المحاضرةُ 8: عُبُودِيَّةُ الإِرَادَةِ
مِنْ أَعْجَبِ النِزَاعَاتِ عَلَى الْإِطْلَاقِ الَتِي نَشَأَتْ فِي السَاحَةِ اللَاهُوتِيَّةِ بَيْنَ اللَاهُوتِيِّينَ، هُوَ النِزَاعُ الذِي نَشَأَ فِي الْقَرْنِ السَادِسَ عَشَرَ، بَيْنَ الْعَالِمِ الْإِنْسَانَوِيِّ الْكَاثُولِيكِيِّ الْأَبْرَزِ عَلَى الْأَرْجَحِ فِي تِلْكَ الْحِقْبَةِ، وَبَيْنَ مَارْتِنْ لُوثَرْ. وَهُوَ دِيسِيدِيرْيُوسْ إِيرَازْمُوسْ الرُوتِرْدَامِيُّ (Desiderius Erasmus of Rotterdam)، الرَجُلُ الَذِي أَعَادَ جَمْعَ النَصِّ الْمُسْتَلَمِ لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَاشْتَهَرَ حَوْلَ الْعَالَمِ بِعِلْمِهِ وَفِطْنَتِهِ الشَدِيدَيْنِ. وَهُوَ فِي الْمَرَاحِلِ الْأُولَى مِنَ الْإِصْلَاحِ، كَانَ مُؤَيِّدًا لِلُوثَر، وَأَلَّفَ كِتَابَ "ذُو بْرَايْزْ أُوفْ فُولِي" (The Praise of Folly)، الَذِي كَانَ هُجُومًا لَاذِعًا عَلَى فَسَادِ رِجَالِ الدِينِ دَاخِلَ الْكَنِيسَةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ. لَكِنْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقَضَايَا الْأَسَاسِيَّةِ لِفِكْرِ الْإِصْلَاحِ، اخْتَلَفَ إِيرَازْمُوسْ مَعَ لُوثَرَ، وَظَلَّ وَفِيًّا لِلْكَنِيسَةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي انْتِقَادِ تَعَالِيمِ مَارْتِنْ لُوثَرْ.
انْدَلَعَ الْجَدَلُ فِي عَامِ 1524، عِنْدَمَا نَشَرَ إِيرَازْمُوسْ كِتَابَهُ بِعُنْوَانِ "حُرِّيَّةُ الْإِرَادَةِ" (The Diatribe Concerning Free Will)، الَذِي تَضَمَّنَ نَقْدًا شَامِلًا لِلَاهُوتِ لُوثَرَ وَالْمُصْلِحِينَ. وَفِي الْعَامِ التَالِي، عَامَ 1525، رَدَّ لُوثَرْ عَلَى كِتَابِ إِيرَازْمُوسْ بِكِتَابِهِ الشَهِيرِ "دِي سِيرْفُو أَرْبِيتْرِيُو" (De Servo Arbitrio)، وَمَعْنَاهُ "عُبُودِيَّةُ الْإِرَادَةِ".
مِنْ بَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ كِتَابًا وَصَلُوا إِلَيْنَا بِقَلَمِ مَارْتِنْ لُوثَرْ، اعْتَبَرَ لُوثَرْ نَفْسُهُ أَنَّ أَهَمَّ مُؤَلَّفَاتِهِ هُوَ كِتَابُ "عُبُودِيَّةُ الْإِرَادَةِ"، الَذِي يَحْوِي رَدَّهُ عَلَى إِيرَازْمُوسْ. وَأَعْتَقِدُ أَنَّ مُعْظَمَ مُؤَرِّخِي الْكَنِيسَةِ وَاللَاهُوتِيِّينَ أَيَّدُوا تَقْيِيمَ لُوثَرْ لِهَذَا الْكِتَابِ بِأَنَّهُ أَهَمُّ مُؤَلَّفَاتِهِ. أُوصِي بِقِرَاءَةِ كِتَابِ "عُبُودِيَّةُ الْإِرَادَةِ"، لِأَنَّهُ يَظَلُّ مِنَ الْكْلَاسِيكِيَّاتِ الْمَسِيحِيَّةِ، وَلِأَنَّهُ يُمَثِّلُ أَهَمِّيَّةً حَيَوِيَّةً لِهَذَا الْجَدَلِ بِرُمَّتِهِ الْمُتَعَلِّقِ بِحُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ، وَعَلَاقَتِهَا بِكُلٍّ مِنْ عَقِيدَةِ الِاخْتِيَارِ وَعَقِيدَةِ الْخَطِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ.
نَعْلَمُ، مَثَلًا، أَنَّ شِعَارَ الْإِصْلَاحِ، وَالْقَضِيَّةَ الْأَسَاسِيَّةَ الَتِي كَانَتْ مَثَارَ جَدَلٍ فِي الْقَرْنِ السَادِسَ عَشَرَ، تَتَعَلَّقُ بِمَفْهُومِ "سُولَا فِيدِي"، وَهُوَ الشِعَارُ الَذِي مَعْنَاهُ "الْإِيمَانُ وَحْدَهُ"، وَالَذِي يُلَخِّصُ عَقِيدَةَ لَوثَرَ عَنِ التَبْرِيرِ بِالْإِيمَانِ وَحْدَهُ. لَكِنَّ لُوثَرَ اعْتَبَرَ أَنَّ عَقِيدَةَ التَبْرِيرِ هِيَ، مِنْ نَاحِيَةٍ مَا، الْجُزْءُ الظَاهِرُ مِنْ هَذَا الْجَدَلِ، وَأَنَّ هُنَاكَ مَسْأَلَةً لَاهُوتِيَّةً أَخْطَرَ مُسْتَتِرَةً تَحْتَ السَطْحِ، لَكِنَّهَا لَعِبَتْ بِالتَأْكِيدِ دَوْرًا حَيَوِيًّا فِي الْجَدَلِ الَذِي قَسَمَ الْعَالَمَ الْمَسِيحِيَّ فِي الْقَرْنِ السَادِسَ عَشَرَ، وَهِيَ عَقِيدَةُ "سُولا جْرَاتْيَا" (النِعْمَةُ وَحْدَهَا).
بِحَسْبِ لُوثَرْ، يَنْبُعُ "سُولَا فِيدِي" مِنْ "سُولَا جْرَاتْيَا"، وَيَعْتَمِدُ عَلَى "سُولَا جْرَاتْيَا"، وَيَسْتَمِدُّ قُوَّتَهُ مِنْ "سُولَا جْرَاتْيَا". وَفِي كِتَابِ لُوثَرْ عَنْ عُبُودِيَّةِ الْإِرَادَةِ، وَفِي سِيَاقِ حَدِيثِهِ عَنْ عَقِيدَةِ الِاخْتِيَارِ أَوِ التَعْيِينِ الْمُسْبَقِ، تِلْكَ الْعَقِيدَةِ الْمُثِيرَةِ لِجَدَلٍ كَبِيرٍ، أَدْلَى بِتَعْلِيقٍ مُفَادُهُ أَنَّ الِاخْتِيَارَ، فِي رَأْيِهِ، هُوَ "كُورْ إِيكْلِيزْيَا"، أَوْ قَلْبُ الْكَنِيسَةِ.
مَرَّةً أُخْرَى، يَجِبُ أَنْ تَتَذَكَّرُوا أَنَّ لُوثَرْ كَانَ رَاهِبًا أُوغُسْطِينِيًّا، وَكَانَ مُرْشِدُهُ الرُوحِيُّ الْأَسَاسِيُّ هُوَ أُوغُسْطِينُوسْ. وَأُوغُسْطِينُوسْ شَدَّدَ بِقُوَّةٍ قَبْلَ هَذَا بِقُرُونٍ عَلَى مَفْهُومِ "سُولَا جْرَاتْيَا"، أَيْ إِنَّنَا نَخْلُصُ بِالنِعْمَةِ وَحْدَهَا. وَلِهَذَا، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَبْرِيرُ بِالْإِيمَانِ وَحْدَهُ، مِثْلَمَا أَعْلَنَ بُولُسُ، حِينَ قَالَ فِي رِسَالَةِ أَفَسُسَ إِنَّنَا تَبَرَّرْنَا بِالنِعْمَةِ بِالْإِيمَانِ.
إِذَنْ، حَاوَلَ لُوثَرُ الْغَوْصَ تَحْتَ سَطْحِ مَسْأَلَةِ التَبْرِيرِ الْأَسَاسِيَّةِ، لِلْوُصُولِ إِلَى أُسُسِهَا الْكَامِنَةِ فِي عَقِيدَةِ النِعْمَةِ الْكِلَاسِيكِيَّةِ، وَهَذَا يَتَطَرَّقُ فِي الْحَالِ بِالتَأْكِيدِ إِلَى الْمَسْأَلَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَدَى سُقُوطِنَا وَقُوَّةِ إِرَادَتِنَا الْبَشَرِيَّةِ.
وَفِي كِتَابِ إِيرَازْمُوسْ، قَالَ إِنَّ مَسْأَلَةَ حُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ فِي هَذَا الْجَدَلِ بِرُمَّتِهِ لَيْسَتْ مُهِمَّةً إِلَى هَذَا الْحَدِّ. فَهِيَ مَسْأَلَةٌ أَكَادِيمِيَّةٌ، وَتِقْنِيَّةٌ، مِنَ الْأَفْضَلِ تَرْكُهَا لِلْعُلَمَاءِ، وَأَلَّا يَنْشَغِلَ النَاسُ بِهَا إِلَى هَذَا الْحَدِّ.
نَتَذَكَّرُ أَنَّهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ أَيْضًا، حِينَ تَدْرُسُونَ مَوْقِفَ إِيرَازْمُوسْ، سَتَرَوْنَ مَدَى غُمُوضِهِ، وَفِي رَأْيِي الصَرِيحِ، مَدَى تَخَبُّطِهِ. فَقَدْ تَأَرْجَحَ بَيْنَ أَفْكَارٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنِ الْحُرِّيَّةِ وَالنِعْمَةِ. لَكِنَّهُ قَالَ أَيْضًا إِنَّهُ فِي مَسَائِلَ مُعَيَّنَةٍ كَهَذِهِ، هُوَ يُفَضِّلُ كَأَكَادِيمِيٍّ تَأْجِيلَ إِصْدَارِ حُكْمِهِ، وَعَدَمَ تَأْيِيدِ هَذَا الرَأْيِ أَوْ ذَاكَ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ التَصَرُّفُ الْمُتَعَقِّلُ فِي الْمَسَائِلِ مِنْ هَذَا النَوْعِ. فَرَدَّ لُوثَرُ، بِأُسْلُوبِهِ الْمَعْهُودِ، قَائِلًا: "كَفَانَا مِنَ الشُكُوكِيِّينَ! كَفَانَا مِنَ الْأَكَادِيمِيِّينَ! سِبِيرِيتُوسْ سَانْكِتُوسْ نُونْ إِيسْ سِكِيبْتِيتُوسْ" (Spiritus Sanctus non es sceptitus). فَالرُوحُ الْقُدُسُ لَيْسَ شُكُوكِيًّا، وَالْحَقَائِقُ الَتِي أَعْلَنَهَا أَثْمَنُ لَنَا مِنَ الْحَيَاةِ نَفْسِهَا.
وَفِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَهَمِّيَّةِ مَسْأَلَةِ دَرَجَةِ الْقُوَّةِ الَتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا الإِنْسَانُ السَاقِطُ أَوْ يَفْتَقِرُ إِلَيْهَا، أَدْلَى لُوثَرُ بِتَعْلِيقٍ، رَدًّا عَلَى إِيرَازْمُوسْ. قَالَ إِيرَازْمُوس إِنَّ عَقِيدَةَ حُرِّيَّةِ الإِرَادَةِ هِيَ "وَاحِدةٌ مِنْ تِلْكَ الْعَقَائِدِ عَدِيمَةِ الْجَدْوَى الَتِي يُمْكِنُ الاسْتِغْنَاءُ عَنْهَا". فَقَالَ لُوثَرُ: "هَلْ مِنَ التَفَاهَةِ، أَوْ عَدَمِ التَدَيُّنِ أَوْ عَدَمِ الْجَدْوَى، أَنْ نَرْغَبَ فِي مَعْرِفَةِ مَا إِذَا كَانَ لإِرَادَتِنَا أَيُّ تَأْثِيرٍ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بالْخَلاصِ الأَبَدِيِّ، أَمْ إِنَّها سَلْبِيَّةٌ تَمَامًا أَمَامَ عَمَلِ النِعْمَةِ؟ حَسَنًا، أَنْتَ الآنَ تَقُولُ الْعَكْسَ، بِقَوْلِكَ إِنَّ التَقْوَى الْمَسِيحِيَّةَ تَتَمَثَّلُ فِي جِهَادِنَا بِكُلِّ قُوَّتِنَا، وَكَذَلِكَ إِنَّهُ دُونَ رَحْمَةِ اللهِ، تَكُونُ إِرَادَتُنَا غَيْرَ فَعَّالَةٍ. فَإِنَّكَ تُؤَكِّدُ بِوُضُوحٍ أَنَّ الإِرَادَةَ نَشِطَةٌ بِشَكْلٍ مَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَلَاصِ –أَوْ تَصِفُهَا بِأَنَّهَا تُجَاهِدُ- ثُمَّ تَصِفُهَا بِأَنَّهَا مَوْضُوعُ الْعَمَلِ الإِلَهِيِّ، بِقَوْلِكَ إِنَّهَا غَيْرُ فَعَّالَةٍ دُونَ رَحْمَةِ اللهِ. لَكِنَّكَ لَمْ تُبَيِّنِ الْحُدُودَ الَتِي يَجِبُ أَنْ نُفَكِّرَ ضِمْنَهَا بَيْنَ كَوْنِ الإِرَادَةِ تَعْمَلُ أَوْ يُعْمَلُ عَلَيْهَا. فَقَدْ بَذَلْتَ جَهْدًا كَبِيرًا كَيْ تُوَلِّدَ جَهْلًا بِتَأْثِيرِ رَحْمَةِ اللهِ وَإِرَادَةِ الإِنْسَانِ، بِتَعْلِيمِكَ عَنْ دَوْرِ إِرَادَةِ الإِنْسَانِ وَرَحْمَةِ اللهِ".
هَذَا مَا قَصَدَهُ لُوثَرُ: إِنَّ مَسْأَلَةَ الدَوْرِ الَذِي يَلْعَبُهُ اللهُ فِي خَلاصِي، وَالدَوْرِ الَذِي أَلْعَبُهُ أَنَا فِي خَلاصِي، وَثِيقَةُ الصِلَةِ بِتَوَجُّهِنَا الرُوحِيِّ مِنْ نَحْوِ اللهِ، وَوَثِيقَةُ الصِلَةِ بِفَهْمِنَا لِنِعْمَةِ اللهِ، وَبِتَقْدِيرِنَا لِنِعْمَةِ اللهِ، وَبِعِبَادَتِنَا للهِ، وَاتِّكَالِنَا عَلَيْهِ. فَهُنَاكَ أَهَمِّيَّةٌ كَبِيرَةٌ، وَفْقًا لِلُوثَرَ، لِرَأْيِنَا بِشَأْنِ خَلاصِنَا، إِنْ كَانَ فِي النِهَايَةِ هُوَ عَمَلَ اللهِ، أَمْ أَنَّهُ أَمْرٌ نُحَقِّقُهُ بِجَهْدِنَا، وَجِهَادِنَا، وَاسْتِحْقَاقِنَا.
نَرَى هُنَا شِعَارًا آخَرَ مِنْ شِعَارَاتِ الإِصْلاحِ مُخْتَفِيًا وَرَاءَ الْكَوَالِيسِ، وَهُوَ التَعْبِيرُ –لَنْ أُضَيِّعَ وَقْتًا فِي كِتَابَتِهِ– "سُولِي دِيو جْلُورِيَا" - "للهِ وَحْدَهُ الْمَجْدُ". هَلْ يَجُوزُ أَنْ أنتقص مِنَ الْمَجْدِ الَذِي يَنْتَمِي إِلَى اللهِ لأَجْلِ فِدَائِي، مُغْتَصِبًا لِنَفْسِي بَعْضَ المَدْحِ وَالْمَجْدِ؟ أَمْ إِنَّ التَوَجُّهَ الرُوحِيَّ السَلِيمَ لِلْقَلْبِ الْمَسِيحِيِّ التَقِيِّ أَنْ يَفْهَمَ أَنَّ الْخَلاصَ هُوَ مِنَ الرَبِّ، وَأَنَّنَا أُنْقِذْنَا وَنَحْنُ عَبِيدٌ عَاجِزُونَ عَنْ تَحْرِيرِ أَنْفُسِهِمْ، أَوْ مَدِينُونَ عَاجِزُونَ عَنْ تَسْدِيدِ دُيُونِهِمْ، مِمَّا يَدْفَعُنَا إِلَى مَدْحِ نِعْمَةِ اللهِ طَوَالَ حَيَاتِنَا؟ قَالَ لُوثَرُ: "هَذِهِ مَسْأَلَةٌ بَالِغَةُ الأَهَمِّيَّةِ لِسَلامَةِ حَيَاةِ الْمُؤْمِنِ، وَبِالتَالِي، لَيْسَتْ مَسْأَلَةً تُتْرَكُ لِلأَكَادِيمِيِّينَ أَوِ الْعُلَمَاءِ وَحْدَهُمْ".
أُكَرِّرُ، كَانَ إِيرَازْمُوسُ قَلِقًا حِيَالَ بَعْضِ الْعَوَاقِبِ الْعَمَلِيَّةِ الَتِي قَدْ تَتَرَتَّبُ عَلَى التَعْلِيمِ الإِصْلاحِيِّ عَنِ الْعَجْزِ الأَخْلاقِيِّ لِلإِنْسَانِ وَسِيَادَةِ النِعْمَةِ الإِلَهِيَّةِ. وَقَالَ: "أَيُّ شَيْءٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَدِيمَ الْجَدْوَى أَكْثَرَ مِنَ التَرْوِيجِ لِتِلْكَ المُفَارَقَةِ الَتِي تَقُولُ إِنَّ كُلَّ مَا يُعْمَلُ لا يُعْمَلُ بِحُرِّيَّةِ إِرَادَتِنَا، بَلْ بِمُوجَبِ الضَرُورَةِ. أَمَّا رَأْيُ أُوغُسْطِينُوسْ عَنْ كَوْنِ اللهِ يَعْمَلُ فِينَا الْخَيْرَ وَالشَرَّ، وَيُكَافِئُ أَعْمَالَهُ الصَالِحَةَ فِينَا، وَيُعَاقِبُ أَعْمَالَهُ الشِرِّيرَةَ فِينَا"، قَالَ إِيرَازْمُوسْ، "فَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَفْتَحَ فَيَضَانًا مِنَ الإِثْمِ، وَأَنْ يَنْشُرَ هَذِهِ الأَفْكَارَ عَلَانِيَةً بَيْنَ النَاسِ". ثُمَّ طَرَحَ هَذَا السُؤَالَ الْعَمَلِيَّ: "إِذَا عَلَّمْنَا عَقِيدَةَ الاخْتِيَارِ، فَأَيُّ إِنْسَانٍ شِرِّيرٍ سَيُصْلِحُ حَيَاتَهُ؟ وَمَنْ سَيُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ؟ وَمَنْ سَيُصَارِعُ ضِدَّ جَسَدِهِ؟"
إِذَا كُنْتُمْ تَذْكُرُونَ، حِينَ تَحَدَّثْنَا عَنِ النِظَامِ الَذِي يُسَمَّى شِبْهَ البِيلاجِيَّةِ، وَنَظَرْنَا إِلَى كِتَابَاتِ كَاسْيَان، أَوْ كَاسْيَانُوسْ، رَأَيْنَا كَاسْيَانُوسْ يَتَفَاعَلُ ضِدَّ تَعْلِيمِ أُوغُسْطِينُوسْ عَنِ الطَبِيعَةِ وَالنِعْمَةِ، وَيُبْدِي هَذِهِ الاعْتِرَاضَاتِ نَفْسِهَا عَلَى أُوغُسْطِينُوسْ، قَائِلًا إِنَّهُ إِنْ نَادَيْنَا بِعَقِيدَةِ الاخْتِيَارِ، وَبِالْعَجْزِ الأَخْلَاقِيِّ لِلإِنْسَانِ، تَكُونُ هَذِهِ نِهَايَةَ الْكِرَازَةِ، وَنِهَايَةَ التَبْشِيرِ، وَنِهَايَةَ سَعْيِ أَيِّ إِنْسَانٍ إِلَى الإِصْلاحِ مِنْ نَفْسِهِ.
كَيْفَ كَانَ رَدُّ لُوثَرَ؟ اسْمَعُوا رَدَّهُ. صَاغَ لُوثَرْ رَدَّهُ قَائِلًا: "أَنْتَ تَقُولُ يَا إِيرَازْمُوس: "مَنْ سَيُحَاوِلُ الإِصْلاحَ مِنْ نَفْسِهِ؟" وَكَانَ رَدُّ لُوثَرْ: "لا أَحَدَ". وَسَأَلَ إِيرَازْمُوسْ: "وَمَنْ سَيُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ يُحِبُّهُ؟" أَجَابَ لُوثَرْ: "لا أَحَدَ، فَلا أَحَدَ يَسْتَطِيعُ. لَكِنَّ الْمُخْتَارِينَ سَيُؤْمِنُونَ بِهَذَا، أَمَّا الْبَاقُونَ، فَسَيَهْلِكُونَ دُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا، سَاخِطِينَ وَمُجَدِّفِينَ". قَالَ إِيرَازْمُوسْ إِنَّ فَيَضَانًا مِنَ الإِثْمِ سَيَنْفَتِحُ بِسَبَبِ تَعَالِيمِنَا، فَرَدَّ لُوثَرْ: "فَلْيَكُنْ!"
كَانَ لُوثَرْ مُسْتَعِدًّا لِلْوُصُولِ بِالْحُجَّةِ إِلَى النِهَايَةِ، فَقَالَ: "انْتَبِهْ! مَا عَلَى الْمِحَكِّ هُنَا هُوَ طَبِيعَةُ اللهِ، وَإِنْ كَانَ تَعْلِيمُنَا لِمَا يُعَلِّمُهُ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ بِشَأْنِ اعْتِمَادِنَا التَامِّ فِي فِدَائِنَا عَلَى نِعْمَةِ اللهِ سَيَمْنَعُ النَاسَ مِنْ بَذْلِ الْجُهْدِ لِلْمَجِيءِ إِلَى اللهِ فِي مَوْتِهِمِ الرُوحِي؛ وَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ فَيَضَانُ الإِثْمِ الَذِي سَيَنْفَتِحُ، فَلْيَنْفَتِحْ. فَمَا لُبُّ الأَمْرِ مِنَ الأَسَاسِ؟ مَنْ سَيُحَاوِلُ الإِصْلاحَ مِنْ نَفْسِهِ؟ وَمَنْ سَيَسْتَمِيلُ نَفْسَهُ إِلَى أُمُورِ اللهِ إِذَا علَّمْنَا هَذِهِ الْعَقِيدَةَ؟ لا أَحَدَ، لأَنْ لا أَحَدَ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ بِأيِّ حَالٍ، وَلا أَحَدَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِأَيِّ حَالٍ". هَذَا هُوَ لُبُّ الأَمْرِ كَمَا أَوْضَحَهُ الرَسُولُ بُولُسُ: لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ اللهَ. فَإِنَّنَا فِي حَالَتِنَا السَاقِطَةِ مُسْتَعْبَدُونَ لِخَطَايَانَا، لِدَرَجَةِ أَنَّنَا لا نُرِيدُ الإِقْبَالَ إِلَى أُمُورِ اللهِ. هَذِهِ هِيَ الْفِكْرَةُ الَتِي حَاوَلَ لُوثَرُ تَوْضِيحَهَا. إِذَنْ، أَنْتَ تَقُولُ: "إِنْ عَلَّمْتُ النَاسَ بِذَلِكَ فِي حَالَتِهِمِ السَاقِطَةِ، لَنْ يُجَاهِدُوا الْبَتَّةَ أَوْ يَسْتَمِيلُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْمَجِيءِ إِلَى اللهِ، وَسَيَتَوَقَّفُونَ عَنْ بَذْلِ الْجُهْدِ وَاسْتِمَالَةِ أَنْفُسِهِمْ لِلْمَجِيءِ إِلَى اللهِ. لَكِنَّهُمْ عَلَى أَيِّ حالٍ عَاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ". هَذَا مُنَافٍ لِلْعَقْلِ. وَقَالَ أَيْضًا: "الْمُشْكِلَةُ الَتِي نُعَانِي مِنْهَا فِي حَالَتِنَا السَاقِطَةِ هِيَ أَنْ لا أَحَدَ يُرِيدُ اللهَ. لَسْنَا نُرِيدُ اللهَ فِي فِكْرِنَا، وَلَسْنَا نُرِيدُ اللهَ فِي حَيَاتِنَا، وَلَسْنَا نُفَضِّلُ اللهَ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ، لَكِنَّنَا نَهْرُبُ مِنَ اللهِ بِأَسْرَعِ وَإِلَى أَبْعَدِ مَا يُمْكِنُ، وَرَجَاؤُنَا الْوَحِيدُ هُوَ أَنْ يَطْلُبَنا اللهُ، وَيُغَيِّرَ اتِّجَاهَنَا، وَيُحْضِرَنَا إِلَيْهِ".
لاحِقًا، تَنَاوَلَ لُوثَرْ تَعْرِيفَ إِيرَازْمُوس لِحُرِّيَّةِ الإِرَادَةِ، وَنَقَلَهُ فِي كِتَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَفْتَرِضُ، إِذَنْ، أَنَّ قُوَّةَ الإِرَادَةِ الْبَشَرِيَّةِ تَعْنِي الْقُدْرَةَ أَوِ الإِمْكَانِيَّةَ أَوِ الْمَيْلَ أَوِ الاسْتِعْدَادَ سَواءٌ أَنْ نَرْغَبَ أَوْ أَلَّا نَرْغَبَ، وَأَنْ نَخْتَارَ أَوْ نَرْفُضَ، وَأَنْ نُوَافِقَ أو ألَّا نُوَافِقَ، وَأَنْ نَقُومَ بِكُلِّ أَفْعَالِ الإِرَادَةِ الأُخْرَى. فَإِنَّ انْجِذَابَ هَذِهِ الْقُوَّةِ أَوْ نُفُورَهَا لا يُمْكِنُ أَنْ يُشِيرَ سِوَى إِلَى الرَغْبَةِ الْفِعْلِيَّةِ أَوْ عَدَمِ الرَغْبَةِ، وَإِلَى الاخْتِيَارِ أَوِ الرَفْضِ، وَإِلَى الْقُبُولِ أَوْ عَدَمِ الْقُبُولِ، أَيْ إِلَى عَمَلِ الإِرَادَةِ نَفْسِهَا. يَجِبُ أَنْ نَفْتَرِضَ إِذَنْ أَنَّ هَذِهِ الْقُوَّةَ تَقِفُ مَا بَيْنَ الإِرَادَةِ وَعَمَلِهَا، وَبِهَا تُسبِّبُ الإِرَادَةُ فِعْلَ الرَغْبَةِ أَوْ عَدَمَ الرَغْبَةِ، وَبِوَاسِطَتِهَا يَتَحَقَّقُ فِعْلُ الرَغْبَةِ أَوْ عَدَمُ الرَغْبَةِ. وَلا يُمْكِنُ تَصَوُّرُ شَيْءٍ آخَرَ".
قَدْ يَبْدُو الأَمْرُ مُبْهَمًا قَلِيلًا بِالنِسْبَةِ إِلَيْكُمْ. وَهَذَا الْمَفْهُومُ الَذِي قَرَأْتُهُ لِتَوِّي مِنْ كِتَابِ لُوثَرْ سَيُقَدِّمُهُ جُونَاثَان إِدْوَارْدْز لاحِقًّا بِمَزِيدٍ مِنَ الْوُضُوحِ. لَكِنْ بِبَسَاطَةٍ، طَرَحَ لُوثَرْ السُؤالَ التَالِي: "إِذَا كَانَ الأَمْرُ بِرُمَّتِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى رَغْبَتِكَ أَوْ عَدَمِ رَغْبَتِكَ، وَعَلَى رَفْضِكَ أَوْ قُبُولِكَ، وَعَلَى اخْتِيَارِكَ أَوْ عَدَمِ اخْتِيَارِكَ، أَنْ تَتَعَاوَنَ مَعَ نِعْمَةِ اللهِ - أَيْ إِذَا كَانَتْ نِعْمَةُ اللهِ تُعْطَى لَكَ، وَلِهَذَا الشَخْصِ، وَذَاكَ، لَكِنْ فِي النِهَايَةِ، يَتَحَدَّدُ مَصِيرُكَ وَفْقًا لِحُرِّيَّةِ إِرَادَتِكَ أَوْ حُرِّيَّةِ إِرَادَتِهِ، فَمَا الَذِي يَكْمُنُ فِي طَبِيعَةِ الإِنْسَانِ السَاقِطَةِ يُمْكِنُ أَنْ يَدْفَعَ إِرَادَةَ أَحَدِهِمْ إِلَى أَنْ تَقُولَ: "نَعَمْ"، وَإِرَادَةَ آخَرَ إِلَى أَنْ تَقُولَ: "لَا"؟
هُنَاكَ شَيْءٌ يَقَعُ بَيْنَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَغْبَةِ وَفِعْلِ اتِّخَاذِ الْقَرَارِ. قَطْعًا، قَالَ أُوغُسْطِينُوسْ مُنْذُ قُرُونٍ، وَلُوثَرْ أَيْضًا، إِنَّ هَذَا الشَيْءَ هُوَ مَيْلُ النَفْسِ أَوْ رَغْبَتُهَا. فَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمْ "نَعَمْ" لِلنِعْمَةِ، فَهَذَا فَقَطْ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ "نَعَمْ" لِلنِعْمَةِ. وَإِنْ قَالَ آخَرُ "لَا" لِلنِعْمَةِ، فَهَذَا فَقَطْ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ "لَا" لِلنِعْمَةِ. لَيْسَ هُنَاكَ أَبْسَطُ مِنْ ذَلِكَ. فَمِنَ السَهْلِ جِدًّا عَرْضُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. لَكِنْ تَكْمُنُ الصُعُوبَةُ فِي تَحْدِيدِ سَبَبِ قَوْلِ أَحَدِهِمْ "نَعَمْ" وَقَوْلِ آخَرَ "لَا". مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الَذِي قَالَ "نَعَمْ" لَدَيْهِ رَغْبَةٌ إِيجَابِيَّةٌ نَحْوَ اللَّهِ، قَبْلَ حَتَّى أَنْ يُولَدَ مِنَ الرُوحِ. لَكِنْ لَيْسَ لَدَى الشَخْصِ الْآخَرِ مَيْلٌ إِيجَابِيٌّ نَحْوَ اللَّهِ. وَمَنْ لَدَيْهِ الْمَيْلُ الصَحِيحُ سَيَتَّخِذُ الْقَرَارَ السَلِيمَ. وَمَنْ لَدَيْهِ مَيْلٌ خَاطِئٌ سَيَتَّخِذُ الْقَرَارَ الْخَاطِئَ. وَلَوْ كَانَ عَمَلُ إِرَادَةِ الْإِنْسَانِ هُوَ مَا يُحَدِّدُ ذَلِكَ فِي النِهَايَةِ، فَهَذَا يَعْنِي أَنَّ أَحَدَهُمْ فَعَلَ بِرًّا، فِي حِينِ فَعَلَ الْآخَرُ شَرًّا. وَأَنَّهُ لَدَى هَذَا الشَخْصِ مَا يَفْتَخِرُ بِهِ، بَيْنَمَا لَيْسَ لَدَى ذَلِكَ الشَخْصِ مَا يَدْعُوهُ لِلِافْتِخَارِ.
أُصِيغُ الْأَمْرَ عَادَةً كَالتَالِي. فَإِنَّنِي أَسْأَلُ أَحَدَهُمْ: "لِمَاذَا أَنْتَ مُؤْمِنٌ بَيْنَمَا قَرِيبُكَ لا يُؤْمِنُ؟" فَيُجِيبُنِي: "حَسَنًا، لِأَنَّنِي اخْتَرْتُ ذَلِكَ وَهُوَ اخْتَارَ الْعَكْسَ". فَأَقُولُ: "حَسَنًا، هَلْ هَذَا لِأَنَّكَ أَبَرُّ مِنْهُ؟" بِمَ سَيُجِيبُ الْمُؤْمِنُ الْعَادِيُّ عَنْ هَذَا السُؤَالِ؟ تَعْرِفُونَ الرَدَّ. تَعْرِفُونَ أَنَّهُ لَا يُفْتَرَضُ بِكُمْ أَنْ تَقُولُوا: "حَسَنًا، أَنَا مُؤْمِنٌ، عَلَى عَكْسِ غَيْرِي، لِأَنِّي أَبَرُّ". فَقِمَّةُ الْبِرِّ الذَاتِيِّ أَنْ أَقُولَ إِنَّ سَبَبَ دُخُولِي إِلَى الْمَلَكُوتِ وَبَقَاءِ شَخْصٍ آخَرَ خَارِجَهُ هُوَ أَنَّنِي بَارٌّ بَيْنَمَا هُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ. أَشْبَهَ بِهَذَا الْفَرِيسِيِّ الَذِي دَخَلَ الْهَيْكَلَ، وَرَاحَ يَتَبَاهَى بِعَلَاقَتِهِ بِاَللَّهِ. فَمُعْظَمُ الْمُؤْمِنِينَ يَتَجَنَّبُونَ قَوْلَ إِنَّ السَبَبَ هُوَ أَنَّهُمْ أَبَرُّ، لَكِنَّهُمْ يَتَوَقَّفُونَ عِنْدَ هَذَا الْحَدِّ. فَأَقُولُ: "حَسَنًا، أَهَذَا لِأَنَّكَ أَذْكَى مِنْ ذَلِكَ الشَخْصِ؟" لَنْ يَرْغَبَ أَحَدٌ فِي قَوْلِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّنِي سَأَسْأَلُهُ فِي الْحَالِ: "وَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ بِهَذَا الذَكَاءِ؟ هَلْ رَبِحْتَهُ بِجُهْدِكَ أَمْ أَخَذْتَهُ؟ أَهُوَ إِنْجَازٌ أَمْ عَطِيَّةٌ؟" وَهُنَا سَيَرْغَبُ الْكَثِيرُونَ فِي إِنْهَاءِ الْحَدِيثِ. قَدْ يُجِيبُ أَحَدُهُمْ: "لَيْسَ السَبَبُ هُوَ أَنَّنِي أَبَرُّ". فَأَسْأَلُهُ: "وَلِمَ لَا؟ هَلْ اتَّخَذْتَ الْقَرَارَ السَلِيمَ؟" "أَجَلْ". "وَهَلْ اتَّخَذَ قَرِيبُكَ قَرَارًا خَاطِئًا؟" "أَجَلْ". "وَهَلْ مِنَ الْجَيِّدِ أَنَّكَ اتَّخَذْتَ هَذَا الْقَرَارَ؟" "أَجَلْ". "وَهَلْ مِنَ الْخَطَأِ أَنَّهُ اتَّخَذَ ذَلِكَ الْقَرَارَ؟" "أَجَلْ". "إِذَنْ، لِمَ لَا تَقُولُ إِنَّكَ أَبَرُّ مِنْهُ؟" لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَلَّا يَقُولَ ذَلِكَ. لَكِنْ، سَيَتَوَجَّبُ عَلَيْهِ قَوْلُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ يَعْتَقِدُ حَقًّا بِأَنَّ مَا يُحَدِّدُ دُخُولَهُ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ فِي النِهَايَةِ هُوَ الْقَرَارُ السَلِيمُ الَذِي اتَّخَذَهُ حِينَ سَنَحَتْ لَهُ الْفُرْصَةُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُخْرَى الَتِي تَجَادَلَ فِيهَا لُوثَرْ مَعَ إِيرَازْمُوسْ هِيَ الَتِي قَرَأْتُهَا مُنْذُ قَلِيلٍ، وَالْمُتَعَلِّقَةُ بِشَكْوَى إِيرَازْمُوسْ بِشَأْنِ الضَرُورَةِ. فَقَدْ قَالَ إِنَّهُ بِحَسْبِ لُوثَرْ، إِنْ كَانَ اللَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ مُسْبَقًا، وَيَعْلَمُ مَا سَيَحْدُثُ، فَكُلُّ مَا يَحْدُثُ فِي هَذَا الْعَالَمِ يَحْدُثُ إِذَنْ بِحُكْمِ الضَرُورَةِ. وَإِنْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ يَحْدُثُ بِحُكْمِ الضَرُورَةِ، فَلَا يُمْكِنُنَا الْبَتَّةَ أَنْ نَكُونَ أَحْرَارًا. فَبِحَسَبِ إِيرَازْمُوسْ، الضَرُورَةُ تَعْنِي الْإِكْرَاهَ. فَإِنْ كَانَتْ أَفْعَالُنَا ضَرُورِيَّةً بِحَسَبِ سَابِقِ عِلْمِ اللَّهِ، يَرَى إِيرَازْمُوسْ أَنَّهَا تَحْدُثُ إِذْنْ بِنَوْعٍ مِنْ الْإِكْرَاهِ. أَجَابَ لُوثَرْ: "كَلَّا كَلَّا كَلَّا". ثُمَّ قَالَ: "لَا يُرْغِمُنِي اللَّهُ عَلَى اتِّخَاذِ الْقَرَارَاتِ الَتِي أَتَّخِذُهَا فِي حَيَاتِي الْيَوْمِيَّةِ الْعَادِيَّةِ، لَكِنَّهَا ضَرُورِيَّةٌ بِحَسْبِ عِلْمِهِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ اللهُ يَعْلَمُ الْيَوْمَ مَا سَأَفْعَلُهُ غَدًا بِحُرِّيَّتِي، وَدُونَ إِرْغَامٍ مِنْهُ، فَهَلْ سَأَفْعَلُ ذَلِكَ غَدًا؟ فَهَلْ مِنَ الْمُؤَكَّدِ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ غَدًا؟ مِنَ الضَرُورِيِّ بِكُلِّ تَأْكِيدٍ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ، لأَنَّ اللهَ لا يَرْتَكِبُ أَخْطَاءً فِي عِلْمِهِ. لَكِنَّ هَذَا لا يَعْنِي أَنَّ اللهَ أَرْغَمَنِي عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ، أَوْ أَنَّ الصُدْفَةَ أَوْ أَيَّ شَيْءٍ آخَرَ قَدْ أَرْغَمَنِي. فَعِلْمُ اللهِ مُسْبَقًا بِمَا سَأَفْعَلُهُ لا يَعْنِي أَنَّهُ يُرْغِمُنِي عَلَى فِعْلِهِ. وَلِهَذَا مَيَّزَ لُوثَرُ بَيْنَ ضَرُورَةِ النَتِيجَةِ الْمَنْطِقِيَّةِ وَضَرُورَةِ النَتَائِجِ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ تِقْنِيٌّ لِلْأَمْرِ. لَكِنَّهُ قَالَ لِإِيرَازْمُوسْ: "لَسْنَا نُعَلِّمُ، بِرَأْيِنَا عَنِ الِاخْتِيَارِ أَوْ عَنِ السِيَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي سُقُوطِ الْإِنْسَانِ، بِأَنَّ اللَّهَ يُرْغِمُ الْخُطَاةَ عَلَى أَنْ يُخْطِئُوا". وَقَالَ: "يَخْتَارُ النَاسُ مَا يُرِيدُونَ، لَكِنَّ الْمُشْكِلَةَ هِيَ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الشَرَّ". فَمِنَ الْمُؤَكَّدِ أَنَّهُمْ سَيَخْتَارُونَ مَا يُرِيدُونَ، بِحَسَبِ عِلْمِ اللَّهِ بِالْأَمْرِ، لَكِنَّ اللَّهَ لَا يُرْغِمُ الَذِينَ يَرْغَبُونَ فِي فِعْلِ الْخَيْرِ عَلَى فِعْلِ الشَرِّ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُرْغِمُ الَذِينَ يَرْغَبُونَ فَقَطْ فِي فِعْلِ الشَرِّ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ.