المحاضرة 12: صَبْرُ أَيُّوبَ
هَا قَدْ وَصَلْنَا إِلَى الْمُحَاضَرَةِ ١٢؛ الْمُحَاضَرَةِ الأَخِيرَةِ مِنْ سِفْرِ أَيُّوبَ. لَكِنَّنَا لَنْ نَدْرُسَ مِنْ سِفْرِ أَيُّوبَ، بَلْ سَنَدْرُسُ أَيُّوبَ مِنْ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ. فِي الآيَةِ ١١ مِنَ الأَصْحَاحِ ٥ مِنْ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ الَتِي تَقُولُ: "قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ"، وَرُبَّمَا فِي تَرْجَمَاتٍ أُخْرَى قَدْ تَقْرَؤُونَ "قَدْ سَمِعْتُمْ بِثَبَاتِ أَيُّوبَ" "وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الرَّبِّ. لِأَنَّ الرَّبَّ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ". ثَبَاتُ أَيُّوبَ أَوْ صَبْرُهُ. الآنَ، دَعُونَا نَضَعُ هَذَا فِي سِيَاقِهِ. إِنَّ يَعْقُوبَ الرَسُولَ يَتَكَلَّمُ فِي الْمَقْطَعِ الْمُمْتَدِّ مِنَ الآيَةِ ٧ إِلَى الآيَةِ ١٢ عَنِ الْحَاجَةِ إِلَى الصَبْرِ فِي أَثْنَاءِ الأَلَمِ. إِذْ إِنَّ الأَلَمَ يَحْتَلُّ جُزْءًا كَبِيرًا مِنْ رِسَالَةِ يَعْقُوبَ. إِذْ يَبْدَأُ مِنَ الأَصْحَاحِ الأَوَّلِ فِي الآيَةِ ٢ بِقَوْلِ: "اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ". اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ". وَأَمَامَنَا هُنَا فِي خَاتِمَةِ الرِسَالَةِ يَتَحَدَّثُ عَنِ التَجَارِبِ وَالأَلَمِ مَرَّةً أُخْرَى. فمثلًا، فِي الآيَةِ ١٠ مِنَ الأَصْحَاحِ ٥ يَقُولُ: "مِثَالاً لاحْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ وَالأَنَاةِ". إِذَنْ فَهُوَ أَعَادَ الأَمْرَ بِرُمَّتِهِ، إِنْ جَازَ التَعْبِيرُ، إِلَى الأَلَمِ مَرَّةً أُخْرَى. فَيَعْقُوبُ يَبْدَأُ رِسَالَتَهُ وَيَخْتِمُهَا بِالتَجَارِبِ وَالْمَشَقَّةِ، وَيُشَدِّدُ عَلَى الْحَاجَةِ إِلَى التَحَلِّي بِالصَبْرِ، وَالتَحَلِّي بِالثَبَاتِ. فَهُوَ يَذْكُرُ، عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، الأَنْبِيَاءَ، فِي الآيَةِ ١٠، "الَّذِينَ تَكَلَّمُوا بِاسْمِ الرَّبِّ". إِذْ إِنَّ الأَنْبِيَاءَ اجْتَازُوا بِالْكَثِيرِ مِنَ التَجَارِبِ وَالْمَشَقَّاتِ. تَأَمَّلُوا الْمُقَاوَمَةَ الَتِي وَاجَهَهَا إِرْمِيَا النَبِيُّ. تَأَمَّلُوا الْوَجِيعَة الَتِي مَرَّ بِهِ حِزْقِيَالُ النَبِيُّ، إِذْ لَمْ يُسْمَحْ لَهُ بِحُضُورِ جَنَازَةِ زَوْجَتِهِ. تَأَمَّلُوا الْمُشْكِلَاتِ الزَوْجِيَّةَ الَتِي تَحَمَّلَهَا هُوشَعُ النَبِيُّ، وَغَيْرُهُ. فَالأَنْبِيَاءُ اجْتَازُوا بِالْكَثِيرِ مِنَ التَجَارِبِ وَالْمَشَقَّاتِ. لَكِنَّ مِثَالَهُ الأَبْرَزَ فِي هَذَا السِيَاقِ الَذِي ذَكَرَهُ بِالاسْمِ هُوَ أَيُّوبُ: "قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ" أَوْ "بِثَبَاتِ أَيُّوبَ".
فَمَا الَذِي قَصَدَهُ يَعْقُوبُ الرَسُولُ بِحَدِيثِهِ عَنْ صَبْرِ أَيُّوبَ أَوْ ثَبَاتِ أَيُّوبَ؟ الآنَ، لَيْسَ أَمَامَنَا سِوَى مَعْنًى وَاحِدٍ بِهِ، بِمَا أَنَّنَا قَدْ دَرَسْنَا سِفْرَ أَيُّوبَ مَعًا، رُبَّمَا نَسْتَطِيعُ مِنْهُ اسْتِخْلَاصَ أَنَّ أَيُّوبَ لَمْ يَكُنْ صَبُورًا. نَجِدُ ذَلِكَ فِي أَجْزَاءَ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الأَصْحَاحِ ٣ فِي سِفْرِ أَيُّوبَ، عِنْدَمَا نَزَلَ إِلَى أَعْمَاقِ الظُلْمَةِ الْحَالِكَةِ؛ وَرَدُّ فِعْلِهِ تُجَاهَ أَصْدِقَائِهِ الثَلاثَةِ أَلِيفَازَ وَبِلْدَدَ وَصُوفَرَ وَمَا تَبِعَ ذَلِكَ، وَنَجِدُ لَحَظَاتٍ مُعَيَّنَةً حِينَ بَدَا أَنَّهُ فَقَدَ صَبْرَهُ عَلَيْهِمْ وَعِنْدَمَا انْتَهَرَهُمْ وَعِنْدَمَا طَلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَرْحَمُوهُ لَكِنَّهُمْ لَمْ يُظْهِرُوا أَيَّةَ رَحْمَةٍ لَهُ. بَلْ حَتَّى رَأَيْنَا لَحَظَاتٍ، كَمَا أَعْتَقِدُ، فِي سِفْرِ أَيُّوبَ حِينَ بَدَا أَيُّوبُ أَنَّهُ فَقَدَ صَبْرَهُ عَلَى اللهِ، فَقَدَ صَبْرَهُ عَلَى عِنَايَةِ اللهِ. إِذَنْ، مَا الَذِي قَصَدَهُ يَعْقُوبُ بِإعْلاءِ شأنِ أَيُّوبَ فِي هَذَا الْمَقْطَعِ وَاعْتِبَارِهِ مِثَالًا لِلصَبْرِ وَالثَبَاتِ؟ فَأَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّهُ تَشْدِيدٌ عَلَى الثَبَاتِ وَلَيْسَ عَلَى التَفْكِيرِ الضَيِّقِ بِأَنَّهُ الصَبْرُ مِثْلَمَا نَظُنُّ فِي أَحْيَانٍ كَثِيرَةٍ فِي كَلِمَةِ "صَبْرٍ" الظَاهِرَةِ فِي النَصِّ. فَاسْمَحُوا لِي بِأَنْ أَسْتَخْدِمَ كَلِمَةً مُغَايِرَةً. "قَابِلِيَّةُ الْمُثَابَرَةِ" إِنَّهَا كَلِمَةٌ مُتَوَافِقَةٌ تَمَامًا مَعَ الْكَلِمَةِ الَتِي يَسْتَخْدِمُهَا يَعْقُوبُ. ثُمَّ يَحْضُرُنِي الْقَوْلُ البَرِيطَانِيُّ الَذِي يَقُولُ "الثَبَاتُ فِي الْمُثَابَرَةِ"، أَمْ أَنَّ الأَمْرَ خِلْفُ خِلافٍ. لَقَدْ نَسِيتُ الأَمْرَ بَعْدَ بُرْهَةٍ. "قَابِلِيَّةُ الْمُثَابَرَةِ" وَ"الثَبَاتُ فِي الْمُثَابَرَةِ". اسْتَمَرَّ فِي ثَبَاتِهِ. فَهَذَا مَا اسْتَخْلَصَهُ يَعْقُوبُ مِنْ أَيُّوبَ. حَتَّى فِي أَحْلَكِ اللَحَظَاتِ، وَحَتَّى فِي خِضَمِّ التَجْرِبَةِ، وَحَتَّى عِنْدَمَا بَدَتِ الْغُيُومُ وَكَأَنَّهَا تَنْحَدِرُ وَسادَتِ الظُلْمَةُ، اسْتَمَرَّ فِي ثَبَاتِهِ.
دَعُونِي أُوَضِّحُ هَذَا بَعْضَ الشَيْءِ. مَا الدُرُوسُ الَتِي قَدْ تَعَلَّمْنَاهَا مِنْ سِفْرِ أَيُّوبَ؟ بِاسْتِخْدَامِنَا لـِ "صَبْرِ أَيُّوبَ" مَدْخَلًا لِسِفْرِ أَيُّوبَ بِأَكْمَلِهِ، مَا الَذِي قَدْ تَعَلَّمْنَاهُ؟ أَعْتَقِدُ أَنَّ أَوَّلَ دَرْسٍ أَنَّ أَيُّوبَ أَظْهَرَ صَبْرَهُ مِنْ خِلَالِ إِيمَانِهِ بِسِيَادَةِ اللَّهِ. اللَّهُ صَاحِبُ السِيَادَةِ. بِكُلِّ تَأْكِيدٍ يَتَضَمَّنُ سِفْرُ أَيُّوبُ لَحَظَاتٍ فِيهَا بَدَا أَنَّ أَيُّوبَ قَدْ بَدَأَ التَشْكِيكَ، رُبَّمَا، فِي مَحَبَّةِ اللَّهِ، وَفِي مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُ عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُشَكِّكْ أَبَدًا فِي سِيَادَةِ اللَّهِ. فَاَللَّهُ بِيَدِهِ زِمَامُ الْأُمُورِ. فَهُوَ قَدْ عَيَّنَ النِهَايَةَ مُنْذُ الْبَدْءِ، بِحَسَبِ عَقِيدَةِ عِنَايَتِهِ، إِنْ أَمْكَنَنَا الْقَوْلُ. لِمَاذَا تَحْدُثُ الْأُمُورُ؟ لِمَاذَا الْأُمُورُ عَلَى النَحْوِ الَتِي هِيَ عَلَيْهِ؟ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ مَنْ عَيَّنَهَا. فَهُوَ مَنْ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الزِرِّ، إِنْ جَازَ التَعْبِيرُ. فَالْأُمُورُ تَحْدُثُ لِأَنَّ اللَّهَ هُوَ مَنْ يَأْمُرُ بِوُقُوعِهَا. هَذَا لَا يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَتْ هُنَاكَ أَسْبَابٌ أَوَّلِيَّةٌ وَأُخْرَى ثَانَوِيَّةٌ، كَمَا جَاءَ مثلًا فِي إِقْرَارِ إِيمَانِ وَسْتْمِنِسْتَرْ، الَذِي كَتَبَهُ الْبْيُورِيتَانْ فِي الْقَرْنِ ١٧، وَهُمْ يُطَبِّقُونَ بِبَسَاطَةٍ لَاهُوتَ الْمُصْلِحِينَ، مِمَّا يَعْكِسُ فِي الْوَاقِعِ بِبَسَاطَةٍ تَعَالِيمَ لَاهُوتِ الْعُصُورِ الْوُسْطَى. فَاللَّهُ يَسْمَحُ بِحُدُوثِ أَشْيَاءَ بِعَيْنِهَا، عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، لَكِنْ مَا مِنْ شَيْءٍ يَحْدُثُ خَارِجَ قَضَاءِ اللَّهِ. لَا شَيْءَ. فَاَللَّهُ لَا يُفَاجَأُ بِوُقُوعِ شَيْءٍ. اللَّهُ لَا تُبَادِرُهُ أَيُّ عَلَامَاتٍ تَعَجُّبٍ، كَمَا لَوْ أَنَّهُ لَمْ يَتَوَقَّعِ الْأَمْرَ أَبَدًا. فَالْأُمُورُ تَحْدُثُ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ عَيَّنَهَا لِتَحْدُثَ، فَهُوَ أَرَادَ لَهَا أَنْ تُحْدُثَ. كَمَا أَنَّهُ أَرَادَ لَهَا أَنْ تَحْدُثَ بِالطَرِيقَةِ الَتِي تَحْدُثُ بِهَا، وَأَرَادَ لَهَا أَنْ تَحْدُثَ قَبْلَ أَنْ تَحْدُثَ. فَهَذَا هُوَ الْأَسَاسُ الْوَحِيدُ الَذِي عَلَيْهِ يُمْكِنُنَا قَوْلُ إِنَّ اللَّهَ يَعْمَلُ كُلَّ الْأَشْيَاءِ مَعًا لِخَيْرِنَا. لَيْسَ الْأَشْيَاءَ الصَالِحَةَ فَحَسْبُ. بَلْ كُلَّ الْأَشْيَاءِ. الْأَشْيَاءَ السَيِّئَةَ، التَجَارِبَ. نَعَمْ، الْخَسَارَةُ الْفَادِحَةُ لِعَشَرَةِ أَبْنَاءٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ؛ خَسَارَةُ حِسَابِ الْمَعَاشِ وَالدَخْلِ وَالثَرْوَةِ؛ وَسُوقُ الْأَسْهُمِ يَصِلُ إِلَى الْحَضِيضِ، وَتَتَبَخَّرُ كُلُّ مُدَّخَرَاتِكَ، وَتَجِدُ نَفْسَكَ مُفْلِسًا؛ بِالْإِضَافَةِ إِلَى فُقْدَانِ صِحَّتِكَ. وَيَقُولُ كَثِيرونَ: "إِذَا كُنْتَ تَتَمَتَّعُ بِصِحَّتِكَ، فَأَنْتَ تَمْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ". هَذَا مُخَالِفٌ لِلْحَقِيقَةِ. إِنَّمَا الصِحَّةُ عَامِلٌ فِي غَايَةِ الْأَهَمِّيَّةِ كَمَا تُؤَثِّرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حِيَالَنَا. فَحِينَمَا يَفْقِدُ الْمَرْءُ صِحَّتَهُ، فِي الْغَالِبِ مَا سَيَفْقِدُ جَوَانِبَ أُخْرَى مَعَهَا أَيْضًا. وَيُشَكِّكُ في وَضْعِهِ الرُوحِي وَمَا إِلَى ذَلِكَ.
فَهُنَا يَقُولُ يَعْقُوبُ: "قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ". لَقَدْ تمَسَّكَ أَيُّوبُ بثَباتٍ فِي إِيمَانِهِ بِسِيَادَةِ اللَّهِ. إِنَّ التَرْنِيمَةَ الْعَظِيمَةَ لِوِلْيَمْ كُوبَرْ، الَتِي ذَكَرْنَاهَا فِي مُحَاضَرَةٍ سَابِقَةٍ، تَقُولُ: يَتَحَرَّكُ اللَّهُ بِطُرُقٍ خَفِيَّةٍ لِيَصْنَعَ عَجَائِبَهُ. يُثَبِّتُ خُطَاهُ فِي الْبَحْرِ، رَاكِبًا عَلَى السَحَابِ. كَمَا تَعْلَمُونَ، فَإِنَّ مُعْضِلَةَ تَثْبِيتِ خُطَاهُ فِي الْبَحْرِ تَتَمَثَّلُ فِي أَنَّ الْمَرْءَ لا يَسْتَطِيعُ رُؤْيَةَ قَدَمَيْهِ. وَمُعْضِلَةَ رُكُوبِهِ عَلَى السَحَابِ تَتَمَثَّلُ فِي أَنَّ الْمَرْءَ لا يَسْتَطِيعُ تَوَقُّعَ مَجِيئِهِ. فَكُلُّ مَا تَرَاهُ مُجَرَّدُ عَاصِفَةٍ.
فَفِي أَعْمَاقِهِ، مَنَاجِمُ عَجَائِبَ لا تَنْضُبُ يَسْتَحِيلُ إِدْرَاكُهَا.
إِنَّهُ يَحْفَظُ أَفْكَارَهُ وَخُطَطَهُ اللامِعَةَ، وَيُنَفِّذُ مَشِيئَتَهُ السِيَادِيَّةَ.
عَدَمُ الإِيمَانِ الأَعْمَى حَتْمًا يُخْطِئُ، وَفَحْصُ عَمَلِهِ بَاطِلٌ.
اللهُ هُوَ مُفَسِّرُ عَمَلِ يَدَيْهِ، وَسَوْفَ يُعْلِنُهُ.
وَإِلَى بَقِيَّةِ التَرْنِيمَةِ. إِذَنْ أَوَّلُ دَرْسٍ تَعَلَّمْنَاهُ أَنَّ أَيُّوبَ أَظْهَرَ صَبْرَهُ مِنْ خِلَالِ إِيمَانِهِ بِسِيَادَةِ اللَّهِ. وَقَدْ أَطْلَقْنَا عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اسْمَ "الْعَدَالَةِ الْإِلَهِيَّةِ"، أَيْ تَبْرِيرِ اللَّهِ فِي وَجْهِ الشَرِّ. لَقَدْ نَاقَشْنَا مُشْكِلَةَ الْأَلَمِ. الَتِي هِيَ مِحْوَرُ سِفْرِ أَيُّوبَ. لَكِنْ مَا مِنْ تَفْسِيرٍ لِلْعَدَالَةِ الْإِلَهِيَّةِ، مَا مِنْ تَفْسِيرٍ كَافٍ وَلَائِقٍ لِمُشْكِلَةِ الْأَلَمِ بَعِيدًا عَنْ سِيَادَةِ اللَّهِ. إِنَّهَا مَسْأَلَةٌ تُثِيرُ الصُعُوبَاتِ. إِنَّهَا مَسْأَلَةٌ تُثِيرُ بَعْضَ أَعْقَدِ الْأَسْئِلَةِ الْفَلْسَفِيَّةِ. إِنَّهَا تُثِيرُ مَسْأَلَةَ التَوْفِيقِ بَيْنَ سِيَادَةِ اللَّهِ وَمُشْكِلَةِ الْأَلَمِ فِي الْعِنَايَةِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ. إِنَّهَا كَلِمَةٌ لَكُمْ كَيْ تَبْحَثُوا أَنْتُمْ فِيهَا. لَا يَزَالُ الْبَشَرُ يَتَبَاحَثُونَ فِيهَا. سَيَظَلُّونَ يَتَبَاحَثُونَ فِي الْأَمْرِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ الرَبُّ يَسُوعُ مَرَّةً أُخْرَى، لِأَنَّهُمْ لَطَالَمَا كَانُوا يُنَاقِشُونَ هَذِهِ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَرِّ، وَسِيَادَةِ اللَّهِ وَوُجُودِ الشَرِّ فِي الْكَوْنِ، وَ"كَيْفَ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ هُوَ مَصْدَرُ الشَرِّ"، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ، أَنَّهُ خَلَقَ كَوْنًا فِيهِ تَكُونُ الْخَطِيَّةُ مُمْكِنَةً. لَقَدْ حَافَظَ أَيُّوبُ عَلَى ثَبَاتِ إِيمَانِهِ فِي سِيَادَةِ اللَّهِ.
أَمَّا الْأَمْرُ الثَانِي الَذِي أَعْتَقِدُ أَنَّنَا نَرَاهُ فِي أَيُّوبَ يَتَمَثَّلُ فِي ثَبَاتِهِ فِي الْإِيمَانِ. ثَبَاتِهِ فِي الْإِيمَانِ. عِنْدَمَا كَانَ أَيُّوبُ غَاضِبًا، عَلَى مَنْ سَكَبَ غَضَبَهُ؟ عَلَى أَصْدِقَائِهِ بِالطَبْعِ. لَكِنَّهُ أَيْضًا سَكَبَ غَضَبَهُ عَلَى اللَّهِ. فَهُوَ لَمْ يُصْبِحْ مُلْحِدًا. فَهُوَ يَتَحَدَّثُ إِلَى اللَّهِ. فَهُوَ يُقَدِّمُ شَكْوَاهُ، وَيَرْفَعُ دَعْوَاهُ، وَيَضَعُ بَلِيَّتَهُ، وَيَرْفَعُ صُرَاخَهُ كُلَّمَا أَشْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ. هَلْ تَتَذَكَّرُونَ ذَلِكَ الْمَقْطَعَ حِينَمَا نَظَرْنَا إِلَى أَيُّوبَ حِينَ قَالَ: "تَطْلُبُنِي فَلَا أَكُونُ"؟ مَنْ يَتَحَدَّثُ إِلَى مَنْ؟ نَعَمْ، هُوَ يَتَحَدَّثُ إِلَى اللَّهِ. حَتَّى فِي يَأْسِهِ، حَتَّى فِي أَحْلَكِ لَحَظَاتِ حَيَاتِهِ، وَأَكْثَرِهَا سَوَادًا، لَا يَزَالُ يَتَحَدَّثُ إِلَى اللَّهِ. إِنَّ إِيمَانَهُ بِاَللَّهِ لَمْ يَتَقَلْقَلْ أبدًا. فَأَيُّوبُ لَمْ يُلْحِدْ. هُنَاكَ تَرْنِيمَةٌ رَائِعَةٌ. إِنَّهَا مُدَوَّنَةٌ عَلَى ظَهْرِ كِتَابِي الْمُقَدَّسِ. أَحْبَبْتُ هَذِهِ التَرْنِيمَةَ مُنْذُ أَنْ وَقَعَتْ بَيْنَ يَدَيَّ. فَهِيَ لَمْ تَعُدْ تُرَنَّمُ كَثِيرًا فِي الْكَنِيسَةِ هَذِهِ الْأَيَّامَ. وَأَجْهَلُ السَبَبَ. أَلَّفَهَا جُونْ نْيُوتِنْ الْوَاعِظُ الْبْيُورِيتَانِيُّ الْعَظِيمُ فِي الْقَرْنِ ١٨ مُؤَلِّفُ تَرْنِيمَةِ مَا أَعْجَبَ النِعْمَةَ، وَغَيْرِهَا.
تَقُولُ التَرْنِيمَةُ: "سَأَلْتُ الرَبَّ أَنْ أُنْمُوَ فِي الْإِيمَانِ وَفِي الْمَحَبَّةِ وَفِي كُلِّ نِعْمَةٍ؛ لَعَلَّ مِلْءَ خَلَاصِهِ يَجْعَلُنِي أَعْرِفُ وَأَطْلُبُ وَجْهَهُ بِإِصْرَارٍ أَشَدَّ". مَنْ مِنَّا لَا يَطْلُبُ هَذَا مِنْ وَقْتٍ لِآخَرَ؟ "يا رَبُّ، أُرِيدُ أَنْ أُنْمُوَ. نَعَمْ أَنَا أُرِيدُ أَنْ أَنْضُجَ فِي الْإِيمَانِ. أُرِيدُ أَنْ أَتَشَدَّدَ فِي الرَبِّ. أُرِيدُ إِيمَانًا عَظِيمًا. إِذْ إِنَّ إِيمَانِي ضَعِيفٌ. أُرِيدُ إِيمَانًا عَظِيمًا. هَبْنِي إِيمَانًا عَظِيمًا". مَاذَا يَعْنِي هَذَا؟ كَيْفَ لِلَّهِ أَنْ يَسْتَجِيبَ تِلْكَ الصَلَاةَ؟ لِذَا دَقِّقُوا فِيمَا تُصَلُّونَ مِنْ أَجْلِهِ. فَقَدْ يَسْتَجِيبُ اللَّهُ هَذِهِ الصَلَاةَ.
إِنَّهُ هُوَ مَنْ عَلَّمَنِي هَكَذَا كَيْفَ أُصَلِّي، وَهُوَ، وَكُلِّي ثِقَةٌ، مَنِ اسْتَجَابَ صَلَوَاتِي! لَكِنَّ الْأَمْرَ كَانَ عَلَى نَحْوٍ، كَادَ يَدْفَعُنِي إِلَى الْيَأْسِ. لَقَدْ رَجَوْتُ أَنَّهُ فِي سَاعَتِهِ وَحِينِهِ، سَوْفَ يَسْتَجِيبُ طِلْبَتِي فِي الْحَالِ؛ وَبِقُوَّةِ مَحَبَّتِهِ الْمُقَيِّدَةِ، أَسْلَمَ خَطَايَايَ، وَأَرَاحَنِي.
لَقَدْ ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ سَوْفَ يُعَضِّدُهُ لِيَنْمُوَ بِمَنْحِهِ حَيَاةً مُسَالِمَةً وَهَادِئَةً. فِي مَنْزِلٍ فِي فْلُورِيدَا. يَتَمَتَّعُ بِثِمَارِ عَمَلِهِ فِي التَقَاعُدِ. وَيُبَدِّدُ الْمِيرَاثَ. "وَبَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، جَعَلَنِي أَشْعُرُ بِأَنَّهُ يُخْفِي شُرُورَ قَلْبِي؛ وَيَدَعُ قُوَى الْجَحِيمِ الْغَاضِبَةَ تَعْتَدِي عَلَى رُوحِي فِي كُلِّ جُزْءٍ".
هَذَا هُوَ سِفْرُ أَيُّوبَ.
"نَعَمْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، بِيَدِهِ بَدَا أَنَّهُ عَازِمٌ عَلَى مُضَاعَفَةِ وَيْلَتِي. فَتَجَاوَزَ كُلَّ خُطَطِي الْعَادِلَةِ الَتِي أَعْدَدْتُهَا، وَفَجَّرَ قُرْعَتِي" -الْأَشْيَاءَ الَتِي ظَلَّلَتْنِي- "وَجَعَلَنِي مُكْتَئِبًا وَيَائِسًا".
فَصَرَخْتُ مُرْتَجِفًا: "رَبِّي، لِمَاذَا كُلُّ هَذَا، هَلْ سَتُطَارِدُنِي دُودَتُكَ حَتَّى الْمَوْتِ؟ أَجَابَ الرَبُّ: "بِهَذِهِ الطَرِيقَةِ، أَسْتَجِيبُ صَلَاةَ مَنْ يَسْأَلُنِي النِعْمَةَ وَالْإِيمَانَ".
إِنَّ هَذِهِ التَجَارِبَ الدَاخِلِيَّةَ الَتِي أَسْتَخْدِمُهَا، مِنْ ذَاتِي وَعَنْ فَخْرِي، مِنْ أَجْلِ أَنْ أُحَرِّرَكَ؛ وَأَنْ أَكْسِرَ مُخَطَّطَاتِكَ لِلْفَرَحِ الْأَرْضِيِّ، فَتَجِدَ كُلَّ شَيْءٍ فِيَّ أَنَا.
نَعَمْ، إِنَّهَا إِحْدَى الْقَصَائِدِ الْمَشْهُورَةِ لِلْغَايَةِ لِجُونْ نْيُوتِنْ، لَكِنَّهَا تُلَخِّصُ تَقْرِيبًا سِفْرَ أَيُّوبَ. لَقَدْ فَجَّرَ وَدَمَّرَ أَسَاسَاتِهِ، وَأَكَأَبَهُ وَأَيْأَسَهُ، وَتَرَكَ قُوَى الْجَحِيمِ الْغَاضِبَةَ تُهَاجِمُهُ مِنْ كُلِّ اتِّجَاهٍ. لِمَاذَا؟ هَلْ لِيُنْمِيَهُ؟ إِنَّ أَيُّوبَ، فِي نِهَايَةِ سِفْرِهِ، يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ - "بِسَمْعِ الْأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالْآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي". لَقَدْ نَمَا فِي مَعْرِفَتِهِ بِمَنْ هُوَ اللَّهُ. لَقَدْ نَمَا فِي الْإِيمَانِ. لَقَدْ نَمَا فِي اتِّكَالِهِ عَلَى الرَبِّ. أَيْنَ هُوَ أَيُّوبُ فِي نِهَايَةِ سِفْرِ أَيُّوبَ؟ هَلْ حَصَلَ عَلَى الْإِجَابَةِ عَنْ كُلِّ الْمُشْكِلَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَلَمِ؟ هَلْ حَصَلَ عَلَى تَفْسِيرٍ لِلْعَدَالَةِ الْإِلَهِيَّةِ؟ هَلْ تَمَكَّنَ مِنْ كِتَابَةِ سِفْرٍ عَنِ الْعَدَالَةِ الْإِلَهِيَّةِ شَارِحًا فِيهِ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ اللَّهِ وَالْخَطِيَّةِ وَالشَرِّ؟ لَا. وَفِي النِهَايَةِ، وَفِي نِهَايَةِ السِفْرِ يَقُولُ فِي الإِجَابَةِ عَنِ السُؤَالِ: "لِمَاذَا بَهِيمُوثُ؟ وَلِمَاذَا لَوِيَاثَانُ؟ وَلِمَاذَا تُوجَدُ التَمَاسِيحُ فِي الْعَالَمِ؟" أَنَا لا أَعْرِفُ. لَيْسَ مِنَ الْمُهِمِّ أَنْ أَعْلَمَ. الْمُهِمُّ أَنَّهُ هُوَ مَنْ يَعْلَمُ، وَأَنَا أَثِقُ بِهِ. فَأَنَا أَثِقُ بِهِ. أَنَا أَتَّكِلُ عَلَيْهِ. أَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ. أَنَا أَتْرُكُ الْأَمْرَ لَهُ. أَنَا أَشْعُرُ بِهَذَا السُكُونِ، أَشْعُرُ بِهَذَا الِارْتِيَاحِ، أَشْعُرُ بِهَذِهِ الرَاحَةِ الَتِي تَنْبُعُ مِنْ تِسْلِيمِ كُلِّ شَيْءٍ لِلرَبِّ". نَعَمْ، لَقَدْ تَعَلَّمَ الثَبَاتَ، وَعَبَّرَ عَنْ صَبْرِهِ بِإِيمَانٍ ثَابِتٍ لَمْ يَتَزَعْزَعْ.
أَمْرٌ ثَالِثٌ. "قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ". لَقَدْ تَعَلَّمَ أَيُّوبُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَلَّا نَتَفَاجَأَ أَوْ نَرْتَبِكَ بِمَا يَصْنَعُهُ اللَّهُ. فَأَعْتَقِدُ أَنَّ أَيُّوبَ وَصَلَ إِلَى هَذَا الْمَفْهُومِ فِي نِهَايَةِ السِفْرِ. فَلَمْ يَعُدْ يَتَفَاجَأُ بَعْدُ. فَلَمْ يَعُدْ يَرْتَبِكُ بَعْدُ. فَأَنَا أَتَسَاءَلُ، كَوْنَنَا مَسِيحِيِّينَ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ بِوُجُودِ بَعْضِ الْأُمُورِ، لَا تَحْدُثُ لَكُمْ لِأَنَّكُمْ مَسِيحِيُّونَ. هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْأَشْرَارَ يُعَانُونَ هَذِهِ الْأُمُورَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ فَلَا؟ فَاَللَّهُ لَنْ يَسْمَحَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَجْتَازَ هَذِهِ التَجْرِبَةَ تَحْدِيدًا، أَوْ هَذَا السَقَمَ تَحْدِيدًا. لَقَدْ تَعَلَّمَ أَيُّوبُ أَنْ يَرَى نَفْسَهُ عَلَى حَقِيقَتِهَا. فِي الْوَاقِعِ، لَقَدْ تَعَلَّمَ أَنْ يَرَى نَفْسَهُ مَخْلُوقًا، يَرَى نَفْسَهُ إِنْسَانًا خَلَقَهُ اللَّهُ، يَرَى نَفْسَهُ كَائِنًا بَسِيطًا. لَقَدْ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَمِهِ. لَقَدْ تَعَلَّمَ أَيُّوبُ أَنْ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَيُّ حَقٍّ أَنْ يَعْرِفَ، لَيْسَ لَهُ أَيُّ حَقٍّ أَنْ يَفْهَمَ، لَيْسَ لَهُ أَيُّ حَقٍّ أَنْ يَكْشِفَ لَهُ اللَّهُ الْقَصْدَ الْكَامِنَ وَرَاءَ كُلِّ حَدَثٍ حَلَّ بِهِ. لَقَدْ تَعَلَّمَ أَيُّوبُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ ثَبَاتِهِ فِي سِيَاقِ الْعِبَارَةِ الَتِي يَتَكَلَّمُ عَنْهَا الْأَصْحَاحُ ٥٥ مِنْ سِفْرِ إِشْعِيَاءَ عِنْدَمَا تَحَدَّثَ اللَّهُ قَائِلًا: "أَفْكَارِي لَيْسَتْ أَفْكَارَكُمْ، وَلَا طُرُقُكُمْ طُرُقِي". حَتَّى مُوسَى، اسْتُعْلِنَتْ لَهُ الْكَثِيرُ مِنَ الْأُمُورِ. لَقَدِ اسْتُعْلِنَتْ لِمُوسَى الْكَثِيرُ مِنَ الْأُمُورِ فِي أَعْمَاقِهِ. لَقَدْ اسْتُعْلِنَتْ لَهُ لَمْحَةٌ عَنْ مَجْدِ اللَّهِ. لَقَدْ أَتَى اللَّهُ إِلَيْهِ فِي هَيْئَةٍ عَظِيمَةٍ، فِي هَيْئَةٍ نَارِيَّةٍ. لَقَدْ أَعْلَنَ اللَّهُ لَهُ الْكَثِيرَ عَنْ أَسْفَارِ مُوسَى الْخَمْسَةِ -الْأَسْفَارِ ٥ الْأُولَى فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ- لَكِنَّ مُوسَى ظَلَّ يَشْهَدُ وَتَحْدِيدًا فِي سِفْرِ التَثْنِيَةِ فِي الْأَصْحَاحِ ٢٩ وَالْآيَةِ ٢٩ الَتِي تَقُولُ: "السَّرَائِرُ لِلرَّبِّ إِلَهِنَا، وَالْمُعْلَنَاتُ لَنَا وَلِبَنِيْنَا إِلَى الْأَبَدِ" فَكَمَا لَوْ أَنَّ مُوسَى يَقُولُ "هُنَاكَ بَعْضُ الْأُمُورِ الَّتِي أَعْرِفُهَا وَأَعْلَمُهَا. وَهُنَاكَ أُمُورٌ أُخْرَى قَدْ رَأَيْتُهَا. وَهُنَاكَ أُمُورٌ أُخْرَى قَدْ سَمِعْتُهَا. لَكِنْ هُنَاكَ سَرَائِرُ. هُنَاكَ سَرَائِرُ لَا يُمْكِنُ فَهْمُهَا. هُنَاكَ أُمُورٌ مَخْفِيَّةٌ". إِنَّ الْمُصْلِحَ مَارْتِنْ لُوثَرْ تَحَدَّثَ عَنْ دِيُوسْ أَبْسْكُنْدِيتُوسْ (Deus absconditus) وَدِيُوسْ رِفِلَاتُوسْ (Deus revelatus)، اللَّهُ الظَّاهِرُ وَاللَّهُ الْخَفِيُّ. فَهُنَاكَ اللَّهُ الْمُعْلِنُ ذَاتَهُ لَنَا، وَهُنَاكَ أَيْضًا اللَّهُ الَذِي يُخْفِي الْكَثِيرَ عَنْ ذَاتِهِ هُنَا؛ يُخْفِيهَا خَلْفَ عِنَايَةٍ إِلَهِيَّةٍ يَسْتَحِيلُ فَهْمُهَا، يُخْفِيهَا خَلْفَ تَجَارِبَ وَصُعُوبَاتٍ لَا يُمْكِنُ فَهْمُهَا. فَأَيُّوبُ قَدْ تَعَلَّمَ ذَلِكَ. فَيَنْبَغِي لَنَا أَلَّا نَتَفَاجَأَ أَوْ نَرْتَبِكَ بَعْدُ بِمَا يَفْعَلُهُ اللهُ.
أَيُّوبُ لَمْ يَعْلَمْ بِشَأْنِ الشَيْطَانِ. وَلَا يَتَّضِحُ لِي، إِلَى نِهَايَةِ السِفْرِ، مَا إِذَا كَانَ لَا يَزَالُ لَا يَعْلَمُ بِشَأْنِ الشَيْطَانِ أَمْ لَا. كَمَا لَا يَتَّضِحُ لِي كَمْ عَدَدُ قِدِّيسِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ مِنْ بَعْدِ أَيُّوبَ الَذِينَ كَانُوا يَعْرِفُونَ أَيَّ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالشَيْطَانِ. إِذْ إِنَّ الْعَهْدَ الْقَدِيمَ لا يَسْرِدُ الْكَثِيرَ عَنِ الشَيْطَانِ. لَكِنْ مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الشَيْطَانَ لَهُ دَوْرٌ. يَنْطَوِي سِفْرُ زَكَرِيَّا النَبِيِّ عَلَى إِشَارَةٍ، عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، عَلَى تَمَرُّدٍ يَحْدُثُ فِي السَمَاءِ؛ فَالْقُوَى الشَيْطَانِيَّةُ تَفُوقُ قُدُرَاتِنَا عَلَى التَصَوُّرِ، وَتَفُوقُ قُدُرَاتِنَا عَلَى الإِدْرَاكِ.
لَيْسَ مُجَرَّدَ الْأَرْوَاحِ الشِرِّيرَةِ، بَلِ الشَّيْطَانُ نَفْسُهُ هُوَ مَنْ أَتَى بِشَخْصِهِ إِلَى الرَبِّ يَسُوعَ لِيُجَرِّبَهُ. إِنَّ غَالِبِيَّتَنَا لَمْ يَتَقَابَلْ مَعَ الشَيْطَانِ أَبَدًا. لَكِنَّنَا قَدْ تَقَابَلْنَا مَعَ أَحَدِ مُتَدَرِّبِيهِ. ذَاكَ الَذِي سَيَصْنَعُ بِنَا مَعْرُوفًا. فَهُوَ لَا يَتَحَتَّمُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِشَخْصِهِ عَلَى صُورَتِي أَوْ صُورَتِكَ. لَكِنَّهُ هُنَا قَدْ أَتَى بِشَخْصِهِ؛ اسْتَفْرَدَ بِأَيُّوبَ، إِنْ جَازَ التَعْبِيرُ؛ وَأَعَدَّ قَضِيَّةً شَخْصِيَّةً؛ إِذْ سَرِيعًا مَا الْتَقَطَ الْمِلَفَّ الْمُدَوَّنَ عَلَيْهِ اسْمَ أَيُّوبَ وَتَشَبَّثَ بِهِ، مُحَاوِلًا دَفْعَ أَيُّوبَ إِلَى أَنْ يَلْعَنَ اللَّهَ. لَكِنَّ أَيُّوبَ لَمْ يَلْعَنِ اللَّهَ. أَيُّوبُ كَانَ غَاضِبًا، أَيُّوبُ كَانَ مُحْبَطًا، أَيُّوبُ اكْتَأَبَ، أَيُّوبُ اسْتَشَاطَ غَضَبًا-وَنَحْنُ نَتَفَهَّمُ ذَلِكَ؛ وَلَا بُدَّ لَنَا مِنْ أَنْ نَتَحَلَّى بِالرَأْفَةِ؛ فَنَحْنُ نَتَفَهَّمُ كُلَّ مَا فِي أَيُّوبَ - لَكِنَّهُ لَا يَزَالُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ تَوْبَةً فِي نِهَايَةِ السِفْرِ، إِنما لَمْ يَلْعَنِ اللَّهَ أبدًا. وَالشَيْطَانُ لَمْ يُحَقِّقِ انْتِصَارًا. كَمَا تَعْلَمُونَ، تَمَثَّلَ الرِهَانُ الَذِي وَضَعَهُ الشَيْطَانُ فِي الْبِدَايَةِ "وَلَكِنِ ابْسِطْ يَدَكَ الْآنَ وَمَسَّ كُلَّ مَا لَهُ، فَإِنَّهُ فِي وَجْهِكَ يُجَدِّفُ عَلَيْكَ". وَأَيُّوبُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ.
لَا أَعْلَمُ الْأَمْرَ بِالنِسْبَةِ إِلَيْكُمْ. وَلَكِنْ أَنَا أَجِدُ ذَلِكَ مُرِيحًا عَلَى نَحْوٍ مُنْقَطِعِ النَظِيرِ. فَهُوَ يَقْدِرُ أَنْ يَحْفَظَكُمْ. فَأَنْتُمْ لَا تَعْرِفُونَ كَيْفَ سَوْفَ يَكُونُ رَدُّ فِعْلِكُمْ إِذَا حَلَّتِ الضِيقَةُ، حِينَ تَلْتَقِطُونَ هَاتِفَ ذَلِكَ الِاتِّصَالِ يَقُولُ بِأَنَّهُ سَرَطَانٌ، وَأَنَّهُ فِي الْمَرْحَلَةِ الثَالِثَةِ أَوْ الْمَرْحَلَةِ الرَابِعَةِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، مِنْ ثَمَّ فَجْأَةً تُخْتَطَفُ حَيَاتُكُمْ مِنْكُمْ إِذْ تَسْبَحُونَ فِي بَحْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الَتِي لَمْ تُفَكِّرُوا فِيهَا قَبْلًا لَكِنْ قَرَأْتُمْ عَنْهَا وَتُحَاوِلُونَ اسْتِيعَابَهَا، وَعَنْ شِفَاءٍ فِي الْإِمْكَانِ، وَكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ - وَأَنَّ اللَّهَ يَقْدِرُ أَنْ يَحْفَظَكُمْ. فَأَنْتُمْ غَيْرُ مُتَفَاجِئِينَ. فَأَنْتُمْ لَا تُؤْخَذُونَ أَوْ تَتَفَاجَؤُونَ مِنْ أَنَّ أَمْرًا مِثْلَ هَذَا قَدْ يَحِيقُ بِالْمَسِيحِيِّ وَالْمُؤْمِنِ لِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَى أَيُّوبَ. أَيُّوبُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ شَيْئًا عَنِ الشَيْطَانِ، لَكِنَّهُ رَفَضَ أَنْ يَلْعَنَ اللَّهَ. لَقَدْ ثَابَرَ. نَعَمْ، كَانَ ثَبَاتُ أَيُّوبَ وَصَبْرُهُ رَاسِخًا حَتَّى فِي وَجْهِ، نَعَمْ، فِي مُقَاوَمَةِ الشَيْطَانِ. فَهَذِهِ الْمُقَاوَمَةُ الَتِي ضِدَّ كُلٍّ مِنَّا أَعْظَمُ مِمَّا قَدْ تَتَخَيَّلُونَهُ. فَهِيَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ قُوَى عِنَايَةٍ عَمْيَاءَ. "فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلَاطِينِ، مَعَ وُلَاةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هَذَا الدَّهْرِ".
الْآنَ، هُنَاكَ أَمْرٌ رَابِعٌ أُرِيدُ أَنَّنَا، كَمَا أَعْتَقِدُ، أَنْ نُفَكِّرَ فِيهِ وَهُوَ أَنَّنَا نُفَكِّرُ فِي ثَبَاتَ أَيُّوبَ وَصَبْرَهُ. مَا الَذِي يَقْصِدُهُ يَعْقُوبُ؟ فَأَنَا أَعْتَقِدُ، جُزْئِيًّا، أَنَّهُ يَقْصِدُ التَالِيَ: إِنَّهُ فِي الْإِمْكَانِ أَنْ نَجْتَازَ تَجْرِبَةً بِهَذَا الْحَجْمِ. فِي الْإِمْكَانِ اجْتِيَازُهَا. فِي الْإِمْكَانِ حَتَّى أَنْ نَزْدَهِرَ. يَا لَلرَوْعَةِ أَنْ يَنْتَهِيَ السِفْرُ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَرِيقَةِ الْإِيجَابِيَّةِ. وَكَمَا كُنْتُ أَقُولُ فِي الْمُحَاضَرَةِ السَابِقَةِ، هَذَا لَا يَعْنِي أَنَّ هَذَا هُوَ الْحَالُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ، أَيْ أَنَّ نِهَايَةَ الْأَمْرِ يَنْبَغِي أَلَّا تَكُونَ سَعِيدَةً دَوْمًا. بِالطَبْعِ هُنَاكَ نِهَايَةٌ أَخِيرَةٌ سَعِيدَةٌ. فِي السَمَاءِ. فَالسَمَاءُ هِيَ مَوْطِنُ السَعَادَةِ وَمَوْطِنُ الْفَرَحِ. فَكُلُّ شَيْءٍ سَوْفَ يُحَلُّ، عَلَى نَحْوٍ مَا.
لَكِنْ، وَأَنْتُمْ تُوَاجِهُونَ، أَوْ كَمَا فِي مَدِينَةِ كُولُومْبِيَا بِوِلَايَةِ كَارُولَيْنَا الْجَنُوبِيَّةِ حَيْثُ أَقْطُنُ، وَفِي صَبَاحِ يَوْمٍ مَا مُنْذُ عِدَّةِ أَشْهُرٍ حِينَ فَاضَتْ قُرَابَةُ خَمْسِينَ مِلْيَارَ مِتْرٍ مُكَعَّبٍ مِنَ الْمَيَاهِ الْمُنْفَجِرَةِ مِنْ أَحَدِ السُدُودِ، مِيَاهٍ مَصْدَرُهَا إِحْدَى الْبُحَيْرَاتِ وَأَغْرَقَتْ مُقَاطَعَةً مَا مِنْ الْمَدِينَةِ - وَأَنَا قَدْ شَاهَدْتُ بَعْضَ الصُوَرِ، وَشَاهَدْتُ بَعْضَ الْفِيدْيُوهَاتِ. كَمَا رَأَيْتُ صُوَرًا لِأَشْخَاصٍ اجْتَاحَتْهُمُ الْمِيَاهُ، وَسَمِعْتُ قِصَّةً عَنْ زَوْجٍ وَزَوْجَةٍ وَوَلَدَيْهِمَا الَذِينَ سَبَحُوا مِنْ نَافِذَةِ غُرْفَةِ نَوْمِهِمْ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ الشَارِعِ كَيْ يَبْتَعِدُوا عَنْ طُوفَانِ الْمِيَاهِ، وَقَدْ نَجَوْا. لَقَدْ نَجَوْا. قَالُوا لِي إِنَّهُمْ لَمْ يَنْجُوا بِالاتِّكَالِ عَلَى قُدْرَتِهِمْ الْبَشَرِيَّةِ. لَقَدِ اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ سيَمُوتُونَ. لَقَدِ تَذَكَّرُوا الْحَادِثَةَ وَقَالُوا: "يَا رَبُّ، نَشْكُرُكَ مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ تَحْفَظُنَا. مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ حَفِظْتَنَا". مَاذَا يَقُولُ بُطْرُسُ الرَسُولُ؟ "أَنْتُمُ الَّذِينَ بِقُوَّةِ اللهِ مَحْرُوسُونَ، بِإِيمَانٍ، لِخَلَاصٍ مُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ فِي الزَّمَانِ الْأَخِيرِ". مَحْرُوسُونَ أَجَلْ، هَذَا مَا أَنَا عَلَيْهِ فِي تَجْرِبَتِي وَفِي ضِيقَتِي. اللهُ يَحْرُسُنِي. هُوَ يَضَعُ يَدَهُ حَوْلِي وَيُمْسِكُنِي، وَكَثِيرًا مَا يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ. وَيَقُولُ لِي فِي وَسَطِ الظُلْمَةِ: "أَنَا لَنْ أَتْرُكَكَ تَبْعُدُ أَبَدًا. أَنَا لَنْ أَتْرُكَكَ وَلَنْ أُهْمِلَكَ، خَاصَّةً فِي الظُلْمَةِ".
"قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ".
الآنَ، اذْهَبُوا وادْرُسُوا هَذَا السِفْرَ بِأَكْمَلِهِ مَرَّةً أُخْرَى، بَدْءًا مِنَ الآيَةِ الأُولَى فِي الأَصْحَاحِ الأَوَّلِ. وَلْيُبَارِكْكُمُ اللهُ.