الكنيسة
۱۳ نوفمبر ۲۰۲۰المجد
۲۰ نوفمبر ۲۰۲۰المخاطر المستجدة لهرطقات الثالوث القديمة
اعتُبرت مقولة "لم يتخذ التقدُّم مسارًا تصاعديًّا مستقيمًا، بل حلزونيًّا تخلَّلته إيقاعات تقدميَّة وتطوريَّة وأخرى رجعية وانتكاسيَّة" ملاحظة فطنة أبداها يوهان ولفانج جوته (Johann Wolfgang von Goethe) الذي عاش في الفترة من 1749-1832. لقد دحض جوته فكرة أن مرور الزمن يجلب دائمًا التقدُّم والتطوُّر. وينطبق هذا حتى على الكنيسة. مرَّت الكنيسة بأزمنة أحرزت فيها تقدُّمًا في فهمها للعقائد الكتابيَّة، وأخرى تردَّى فهمها للأسوأ. نرى ذلك طوال التاريخ فيما يتعلَّق بعقيدة الله وخاصة عقيدة الثالوث.
حاربت الكنيسة الأولى المعلِّمين الكذبة والعقائد الزائفة لتُرسي فهمًا سليمًا لما يعلِّمه الكتاب المُقدَّس عن هويَّة الله، وعلاقة الآب والابن والروح القدس ببعضهم بعضًا فيما يتعلَّق بوجودهم وأعمالهم. لقد أسهبت الكنيسة التفكير كتابيًّا في تأكيد الكتاب المُقدَّس بأننا نعبد إله واحد مثلَّث الأقانيم: الآب والابن والروح القدس. في خضم ذلك، دافعت الكنيسة عن الحق الكتابي ضد ثلاث هرطقات: الشكلانيَّة (modalism)، والأريوسيَّة (Arianism)، وشبه الأريوسيَّة (semi-Arianism). لكن، لم تختفِ هذه الهرطقات، بل كان لها ظهورات من حينٍ لآخر عبر تاريخ الكنيسة.
هرطقة الشكلانيَّة:
ظهرت هرطقة الشكلانيَّة[1] في أواخر القرن الثاني وبداية القرن الثالث عندما روَّج اللاهوتيُّون للعقيدة الخاطئة باسم "وحدانيَّة الأقنوم" (monarchianism) (من اليونانيَّة mono بمعنى "واحد"، وarch بمعنى "حاكم") التي تعلِّم بأن الله الواحد هو أقنوم واحد فقط يتجلَّى بطرقٍ مختلفة في أزمنة مختلفة. لم يستطع سابِليوس (Sabellius)، أحد علماء اللاهوت في القرن الثالث (215 م. تقريبًا)، التوفيق بين فكرة وجود إله واحد وثلاثة أقانيم في جوهر الله المذكورة في صيغة المعموديَّة التي سلَّمها المسيح حين قال: "فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الْأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الْآبِ وَالِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ" (متى 28: 19). بدلًا من أن يؤمن بإله واحد مثلَّث الأقانيم، أصر على وجود إله واحد مثلَّث الأشكال أو الهيئات. أي أن الله يعلن عن نفسه بثلاث أقانيم مختلفة ومتعاقبة. تخيَّل الأمر كما لو أن ممثِّل يرتدي أقنعة مختلفة في مسرحيَّة ما ليجسِّد شخصيَّات مختلفة. يقرِّب هذا التشبيه وجهة نظر سابليوس بأن الله قد ارتدى قناع الآب، ثمَّ من بعده قناع الابن، ثم في النهاية قناع الروح القدس. يعمل الله وفق أشكال مختلفة. لذا أُطلق على وجهة النظر هذه "وحدانيَّة الأقنوم الشكلانيَّة" (modalistic monarchianism). كتب ترتليان أحد آباء الكنيسة (155-240 م. تقريبًا) كتابه الشهير "عن الثالوث" لإثبات أن الكتاب المُقدَّس يعلِّم أننا نعبد إله واحد بثلاثة أقانيم متمايزة. كما علَّم آباء الكنيسة الآخرون، مثل أثناسيوس (269-373 م. تقريبًا)، بسرمديَّة ثلاثة أقانيم الله ومساواتهم في الجوهر.
الأريوسيَّة:
لاهوتي آخر من القرن الثالث علَّم هرطقات عن عقيدة المسيح وعلاقته بجوهر الله كان هو أريوس (250-336 م. تقريبًا). والهرطقة المرتبطة بأريوس هي الأريوسية،[2] التي تعلِّم فكرة خاطئة تقول إن المسيح ليس له طبيعة إلهيَّة بالكامل إذ كان هناك زمنًا لم يوجد فيه ابن الانسان (أو اللوجوس). وقد دعم أريوس أفكاره من خلال اللجوء إلى نصوص كتابيَّة مثل أمثال 8: 22 "اَلرَّبُّ قَنَانِي أَوَّلَ طَرِيقِهِ، مِنْ قَبْلِ أَعْمَالِهِ، مُنْذُ الْقِدَمِ". اعتقد أريوس أن ابن الله ليس معادلًا لله، بل الآب خلقه قبل خلق العالم. والابن، بالطبع، أعظم المخلوقات التي خلقها الله. وصار إلهًا وشارك في كلًا من خلق البشر وفدائهم. وقد استهوى اللاهوتيُّون الأريوسيُّون اقتطاع نصوص بعينها من الأناجيل ليقولوا إن ألوهيَّة الابن أقل منزلة من ألوهيَّة الآب مثل يوحنا 14: 28 "أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي".
هناك هرطقة أخرى مرتبطة بالأريوسيَّة تُدعى شبه الأريوسيَّة. عدَّل اللاهوتيُّون شبه الأريوسيُّون تعليم أريوس، الذي آمن بأن الابن مخلوق وبالتالي ليس إلهًا. بدلًا من ذلك، آمنوا بأن الابن من جوهر مشابه لجوهر الآب؛ أي أنه homoiousios (باليونانيَّة تعني "من جوهر مشابه"). في المقابل تمسَّك لاهوتيو التعليم القويم بالتعاليم الكتابيَّة بأن الآب والابن متساويان في الجوهر والقدرة. وبالتالي، الابن ليس مجرَّد من جوهر مشابه (homoiousios) بل من نفس الجوهر (homoousios).
قانون الإيمان النيقاوي:
بما أن هذه الهرطقات الثلاث تتعرَّض في الأساس لأقنوم الابن، فهي تتطرَّق في الوقت ذاته إلى عقيدة الثالوث بتطاولها على علاقة الابن مع الآب. فهي تتطاول على التعليم الكتابي المحوري لكيفيَّة وجود إله واحد في ثلاثة أقانيم متمايزة. لم تكن هذه الموضوعات مجرد افتراضات محضة. بل تمس جوهر معتقداتنا المسيحيَّة بشأن هويَّة المسيح. فهل نحن نعبد الله الظاهر في الجسد، كما يعلِّم يوحنا في إنجيله (1: 1-18)، السرمدي مع الآب، أم نعبد مجرَّد مخلوق؟ أخذت الكنيسة هذه التعاليم المنحرفة على محمل الجد وواجهتها بعدَّة مجامع كنسيَّة. أدان مجمع نيقية (325 م.) هرطقة الشكلانيَّة بقوله إن الرب يسوع، ابن الله، "نور من نور إله حق من إله حق" وأنه "مولود غير مخلوق". وقد حرم مجمع القسطنطينيَّة (381 م.) الأريوسيَّة علنًا في أول قرار يصدره؛ وأكَّد مجمع خلقيدونيَّة (451 م.) على الطبيعة الإلهيَّة الكاملة للابن حين أعلن أنه "إله حقيقي وإنسان حقيقي... والواحد مع الآب في الجوهر بحسب اللاهوت"، وعليه دحض جميع أشكال الأريوسيَّة وشبه الأريوسيَّة. إن هذه المجامع ليست خاصة بشريحة بعينها من الكنيسة، إذ قد أكَّدتها جميع الطوائف ذات الإيمان القويم؛ فهي تعتبر تأكيدات قوانين الإيمان للكنيسة الكاثوليكيَّة (أي الجامعة). فقد يظن المرء أنه بما أن هذه الهرطقات قد دُفنت وماتت معها تعاليمها منذ أكثر من 1500 عام، فليس على الكنيسة أن تقلق منها بعد الآن. ولكن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة. سأقتبس سطرًا من رواية "رفقة الخاتم" (The Fellowship of the Ring) لتولكين (Tolkien): "دائمًا وأبدًا، بعد الهزيمة والراحة تأخذ الظلمة شكلًا آخر لتنتشر ثانية". وكما قال كاتب سفر الجامعة: "مَا كَانَ فَهُوَ مَا يَكُونُ، وَالَّذِي صُنِعَ فَهُوَ الَّذِي يُصْنَعُ، فَلَيْسَ تَحْتَ الشَّمْسِ جَدِيدٌ" (جامعة 1: 9). بعبارة أخرى، لا تموت الهرطقات القديمة قط، إذ تبث نفس تعاليمها الزائفة لكن بأسماء جديدة.
تجلِّيات عصريَّة:
في حاضرنا هذا، عاودت هرطقتا الشكلانيَّة والأريوسيَّة الظهور في تعاليم الخمسينيَّة التوحيديَّة (Oneness Pentecostalism)، وتعاليم شهود يهوه على التوالي. تجد الشكلانيَّة مناصريها في طائفة الخمسينيَّة التوحيديَّة، كما يتضح من اسم هذه الطائفة. يؤمن أتباع الخمسينيَّة التوحيديَّة بوجود أقنوم إلهي واحد وأن عقيدة الثالوث عقيدة غير كتابيَّة. كما يؤمنون أن يسوع هو الأقنوم الوحيد في الله. ويظهر على شكلين: الآب في السماء، ثم تباعًا يسوع الابن على الأرض. والروح القدس ليس أقنومًا، بل مجرَّد إعلان لقوَّة يسوع.
شهود يهوه يبدون مسيحيِّين، في كثيرمن النواحي، بل إنهم يعترفون بأنهم يعبدون يسوع. لكنهم مثل الأريوسيِّين في الكنيسة الأولى، يؤمنون أن يسوع مجرَّد مخلوق وليس مساويًا لله أو سرمديًّا. بالنسبة إليهم، يسوع بكر كل خليقة، لكنه ليس نور من نور وليس إله حق من إله حق، أي أنه ليس الله الظاهر في الجسد. لذلك، ينكر شهود يهوه عقيدة الثالوث وكذلك ألوهيَّة الابن الكاملة.
كما شهدت السنوات الأخيرة عودة ظهور تعاليم شبه الأريوسيَّة[3] بجدال عدد من الأسماء اللاهوتيَّة الإنجيليَّة البارزة بشأن الخضوع السرمدي للابن. يدفع مناصرو هذا التعليم بخضوع الابن الفدائي والطوعي تاريخيًّا إلى الأزل، ويقولون إن الابن يخضع منذ الأزل للآب وبالتالي فهو تابع له منذ الأزل. تبدو هذه الادعاءات مشابهة بشكل مخيف لادعاءات شبه الأريوسيَّة بأن الابن من جوهر يشبه جوهر الآب ولكنه ليس أقنومًا كامل الألوهيَّة أو من نفس الجوهر ذاته وبالتالي معادلًا ومساويًا للآب. وبخلاف هرطقة شبة الأريوسيَّة القديمة، يؤكِّد مناصرو تعليم الخضوع السرمدي للابن أن الابن من نفس جوهر (homoousios) الآب. لكن، بإضافتهم لمستويات مختلفة من السُلطة والخضوع داخل جوهر الله، فهم يقوِّضون تأكيدهم السابق. وذلك لأن السلطان الإلهي من خواص جوهر الله، مما يعني أن اختلاف مستويات السلطان يفترض بالقطع أن الابن يحظى بجوهر إلهي مختلف وأقل من الآب. في حين ليس بالضرورة أن كل مناصري هذا التعليم يروِّجون للخضوع السرمدي للابن على المنوال ذاته، وعلى الرغم من أنهم لا يحاولون بالضرورة إلى إنكار المساواة في الجوهر بين الآب والابن، لكنَّهم مع ذلك يتملقون الهرطقة حين يقولون إن الابن يخضع للآب سرمديًّا.
وبكل تأكيد، على الكنيسة أن تظل يقظة دائمًا ضد التعاليم المهرطقة. وفي الحقيقة يؤيِّد العديد من المسيحيِّين عن غير قصد أخطاء عقائديَّة، وذلك لأنهم يسيئون فهم الكتاب المُقدَّس. قد تشوب عقيدتنا بعض الأخطاء، لكن حين يعلِّمنا الله الحق، نطرح جانبًا معتقداتنا الخاطئة بفرحٍ. من ناحية أخرى، الهرطقة هي حين ينكر شخص ما عمدًا عقيدة جوهريَّة من الإيمان المسيحي، عادةً من إحدى العقائد المذكورة في قانون الإيمان النيقاوي، على سبيل المثال، العقيدة عن الله، وعقيدة الثالوث، وعقيدة المسيح. فلا تخطئ وتيقَّن من أن الشكلانيَّة والأريوسيَّة وشبه الأريوسيَّة هي هرطقات. لذلك ينبغي على الكنيسة أن تحتاط منها ولا بد أن تكون مُستعدة دائمًا أن تُعلِّم الحق الكتابي وأن تستعيد الإخوة والأخوات المهرطقين من خلال التأديب الكنسي.
[1] الشكلانيَّة هي هرطقة عن الثالوث تقول إن الله واحد في الجوهر وواحد في الأقنوم. فهي تنص على أن الآب، والابن، والروح القدس ليسوا ثلاثة أقانيم سرمديَّة متميِّزة، بل ثلاث أشكال مختلفة يعلن بهم الله عن نفسه.
[2] الأريوسيَّة هي هرطقة عن الثالوث تقول إن الابن هو أول مخلوقات الله الآب وأعظمها، لكنه ليس هو نفسه الخالق السرمدي. فالابن والآب ليسا من نفس الجوهر (homoousios)، لأن الابن في الأساس مخلوق —مخلوق ذو مجد فائق، لكنه مع ذلك مخلوق.
[3] شبه الأريوسيَّة هي هرطقة عن الثالوث تؤكِّد أن الابن هو أكثر من مجرَّد مخلوق ولكنها تقول إنه أقل من الله الآب. وبدلًا من أن يكون الابن من نفس جوهر (homoousios) الآب، فإن الابن هو من جوهر مشابه (homoiousios) للآب. تاريخيًّا، آمن شبه الأريوسيَّين أن الابن، وهو لا يزال إلهًا، يقل في سلطته وقوَّته وحكمته عن الآب.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.