الأبدية في قلوبنا
۳۰ أكتوبر ۲۰۲۰البركة
۱۰ نوفمبر ۲۰۲۰العالم
من أكثر التحوُّلات المفاجئة في يوحنا 3: 16 أنه قِيل لنا أن الله أَحَبَّ العالم. قد نميل إلى الاعتقاد بأن هناك الكثير مما يحبه الله في العالم. ففي الواقع، ما الذي لا يعجبك في مناظر المدينة والأراضي الزراعيَّة، والمأكولات الفاخرة وحفلات الشواء في الفناء الخلفي، والسمفونيَّات الكلاسيكيَّة والقصائد الشعبيَّة، ولوحات عصر النهضة، وألعاب رياض الأطفال؟ العالم الذي نعرفه مليء بالأشياء الملموسة، والمثيرة، والفرص، والبهجة. المشكلة هي أنه على الرغم من كل ما هو جيِّد وممتع وجميل عن العالم، فإنه ممتلئ بالخطاة. منذ أن تمرَّد آدم وحواء على الله في الجنة، أصبح العالم قفرًا. بغض النظر عن مدى روعة العالم، فإنه لا يستحق محبَّة الله الفادية.
إن فهم مدى عدم استحقاق العالم لمحبَّة الله هو مفتاح يوحنا 3: 16. عندها فقط سنقدِّر العطيَّة غير المُتوقَّعة التي يمنحها الله. تم توضيح هذه النقطة بشكلٍ جيد منذ سنوات عديدة من قِبل اللاهوتي المُبجَّل بنجامين بريكنريدج وارفيلد (Benjamin Breckinridge Warfield). في عظته بعنوان "محبَّة الله التي لا تُستقصى"، بحث وارفيلد عن معنى مصطلح "العالم" (باليوناني كوزموس) في يوحنا 3: 16 من أجل الوصول إلى أعماق محبَّة الله.
ما معنى "العالم" في هذا النص؟ بالاعتماد على آراء وارفيلد، هناك أربع إجابات مُحتملة.
في المقام الأول، يعتقد الكثير من الناس أن "العالم" يعني كل البشر بدون استثناء. بعبارة أخرى، عندما يقول يوحنا 3: 16 إن الله يحب العالم، فهذا يعني أنه يحب كل شخص على قدم المساواة. يسير المنطق على النحو التالي: الله يحب كل إنسان؛ ومات المسيح عن كل شخص؛ لذلك فالخلاص ممكن لكل شخص. ومع ذلك، يبدو أن هذا الرأي يشير إلى أن محبة الله عاجزة وأن موت المسيح غير فعَّال. وإن لم يكن كذلك، فإن الاستنتاج الطبيعي لهذا الرأي هو أن كل شخص قد تم خلاصه بالفعل وليس مجرَّد مُحتَمل أن يخلص. إذا أحب الله كل شخص، ومات المسيح من أجل كل شخص، ولم تكن محبة الله عاجزة، ولم يكن موت المسيح غير فعَّال، فإن النتيجة الوحيدة التي يمكن للمرء أن يتوصَّل إليها هي أن الخلاص مضمون لكل شخص. ومع ذلك، فإن وجهة النظر هذه تتعارض مع تعاليم الكتاب المُقدَّس عن دينونة الله كما يتضح من السياق المباشر في يوحنا 3: 17–21.
ثانيًا، يقول آخرون إن " العالم" يعني كل البشر دون تمييز. يؤكِّد هذا الخيار أن الله يحب أكثر من فئة واحدة من الأشخاص أو المجموعات العرقيَّة. لم يكن موت المسيح على الصليب من أجل اليهود فقط بل من أجل الأمم أيضًا. إن محبة الله لا تقتصر على الحدود القوميَّة، بل تمتد إلى كل أنواع الأمم والقبائل والثقافات والألسنة والشعوب. استجابة لهذا الرأي، يقول كل شعب الله —الأرمينيِّين والكالفينيِّين على حد سواء— "آمين" من كل قلوبهم. في حين أن هذا الرأي له فائدة لكونه صحيحًا بلا شك ويتناسب مع السياق الأكبر لإنجيل يوحنا فيما يتعلَّق بالهويَّة العالميَّة "لأبناء الله" (على سبيل المثال، يوحنا 1: 9–13؛ 4: 42)، فإنه لا يُعبِّر بدقة عن التباين الشديد بين "هكذا أحب الله" و"العالم" الذي رسمه يوحنا 3: 16 عمدًا.
ثالثًا، هناك رأي شائع يختلف بشكل بسيط عن الرأي السابق بين اللاهوتيِّين المُصلِحين وهو القول بأن "العالم" في يوحنا 3: 16 يشير إلى المختارين. خلال كل إنجيل يوحنا، يؤكِّد يسوع على خصوصيَّة نعمته. "كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ" (6: 37). "أَمَّا أَنَا فَإِنِّي الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي،... وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ الْخِرَافِ" (10: 14–18). "لَوْ كُنْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ لَكَانَ الْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ. وَلكِنْ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ، بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ مِنَ الْعَالَمِ، لِذلِكَ يُبْغِضُكُمُ الْعَالَمُ" (15: 19). "مِنْ أَجْلِهِمْ أَنَا أَسْأَلُ. لَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ الْعَالَمِ، بَلْ مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي لأَنَّهُمْ لَكَ" (17: 9). وغيرها. المغزى هو أن شعب الله مُختار من عالمٍ غير مؤمن. مرة أخرى، هذا الرأي يطرح ملاحظة مهمة من خلال التأكيد على عقيدة الاختيار الكتابيَّة، لكن مصطلح "العالم" في يوحنا 3: 16 لا يركِّز بشكل كبير على هويَّة شعب الله بل على طبيعة محبَّة الله.
هذا يقودنا إلى الخيار الأخير. يمكن تقديم حجة قويَّة للاعتقاد بأن كلمة "العالم" تشير إلى نوعيَّة محبَّة الله. يقول وارفيلد بشكل مقنع:
[العالم] ليس هنا مصطلح يدل على النطاق بقدر ما هو مصطلح يدل على الكثافة. فدلالة هذا المصطلح الأساسيَّة هي أخلاقيَّة، والغرض من استخدامه ليس الإشارة إلى أن العالم كبير جدًا بحيث يتطلَّب الأمر قدرًا كبيرًا من المحبة ليشمله كله، ولكن أن العالم سيء للغاية لدرجة أنه يتطلَّب نوعًا عظيمًا من المحبَّة لكي تحبه على الإطلاق، وأكثر من ذلك بكثير هو أن تحبَّه كما أحبَّه الله عندما بذل ابنه من أجله.
يُمثِّل العالم البشريَّة الخاطئة التي لا تستحق محبَّة الله المُخَلِّصة. بدون محبَّة الله، يقع العالم تحت دينونة الله. ولكن في المسيح، يختبر المؤمنون محبَّة الله المدهشة، والفادية، والتي لا تنتهي أبدًا. إن يوحنا 3: 16 لا يتعلَّق بعظمة العالم بل بعظمة الله.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.