ما معنى البدليّة والاستيفاء؟
۹ فبراير ۲۰۲۳اللاهوت يقود إلى التسبيح
۱٦ فبراير ۲۰۲۳كليّ الوجود
المبدأ القائل إنَّ الله كليّ الوجود هو أمر أساسيّ في طريقة اختبارنا لله، فهو الطريقة التي نفسّر بها أنَّ الله كائن سرمديّ. السرمديّ هو من لا حدود له، وبحسب منظورنا، مَن لا حدود له هو كليّ الوجود. نحن محدودون بالمكان والزمان، لكن ضمن أطر هذه الحدود، بإمكاننا اختبار حضور الله معنا. كما أنَّ ظروفنا تتغيّر لكنَّنا نشعر أنَّه دائمًا على مقربة منَّا. هذا ما نتعلّمه في مزمور 139: 7 – 10 وإرميا 23: 23- 24 ورومية 8: 38- 39. لا شيء ممّا في السماء وعلى الأرض يقدر أنْ يفصلنا عن محبّة الله، وحيث تكون محبّته موجودة يكون هو هناك أيضًا. نحن نختبر مدى أهمّيَّة ذلك في مسيرنا اليوميّ مع الله. لأنَّه إنْ لم يكن الله موجودًا ومتاحًا عندما نحتاج إليه، فإنَّ وعوده بإعطائنا الخلاص والدّفاع عنا ستكون مجرّد كلام فارغ وسيكون هناك خلل في علاقتنا معه. إذ كيف يمكننا أن نعتمد عليه إن كنَّا لسنا نعلم أين هو؟ صحيح أنَّ بعض المسيحيّين يتساءلون أين يكون الله في وسط الألم وكثيرون قد تكلّموا عن "ليالي الظلام الحالك" التي تمرّ بها النفس حين تشعر أنَّ الله بعيدٌ جدًّا وقد نسينا. هذا اختبار روحيّ صادق ولا ينبغي أن ننكره أو نخفّف من أهميَّته.
غير أنَّ الكتاب المقدّس يخبرنا بأنَّنا حين نشعر بابتعاد الله عنَّا، فإنَّ المشكلة تكون فينا وليست فيه. قد نكون قاومناه ورفضناه، وربما يكون قد توقّف عن التكلُّم إلينا لأسباب هو وحده يعرفها. نحن نحيا بالإيمان لا بالعيان، وفي بعض الأحيان يتمّ امتحان ايماننا إلى أقصى الحدود. لكنّ ذلك لا يعني أنَّ الله غير موجود في قلبنا وفي وسطنا. قد يكون الله يعمل في أعماق حياتنا من دون أنْ ندرك فعلًا ذلك. هو يشكِّلنا ويقودنا في جوانب من شخصنا تتخطّى فهمنا، وأحيانًا، نحتاج وقتًا لندركَ أنَّه كان يعمل فينا رغمًا عنّا. حتّى يسوع شعر بأنَّه متروك على الصليب (متى 27: 46؛ مرقس 15: 34)، لكنَّنا نعلم أنَّ أباه السّماوي كان هناك معه وأنَّ يسوع في نهاية آلامه سلَّم نفسه لعناية الآب المحبّ (لوقا 23: 46) وما نشهده في حضور الله مع المسيح يصحُّ أيضًا في حضور الله معنا حتّى إن كنّا لا ندرك ذلك في الوقت نفسه.
بشكل عمليّ، ما معنى أنَّ الله كليّ الوجود؟ يعتقد البعض أنَّ الله موجود في كلّ شيء وأنَّ كلّ شيء جزءٌ منه بشكل ما. هذا ما يسمّى بالواحديَّة التي تزعم أنّ الكلّ هو الله، أو أيضًا ما يختلف قليلًا ويسمّى بالحلوليَّة، وهي الاعتقاد بأنَّ الله حالّ في كلّ شيء بدون أنْ تكون الأشياء امتدادًا لله نفسه. لدى البعض اعتقاد آخر، مشابه لما سبق، بأنَّ الله كالهواء أو كنوع من الغاز، يعمُّ العالم أجمع ويمكن الشعور بحضوره؛ وإنْ كان غير ممكنٍ تفسيره أو إدراكه بحواسنا.
المشكلة الرئيسيّة في مقاربات من هذا النوع هي أنَّها لا تُظهر فهمًا أو تمييزًا بين شخص الله وطبيعة خليقة الله. فإنَّ الله لم يصنع العالم امتدادًا لنفسه كما أنَّ الله ليس في الأشياء. الخالق مختلف تمامًا عن أيّ شيء خلقه، وطبيعته ليست كطبيعة خليقته. وحتّى الكائنات السماويَّة (الملائكة والشياطين) التي تقترب بالشَبه إلى الله أكثر من العالم المادّيّ هي كائنات محدودة، وبذلك هي أيضًا مختلفة جدًّا عنه. نحن كبشرٍ نتمتّع بعلاقة مع الله ليس لمجرَّد كوننا خليقته، بل لأنّنا خُلقنا على صورته ومثاله (التكوين 1: 26-27) وهذا ما يميّزنا عن باقي الكون المخلوق. نحن نستخدم مبادئ محدودة للكلام عن الله لأنَّ عقولنا محدودة، لكنّنا نعلم أنَّنا عند فعل ذلك نستخدم تشبيهًا. وضمن محدوديّة إطارنا الفكريّ بإمكاننا القول إنَّ الله يشبه كذا وكذا، لكن في التقييم النهائيّ، إنَّ الله مختلف جدًّا وأعظم جدًّا من أيّ شيء قد نتخيّله.
ما قد يُشكل عائقًا هو وجود تأكيدات عديدة في الكتاب المقدّس، بشكل خاصّ في العهد القديم، على أنَّ الله قد وضع اسمه في مكان معيَّن، ما يعني أنَّه موجود هناك بدرجة أكبر من أيّ مكان آخر. نحن لا نجد هذا الفكر فقط في أسفار الشريعة (خروج 20: 24؛ تثنية 12: 5) بل أيضًا في الأسفار التاريخيَّة (2 أخبار الأيام 6: 6) وفي أسفار الأنبياء (حبقوق 2: 20)، إذ غالبًا ما يُشار إلى أورشليم على أنَّها المدينة التي وضع فيها الله اسمَه، والهيكل بشكل خاصّ. فإنَّ حبقوق مثلًا يذكر بوضوح أنَّ الله في هيكل قدسه، وأنَّ على كلّ الأرض أن تسكتَ قدَّامه.
كيف بإمكاننا فهم هذا الأمر؟ يذكّرنا إشعياء 66: 1 بأنَّ الهيكل لا يمكنه أن يسع الله، فإذا اعتبرنا الأمر من هذا المنطلق، نرى وكأنَّ كلامه يتعارض مع حبقوق. لكن هنالك تفسير حتمًا وهو أنَّ الله قد صمَّم بعض الأماكن، كالهيكل خصّيصًا، لتكون أماكن يحلّ فيها حضوره المبارك بشكل مميّز، حيث كان ينبغي لشعبه أن يعبده وحيث كان يستجيب لهم. هذا ليس لأنَّ الله غير موجود أيضًا في الأماكن الأخرى، بل لأنَّه ينبغي أن يتعيَّن مكانٌ للشعب ليجتمعوا ويقدّموا عبادة مركّزة. وما زال هذا الأمر صحيحًا اليوم. فنحن نجتمع في الكنيسة ليس لأنَّ الله حاضر هناك وغائب من الأماكن الأخرى، بل لأنّنا بحاجة إلى مكان معروف من الجميع أنَّه مخصّص لعبادة الله. إنّنا نفعل ذلك لأجل منفعتنا ولكي نكون شهادة لمن حولنا، وليس لأنَّ الله موجود في مكان واحد وغير موجود في الأماكن الأخرى.
إنَّ الكلمات التي نستخدمها تُظهر القدرات الفكريَّة المحدودة التي تعمل بها أذهاننا وليس حقيقة شخص الله. هو يبدو بالنسبة إلينا كليّ الوجود في أبعاد المكان والزمان لأنَّه إله سرمديّ بشخصه المُتسامي الذي لا بداية له ولا نهاية. إنَّ وجود الله الكليّ (كما نراه من منظورنا) هو أسلوب وصف خارجيّ وعمليّ لحقيقة الله السرمديَّة، وهو تعبير مصمَّمٌ ليفهمه الفكر البشريّ بدون التقليل من عظمة شخص الله غير المحدود.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.