الانفصال
۲٦ يناير ۲۰۲۳تجديد أذهانكم
۲۸ يناير ۲۰۲۳العيش في الدهر الآتي
ملاحظة المُحرِّر: المقالة 7 من سلسلة "بين عالمين"، بمجلة تيبولتوك.
تتوافق الرؤيا الافتتاحية لسفر رؤيا يوحنا اللاهوتي مع الرؤيا الأخيرة فيه. ففي الرؤيا الأولى، سمع يوحنا صوتًا عظيمًا يأمره بكتابة ما يراه، ورأى الرب يسوع الممجَّد والقائم من بين الأموات، واقفًا في وسط كنائسه (1: 10-20). أما الرؤيا الأخيرة، فتتعلَّق بنزول المدينة المقدسة، أورشليم الجديدة، "مِنَ ٱلسَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ ٱللهِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا". ومرة أخري، سمع يوحنا صوتًا عظيمًا قائلًا: "هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْبًا، وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلهًا لَهُمْ" (رؤيا 21: 1-3). ففي هذه الرؤيا أيضًا، كان حضور الله وسط كنيسته هو محور التركيز. وليس هذا فقط هو ختام هذا السفر، بل هو ختام الكتاب المقدس بأكمله – عمانوئيل، "الله معنا".
إن الأصحاح الافتتاحي لسفر الرؤيا ليس مجرد رؤيا للرب، لكنه أيضًا رؤيا ليوم الرب (1: 10). وهذا أول استخدام معروف لتعبير "يوم الرب" كإشارة إلى اليوم الأول من الأسبوع. ومع أن هذا التعبير ورد هنا فقط في العهد الجديد، لا يفسح آباء الكنيسة الأوائل مجالًا للشك في أن تلك كانت إشارة إلى اليوم الذي نسمِّيه بيوم الأحد، والذي كانوا يحفظونه تذكارًا لقيامة الرب. وفي مواضع أخرى في العهد الجديد، دُعي هذا اليوم باسمه اليهودي، الذي ترجمته الحرفية هي: "في أول السبت" (متى 28: 1؛ مرقس 16: 2؛ لوقا 24: 1؛ يوحنا 20: 1، 19؛ أعمال الرسل 20: 7؛ 1 كورنثوس 16: 2). تستخدم الترجمات عادة كلمة "أسبوع" في هذه العبارة، لكنَّ أصل الكلمة اليوناني هو كلمة Sabbaton، التي هي ببساطة ترجمة للكلمة العبرية shabbat ("السبت"). وسوف تَظهَر أهمية ذلك فيما يلي.
منذ وقت مبكِّر جدًا في تاريخ الكنيسة، أصبح اليوم الأول من الأسبوع هو اليوم الذي فيه يجتمع المسيحيون للعبادة. بدأت هذه الممارسة على الأرجح يوم قيامة يسوع من بين الأموات، لأنه في ذلك الوقت، التقى الربُّ يسوع المُقام من بين الأموات بتلاميذه للمرة الأولى، و"وَقَفَ ... فِي وَسْطِهِمْ" (لوقا 24: 36 وما يليه). وبالمثل، يَذكُر إنجيل يوحنا أنه قد "جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الْوَسْطِ"، مركزًا بشكل خاص على تحديد اليوم، وهو "عَشِيَّةُ ذلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ أَوَّلُ الأُسْبُوعِ" (يوحنا 20: 19). وحدث اللقاء المؤرَّخ التالي بين الرب وتلاميذه "بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ"، عندما جاء يسوع مرة أخرى "وَوَقَفَ فِي الْوَسْطِ" (يوحنا 20: 26). كان ذلك يوم الأحد التالي، طبقًا للإحصاء اليهودي الشامل للأيام (انظر تعبير "اليوم الثالث"؛ لوقا 24: 7، 21، 46). في أعمال الرسل 20: 7، ذكر لوقا أن الكنيسة التي في تَرُوَاسَ اجتمعت معًا "فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ [أول السبت]" لكسر الخبز، حيث تشير صياغته للجملة إلى أن تلك كانت ممارستهم المنتظمة. كان بولس قد وصل إلى هناك قبل ذلك بسبعة أيام. ومع أنه كان على عجالة من أمره، إذا أراد بلوغ أورشليم بحلول يوم الخمسين (أعمال الرسل 20: 16)، مكث في تَرُوَاسَ سبعة أيام، على ما يبدو كي يكون هناك "فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ إِذْ كَانَ التَّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِيَكْسِرُوا خُبْزًا" (أعمال الرسل 20: 7).
يُمكن لقرَّاء ترجمات الكتاب المقدس أن يفوتهم بسهولة الانتباه إلى أهمية هذه الإشارة. فقد اعتدنا ترتيب الزمن بالأسابيع لدرجة أننا نفترض أن الحال كان دائمًا كذلك، وهو كان كذلك بالفعل بين اليهود، لكن ليس بين الأمم. فلا يحوي العهد الجديد كلمة يونانية واحدة مكافئة لذلك، لكنه في المقابل يستخدم الكلمة اليهودية التي تترجم إلى "السبت" [Sabbath]، داعيًا اليوم التالي للسبت باسم "أول السبت" ("أول الأسبوع" في الكثير من الترجمات). وفقط في وقتٍ لاحقٍ، أصبح الأسبوع الفلكي الذي نعرفه اليوم هو وسيلة القياس المتَّبَعة في أنحاء الإمبراطورية الرومانية. وبالتالي، ففي أعمال الرسل 20: 7، وكذلك في تعليمات بولس لكنائس غلاطية وكورنثوس، الواردة في 1 كورنثوس 16: 2، يجب أن نتذكَّر أن تلك الكنائس جميعها كانت تقع في مناطق أممية، لم يكن "الأسبوع" فيها هو وحدة القياس المعتادة للزمن. لكن من الواضح أن هذا الرسول إلى الأمم قام بترتيب وتنظيم تلك الكنائس متبعًا دورة الأيام السبعة، مع التركيز بشكل خاص على "أول السبت"، بدلًا من اليوم السابع الذي كان يُسمَّى "السبت". وفي حين لم يرد في 1 كورنثوس 16: 2 ذكرٌ لاجتماع الكنيسة معًا في ذلك اليوم، سيكون من الغريب جدًا أن يحدِّد بولس ذلك اليوم خصيصًا لجمع العطايا لكنيسة أورشليم، ما لم تكن في حياة هذه الكنيسة أهمية خاصة لهذا اليوم تحديدًا دون سواه، ليكون يومًا لتقديم ذلك المثال العملي عن "شركة القديسين". فلا يبدو الأمر كما لو أن تلك العطايا كانت تقدَّم بشكل أسبوعي في "أول السبت"، وذلك لأن التقويم الأسبوعي لم يكن قد صار شائعًا بعد.
من المؤكَّد أن بولس لم يكن ذلك النوع من الأشخاص الذي قد يفرض طقسًا يهوديًا بحتًا على كنائس أممية. وبالتالي، لا بد أنه كانت لدورة الأيام السبعة دلالة وسلطة أثبت من الأعياد الأخرى التي تأسَّست في سيناء (لاويين 23). وفي حقيقة الأمر، ألقى بولس باللوم على مؤمني غلاطية لحفظهم "أَيَّامًا وَشُهُورًا وَأَوْقَاتًا وَسِنِينَ" (غلاطية 4: 10)، وهي التي كانت، إلى جانب الختان، طقوسًا يهودية فرضها عليهم المعلِّمون الكذبة (غلاطية 5: 2-6؛ وأيضًا أعمال الرسل 15: 1). ودون شك، تكمن فكرة مشابهة وراء تحذير بولس لأهل كولوسي من السماح لأحد بأن يحكم عليهم "فِي أَكْل أَوْ شُرْبٍ، أَوْ مِنْ جِهَةِ عِيدٍ أَوْ هِلاَل أَوْ سَبْتٍ" (كولوسي 2: 16). ومع ذلك، ورغم هذا الرفض الشديد للطقوس اليهودية، أوصى بولس مؤمني غلاطية وكورنثوس قائلًا: "لِيَضَعْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عِنْدَهُ، خَازِنًا مَا تَيَسَّرَ"، في "كُلِّ أَوَّلِ أُسْبُوعٍ" (1 كورنثوس 16: 2). من الواضح إذن أن شيئًا أعظم من موسى ههنا. فلم يكن يوم السبت الأسبوعي الخاص باليهود طقسًا تأسَّس لأول مرة في سيناء، لكنه كان ضمن فرائض الخلق التي أُعطِيت لجميع البشر منذ بدء العالم (تكوين 2: 1-3). أشار الرب يسوع إلى ذلك عندما قال "السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ" (مرقس 2: 27). وبالتالي، فهو لم يكن لليهود وحدهم.
لكن، في وقتٍ ما بعد السقوط، فُقِد يوم السبت لدى العالم ككلٍّ، لكن استعاده شعب إسرائيل مرة أخرى عند خروجهم من أرض مصر (خروج 16)، وأُدرِج في العهد الذي قطعه الله معهم في سيناء (20: 8-11). وفي حقيقة الأمر، صار يوم السبت هو علامة هذا العهد، التي كان ينبغي أن تُحفظ عبر أجيالهم، عهدًا أبديًّا (31: 12-17). فقد صار يوم "مَحْفَلٌ مُقَدَّسٌ" (لاويين 23: 1-3)، ونُصَّ فيه على تقديم ذبائح خاصة من أجل الاحتفال به (العدد 28: 1-10). وإذ كان هذا اليوم تذكارًا منذ البدء لخلق الله السماوات والأرض (خروج 20: 8-11، 31: 17؛ لاويين 24: 8)، جعله موسى أيضًا تذكارًا لفداء إسرائيل من أرض مصر (تثنية 5: 12-15). وكانت "الراحة" هي الفكرة الرئيسية المقترنة بحفظ ذلك اليوم، لكن لم تكن تلك الراحة مجرد توقُّف عن العمل، بل كانت أيضًا محفلًا مقدسًا في بيت يهوه، ورمزًا وإشارة إلى حضوره الحي في وسطهم في كلٍّ من خيمة الاجتماع (خروج 25: 8)، والهيكل الذي بُنِي بعد ذلك (2 أخبار الأيام 6: 18). كذلك، كان يوم السبت يشير مستقبلًا إلى الراحة الأبدية العتيدة أن تأتى في الانقضاء (عبرانيين 3: 7-4: 10).
يُعَد مزمور 92 "مزمورًا "ليوم السبت"، وهو يحتفي بالبركة العظيمة التي يجلبها هذا اليوم لشعب الله. وتشير آياته الافتتاحية إلى الخير والفرح النابعين من العبادة في محضر الله (الآيات 1-4)، كما تشير آياته الختامية إلى الازدهار الذي يختبره أولئك المغروسون هكذا "فِي بَيْتِ ٱلرَّبِّ، فِي دِيَارِ إِلَهِنَا" (الآيات 12-15). وذروة هذا المزمور الموزون والمنظوم متمثلة في الآية 8: "أَمَّا أَنْتَ يَا رَبُّ فَمُتَعَال إِلَى الأَبَدِ"، وهو البيت الوحيد في المزمور المكوَّن من شطر واحد، والذي يقع في منتصف المزمور تمامًا. وقبل هذه الآية المحورية وبعدها، تتكرَّر الفكرتان المتعلِّقتان بإبادة الأشرار (الآيات 5-7)، ورفع شأن الأبرار (الآيات 9-11). وبالتالي، فإن الراحة والعبادة في يوم السبت هما بمثابة واحةٍ لشعب الله المنهك والمثقَّل بالهموم، الذي يعيش في عالم يزدهر فيه الأشرار في المعتاد، ويتألَّم فيه الأبرار في المعتاد. لكنَّ عبادة يوم السبت تبدِّد ذلك الوهم الذي روَّج له هذا العالم الساقط، وتبيِّن لنا أن الله عالٍ ومرتفع إلى الأبد، وبالتالي أن الناتج الحقيقي لكلِّ شيء سيكون حسب وعده تمامًا، إذ ستأتي الراحة الأبدية لشعب الله. وهكذا، يترقب يوم السبت الملكوت الأخير، جالبًا بركات الأبدية إلى الزمن، ومنزِلًا أفراح السماء إلى الأرض.
وهكذا، لم يبطل العهد الجديد هذا اليوم الذي يُعَد واحدًا من وسائط النعمة المعيَّنة من الله، لكنه ينقله إلى يوم جديد. وفي حين ألغى بولس بشكل رسمي وصية تقديس اليوم السابع (رومية 14: 1-6؛ غلاطية 4: 8-11؛ كولوسي 2: 16-23)، قام في الوقت نفسه بترتيب الكنائس على أساس "أول السبت" (أعمال الرسل 20: 7؛ 1 كورنثوس 16: 2)، وهو ذلك اليوم الذي صار بحلول أيام رؤيا يوحنا يُعرَف باسم "يوم الرب". ونظير يوم السبت الذي سبق هذا اليوم في العهد القديم، هذا اليوم، الأهم من كلِّ الأيام الأخرى، هو اليوم الذي فيه يجتمع شعب الله في العهد الجديد معًا في محفل مقدَّس، ليسمعوا كلمة الله تُقرأ بصوت مرتفع وتُشرح، وليكسروا الخبز معًا (أعمال الرسل 20: 7). وهو أهم من كل الأيام الأخرى، لأنه فيه يكون الرب حاضرًا مع شعبه، وواقفًا في وسطهم، وجالسًا ومتوجًا وسط تسبيحاتهم (مزمور 22: 3)، فيما يرنِّمون المزامير، والتسابيح، والأغاني الروحية (أفسس 5: 19؛ كولوسي 3: 16)، ويرفعون صلواتهم إليه (1 تيموثاوس 2: 1).
جون إليوت (John Eliot) (1604-1690) كان راعي كنيسة أمريكيًا بيوريتانيًّا، ومن أوائل المُرسَلين إلى سكان أمريكا الأصليين. وكان إليوت حافظًا مجتهدًا ليوم الرب باعتباره يوم السبت المسيحي. وفي إحدى عظاته التي سمعها كوتون ماثر (Cotton Mather)، ودوَّن ملاحظاته عنها، قال إليوت إن أولئك الشغوفين بيوم الرب يقضون سُبعَ حياتهم في السماء وهم لا يزالون على الأرض. فبينما هم على الأرض، لن يكونوا غرباء عن السماء. وعندما يموتون، لن تكون السماء مكانًا غريبًا عليهم. هذا صحيح، لأنهم في حقيقة الأمر سيكونون قد زاروها ألف مرة من قبل.
كان الرسول يوحنا في الروح في يوم الرب عندما رأى الرب واقفًا في وسط كنائسه، وناطقًا مرة أخرى بكلمات الرجاء والطمأنينة. ولا يزال الرب يسوع يعلن عن ذاته لكنائسه عندما يجتمعون لعبادته والسجود له بالروح وبالحق. فقد عُيّن يوم الرب لهذا الغرض خصيصًا، وهو يوم غنيٌّ بالبركات. عبَّر ديفيد كلاركسون (David Clarkson) البيوريتاني عن ذلك قائلًا: "وذلك كي يصير حضور الله، الذي يكون مجرد جدول صغير عندما نتلذذ به بشكل فردي، نهرًا سواقيه تفرح مدينة الله في وسط الجماعة".
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.