السماوات تُحدِّث
۸ يونيو ۲۰۲۰هل يمكن أن أصلِّي صلوات النقمة؟
۱۱ يونيو ۲۰۲۰الإيمان والتوبة
يبدو للوهلة الأولى عند إعلان رسالة الإنجيل أنه توجد استجابتان مختلفتان لهذه الرسالة. أحيانًا كثيرة تكون الدعوة هي "تب!" لذلك نقرأ: "وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ قَائِلاً: تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ" (متى 3: 1-2). مرة أخرى، حثَّ بطرس مستمعيه الذين نُخسوا في ضمائرهم يوم الخمسين قائلًا: "تُوبُوا وَلْيَعْتَمِدْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ عَلَى اسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (أعمال الرسل 2: 38). ولاحقًا، دعا بولس الأثينيين أن "يَتُوبُوا" تجاوبًا مع رسالة المسيح المُقام من الأموات (أعمال الرسل 17: 30).
ومع ذلك، في مناسبات أخرى فإن الاستجابة المناسبة لرسالة الإنجيل هي "آمن!" عندما سأل سجَّان فيلبى بولس ماذا ينبغي أن يفعل لكي يخلص، أجابه الرسول بولس قائلًا: "آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ" (أعمال الرسل 16: 31).
لكن لا يوجد غموض أو تناقض هنا. إذا واصلنا القراءة في أعمال الرسل أصحاح 17، سوف نكتشف تحديدًا أنه حينما تكون التوبة هي الاستجابة المطلوبة، نجد أن الذين تغيروا يُوصفون أيضًا بأنهم آمنوا (أعمال الرسل 17: 30، 34).
يمكن بالفعل إزالة أي التباس عن طريق ما فعله يسوع عندما كرز "ببشارة ملكوت الله"، إذ حثَّ سامعيه قائلًا: "قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ" (مرقس 1: 14-15). هنا نجد أن التوبة والإيمان متصلان بعضهما البعض. فكلاهما يشيران إلى جانبين للتغيير لهما نفس الأهميَّة لحدوثه. وبالتالي، فإن أي من التعبيرين يدل ضمنيًّا على وجود الآخر لأن كل حقيقة (التوبة أو الإيمان) ضروريَّة وحتمية لوجود الآخر.
إذًا، من ناحية القواعد اللغويَّة، فإن الكلمتان التوبة والإيمان كلاهما يؤديان دور المجاز المُرسَل — وهو صورة جماليَّة يُستَخدم فيها الجزء للدلالة على الكل. لذلك، فإن التوبة ضمنيًّا تدل على الإيمان، والإيمان ضمنيًّا يدل على التوبة. لا يمكن أن يتواجد أحدهما دون الآخر.
ولكن منطقيًّا أيهما يأتي أولًا؟ هل التوبة؟ هل الإيمان؟ أم لا يوجد لهما أولويَّة مطلقة؟ كانت هناك نقاشات مطوَّلة حول هذا الأمر في الفكر المُصلَح. وأصبح هناك مؤيدين لأي من الآراء الثلاثة المطروحة:
أولًا، أصر دبليو. جى. تي. شيد (W. G. T. Shedd) على أن الإيمان يجب أن يسبق التوبة في ترتيب طبيعة الحدوث، قائلًا: "على الرغم من أن الإيمان والتوبة لا ينفصلان ومتزامنان، إلا أنه من حيث ترتيب طبيعة الحدوث فإن الإيمان يسبق التوبة" (اللاهوت العقائدي، الجزء 2، صفحة 536). قال شيد ذلك على أساس أن القوَّة المُحفِّزة للتوبة تكمن في استقبال الإيمان لرحمة الله. إذا سبقت التوبة الإيمان، فسوف يكون لكل من التوبة والإيمان الطابع القانوني، وسيصبحان شرطين أساسيَّين للنعمة.
ثانيًا، يبدو أن لويس بيركوف (Louis Berkhof) قد تبنَّى الرأي المعاكس إذ يقول: "لا شك أنه منطقيًّا تسبق التوبة ومعرفة الخطية الإيمان الذي يخضع للمسيح بمحبة واثقة" (علم اللاهوت النظامي، صفحة 492).
ثالثًا، يصر جون موري (John Murray) بأن هذا الأمر يثير
سؤالًا غير ضروري والإصرار على أولويَّة أحدهما على الآخر هو أمر لا طائل منه. فلا توجد أولويَّة. الإيمان الذي للخلاص إيمان تائب، والتوبة التي هي للحياة هي توبة مؤمنة... الإيمان المُخلِّص يتخلَّل التوبة، والتوبة يتخلَّلها الإيمان المُخلِّص. (الفداء: تحقيقه وتطبيقه، صفحة 113)
هذا بالتأكيد هو الرأي الأقرب للكتاب المقدس. لا يمكننا فصل الرجوع عن الخطية بالتوبة والقدوم إلى المسيح بالإيمان. فهما يصفان نفس الشخص وهو يقوم بنفس الفعل ولكن من جانبين مختلفين. من جانب (التوبة) يُنظر للشخص من ناحية علاقته بالخطية، ومن الجانب الآخر (الإيمان) يُنظر للشخص من ناحية علاقته بالرب يسوع. ولكن الشخص الذي يضع ثقته في المسيح يفعل ذلك تزامنًا مع رجوعه عن الخطية. ففي إيمانه يتوب، وفى توبته يؤمن. ربما أفضل وصف لذلك هو ما عبَّر عنه أر. إل. دابني (R. L. Dabney) حين أصر على أن الإيمان والتوبة هما "توأمان" للنعم (ربما يمكننا أن نقول "توأمان ملتصقان").
ولكن بعد أن قلنا هذا، لم نذكر كل شيء يمكن ذكره عن الأمر. يكمن في أي لاهوت عن التغيير سيكولوجيَّة التغيير. يسود داخل أي شخص بعينه، على مستوى الإدراك، إما إحساس بالتوبة أو بالثقة. فما هو موحَّد لاهوتيًّا، ربما يختلف سيكولوجيًّا. وهكذا، ربما يختبر الشخص الذي شعر بعمق التبكيت تجاه ذنبه وعبودية الخطية التحوُّلَ عن الخطية (أي التوبة) كشعور سائد في اختبار تغيُّره. بينما يختبر آخرون (الذين يتعمَّق إدراكهم للتبكيت بعد اختبار تغييرهم) شعورًا سائدًا بالاندهاش من محبة المسيح، مع قدر أقل من عذاب النفس على المستوى السيكولوجي. هنا يكون الشخص أكثر وعيًا بالثقة بالمسيح من التوبة عن الخطية. ولكن في التغيير الحقيقي لا يمكن أن يوجد أي منهما دون الآخر.
وهكذا تختلف التأثيرات السيكولوجيَّة المُصاحِبة لعمليَّة التغيير، إذ تعتمد أحيانًا على التركيز السائد لرسالة الإنجيل عند تقديمه للخاطئ (إما شر الخطية أو عظمة النعمة). ويتفق ذلك مع التعليق الفطن الذي يقدِّمه إقرار إيمان وستمنستر عن تأثير الإيمان (أي استجابة الشخص الواثقة لكل ما هو معلن في الكلمة) حيث "يتصرف بطريقة مختلفة بموجب ما يتضمنه كل نص بوجه خاص فيها" (إقرار إيمان وستمنستر، الفصل 14، الفقرة 2).
ولكن لا يمكن بأي حال أن يحدث التغيير الحقيقي لأي شخص دون وجود التوبة والإيمان معًا، وبالتالي الفرح والندم أيضًا. فأي تغيير ينقصه الندم على الخطية، ويستقبل الكلمة بفرح فقط، سيكون مؤقَّتًا.
إن مثل الزارع الذي ذكره يسوع مفيد لنا في هذا الأمر. في أحد أنواع التربة، تثمر البذور سريعًا ولكنها تموت فجأة. يمثل ذلك مَنْ "تغيَّروا" واستقبلوا الكلمة بفرح، ولكن دون أن تتشقَّق التربة البور بالتبكيت على الخطية أو أي حزن ينتج عنه الابتعاد عن الخطية (مرقس 4: 5-6، 16-17). على الجانب الآخر، فإن التغيير الذي يكون فقط ندمًا على الخطية دون أي فرح بالغفران سوف يثبت مع الوقت أنه كان مجرد "حزن العالم" الذي "ينشئ موتًا" (2 كورنثوس 7: 10). وفى النهاية، لن يُسفر عن شيء.
ولكن هذا يطرح سؤالًا أخيرًا: هل تشكِّل ضرورة التوبة في عملية التغيير نوعًا من الأعمال ينتقص من فكرة أن الإيمان يكون خاوى اليدين؟ هل يضر ذلك بمفهوم النعمة؟
باختصار، لا. فالخطاة يجب أن يأتوا دائمًا خاويين اليدين. ولكن هذه هي المعضلة تحديدًا. فبطبيعة الحال، يداي مملوءتان (من الخطية، والذات، و"أعمالي الصالحة"). ولكن اليدان المملوءتان لا يمكنهما أن يُمسكا بالمسيح بالإيمان. بل عندما تُمسكا بالمسيح يتم إفراغهم. فما منعنا من وضع ثقتنا فيه حتمًا سيسقط على الأرض. لا يمكن الإبقاء على الحياة القديمة في يدين تُمسكان بالمخلص.
نعم، التوبة والإيمان عنصران أساسيَّان في عملية التغيير. فهما يشكِّلان نعمتين لا يمكن فصلهما أبدًا. كما يذكِّرنا جون كالفن بشكلٍ جيدٍ، إن هذا الأمر لا ينطبق فقط على بداية حياتنا المسيحيَّة ولكن أيضًا على كل حياتنا المسيحيَّة. فنحن تائبون مؤمنين، ومؤمنون تائبين على طول الطريق إلى المجد.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.