
قوّة الضعف
۱۱ مارس ۲۰۲۵
امتحان شعب إسرائيل في البرّيّة
۱۸ مارس ۲۰۲۵مقاصد الله في المِحَن والتجارب والامتحان

في بعض الأحيان تكون خطيتنا هي ما يؤدّي إلى المِحَن والتجارب وامتحان إيماننا (انظر مثلًا مزمور 106). ويوضِّح إقرار إيمان وستمنستر 18: 4 أنّ خطيّتنا يمكن أن تُضعِف ثقتنا بيقين خلاصنا.
ومع هذا، ليست الخطيّة دائمًا السببَ المباشر للمِحَن والتجارب وامتحان إيماننا. ويصير التحدّي الذي نواجهه في فهم المِحَن والتجارب وامتحان إيماننا أشدّ حين لا يتوافق اختبارنا الشخصي مع توقّعنا الاعتيادي بشأن الاتّساق الأخلاقي والعدالة. ففي بعض الأحيان، لا نجتاز المِحَن بسبب خطايانا الشخصيّة فقط. وسفرا الجامعة وأيُّوب يوضِّحان هذا الأمر بصورة جيّدة. فحين لا ينال الأشرار عقابهم، ويعاني الأبرار معاناة يصعب وصفها، يصرخ الناس إلى السماء قائلِين: "وَكَيْفَ يَمُوتُ الْحَكِيمُ كَالْجَاهِلِ!" (جامعة 2: 16). فكيف "يُوجَدَ صِدِّيقُونَ يُصِيبُهُمْ مِثْلَ عَمَلِ الأَشْرَارِ، وَيُوجَدُ أَشْرَارٌ يُصِيبُهُمْ مِثْلَ عَمَلِ الصِّدِّيقِينَ" (جامعة 8: 14)؟
وبرؤية "أصدقاء" أيُّوب لما عاناه افترضوا أنّه لا بدّ أنّه أخطأ. لقد استنتجوا خطأً، بناءً على مبدأ أنّ البارّ يفلح والشرّير يتألَّم، أن أيوب لا بد أن يكون شريرًا. ولكنّ الحياة ليستْ دائمًا سوداء وبيضاء فقط. ويساعدنا يعقوب وبولس وبطرس في فهم هذه الصعوبات.
يقدِّم يعقوب أكثر تعليمٍ كتابيّ ملاءَمةً بشأن المِحَن والتجارب وامتحان الإيمان المسيحيّ. إذ يكتب: "اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ" (يعقوب 1: 2). "التجارب" (المِحَن) التي يقصدها يعقوب هي المِحَن الداخليّة والخارجيّة، وهو ما نراه من حقيقة استخدام يعقوب للكلمة اليونانيّة نفسها في الآية 12 وما بعدها في الإشارة إلى التجارب والإغراءات الداخليّة. وعلاوةً على هذا، لاحظ أن يعقوب يُشير إلى المِحَن بأنّها "متنوِّعة." وباختصار، يكلِّم يعقوب جميع من يتعرّضون للمِحَن والتجارب.
يريدنا يعقوب أنْ نتبنّى الموقف الصحيح تجاه مِحَنِنا. وحين نفكِّر بردود فعلنا نحو المِحَن، فإنّ جوابَه بسيط ومفاجئ: علينا أن نرحِّب بهذه المِحَن لأنّها تقوّي إيماننا وتصقل صفاتنا وشخصيّاتنا المسيحيّة. وباختصار، ستساهم المِحَن في إنضاج حياة التقوى.
ويقول يعقوب بصورةٍ خاصّة إنّ علينا أنْ نحسب مواجهة كلّ هذه المِحَن سبب فرح عظيم. ولكنّه يريدنا أن نعرِّف الفرح. إنّه فرحٌ يأتي من فوق، لا من تحت. إنّه فرحُ الذي لديه منظور النهاية – منظور سماويّ.
يُعلِن يعقوب أنّ السّبب الذي لأجله يُمكن للمؤمن أن يتحلّى بهذا الموقف في المِحَن والضيقات هو أنّه يعرف شيئًا عنها، شيئًا لا يعرفه العالم. يستطيع يعقوب أن يأمر قرّاءه بأن يفرحوا لأنّ هذه المِحَن تُنتِج شيئًا ينبغي أن نتّصف به: الصبر والثبات. هذه صفةٌ فاعلةٌ ونشيطة.
لكن الرسول لا يوقف تسلسل أفكاره هنا، بل يوضح أن صفة الصبر والثبات تقود إلى أمرٍ آخر أيضًا. فهو لا يهتم بتطوير فضيلة واحدة فقط، بل يهتم بتكوين الشخصية ككل. ولذا يستمرّ في الكلام قائلًا: "وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ" (يعقوب 1: 4). لا يعلِّم العهد الجديد مفهوم الكمال المُطلق، أو أنّ أيَّ إنسان عادي يمكِنه أن يحقِّق الكمال. فدائمًا سيكون إنجازنا في الفضيلة غير مستقرّ وناقصًا. فما الذي يقصدُه إذًا؟
أظنّ أنَّ يعقوب يوجِّه انتباهنا إلى يسوع المسيح. وليتذكَّر القارئ ما قاله كاتب العبرانيّين:
مَعَ كَوْنِهِ ابْنًا تَعَلَّمَ الطَّاعَةَ مِمَّا تَأَلَّمَ بِهِ. وَإِذْ كُمِّلَ صَارَ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُطِيعُونَهُ، سَبَبَ خَلاَصٍ أَبَدِيٍّ. (عبرانيين 5: 8-9)
نقطة تركيز هذا المقطع في الرسالة إلى العبرانيين هي إعداد يسوع ليكون رئيس الكهنة الأعظم نيابةً عنا. وفي هذه الآية بالذات، يأتي التركيز على مقاومة التجربة. والكلمة "كُمِّل" هنا تُشير إلى أنّه صار "ملائمًا، مناسبًا" لمنصبٍ رئيسِ الكهنة بممارسته القوّة والبرّ الإيجابي الفاعل. فكِّر بهذا: غلب ربُّنا الكره الطبيعي للألم الذي لدينا نحنُ البشر. فقد رفض مُخلِّصنا ورئيس كهنتنا الرحيم المتعاطف أن يختار الراحة. وبدلًا من ذلك، ناضل لأجلنا، متألِّمًا في طاعته، حتّى نستطيع أن "نحسبه كلّ فرح" حين نواجه المِحَن والتجارب. إنّه يخلق فينا صفة الثبات.
يبدو أن بعض أعضاء الكنائس التي كان يعقوب يكتب لها قد فكَّروا بطريقة خاطئة، بافتراضِهم أنّه لكون الله صاحب السيادة فلا بدَّ أنّه الوحيد المسؤول عن تجاربنا (انظر يعقوب 1: 13). بدلًا من ذلك، يرغب يعقوب بأن يدرِكوا أنّ التجارب تنبع من كياننا الداخلي. وعلاوةً على هذا، يريد الله، أبونا السماويّ، أن يمنح هباتٍ صالحة فقط للذين يحبُّونه (الآيتان 17-18).
يبدو أنَّ هذه الحقائق أثَّرت بقوّة وبصورة دائمًة على الرسول بولس أيضًا. فقد أعلن بكلّ حماس بعد وصفه ما تلقّاه من رؤى وإعلانات من الله، وأيضًا ضيقاته المرتبطة بشوكته في الجسد قائلاً: " لِذلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ. لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ" (2كورنثوس 12: 10). فقد تألَّم هو ورفقاؤه، حتّى أعلن: "أَنَّنَا تَثَقَّلْنَا جِدًّا فَوْقَ الطَّاقَةِ،" حتّى "أَيِسْنَا مِنَ الْحَيَاةِ أَيْضًا. لكِنْ كَانَ لَنَا فِي أَنْفُسِنَا حُكْمُ الْمَوْتِ." ومع هذا أكّد أن لهذا كلّه هدفًا: "لِكَيْ لاَ نَكُونَ مُتَّكِلِينَ عَلَى أَنْفُسِنَا بَلْ عَلَى اللهِ الَّذِي يُقِيمُ الأَمْوَاتَ" (2كورنثوس 1: 8-9).
كما يتكلَّم الرسول بطرس ببعض التصريحات المثيرة عن المِحَن في بدايات رسالته الأولى تبدو شديدةَ الشبه بتصريحات يعقوب (انظر 1بطرس 1: 6-7). كيف لبطرس أن يتكلَّم بهذه الادّعاءات الجريئة والجسورة؟ هناك عدّة إجابات عن هذا السؤال، تُوجَد اثنتان منها في السياق الأوسع للرسالة. أوّلًا، يدّعي بطرس أنّ المسيحيّين هم شعبُ الله المختار الجديد (1بطرس 2: 9-10). ثانيًا، يُوجِّه بطرس انتباهنا إلى القصة الأسمى لحياتنا: تحريرنا في المسيح، الذي تمتدّ جذوره من الخروج الأصليّ لشعب الله من مصر، ولكنّه يتجاوزه ليحقِّق تحرير شعب الله من عبوديّةٍ أعظم، هي العبوديّة للخطية، وهو خروج ثانٍ أنجزه ربّنا لأجل شعبه.
لا شكّ أن الخروج هو الصورة المجازيّة الرئيسيّة والمهيمنة في الأصحاحَين الأوّلين من بطرس الأولى. فتكثُر صور الخروج من مصر هنا (انظر بصورة خاصّة 1بطرس 1: 3 – 2: 10). تشمل هذه الإشاراتُ الفصحَ، وأمرَ الربّ بأن نكون قدّيسين، والعجلَ الذهبيَّ، والحياةَ المفديّةَ، والحملَ الذي بلا عيب (انظر خروج 12؛ 15: 13؛ 32؛ لاويّين 11: 44؛ 19: 2). ينبغي ألا ينظر المسيحيّون الذين يخاطبهم بطرس إلى الوراء (مثلما فعل بنو إسرائيل)، بل عليهم أن يتقدَّموا إلى الأمام نحو ميراثهم الذي لا يفنى (1بطرس 1: 4). لماذا يرسم بطرس على لوحته بألوان الخروج هكذا؟ الراجح أنّ سبب هذا هو أنّ قرّاءه كانوا قد تعلَّموا من العهد القديم. تقدِّم هذه الصور الأساسَ لقرّائه ليعقد التشابهات والمقارنات ما بين شعب الله القديم وجماعة المسيحيّين المختارين الجديدة، مع نظرةٍ نحو التوافق الأخلاقيّ المُتّصف بالقداسة والمحبّة (1بطرس 1: 13-25).
يبرز مبدأ مهمٌّ في هذه المقاطع من رسالة بطرس الأولى: شرْحُ ما عمله الله لأجلنا في المسيح يسبق الأمرَ بما علينا أن نعمله استجابةً لما عمله. وفي 1بطرس 1: 13-21 يبدأ بطرس بنهاية القصّة، حيث في الغالب يُشير "الاستعلان" في الآية 13 إلى المجيء الثاني للمسيح. وعلاوةً على هذا، فإنَّ الأساس الذي محوره رجاء المسيح في الآيات 17-21 هو أساس الوصايا والتوصيات المتعلِّقة بالقداسة في الآيات 14-16. أو خُذْ مثالاً آخر: وصيّةُ بعضنا بعضًا في الآية 22 مبنيّة على حقيقة أنّ قرّاءه مولودون ثانيةً (الآية 23)، "لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى، بِكَلِمَةِ اللهِ الْحَيَّةِ الْبَاقِيَةِ إِلَى الأَبَدِ"." يُقصَد بعبارة "مولودين ثانيةً" أن تكون ترديد صدى للآية 3.
وباختصار، يريد بطرس أن تتغيَّر أذهاننا، وهو يستخدم صورًا مجازيّةً قويّةً لتحقيق هذا الغرض. وفي هذه الحالة يستخدم صُوَرًا من حدث الخروج. ولكنّه يريدنا أيضًا أن نفكِّر بهويّتنا الجديدة، بكوننا غرباء مرتحلين نخصّ الله. وبعد أنْ يؤسِّسنا على حقائق إيماننا، يستطيع أن يحثّ قرّاءه على أن يسعوا إلى قداسةٍ أعظم. وإحدى الطرق التي يستخدمها لعمل هذا في بداية رسالته هي بمساعدة هؤلاء المسيحيّين على أن يفكِّروا بصورة صائبة بشأن التجارب والمِحَن التي يتعرَّضون لها:
الَّذِي بِهِ تَبْتَهِجُونَ، مَعَ أَنَّكُمُ الآنَ إِنْ كَانَ يَجِبُ - تُحْزَنُونَ يَسِيرًا بِتَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، لِكَيْ تَكُونَ تَزْكِيَةُ إِيمَانِكُمْ، وَهِيَ أَثْمَنُ مِنَ الذَّهَبِ الْفَانِي، مَعَ أَنَّهُ يُمْتَحَنُ بِالنَّارِ، تُوجَدُ لِلْمَدْحِ وَالْكَرَامَةِ وَالْمَجْدِ عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. (1بطرس 1: 6-7)
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.