الخوف من عدم معرفة الأبناء للرب
۲۱ سبتمبر ۲۰۲۱شارك في كنيستك
۲۲ سبتمبر ۲۰۲۱الله الابن
أتذكَّر ارتباكي حين اطَّلعت للمرَّة الأولى على عقيدة الولادة الأزليَّة للابن (أي أنَّه مولود من الآب منذ الأزل). كنت حينها أستعد للدراسة في كليَّة اللاهوت بقراءة كتاب لويس بيركوف (Louis Berkhof) الكلاسيكي بعنوان اللاهوت النظامي، ووجدت الموضوع يتسم بالتخمين المفرط. أدركت أهميَّة التشديد على أن ابن الله ليس مخلوقًا بل هو ذاته الله. لكنَّني لم أستطع استيعاب سبب ضرورة مناقشة طبيعة ولادة الابن بهذا القدر من التفصيل. من أين تأتي هذه هذه الفكرة في الكتاب المُقدَّس؟ ولماذا هي مُهمَّة؟
ثُمَّ اتضح أن الأمر في غاية الأهميَّة وليس تخميني على النحو الذي يبدو عليه.
إن إله الكتاب المُقدَّس هو ثالوث – إله واحد في ثلاثة أقانيم.[1] والتمايز القائم بين الأقانيم الثلاثة ليس على مستوى الألوهيَّة، لأن الأقانيم الثلاثة متساوون في الألوهيَّة. كما يوضِّح دليل أسئلة وأجوبة وستمنستر المُوجَز الأمر بقوله: "الآب، والابن، والروح القدس؛ وهؤلاء الثلاثة هم إله واحد، من نفس الجوهر، ومتساوون في القدرة والمجد" (السؤال 6). فلا يحق للمسيحيِّين التشكيك في ألوهيَّة أو أقنوميَّة أي من الأقانيم الثلاثة في الذات الإلهيَّة. إنَّما يُعرف التمايز بين أقانيم الثالوث بالخصائص الشخصيَّة: أي أن الآب يلد، والابن مولود، والروح القدس منبثق من الآب والابن. فمن غاية الأهمية أن ندرك ونستوعب هذا التمايز على نحو صحيح، لأن إنكاره يعد الخطوة الأولى إلى العديد من الهرطقات. فالابن ليس بأي صورة كانت أقل ألوهيَّة من الله الآب؛ فابن الله هو ذاته الله الذي لا يقل ألوهيَّة عن ألوهيَّة الآب.
لذا، فإن الحديث عن الولادة الأزليَّة للابن يعني الحديث عمَّا يخص ابن الله: أي إنَّه مولود. وهذا لا يُقلِّل من ألوهيَّة الابن بأي شكل من الأشكال. فكون الابن مولودًا لا يعني أن ألوهيَّته أقل من ألوهيَّة الآب، إنمَّا تعني أنَّه ينال كينونة أقنوميَّته من الآب. إن جوهر الألوهيَّة ذاته ليس مولودًا. إنمَّا في الولادة الأزليَّة، يتشارك الآب الجوهر الإلهي مع الابن؛ أي أن الآب والابن يمتلكان الجوهر ذاته، بدون تغيير.
كما أن هذه الولادة لا بد أن تكون أزليَّة. فولادة الابن يستحيل أن تحدث في لحظة مُعيَّنة من الزمن، لأنَّه إن كان قد حدث ذلك، فلن يكون الابن ابنًا أزليًّا ولا الآب أبًا أزليًّا. وإن كانت ولادة الابن حدثًا فرديًّا، فهذا يعني أن الله، بمعنى ما، يتغيَّر. وإن كان قد أصبح الآب أبًا، أو أصبح الابن ابنًا، حينئذٍ لن يكون لله ثابتًا (أي لا يتغيَّر). لكن لأنَّ ابن الله لم يتغيَّر قط، فولادته لا بد أن تكون ولادة أزليَّة – التي هي شيء لم يحدث منذ زمن طويل أو حدث وانتهى. إنها مُشاركة أزليَّة، وفوق المكان، وغير مُتغيِّرة من الآب إلى الابن. كما أن الولادة الأزليَّة لا تنطوي على أي انقسام في الله، كما لو أن الجوهر الإلهي مُنقسم بين الأقانيم الثلاثة أو يتضاعف من أقنوم إلى الآخر. فكل أقنوم يمتلك الجوهر الإلهي ذاته، وكل أقنوم يمتلك ملء الجوهر الإلهي عينه. والولادة الأزليَّة هي أيضًا عمل ضروري، ممَّا يعني أنها دائمًا قائمة وحاضرة ولا يمكن أن تكون غير ذلك.
تُؤكِّد الولادة الأزليَّة الألوهيَّة الكاملة لابن الله؛ ولا تُشير بأي حال من الأحوال إلى أن الابن مخلوق. فإن كان الابن مخلوقًا، فلن يكون كلي الألوهيَّة. كان هذا في صميم الصراع بين القديس أثناسيوس من آباء الكنيسة والهرطوقي أريوس في القرن الرابع الميلادي؛ فالقديس أثناسيوس قال عن حق إن ابن الله لا يمكن أن يكون مخلوقًا، إنَّما لا بد أن يكون الابن الأزلي لله. لم يكن قط زمن لم يكن فيه الابن. فلطالما كان الابن ابنًا للآب، والآب أبًا دائمًا.
باعتراف الجميع بلا إنكار، مسألة الولادة الأزليَّة مسألة مُعقدَّة. حتى وإن كنَّا نستطيع شرحها كما ينبغي، لا يمكننا إدراكها كليًّا. بعبارة أخرى، إنها سر غامض.
من أين يأتي هذا التعليم في الكتاب المُقدَّس؟ يتمثَّل أحد الشواهد المُهمَّة في بشارة إنجيل يوحنا، إذ نجد المصطلح اليوناني مونوجينس الذي نقلته ترجمة سميث فاندايك إلى "لِوَحِيدٍ مِنَ الْآبِ"، و"اَلِابْنُ الْوَحِيدُ"، و"ابْنَهُ الْوَحِيدَ"، و"ابْنِ اللهِ الْوَحِيدِ"، و"ابْنَهُ الْوَحِيدَ" (يوحنا 1: 14، 18؛ 3: 16، 18؛ انظر 1 يوحنا 4: 9). ومع ذلك، فإن معظم الترجمات الإنجليزيَّة الحديثة تُترجم مونوجينس إلى ابن "واحد وحيد" مثل (ESV، NIV، CSB). لا تزال المُداولة بعيدة عن الإقرار عمَّا إذا كانت عبارة "واحد وحيد" ترجمة أدق من ترجمة "لِوَحِيدٍ مِنَ الْآبِ" ونظائرها، فيما أن مفهوم الولادة الأزليَّة لا يعتمد على الطريقة التي يُترجَم بها مصطلح مونوجينس. إنمَّا يأتي هذا المفهوم إلى حدٍّ كبير ممَّا يعلنه الكتاب المُقدَّس عن سبق وجود الابن والعلاقة الأزليَّة بين الآب والابن (مثل يوحنا 17: 5، 24؛ انظر كولوسي 1: 15-20؛ عبرانيين 1: 1-3). فلم يكن هناك زمن قط لم يكن فيه الآب أبًا للابن، أو الابن ابنًا للآب (يوحنا 1: 1-2؛ انظر متى 11: 25-27؛ لوقا 10: 21-22). وكثيرًا ما يُستخدَم نص يوحنا 5: 26 لدعم الولادة الأزليَّة: "لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْآبَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ، كَذَلِكَ أَعْطَى الِابْنَ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ". ينوِّه لاهوتيُّون كثيرون بأن عطيَّة الحياة هذه للابن لا يمكن أن تكون قد حدثت داخل إطار الزمن. لذلك، لا بد وأنها عطيَّة حياة أزليَّة. وإذا كان الأمر كذلك، فإن يوحنا 5: 26 شاهد قوي على الولادة الأزليَّة.
كما أيضًا نجد برهان للولادة الأزليَّة في العهد القديم. لطالما كان نص مزمور 2: 7 تاريخيًّا أحد البراهين البارزة: "أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ". على الرغم من استخدام هذا النص في العهد الجديد للإشارة إلى قيامة الرب يسوع (أعمال الرسل 13: 33)، فإعلان البنوَّة والتأكيد عليها في القيامة يرتكز على سبق وجود البنوَّة. كذلك نص ميخا 5: 2 لطالما استُخدم تاريخيًّا لدعم الولادة الأزليَّة: "أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الْأَزَلِ". غالبًا ما يُفهم هذا النص على أنَّه يُشير إلى كل من مكان ميلاد الرب يسوع (بيت لحم) وإلى الولادة الأزليَّة للابن (وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الْأَزَلِ). كثير من المُفسرين المعاصرين يتشكَّكون في أن هذا النص يُعلِّم عن الولادة الأزليَّة، لكن التفسيرات الحديثة ليست دومًا أفضل من التفسيرات القديمة. بغض النظر عن نظرة المرء لنصوص العهد القديم هذه، فإن الولادة الأزليَّة للابن متأصِّلة ومُتجذِّرة حقًّا في الكتاب المُقدَّس. مثلها مثل العديد من العقائد المحوريَّة، فإنها لا تنبع من نص واحد أو نصَّين منعزلين، إنمَّا تنبع من تعاليم الكتاب المُقدَّس ككل.
كون ولادة الابن الأزليَّة عقيدة كتابيَّة، فهي ليست تخمينيَّة إنَّما واقعيَّة لأنَّها تتطرَّق إلى ذاك الوسيط في الخلق والفداء. فابن الله، سابق الوجود، هو الكلمة –اللوجوس (يوحنا 1: 1، 14)– الذي به قد خُلق العالم (كولوسي 1: 16؛ عبرانيين 1: 2). من الخطأ الاعتقاد بأن بدء عمل الابن كان في العهد الجديد، لأنَّه كان يعمل بنشاط خالقًا ومُعلنًا في العهد القديم (انظر يوحنا 1: 1-5). كما أنَّه في العهد القديم أيضًا كان يعمل بنشاط في الفداء. يُعرِّف يهوذا الرب يسوع بأنَّه من فدى بني إسرائيل من مصر (يهوذا 5). في العهد الجديد، تعد بنوَّة الرب يسوع في غاية الأهميَّة فيما يتعلَّق بعمل الفداء تحديدًا. ففي التجسُّد، أخذ ابن الله جسدًا بشريًّا حقيقيًّا ونفسًا عاقلةً. لقد وُلِدَ من عذراء، وهو ما يليق بابن الله القدُّوس الموجود مسبقًا. فميلاده الفريد يعني أنَّه لم يكن وارثًا لخطيَّة آدم، إنَّما رأسًا للخليقة الجديدة. بصفة الرب يسوع ابن الله، فهو النسل المُنتظر من داود (لوقا 1: 31-33) وآدم (3: 38). لكنَّه أعظم من ذلك. فهو الابن الأزلي لله. هو عِمَّانوئيل، الله معنا (متى 1: 23)، وابن الله الحي (16: 16). وعليه من المنطقي أن بنوَّته أُعلنت في معموديَّته (3: 17؛ مرقس 1: 11؛ لوقا 3: 22)، وجُرِّبت في البريَّة (متى 4: 1-11؛ مرقس 1: 12-13؛ لوقا 4: 1-13)، وتثبَّتت في التجلِّي (متى 17: 5؛ مرقس 9: 7؛ لوقا 9: 35)، وأُهينَت في الصلب (متى 27: 37-44؛ انظر 26: 63-64)، وأُكِّدت في قيامته (أعمال الرسل 13: 33؛ رومية 1: 3-4). لكن الابن لم يعمل بمعزل عن الآب والروح القدس، لأن الأعمال الخارجيَّة للثالوث أعمال غير مُنقسمة.
لم يأتِ ابن الله إلى فلسطين في القرن الأوَّل، إنَّما كان موجودًا حتى قبل بدء العالم. فهو قد خلق العالم ويحمله، وهو مَن أتمَّ الفداء من أجل شعبه بشكلٍ قاطعٍ. فهو إلهنا ومُخلِّصنا (2 بطرس 1: 1)، ابن الله المولود من الأزل.
[1] في جوهر الله، الأقنوم هو "كائن فرد ذا طبيعة عقلانيَّة" (توما الأكويني). فكل من أقانيم الثالوث يتمايز بفردانيَّته بالرغم أن كل منهم كائن –أي موجود– في الجوهر الإلهي الواحد. فما يُميِّز كل منهم ليس الاختلاف في الصفات الإلهيَّة إنما الخاصيَّة الأقنوميَّة المُميَّزة وغير القابلة للنقل لكل أقنوم (عدم ولادة الآب، وولادة الابن، وانبثاق الروح القدس).
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.