معضلة الغفران
۸ يونيو ۲۰۲۰الإيمان والتوبة
۹ يونيو ۲۰۲۰السماوات تُحدِّث
قال المسيح للجموع في الموعظة على الجبل: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ" (متى 5: 44–45). تثير عبارات مثل هذه وغيرها في الكتاب المقدس سؤالًا لاهوتيًّا هامًا حول نعمة الله، وهو: هل تمتد نعمة الله إلى جميع البشر، أم تمتد فقط إلى أولئك الذين اختارهم الله للخلاص؟
للإجابة عن هذا السؤال، يجب علينا أولًا أن نفهم معنى كلمة نعمة. في الكتاب المقدس، تشير كلمة نعمة إلى "إحسان عن دون استحقاق". بمعنى آخر، إنها إحسان لا يتم كسبه بأي شكل من الأشكال. ليس فقط النعمة غير مُستَحقَّة بمعنى عدم كسبها، ولكن عندما يتم إظهارها تجاه الإنسان الخاطئ، فهي نعمة في الواقع محروم منها تمامًا. فالإنسان الساقط ليس ببساطة في وضع محايد فيما يتعلَّق بإحسان الله. بل الإنسان الساقط في وضع سلبي تمامًا.
السؤال إذن هو ما إذا كان إحسان الله عن دون استحقاق يمتد إلى جميع البشر أم إلى شعبه فقط. للبحث في هذا السؤال، استخدم اللاهوتيُّون المُصلِحون عادةً مصطلحي "النعمة الخاصة" و "النعمة العامة". من المهم أن نفهم أن استخدام هذه المصطلحات المختلفة لا يعني أن النعمة الإلهيَّة "مُقسَّمة" بطريقة ما أو أنها موجودة في "أنواع" مختلفة. تُستخدَم هذه المصطلحات للتمييز بين الطرق المختلفة التي تتجلَّى فيها صفة نعمة الله الواحدة.
إن "النعمة الخاصة" لها علاقة بإحسان الله عن دون استحقاق الذي يظهر تجاه المختارين والذي يقود إلى خلاصهم. أمَّا "النعمة العامة" فتتعلَّق بإحسان الله عن دون استحقاق الذي يظهره تجاه البشر أو الخليقة بشكل عام. يشرح اللاهوتي المُصلِح لويس بيركوف (Louis Berkhof) أنه عندما نتحدَّث عن النعمة العامة، فإننا نعني "إما (أ) تلك الأعمال العامة للروح القدس التي بموجبها، دون تجديد القلب، يصنع تأثيرًا أخلاقيًّا في الإنسان من خلال إعلانه العام أو الخاص، لكي تُكبَح الخطية، ويُحفَظ النظام في الحياة الاجتماعيَّة، ويَتعزَّز العدل المدني؛ أو، (ب) تلك البركات العامة، مثل المطر وأشعة الشمس، والطعام والشراب، والملابس والمأوى، التي يمنحها الله لجميع البشر بلا تمييز حين يحسن ذلك في عينيه وبالقدر الذي به يحسن ذلك في عينيه" (علم اللاهوت النظامي، ص 436).
ميَّز اللاهوتيُّون كذلك بين عدَّة أنواع من "النعمة العامة". تشير النعمة العامة العالميَّة إلى النعمة المُمتدة إلى الخليقة بأكملها. وتشير النعمة العامة المُشتركة إلى النعمة التي تظهر للإنسان بشكل عام. وتشير النعمة العامة العهديَّة إلى النعمة التي تظهر لجميع الذين يعيشون داخل جماعة العهد بغض النظر عمَّا إذا كانوا من بين المختارين (انظر بيركوف، 434). يجب أن نلاحظ هنا أن المفهوم المُصلَح للنعمة العامة يختلف اختلافًا كبيرًا عن المفهوم الأرميني. تقول الأرمينيَّة إن جميع البشر نالوا القدرة على ممارسة الإيمان الخلاصي. ويُقال إن هذا يرجع إلى النعمة العامة. لذلك فإن النعمة العامة في اللاهوت الأرميني تكون جزءًا مما يشير إليه اللاهوت المُصلَح على أنه "النعمة الخاصة" أو "النعمة المُخلِّصة".
هناك العديد من الأدلَّة في الكتاب المقدس التي تشير إلى أن الله، في الحقيقة، يقدِّم النعمة، أو الإحسان عن دون استحقاق، لجميع الناس وليس فقط لشعبه. في سفر التكوين الأصحاح 3، على سبيل المثال، نقرأ عن السقوط. نقرأ أيضًا هناك عن الوعد الأول بالفداء (الآية 15). حقيقة أن الله لم يدِّمر الإنسان على الفور هي مثال لإحسانه عن دون استحقاق. يوجد مثال آخر في قصة الطوفان في سفر التكوين الأصحاحات 6-8. بعد الطوفان، وعد الله أنه لن يدمِّر مرة أخرى جميع المخلوقات بسبب خطية الإنسان (انظر تكوين 8: 21-22). يظهر هذا الوعد إحسان عن دون استحقاق لجميع البشر ولجميع الخليقة.
كذلك فنعمة الله العامة واضحة أيضًا في كبح الخطية. نقرأ أن تصوُّر أفكار قلب الإنسان "شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ" (تك 6: 5؛ انظر أيضًا 8 :21). إن رفع الله يده الكابحة وسمح لأفكار قلب الإنسان الشريرة أن تؤتي ثمارها بالكامل، فإن العالم كله سيصبح قريبًا مثل سدوم وعمورة. سيكون جحيمًا على وجه الأرض. كما شرح جون كالفن قائلًا: "فلو أن الرب سمح لكل شخص بأن يطلق شهواته، لكان من المؤكَّد أنه لن يوجد شخص واحد لا تظهر فيه كل الشرور التي بسببها يدين بولس الطبيعة الفاسدة" (أسس الدين المسيحي، الكتاب الثاني، الفصل الثالث، الفقرة 3). ومع ذلك، فقد منح الله مؤسسات مثل الحكومة البشريَّة لكبح الخطية (انظر رومية 13: 1–4).
كما يمنح الله البركات الطبيعيَّة مثل المطر والطعام للبشر جميعًا. يقول بولس هذا بالضبط عندما أخبر أهل لسترة عن الإله الحي قائلًا: "الَّذِي فِي الأَجْيَالِ الْمَاضِيَةِ تَرَكَ جَمِيعَ الأُمَمِ يَسْلُكُونَ فِي طُرُقِهِمْ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ نَفْسَهُ بِلاَ شَاهِدٍ، وَهُوَ يَفْعَلُ خَيْرًا: يُعْطِينَا مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَارًا وَأَزْمِنَةً مُثْمِرَةً، وَيَمْلأُ قُلُوبَنَا طَعَامًا وَسُرُورًا" (أعمال الرسل 14: 16-17). يشير الكتاب المقدس أيضًا إلى أن بعض الأخلاق الحقيقيَّة محفوظة في قلوب البشر الساقطين. يقول بولس، على سبيل المثال، عن الأمم أنهم "يُظْهِرُونَ عَمَلَ النَّامُوسِ مَكْتُوبًا فِي قُلُوبِهِمْ، شَاهِدًا أَيْضًا ضَمِيرُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ فِيمَا بَيْنَهَا مُشْتَكِيَةً أَوْ مُحْتَجَّةً" (رومية. 2: 15).
إن معرفة وجود الله ظاهرة للجميع من خلال الإعلان العام. يقول بولس: "إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ [كل البشر]، لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ [للبشرية جمعاء] أَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةَ وَلاَهُوتَهُ" (رومية 1: 19-20). كما صرخ كاتب المزمور قائلًا: "اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ" (مزمور 19: 1).
على الرغم من حقيقة أن إحسان الله عن دون استحقاق يمتد إلى جميع البشر، لا يجب الخلط بين هذه النعمة العامة والنعمة الخاصة (أي نعمة الخلاص). فنعمة الله العامة تترك الإنسان بلا عذر (رومية 1: 20)، لكن النعمة العامة وحدها ليست مُخلِّصة ولا تقدر أن تخلِّص. إن الخلاص يوجد حصرًا في يسوع المسيح. "لَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ" (أعمال الرسل 4: 12). لكي يخلص الإنسان، يتطلَّب الأمر نعمة الله الخاصة.
على عكس النعمة العامة، التي تمتد إلى جميع البشر، فإن نعمة الله الخاصة هي النعمة عن دون استحقاق التي يقدمها الله لشعبه. بواسطة النعمة العامة، يكبح الله الخطية في العالم. وبواسطة النعمة الخاصة، يتحمَّل المسيح لعنة الخطية وعقابها عن شعبه. في النعمة العامة، يعطي الله الخير لجميع البشر. وفي النعمة الخاصة، يعطي الله بر يسوع المسيح لشعبه. من خلال النعمة العامة، يقدِّم الله الإحسان عن دون استحقاق لجميع البشر لفترة محُدَّدة. ومن خلال النعمة الخاصة، يقدِّم الله الإحسان عن دون استحقاق لشعبه إلى الأبد.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.