الفرائض بصفتها وسائط نعمة - خدمات ليجونير
أمثلة لدعوات في الكتاب المقدس
۲٤ يونيو ۲۰۲۲
Is the Trinity Biblical?
هل الثالوث عقيدة كتابية؟
۱۳ يوليو ۲۰۲۲
أمثلة لدعوات في الكتاب المقدس
۲٤ يونيو ۲۰۲۲
Is the Trinity Biblical?
هل الثالوث عقيدة كتابية؟
۱۳ يوليو ۲۰۲۲

الفرائض بصفتها وسائط نعمة

The Sacraments as Means of Grace

نشأتُ في كنيسة معمدانية ضخمة، حيث كانت ممارسة المعمودية أمرًا معتادًا ومتكرِّرًا، في حين ندرت ممارسة العشاء الرباني. كانت المعمودية دائمًا حدثًا احتفاليًّا، بل وفي بعض الأحيان كان الحاضرون يهتفون في أثنائها فرحين. في المقابل، كان العشاء الرباني حدثًا مهيبًا، وهادئًا، وبالنسبة لصبي صغير، كان مُضجرًا أيضًا. فإنني لم أفهم قط الغرض من اضطراري للجلوس ساكنًا لمدة خمس عشرة إلى عشرين دقيقة إضافية. ألا يستطيع راعي الكنيسة أن يقول فقط: "يسوع مات على الصليب لأجل خطاياكم"، وينتهي الأمر عند هذا الحد؟ لم أفهم أيضًا قط الغرض من المعمودية، سوى أن يسوع أوصى بممارستها. وعندما اعتمدتُ في سن الثانية عشر، اعتبرتُ ذلك مجرد طقس عبور من مرحلة إلى أخرى.

يلخِّص إقرار إيمان وستمنستر التعليم الكتابي عن دلالة المعمودية والعشاء الرباني على النحو التالي: "الأسرار [الفرائض] هي علامات وأختام مقدَّسة لعهد النعمة، أسَّسها الله بشكل مباشر، كي تمثِّل المسيح ومزاياه، وتؤكِّد نصيبنا فيه" (27. 1). إن عبارة "علامات وأختام" مأخوذة بشكل مباشر من رومية 4: 11، "وَأَخَذَ [إبراهيم] عَلاَمَةَ الْخِتَانِ خَتْمًا لِبِرِّ الإِيمَانِ الَّذِي كَانَ فِي الْغُرْلَةِ". وكيف تؤدي الفرائض دور العلامات والأختام؟

يحوي الكتاب المقدس العديد من "العلامات" (الآيات). فقد صنع موسى "آيات" في مصر (خروج 4: 8، إلخ)، وسُمِّيت معجزات يسوع "آيات" (يوحنا 2: 11). وفي الواقع، كان تجسُّد يسوع وميلاده العذراوي في حد ذاتهما "آية" (إشعياء 7: 14). فالآيات هي علامات منظورة، وفي حين أنها ربما تكون مهمة في حد ذاتها، لكنها تشير إلى شيء آخر. فقد أشارت آيات موسى إلى قوة الله، وعزمه على فداء شعبه. وأشارت آيات يسوع إلى هويته بصفته ابن الله الأزلي (يوحنا 20: 30-31).

من اللافت للانتباه أن أربع مرات من المرات الست التي وردت فيها كلمة "علامة" (آية) في الكتاب المقدس جاءت في عبارة "عَلَامَةُ ٱلْمِيثَاقِ" أو "عَلَامَةَ عَهْدٍ" (تكوين 9: 12، 13، 17؛ 17: 11). فبعد الطوفان، قطع الله عهدًا، أي اتفاقية مُلزِمة، مع نوح، واعدًا ألا يغرق الأرض بطوفان مرة أخرى. وكعلامةٍ من الله لتأكيد وعده العهدي هذا، أعطى قوس قزح. نشأتُ في فلوريدا، حيث تهب العواصف الرعدية الصيفية بعد الظهر، وتكون عادة مصحوبة بأقواس قزح. وقد ننبهر بجمال قوس قزح، لكن الغرض الرئيسي منه هو تذكيرنا بعهد الله وأمانته.

كذلك، قطع الله عهدًا مع إبراهيم (تكوين 15: 18؛ 17: 2، إلخ؛ انظر خروج 2: 24). وفي هذا العهد، وعد الله بأن يكون إلهًا لإبراهيم ونسله، وأن يعطيه أرضًا ميراثًا، ويبارك به الأمم، ويُكثر نسله مثل رمل البحر ونجوم السماء. ولتأكيد هذه الوعود، أعطى الله إبراهيم الختان "عَلَامَةَ عَهْدٍ" (تكوين 17: 11).

هذه العلامات هي بمثابة تذكير منظور وملموس يؤكِّد وعود الله لشعبه، وكان ينبغي أن تكون ملائمة لكلِّ عهد. فإن قوس قزح يَظهَر في السماء بعد المطر، عندما تمرُّ الشمس عبر قطرات المياه وتنكسر عليها. وربما يُنزِل الله أمطارًا غزيرة، ينتج عنها طوفان محلي، وعواقب كارثية للبعض، إلا أنه لن يغمر كوكب الأرض بأسره بطوفانٍ مرة أخرى، ولن يبيد البشر جميعًا ثانيةً. وفي عهد الله مع إبراهيم، وعد الله إبراهيم بأن يكون له "نسل" (الأمر الذي تحقَّق في النهاية في المسيح؛ غلاطية 3: 15-18). وفي توافُق مع ذلك، طُبِّقت العلامة المصاحبة للعهد على العضو التناسلي الذكري. وكما سنرى، هذا التوافق بين علامات الله والعهود انطبق على عهود أخرى أيضًا، من بينها العهد الجديد بدم المسيح.

وصف القديس أوغسطينوس، أحد آباء الكنيسة، الأسرار المقدَّسة بكلماته الشهيرة، قائلًا إن الأسرار هي "كلمات منظورة". فعندما يتعلَّم الأطفال، يحتاجون عادة إلى صور أو أشياء ملموسة تساعدهم في فهم الدرس. وهذا هو ما أتاحه الله لنا في تلك العلامات المنظورة والملموسة. فهو ينزل إلى مستوانا، كما يحدث مع الأطفال، حتى نفهم وعوده العهدية بحقٍّ، ونتذكرها، ونحظى بتأكيدٍ لها.

كان الختم في أيام بولس يُصنَع عادةً من الشمع، وكانت به بصمة مختومة تؤكِّد هوية صاحبه. وعادةً ما كانت الوثائق والرسائل الرسمية تحمل أختامًا. وإذا كان المرسِل ملكًا أو مسؤولًا حكوميًا، لم يكن أحد ليجرؤ على كسر الختم للنظر إلى محتواه إلى أن تصل الوثيقة إلى وجهتها الصحيحة. وبهذا، كان الختم يؤكِّد هوية المرسِل، ويضمن أيضًا سلامة محتويات الرسالة.

على هذا المنوال نفسه، تؤكِّد علامات عهد الله هويتنا بصفتنا أناسًا ينتمون إلى الله، كما تكفل وتضمن عضويتنا في ذلك العهد. بتعبير آخر، إن علامات العهد - أي الأسرار أو الفرائض المقدسة - تمدُّنا بالطمأنينة وبالقوة في علاقتنا بالله. عبَّر القديس أوغسطينوس عن هذا الأمر على النحو التالي: الأسرار المقدسة هي "علامات منظورة على نعمة غير منظورة". فهي إحدى الوسائل التي يمنحنا بها الله نعمته من أجل تشديدنا في الإيمان.

بالنظر مرة أخرى إلى رومية 4، وقبل تعليم بولس بأن الختان علامة وختم على برِّ إبراهيم بالإيمان (الآية 11)، قال الرسول: "فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا" (الآية 3). إذن، كان الختان علامة وختمًا على حقيقة حُكم الله على إبراهيم بأنه بارٌّ بإيمانه وحده. لكن، قال بولس فيما بعد إن إبراهيم "تَقَوَّى بِالْإِيمَانِ" (الآية 20)، حتى بعد سنوات من محاولات فاشلة لإنجاب ابن. وأحد أسباب إيمانه القوي هو علامة العهد التي أعطاه الله إياها (الختان). فقد كان جسد إبراهيم يشهد باستمرار لوعد الله ويؤكِّده.

تعمل علامات العهد في الاتجاه الآخر أيضًا. كانت العهود في العالم القديم هي اتفاقيات ملزِمة تنطوي على وعود ومسئوليات لكلا الطرفين. وفي العهود الكتابية، وعد الله بأن يكون لنا إلهًا. ونحن بدورنا نتعهَّد بأن نعطي أنفسنا بالكامل لله ونطيع وصاياه. كانت الكلمة اللاتينية “sacramentum” تشير في المعتاد إلى قسم الجنود بالولاء والطاعة لقائدهم. وعلى هذا المنوال ذاته، الفرائض تكرِّسنا وتفرزنا كأناسٍ ينتمون بالكامل إلى المسيح. ففي الفرائض، نحن نتعهَّد بأن ننتمي إليه بالكامل، وبكلِّ ما فينا، ودون أدنى تحفظ.

عندما أعقد أيَّ حفل زفاف، يتبادل العريس والعروس خاتمي الزواج، ويقول أحدهما للآخر: "أقدم لك هذا الخاتم، رمزًا وعهدًا على إخلاصنا المستمر ومحبتنا الثابتة". فالزواج الكتابي هو عهد (ملاخي 2: 14). وخاتم الزواج علامة وختم لذلك العهد. فهو يؤكِّد ويعلن محبة العروس والعريس بعضهما لبعض، والتزام أحدهما تجاه الآخر. فالخاتم الذي أرتديه هو علامة على انتمائي إلى زوجتي، كما أنه يؤكد وعدي لها بأن أكون مخلصًا طالما كان كلانا على قيد الحياة.

لكن فرائض الله أعمق وأغنى كثيرًا من خواتم الزفاف. فهي في الواقع تشدِّدنا روحيًا كي نكون أُمناء في التزامنا تجاه الله، وتساعدنا على النمو في مشابهتنا للمسيح، وتقودنا إلى شركة أعمق معه. ولا تعمل هذه الفرائض بمفردها، كما لو كانت سحرًا، بل ينبغي أن تكون مصحوبة بالكلمة والروح. وهي لا تكون فعالة إلا حين تكون ممتزجة ومقترنة بالإيمان. لكن، عندما تمارَس هذه الفرائض كما ينبغي، تكون وسائل مهمة لتحقيق الحيوية والنمو الروحيين.

سيركِّز بقية هذا المقال فقط على فريضتين، أوصى بهما الله لشعب العهد الجديد، وهما العشاء الرباني والمعمودية. وسنستعرض المعنى المحدَّد لكل فريضة منهما على حدة، ونناقش كيف تمثِّل إحدى وسائط النعمة والقوة الروحية في حياتنا.

العشاء الرباني

أسَّس يسوع العشاء الرباني خلال تناوُله طعام الفصح مع تلاميذه. كان الاحتفال بعيد الفصح في العهد العتيق علامةً لتذكير شعب الله بالعمل الخلاصي العظيم الذي أجراه الله عندما أعتقهم من عبودية أرض مصر (خروج 13: 9). وكانت هذه الوجبة مكوَّنة من خروفٍ وخبزٍ غير مختمر، اللذين كان كلاهما علامة ملائمة بسبب أهميتهما الشديدة في حدث الخروج. فقد أكل بنو إسرائيل خبزًا غير مختمر لأنهم كانوا يغادرون مصر في عجالة. أما دم الحمل، الذي وُضِع على قوائم أبواب بيوتهم وأعتابها، فقد صرف عنهم الدينونة التي أنزلها الله بأرض مصر.

وبالمثل، يحتفل العشاء الرباني بالحدث الفدائي العظيم الذي أجراه الله في العهد الجديد. قال يسوع في عشاء الفصح مع تلاميذه: "هَذَا هُوَ جَسَدِي ٱلَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ" (لوقا 22: 19)، و"هَذَا هُوَ دَمِي ٱلَّذِي لِلْعَهْدِ ٱلْجَدِيدِ ٱلَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ كَثِيرِينَ لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا" (متى 26: 28). فالعشاء الرباني علامة توجِّه أنظارنا إلى موت المسيح على الصليب. فإننا نأكل ونشرب "لذكر" المسيح (لوقا 22: 19).

يشير العشاء الرباني أيضًا إلى ما هو آتٍ. ففي العشاء الأخير، قال يسوع، متطلِّعًا إلى الانقضاء: "أَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي لاَ أَشْرَبُ مِنْ نِتَاجِ الْكَرْمَةِ حَتَّى يَأْتِيَ مَلَكُوتُ اللهِ" (لوقا 22: 18). وبالمثل، كتب بولس عن عشاء الرب قائلًا: "فَإِنَّكُمْ كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هذَا الْخُبْزَ وَشَرِبْتُمْ هذِهِ الْكَأْسَ، تُخْبِرُونَ بِمَوْتِ الرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ" (1 كورنثوس 11: 26). لاحظ هنا أن عشاء الرب "يخبر"؛ فهو كلمة منظورة.

إلا أن العشاء الرباني يفعل ما يتعدَّى مجرد جعل الكلمة منظورة، فهو يشمل كلَّ حواسنا أيضًا. فصحيح أننا نرى الخبز والخمر، لكننا أيضًا نشمهما، ونلمسهما، ونذوقهما. وعندما يمارَس العشاء الرباني بشكل صحيح، يشمل أيضًا حاسة السمع، لأنه يمارَس بعد الوعظ بالكلمة وتقديم التوجيهات الصحيح بشأن معنى العنصرين. فالعشاء الرباني يساعدنا على فهم معجزة موت المسيح على نحو أفضل، عن طريق إشراك الحواس الخمس جميعها. فهو يجعل موت المسيح على الصليب أمرًا شخصيًا. فالمسيح لم يمت فقط لأجل الخطاة، بل مات لأجلي شخصيًّا.

بتعبير آخر، يختم العشاء الرباني هذا الحق على قلوبنا. فهو تأكيد ظاهر ومادي على انتمائي إلى المسيح، وعلى كون المسيح بذل نفسه لأجلي. وبحسب الكلمات الرائعة التي وردت في دليل هايدلبرج لتعليم الإيمان عن طريق السؤال والجواب، نقرأ الآتي:

"ما هو عزاؤك الوحيد في الحياة والممات؟ إنَّني جسدًا وروحًا، في الحياة والممات، لستُ لذاتي، بل يمتلكُني مُخلِّصي الأمين يسوع المسيح، الذي وَفَّى دين خطاياي جميعها بدمهِ الثمين، وحرَّرني كليًّا من سُلطة الشيطان. ولذلك، هو يحفظني بحيث لا تسقط شعرة من رأسي دون مشيئة أبي السماوي. وحقًّا إنَّ كل الأشياء تعمل معًا من أجل خلاصي".

علاوة على ذلك، في العشاء الرباني، ندخل في شركة روحية مع المسيح. كتب بولس يقول: "كَأْسُ الْبَرَكَةِ الَّتِي نُبَارِكُهَا، أَلَيْسَتْ هِيَ شَرِكَةَ دَمِ الْمَسِيحِ؟ الْخُبْزُ الَّذِي نَكْسِرُهُ، أَلَيْسَ هُوَ شَرِكَةَ جَسَدِ الْمَسِيحِ؟” (1 كورنثوس 10: 16). الكلمة اليونانية المترجمة إلى "شَرِكَةَ" هنا هي koin nia، التي تعبِّر عن شركة حميمية مع شخصٍ ما. في المقابل، حثَّ بولس أهل كورنثوس على ألا يكونوا koin nia ("شُرَكَاءَ") الشياطين باشتراكهم في العبادة الوثنية (الآية 20). فإن المسيح يكون حاضرًا روحيًا في العشاء الرباني. وعندما نشترك في الخبز والكأس، نتمتع بشركة حميمية معه.

في العالم القديم، كان تناول الطعام مع أحدهم هو تعبيرٌ عن الحميمية. وكان الطعام أيضًا جزءًا مهمًا من طقوس قطع العهود. فالطرفان اللذان كانا يدخلان في عهدٍ معًا كانا يختمان هذا الاتفاق بتناوُلهما الطعام معًا. نرى ذلك في خروج 19-24. فبعدما قطع الله عهدًا مع بني إسرائيل في سيناء، تناول موسى ورؤساء إسرائيل الطعام على الجبل في محضر الله. وفي حقيقة الأمر، كانت العلاقة الحميمية بين الله وشعبه هي الغرض من العهود التي قطعها لهم.

يتجلَّى هذا بوضوح خاص في صيغة العهد الجديد. فبموجب هذا العهد، يكتب الله شريعته على قلوبنا، ويغفر لنا خطايانا، ويعرِّفنا بذاته بأكثر الطرائق الشخصية والحميمية: "لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ" (إرميا 31: 34). وإن الأقانيم الثلاثة في الثالوث متداخلون جميعهم في هذه العلاقة الحميمية. ففي هذا العهد، يقترب الله الآب إلينا، ويصير المسيح واحدًا معنا حتى يتمِّم مواعيد العهد الجديد، كما يسكن الروح القدس فينا، جاعلًا إيانا خليقة جديدة، وممكنًا إيانا من الوفاء باشتراطات العهد. فالله ليس فقط قريبًا منا، لكنه أيضًا فينا.

وإن العشاء الرباني يجعل علاقتنا الحميمة مع الله واقعًا اختباريًّا أشد وضوحًا في حياتنا. فهو يستهدف صميم علاقتنا بالله، أي محبة الله لنا ومحبتنا لله. فالمسيح يكون حالًّا في هذا العشاء، قائلًا لنا: "أنت ابني الحبيب، وقد بذلت نفسي لأجلك. والآن أنا أمنحك القوة لتحمل صليبك وتتبعني".

يذكِّرنا العشاء الرباني أيضًا بهويتنا الجديدة في العهد الجديد. في حين كان على المرء الاحتفال بعيد الفصح في العهد العتيق مع عائلته، تناول يسوع طعام الفصح مع تلاميذه، الأمر الذي يدل على أنهم أصبحوا عائلة الله الحقيقية الجديدة. وجميع الذين يتبعون يسوع هم بالمثل إخوته وأخواته. فالعشاء الرباني هو ما دعاه البعض باسم "فريضة الإفراز"، وذلك لأنه يفرزنا بصفتنا أناسًا ينتمون بالكامل وبكل ما فيهم إلى المسيح.

وبهذا، يوحِّدنا العشاء الرباني أيضًا بجميع الذين هم للمسيح. أخبر بولس مؤمني كورنثوس بأنهم بسبب عدم تناولهم العشاء الرباني وهم في وحدة معًا، هم بهذا لا يتناولون العشاء الرباني على الإطلاق (1 كورنثوس 11: 20). ففي العشاء، ندخل في شركة مع المسيح، ومع بعضنا البعض أيضًا. وبالروح القدس، يقوي العشاء علاقتنا بالمسيح، وكذلك بإخوتنا وأخواتنا في المسيح.

إن العشاء الرباني غنيٌّ بالرموز. لكن دلالته الأهم على الإطلاق هي أنه يذكِّرنا بموت المسيح لأجلنا، آخذًا دينونتنا على عاتقه. كما أنه يؤكد اتحادنا مع المسيح، ويقويه، لأننا لا نتذكَّر فحسب، بل ندخل أيضًا في شركة روحية مع المسيح. وفي هذا العشاء، تتقوَّى أيضًا أواصر علاقتنا بعضنا بالبعض. بالإضافة إلى ذلك، يتطلع العشاء الرباني إلى "عشاء عُرس الخروف"، الذي سوف نتناوله في محضر المسيح، مع إخوة وأخوات في المسيح من كلِّ أمة وقبيلة ولسان. لكن إلى أن يحدث ذلك، يشدِّدنا العشاء الرباني حتى نعيش لأجل المسيح، بصفتنا جسد المسيح، ويفرزنا عن العالم، لأجل العالم.

المعمودية

المعمودية أيضًا غنيَّة بالمثل بالرموز. لكن على عكس عشاء الرب، الذي هو حدث متكرِّر في الكنيسة، المعمودية حدثٌ يمارسه الفرد مرة واحدة فحسب. وهي في ذلك شبيهة بعلامة الختان. فنظير الختان، المعمودية علامةٌ على دخولنا في جماعة العهد.

الرمز الرئيسي للمعمودية هو الغُسل أو التطهير. فهي علامة على أننا نصير في المسيح طاهرين. وهذا الربط للمعمودية بالتطهير طبيعي وبديهي لأننا نستحم بالماء. إلا أن المعمودية لا تشير إلى التطهير الجسدي بل إلى التطهير الروحي.

يربط كتاب العهد الجديد المعمودية عدة مرات بغسل الخطايا. فبعد تجديد بولس، جاء حنانيا إليه وقال له: "قُمْ وَاعْتَمِدْ وَاغْسِلْ خَطَايَاكَ" (أعمال الرسل 22: 16). وكتب بطرس لاحقًا: "الَّذِي مِثَالُهُ [أي مياه الطوفان] يُخَلِّصُنَا نَحْنُ الآنَ، أَيِ الْمَعْمُودِيَّةُ. لاَ إِزَالَةُ وَسَخِ الْجَسَدِ، بَلْ سُؤَالُ ضَمِيرٍ صَالِحٍ عَنِ اللهِ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (1 بطرس 3: 21). بالنظرة السطحية، قد يبدو أن كلا هذين النصين يقول إن المعمودية تغسل خطايانا وتخلصنا. لكن بالفحص عن كثب، نكتشف خطأ هذا التفسير. قال بطرس في النصف الثاني من الآية السابقة إن الأمر لا يتعلق بسكب الماء على الجسد، بل بمناشدة الله لأنه غسل ذنب خطايانا. كتب بولس أيضًا أن المسيح كان "مُطَهِّرًا إِيَّاهَا [الكنيسة] بِغَسْلِ ٱلْمَاءِ بِٱلْكَلِمَةِ" (أفسس 5: 26). وقال يوحنا أيضًا: "وَدَمُ يَسُوعَ ... يُطَهِّرُنَا مِنْ كُلِّ خَطِيَّةٍ" (1 يوحنا 1: 7). فما يطهِّر هو دم يسوع، وليس ماء المعمودية. فماء المعمودية فقط يشير إلى التطهير بدم المسيح.

أحد أوجه الاختلاف الأخرى بين المعمودية وعشاء الرب هو أنه في المعمودية يكون الشخص المعتمد سلبيًّا. في عشاء الرب، يكون للمشاركين دور إيجابي وفاعل. فهم يأخذون، ويأكلون، ويشربون. وجميع المشاركين في عشاء الرب مدعوون أيضًا إلى امتحان أنفسهم و"تمييز جسد الرب" (1 كورنثوس 11: 28-29). فإننا في عشاء الرب نكون مشاركين إيجابيين وفاعلين.

أما الشخص الذي يعتمد، فيكون مفعولًا به. فالمعمودية تشير إلى نعمة الله، وإلى حقيقة أن الخلاص بأكمله هو من الله. فقد اختارنا الله، ويغيِّرنا بروحه. وحتى الإيمان نفسه هو عطية الله (أفسس 2: 8؛ فيلبي 1: 29). تقول المعمودية إذن إن الذين ينتمون إلى المسيح نالوا الخلاص بنعمة الله. فالخلاص، من بدايته وحتى نهايته، هو عمل الله.

ترمز المعمودية من هذه الناحية أيضًا إلى منح الله روحه لشعبه. وصف يسوع حلول الروح القدس على شعبه في يوم الخمسين بأنه معمودية. وكان حلول الروح القدس في أعمال الرسل 2 تتميمًا لنبوة يوئيل النبي بأن "يسكب" الله روحه على كلِّ جسد – سواء كان ذكرًا أم أنثى، يهوديًّا أم أمميًّا. وبالمثل، قال يوحنا المعمدان أنه كان يعمِّد بالماء، لكن المسيح سيعمد بالروح القدس والنار.

إلا أن الصلة بين الروح القدس والمعمودية هي أكثر من مجرد صلة لغوية. فالروح القدس نفسه هو وسيلة التطهير الروحي. كتب بولس يقول إن الله "خَلَّصَنَا بِغُسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (تيطس 3: 5). وبالمثل، في نسخة حزقيال عن العهد الجديد، ربط هذا النبي التطهير والقدرة على إطاعة الله بسكنى الروح القدس، قائلًا:

"وَأَرُشُّ عَلَيْكُمْ مَاءً طَاهِرًا فَتُطَهَّرُونَ. مِنْ كُلِّ نَجَاسَتِكُمْ وَمِنْ كُلِّ أَصْنَامِكُمْ أُطَهِّرُكُمْ. وَأُعْطِيكُمْ قَلْبًا جَدِيدًا، وَأَجْعَلُ رُوحًا جَدِيدَةً فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَنْزِعُ قَلْبَ الْحَجَرِ مِنْ لَحْمِكُمْ وَأُعْطِيكُمْ قَلْبَ لَحْمٍ. وَأَجْعَلُ رُوحِي فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَجْعَلُكُمْ تَسْلُكُونَ فِي فَرَائِضِي، وَتَحْفَظُونَ أَحْكَامِي وَتَعْمَلُونَ بِهَا". (حزقيال 36: 25-27)

الروح يُطهِّر ويمكِّن

علاوة على ذلك، تفرزنا المعمودية للمسيح، وتوحِّدنا به، لأن المسيح اتحد بنا في معموديته. كانت معمودية يوحنا المعمدان "مَعْمُودِيَّةِ ٱلتَّوْبَةِ لِمَغْفِرَةِ ٱلْخَطَايَا" (مرقس 1: 4). لم يرتكب يسوع، ابن الله الذي بلا خطية، أية خطية. وفي واقع الأمر، حاول يوحنا منع يسوع من أن يعتمد، قائلًا له: "أنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ" (متى 3: 14). إلا أن مهمة يسوع كانت أن يتحد بشعبه، حتى يحمل ذنب خطاياهم على عاتقه. وكتب بولس يقول إن الله "جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً، خَطِيَّةً لأَجْلِنَا، لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللهِ فِيهِ" (2 كورنثوس 5: 21). فقد اعتمد يسوع من يوحنا لا لأنه كان بحاجة إلى التطهُّر من الخطية، بل لأننا نحن من كنا بحاجة إلى التطهُّر من الخطية.

وعندما اعتمد يسوع، أُفرِز، وعُيِّن، ليبدأ الخدمة التي دعاه الله إليها. كان يسوع في الثلاثين من عمره تقريبًا عندما اعتمد وبدأ خدمته (لوقا 3: 23). وكان سن الثلاثين هو السن الذي يبدأ فيه الكهنة خدمتهم، بحسب العهد العتيق (العدد 4: 3). وكان الكهنة يُفرَزون ويُكرَّسون للخدمة عن طريق المرور بطقس تطهير يتضمن استخدام مياه (خروج 29: 4؛ لاويين 8: 6). وبالمثل، فإن معمودية يسوع أفرزته لتأديه خدمته كرئيس كهنة، تلك الخدمة التي اشتملت على التعليم، والتشفع عن تلاميذه، وبذل نفسه ليكون الذبيحة النهائية والكافية الوحيدة لرفع خطايا كلِّ شعبه.

على هذا المنوال نفسه، تفرزنا المعمودية بصفتنا أناسًا ينتمون إلى الله، وتقول لنا إنه قد صارت لنا هوية جديدة في المسيح. فتحت العهد العتيق، كان الختان يفرز بني إسرائيل عن الأمم "الغرل". هكذا تميِّزنا المعمودية عن العالم، وتقول إننا ننتمي إلى المسيح. ترمز معموديتنا أيضًا إلى اتحادنا بالمسيح، الذي أصبح هو نفسه واحدًا معنا، واتحد بنا في معموديته. كذلك، تفرزنا المعمودية لخدمة المسيح. فنظير المسيح (وإن لم يكن بالطريقة عينها تمامًا)، نحن "كهنة" (رؤيا 1: 6)، مدعوون كلَّ يوم إلى أن نقدِّم أجسادنا "ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ" (رومية 12: 1).

فإن التطهير، والإفراز، والاتحاد، وبدء الخدمة هي جميعها معانٍ أساسية للمعمودية. يعلمنا دليل وستمنستر الأكبر لتعليم الإيمان عن طريق السؤال والجواب بأنه عند ممارستنا للمعمودية، يلزم أن "ننتفع" منها قدر الإمكان، وذلك بأن نتذكَّر أننا واحد مع المسيح، وأننا تطهرنا، وتقدَّسنا، ودُعينا إلى خدمته بقوة الروح القدس. فالمعمودية هي إحدى وسائط النعمة لأنها تذكِّرنا بهويتنا وبما فعله الله لأجلنا. فالمعمودية لا تخلِّص، لكنها توجه أنظارنا إلى نعمة الله، وإلى غنى الله في المسيح.

في حين أن الفرائض هي "كلمات منظورة"، لا غنى عن الكلمة المكتوبة والمنطوقة في الحياة والعبادة المسيحية. فإن "الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ" (رومية 10: 17)، وكلمة الله هذه هي الأولى والأهم من بين وسائط النعمة. حثَّ بولس تيموثاوس، الذي كان راعيًا لكنيسة أفسس، على أن يعكف على القراءة العلنية للكلمة، والتعليم، والوعظ (1 تيموثاوس 4: 13). فرغم أهمية الفرائض، هي لا تعطي المسيح في ذاتها ومن ذاتها بطريقة سرية معيَّنة، لكنها بالأحرى مكملة للوعظ بالكلمة، ولا بد ألا تحل البتة محل قراءة الكتاب المقدس وتعليمه. وينبغي ألا تمارس الفرائض البتة دون الوعظ، ودون توضيح سليم لمعناها. لكن، لدى ممارسة الفرائض بطريقة سليمة، تكون من الوسائط الحيوية للنعمة التي تشدِّدنا في مسيرتنا مع الرب.

تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.

وليام باركلي
وليام باركلي
الدكتور وليم باركلي هو الراعي الرئيسي لكنيسة سوفرين جريس المشيخيَّة (Sovereign Grace Presbyterian Church) وأستاذ زائر للعهد الجديد بكلية اللاهوت المُصلَحة في مدينة شارلوت، بولاية نورث كارولينا. وهو مؤلِّف كتاب "سر القناعة" (The Secret of Contentment) و "وضوح الانجيل" (Gospel Clarity).