الاستسلام التام
۲۹ نوفمبر ۲۰۲۲هل يصمد المركز؟
۱ ديسمبر ۲۰۲۲دينونة ورحمة
ملاحظة المُحرِّر: المقالة 8 من سلسلة "الأناجيل"، بمجلة تيبولتوك.
عندما بدأتُ أفكر فيما يجب أن أقوله في هذه الصفحات، وجدتُ نفسي منجذبًا في اتجاهين. كان دافعي الأول هو أن أرثي حالة التدهور الروحي التي لاحظها أفراد جيلي عن كثب، وأن أحث الجيل القادم على أن يقاوموا هذه الحالة بأمانة وشجاعة متواصلتين. لكن، بعد تفكير، بدا لي من الصواب أن أشكر الله أيضًا على أعمال النعمة الرائعة التي تُجرَى في الوقت الحالي، حتى وإن كان ذلك تحت سماء ملبَّدة بالغيوم، وفي ظروف غير مواتية تمامًا. ربما يمكنني تنفيذ العمل البطولي المتمثل في التحرك في كلا الاتجاهين في الوقت نفسه.
انقضى الآن نحو خمسون عامًا منذ رسامتي لخدمة الإنجيل. لكن عندما كنتُ لا أزال أدرس علم اللاهوت، ثم صرتُ راعي كنيسة حديث العهد، كان صبر الكثيرين منا ينفد بسبب الكثير من الأمور التي كنا نلاحظها في الكنائس، لكننا رأينا أيضًا أننا كنا على حافة صحوة. وقد توقعنا أن مثل هذه الحركة التي سيجريها الروح القدس ستجرف أنقاض اللاهوت الليبرالي، وتردُّ الكنيسة المتعثِّرة والمترنِّحة إلى إيمان الكتاب المقدس، وتثمر عددًا لا يُحصى من اختبارات الإيمان. وإن بقاء آمالنا هذه دون تحقيق إلى حد كبير لا يحتاج إلى دليل.
لكن خلال ستينيات القرن العشرين، اكتسبتُ منظورًا جديدًا للأمور، عندما عشتُ لبضع سنوات في هولندا وفي إنجلترا، حيث كانت الكرازة المسيحية قد تدهورت بالفعل آنذاك على هذا الجانب من المحيط الأطلسي إلى حدٍّ لا يمكن تصوره. واكتشفتُ أن الكثير من الأوروبيين كانوا ينظرون إلى الكنائس الأمريكية نظرة حسد وازدراء: نظرة حسد لأن الحياة الدينية في الولايات المتحدة كانت لا تزال تبدو نابضة بالحياة، ونظرة ازدراء لأننا بحسب رأيهم لم نكن قد تصالحنا بعد مع واقع العيش في العصر الحديث. لكن منذ ذلك الحين، تغيَّر الحال في الولايات المتحدة تغيُّرًا جذريًّا، وذلك الانحدار نفسه الذي كنا نظن في غرورنا أننا محصَّنون منه أصبح الآن واضحًا على كلِّ وجه.
لا يسعُنا تقديم أيِّ تفسير بسيط لما حدث، ومن الضروري أن نحتفظ بمنظور تاريخي عن الأمر. ففي أزمنة الكتاب المقدس وعبر القرون، حلَّت أزمنة أخرى من الجدب المشابه، قاطعها الله في رحمته بإصلاح ونهضة. فأولئك الحكماء في أعين أنفسهم، سواء في الماضي أو الحاضر، لطالما استهزأوا من "بساطة إيمان" المسيحين، وأعلنوا أن الإنجيل غير جدير بالتفكير الجاد؛ لكن فوق رمال صحراء عدم الإيمان، تناثرت عظام أولئك الجهَّال الذين قالوا لأنفسهم وللآخرين "ليس إله".
ينبغي أن نفكر أيضًا فيما إذا كنا اليوم واقعين تحت دينونة إلهية، أي تحت جوع "لاسْتِمَاعِ كَلِمَاتِ الرَّبِّ" (عاموس 8: 11). هل فعل الدينونة الإلهية هي سبب التدهور السائد في الكثير من الطوائف التي كانت كرازتها فيما مضى راسخة وثابتة، لكنها سقطت الآن في نوع من التشويش العقائدي، واللاهوتي، والأخلاقي؟ هل عدم الفاعلية واسعة الانتشار حتى بين الكنائس التي ظلت شكليًّا ثابتة على إيمانها القويم هي علامة على غضب الله واستيائه؟ قطعًا، لستُ وحدي من أصف الكثير مما يُقبَل اليوم على أنه إيمان مسيحي بأنه سطحي، ومجرد موروثات، تفتقر إلى المعرفة، والإيمان، والحرارة.
لكنني لا أكتب هذا الكلام وأنا أشعر بأنني عالقٌ وليس بيدي فعل شيء حيال ذلك. فالفوضى الحالية ليست سببًا يدعو إلى الإحباط أو اليأس؛ بل على النقيض، توجد العديد من الأسباب التي تدعو إلى الامتنان والتحلي بالرجاء، هذا إذا كانت لنا أعين لنبصرها. وسأذكر فيما يلي بعض هذه الأسباب.
ينبغي أن نكون شاكرين على وجود الكتب والمجلات المسيحية. أتذكر كما لو كان البارحة اليوم الذي ظهرت فيه المجلدات النحيلة الأولى التي أصدرتها دار نشر Banner of Truth Trust على أرفف مكتبة كلية اللاهوت التي كنا ندرس في عام 1958. لم يكن أحد ليتوقع آنذاك ما سيحدث بعد ذلك. لكن تلك الكتب القليلة أثبتت أنها كانت باكورة سيل أدبي أعقبها، أصدرته دور النشر في عدة أجزاء من العالم. فإن كتابات المصلحين، والبيوريتانيين، وخلفائهم أُعيدت طباعتها بأعداد غير مسبوقة في التاريخ. علاوة على ذلك، يبني آخرون على هذا الأساس، ويقدِّمون لنا كتبًا تدرس تعاليم الكتاب المقدس وتطبقها على حياتنا الشخصية.
كذلك، يمكننا أن نكون شاكرين على وجود كارزين أمناء ومخلِصين بالإنجيل. ففي حين انهارت الكنائس المسيحية العريقة في أوروبا، وكندا، والولايات المتحدة، يُكرَز بالإنجيل بقوة في أرضنا، ويمتد على نطاق واسع إلى أجزاء أخرى من العالم. وإن حقيقة أن الحدود الكنسية تمتد، بل وتتلاشى أيضًا، هي دليل في حد ذاته على وجود حياة حقيقية. وتلك الحدود التقسيمية قد رسمها قادة شجعان فضَّلوا طاعة الله على ولائهم لطوائفهم. فإن زماننا هذا هو زمان من النمو النشط في أفريقيا، وآسيا، وأمريكا الجنوبية، وهذه حقيقة يجب ألا تغيب البتة عن أعيننا.
يحق لنا أن نكون شاكرين أيضًا على وجود كنائس قوية ومتينة يتوهج فيها مصباح الإنجيل ببريق ساطع. توجد الكثير من الكنائس التي لم تسمح أن تحل "المشاعر" محل الحق، والتي تعلي من شأن الأمانة لله ولكلمته على كافة الاعتبارات الأخرى، وتستمر في تقديس يوم الرب، وتعبد بفرح وفقًا للمبادئ الكتابية، والتي فيها يُحضَر الناس - أي المختارون - إلى المسيح بالإيمان الذي للخلاص.
فوق كلِّ ذلك، يجب أن نكون شاكرين لأن الكون، والعالم، والكنيسة هم في يد إله كلي السيادة، لا يمكن لمقاصده أن تفشل وتخيب، وخططه تتمَّم كل يوم. وهو لن يفشل في أن يُحضر لنفسه جميع الذين مات مخلصنا لأجلهم، وهو من ينبغي أن يقدَّم إليه في النهاية كل المدح والمجد.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.