (الآية 13)، والامتناع عن التفاخر وإبراز الأهميَّة الذاتيَّة (الآية 16)، وفعل أمور حسنة (الآية 17)، والسلوك بأكبر قدر ممكن من المُسالمة مع القريب (الآية 18)، وإطعام العدو (الآيتان 19-20)، والتجاوُب مع الشر دون انتقام (الآية 21). لا يمكن أن يكون الأمر عمليًّا أكثر من ذلك.
لكن بولس كان فقط يُمارس الحكمة التي رآها في مُخلِّصه. فما مدى كون اللاهوت عمليًّا؟ لننظر إلى العظة على الجبل، التي تتضمَّن تغطية يسوع الشاملة لكل جوانب الحياة اليوميَّة. كانت نظرة يسوع إلى القداسة نظرة ماديَّة. فالتقديس لا يحدث فقط داخل أذهاننا، بل في أجسادنا أيضًا. فقد تحدَّث يسوع عن الأعين والأيدي، وعن الأرجل والشفاه. والغرض من ذلك هو أن نستخدم أجسادنا إمَّا لارتكاب الخطيَّة، وإمَّا للتعبير عن القداسة. وفي حديث يسوع عن الشهوة، على سبيل المثال، افترض أنَّنا يجب أن نقلع عيننا اليُمنى أو نقطع يدنا اليُمنى، بدلًا من استخدامهما في أفعالٍ خاطئة (متى 5: 27-30)
هل تعاني من القلق؟ وهل يساورك القلق حيال قوتك اليومي، على نحو يوحي بافتقارك إلى الثقة في أبيك السماوي؟ ألقِ نظرة إذن على الطيور التي تُحلِّق في حديقتك كلَّ يوم. فهي تبدو قويَّة ومُتمتِّعة بالصحَّة. فالله يعتني بها. وأنت بالنسبة له أفضل منها (متى 6: 25-34). هل تصدر أحكامًا على الآخرين، وتتلذَّذ برؤية خطاياهم، مُضخِّمًا إيَّاها؟ قل لنفسك إذن: "هكذا أمكن أن يكون حالي لولا نعمة الله" (انظر 7: 1-6). كذلك، عامل الآخرين باحترام، مثلما ترغب في أن يعاملوك. واسلك بحسب القاعدة الذهبيَّة (الآية 12)
لنأخذ أيضًا موضوع الإرشاد. وَعَد الرب يسوع قائلًا: اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَطْلُبُ يَجِدُ، وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ" (متى 7: 7-8). ومثلما يقول المزمور الثالث والعشرون: "يَهْدِينِي" (الآية 2). يُوحي هذا الفعل بأنَّ أبانا السماوي، الذي هو راعينا وملكنا، سيمنحنا الحكمة والتمييز اللذين نحتاج إليهما لاتخاذ القرارات السليمة، حتى نسلك في هذه الحياة على نحو يُمجِّده. فإنَّ أبانا يحبنا، ولا ينوي التوقُّف عن أن يحبَّنا. وعهده يضمن أن تكون كلمته إلزامًا عليه. وهو يهدينا "إِلَى سُبُلِ الْبِرِّ" (مزمور 23: 3)، وليس إلى سبل الإثم المُضلِّلة. فهو لن يهدينا البتَّة إلى أفعال غير لائقة أو إلى الخطيَّة. بل تلك الأمور تحدث بسبب عدم إصغائنا لكلمته، أو بسبب عدم صلاتنا طلبًا للحكمة، أو بسبب استسلامنا لخيارات ليست هي الأفضل.
عقيدة الوضوح وعقيدة العناية الإلهيَّة:
إلى أيِّ حدٍّ يمكن أن يكون علم اللاهوت عمليًّا؟ لندرس معًا عقيدتين، وهما عقيدة الوضوح، وعقيدة العناية الإلهيَّة.
الوضوح (perspicuity) هو مصطلح لاهوتي يُعبِّر عن حقيقة أن المؤمنين "العاديِّين" يستطيعون قراءة الكتاب المُقدَّس بمفردهم؛ وأنَّهم باستخدامهم للوسائل الصحيحة (العظات، والأدوات المساعدة لدراسة الكتاب المُقدَّس، والمرشدين الروحيِّين، وكتب التفسير، وحتى مجلة تيبولتوك)، يمكنهم الوصول إلى فهمٍ "كافٍ" (لكن ليس بالضرورة إلى فهمٍ شامل) لتلك "الأمور التي يَلزَم معرفتها... للخلاص" (إقرار إيمان وستمنستر الفصل 1، والبند 7). لاقت هذه الفكرة بالتأكيد مُعارضةً في كنيسة القرون الوسطى، عندما لم يكن الكتاب المُقدَّس مُتاحًا للجميع، بل كان محصورًا في لغةٍ لا يفهمها سوى رجال الدين، وكان يُستخدَم كأداةٍ لربط الناس بقيود سلطة الباباوات والسلطة الكنسيَّة. تُشجِّعنا عقيدة الوضوح على أن نحب الكتاب المُقدَّس، ونقرأه باستمرار، وننمو في ممارستنا لتطبيق تعاليمه وفرائضه، في سلوك منظور وملموس. وهي عقيدة تُعلِّمنا أيضًا بأن نتشبَّه بأولئك المؤمنين النبلاء في كنيسة بيريَّة، الذين وصفهم لوقا بأنَّهم: "قَبِلُوا الْكَلِمَةَ بِكُلِّ نَشَاطٍ فَاحِصِينَ الْكُتُبَ كُلَّ يَوْمٍ: هَلْ هَذِهِ الْأُمُورُ هَكَذَا؟" (أعمال الرسل 17: 11).
وما هي عقيدة العناية الإلهيَّة؟ ليس هذا المصطلح مُستخدمًا في الكتاب المُقدَّس، لكنَّه حق مسيحي أساسي. ويُعرِّفه إقرار إيمان وستمنستر كالتالي:
الله الخالق العظيم لكل الأشياء هو يحمل، ويُوجِّه، ويُنظِّم، ويضبُط كل المخلوقات، وكل الأفعال، وكل الأشياء، من كبيرها حتى إلى صغيرها، بواسطة عنايته كليَّة الحكمة والقداسة، حسب سابق معرفته المعصومة من الخطأ، ورأي مشيئته الحر وغير المُتغيِّر، لمدح مجد حكمته، وقدرته، وعدله، وصلاحه، ورحمته. (الفصل 5، والبند 1)
يتطرَّق الفصل الذي ورد في إقرار الإيمان هذا عن العناية الإلهيَّة إلى بعض القضايا شديدة الصعوبة (على سبيل المثال، طبيعة تحكُّم الله في التاريخ، وعلاقة ذلك بحريَّة الإنسان وبوجود الشر)؛ لكن كان هدفه الأساسي هو أن يطمئننا بأن لا شيء يحدث دون أن يشاء الله حدوثه، من قبل حدوثه، وبالطريقة التي يحدث بها.
باختصار، هذا التعريف للعناية الإلهيَّة هو تعبيرٌ عن تصريح بولس في رومية 8: 28 القائل: "وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ". فبالنسبة لأم فقدت طفلها الأوَّل، أو لأخت علمت بإصابتها بورم خبيث، أو لخريج جامعة أخفق في مقابلة العمل الأولى له، أو لأناس يعانون من آلاف الظروف الأخرى، تُعَد عقيدة عناية الله تذكيرًا لهم بأنَّه في حين ربما لا نحصل على كلِّ الإجابات، لدى الله كلُّ الإجابات، وهذا ما يُمثِّل الأهميَّة القصوى. فهي عقيدة تمنح الكثير من الهدوء والسكينة في خضم عواصف الحياة. ولا يمكن أن يكون الأمر عمليًّا أكثر من ذلك. فجميعنا لاهوتيُّون بدرجةٍ معينة. والسؤال الفعلي هو: هل نحن لاهوتيُّون جيِّدون؟ وهل نستخدم معرفتنا بالله في كلِّ جانب من جوانب حياتنا لمجده؟
المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.