مسرة الله في الاختيار
٦ يوليو ۲۰۲۰بيت الله
۲۰ يوليو ۲۰۲۰الإيمان والعقل
قيل إن من يستطيع شرح المفردات، يفوز بالنقاش. يعرف المُتشكِّكون ذلك ويستغلونه لصالحهم. انظر إلى بعض تعريفات "الإيمان" الشهيرة التي قدمها غير المؤمنين. على سبيل المثال، قال مارك توين (Mark Twain) ساخرًا: "الإيمان هو تصديق ما تعرف أنه ليس كذلك". وفى زمننا المعاصر، عرَّف المُؤلِّف الملحد سام هاريس (Sam Harris) الإيمان بأنه "الرخصة التي يمنحها المتديِّنون لأنفسهم للاستمرار في الإيمان حين يفشل المنطق". يدَّعي ريتشارد دوكينز (Richard Dawkins)، والذي يُعد من أشهر الملحدين في جيلنا، أن: "الإيمان هو العُذر الواهي الكبير، والمُبرِّر العظيم للتهرُّب من الحاجة إلى التفكير وتقييم الأدلة. الإيمان هو التصديق بالرغم من نقص الأدلة، بل وربما بسبب نقص الأدلة".
الشيء المشترك بين كل هذه التعريفات هو الفكرة الصريحة أو الضمنيَّة بأن الإيمان يتعارض مع العقل والمنطق. للأسف الشديد، قال بعض المؤمنين في تاريخ الكنيسة أشياءً دعَّمت وجهة النظر هذه عن العلاقة بين الإيمان والعقل. على سبيل المثال، أدلى مارتن لوثر بتصريحات سلبيَّة قوية جدًا حول العقل والمنطق، كثيرًا ما استشهد بها المتشكِّكون في محاولاتهم لإثبات أن المسيحيَّة بطبيعتها غير عقلانيَّة. وصف لوثر العقل بأنه "أعظم عاهرة للشيطان". وقال في عدد من السياقات المختلفة إنه يجب تدمير العقل. إن السياق مهم للغاية، لأنه في هذه الحالات كان لوثر يتحدَّث عن تعسُّف العقل البشري المجرَّد في تمييز الأمور الإلهيَّة. ومع ذلك، استغل المتشكِّكون ميله نحو المبالغة لصالحهم.
إلا أن الغالبيَّة العُظمى من المسيحيِّين عبر التاريخ لم يرفضوا الاستخدام الصحيح للعقل. ينبع ذلك من محاولتهم أن يكونوا أمناء تجاه تعليم الكتاب المقدس، والذي يقدِّم أسبابًا للإيمان. كتب يوحنا إنجيله بالكامل ليقدِّم أسبابًا لنؤمن بأن يسوع هو المسيح (يوحنا 20: 30-31). احتكم كل من يوحنا، وبطرس، وبولس إلى الأدلة التي تثبت التصريحات التي قدَّموها (1 كورنثوس 15: 5-6؛ 2 بطرس 1: 16؛ 1 يوحنا 1: 1-4). يؤمن جميع البشر بأشياء معينة بناءً على شهادة الآخرين. كذلك يؤمن المسيحيُّون بما يؤمنون به بناءً على شهادة الرسل. مثل هذا الإيمان هو عطية، لكنه لا ينفصل عن العقل والمنطق.
إذا أردنا أن نفهم بشكل أفضل العلاقة بين الإيمان والعقل، يجب أن يكون لدينا فهم أوضح لهاتين الكلمتين. يستخدم المفكِّرون المسيحيِّون كلمة الإيمان بعدة طرق مختلفة. يمكن أن تشير الكلمة إلى المعتقدات التي يشترك فيها المسيحيُّون ("الإيمان المسيحي"). كما يمكن أن تشير كلمة الإيمان إلى تجاوبنا مع الله ووعود الإنجيل. هذا ما تعنيه إقرارات الإيمان المُصلَحة عندما تتحدَّث عن "الإيمان الخلاصي" (على سبيل المثال إقرار إيمان وستمنستر الفصل 14). ينطوي هذا الإيمان على المعرفة، والموافقة، والثقة. أخيرًا، تحدَّث العديد من الفلاسفة واللاهوتيِّين عن الإيمان كمصدر للمعرفة. كما شرح كالب ميللر (Caleb Miller) قائلًا: "إن حقائق الإيمان هي تلك التي يمكن أن نعرفها أو يكون الإيمان بها مبررًا بسبب الإعلان الإلهي، ويتم تبريرها على أساس أن الله قد أعلنها".
أيضًا استُخدمت كلمة العقل بطرق مختلفة. فيمكن أن تشير إلى قدراتنا البشريَّة الإدراكيَّة. بهذا المعنى، تتضمَّن علاقة الإيمان بالعقل طرح السؤال حول عمَّا إذا كانت المعتقدات المسيحيَّة منطقيَّة. بعبارة أخرى، هل استخدمنا قدراتنا البشريَّة الإدراكيَّة بشكل صحيح لتقييم هذه المعتقدات؟ يمكننا أيضًا استخدام العقل للإشارة إلى مصدر المعرفة. على النقيض من "حقائق الإيمان" المعروفة بالإعلان الإلهي، فإن "حقائق العقل" بهذا المفهوم هي حقائق معروفة من خلال القدرات الطبيعيَّة مثل الإدراك الحسي والذاكرة. لا يحدث صراع بين المعرفة المُستمدة من القدرات البشريَّة الطبيعيَّة والمعرفة المُستمدة من الإعلان الإلهي إلا إذا ظهر تناقض واضح. وأخيرًا، بالمعنى الضيق، يمكن استخدام العقل للإشارة إلى التفكير المنطقي. وهنا لا ينبغي للمؤمنين أن يظنوا أبدًا أنه يوجد صراع لأن هذه القدرة هي جزء مما نحن عليه كبشر مخلوقين على صورة الله.
نشأت معظم المناقشات المعاصرة حول الصراع المُفترض بين الإيمان والعقل في إطار المناقشات حول العلم والدين. ويتعذَّر طرح هذه المشكلة ومناقشتها بالكامل لضيق المساحة، ولكن يجب طرح بعض النقاط العامة لمساعدتنا على فهم كيفيَّة التفكير في أي صراعات مزعومة قد تنشأ. في المقام الأول، يجب أن نعترف مع أوغسطينوس، وجون كالفن، وآخرين كثيرين بأن كل الحق هو حق إلهي. فكل ما هو حق هو حق لأن الله أعلنه، أو خلقه، أو قضى به.
أعلنه: كل ما يعلنه الله، سواء من خلال الإعلان العام في خليقته أو من خلال الإعلان الخاص في الكتاب المقدس، هو بالضرورة حق. فمن المستحيل على الله أن يكذب.
خلقه: عندما نتعلَّم شيئًا عن الخليقة يتوافق مع ما صنعه الله بالفعل، نكون قد تعلَّمنا شيئًا حقيقيًّا. فالله هو مصدر هذه الحقائق بحكم كونه في الحقيقة هو الخالق.
قضى به: الله هو مَن قضى بكل ما يحدث. عندما نتعلَّم شيئًا عن التاريخ يتوافق مع ما حدث بالفعل، نكون قد تعلَّمنا شيئًا حقيقيًّا إلى الحد الذي فيه تتوافق معرفتنا مع ما حدث بالفعل، وما حدث بالفعل حدث فقط، في الأساس، لأن الله قضى به.
النقطة الرئيسيَّة الثانية التي يجب طرحها هي: إذا كان مصدر كل الحق هو الله وإذا كان كل الحق مُوَّحد، فإن الشيء الوحيد الذي نعرفه على وجه اليقين هو أنه إذا كان هناك تناقض بين تفسير الكتاب المقدس وتفسير ما خلقه الله، إذن أحد هذين التفسيرين أو كليهما غير صحيح. فلا يمكن أن يكون كلاهما صحيحًا. يجب أن يدرك المؤمنون أن الصراع قد ينشأ بسبب سوء تفسير الخليقة، أو سوء تفسير الكتاب المقدس، أو سوء تفسير كليهما. هذا يعني أننا بحاجة إلى إجراء فحص شامل ودقيق لكل من النظريَّات العلميَّة والتفسير الكتابي لاكتشاف مصدر الصراع. يجب أن نتأكَّد من أننا نتعامل مع التعليم الفعلي للكتاب المقدس وليس مع التفسير الخاطئ للكتاب المقدس. ويجب علينا أن نفحص الأدلَّة على النظريَّات العلميَّة المعنية لاكتشاف ما إذا كنَّا نتعامل مع شيء حقيقي عن خليقة الله أو مجرد تكهُّنات. يستغرق كل هذا العمل الشاق وقتًا، وهذا يعني أننا لا نقفز إلى استنتاجات متسرِّعة.
لقد خلقنا الله على صورته كمخلوقات عاقلة. وتشوَّهت قدراتنا البشريَّة الإدراكيَّة بفعل السقوط، لكنها لم تُدمَّر، ويمكن حتى لغير المؤمنين استخدام هذه القدرات لاكتشاف حقائق عن الأمور الأرضيَّة، وليس عن الأمور السماويَّة، التي هم عميان تمامًا عنها (كالفن، أسس الدين المسيحي، الجزء 2، الفصل 2، 12-21). نحن لا نفهم الله بشكلٍ كاملٍ، ولكن هذا لأننا محدودون والله غير محدود. إن الإيمان والعقل، حين نفهمهم بشكلٍ صحيح، ليسوا في أي صراع حقيقي، ولا يمكن أن يكونوا كذلك.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.