المحاضرة 3: المعركة مع العالم
أنا متأكد من أني سألقى ردود أفعال لافتة على محاضرتنا السابقة، حين تكلمنا عن الفرق بين البرّ السطحي والظاهري الذي ميّز حياة الكتبة والفريسيين، والبرّ الحقيقي الذي دُعينا إلى السلوك به. سيكتب البعض قائلًا "آر سي، كنتُ مأخوذًا جدًا بتلك المحاضرة لدرجة أن الزمن توقّف بالنسبة إلي"، أو سيكتب آخرون قائلين "أنتم مراؤون كما الفريسيين الذين تتكلمون عنهم، لأنكم تستعملون ساعة من الواضح أنها زائفة، لأنها تبيّن الوقت نفسه دائمًا". هل لاحظتم ذلك؟ أنا متأكد من أن جميع الناس سيبعثون بالرسائل. أريد أن يعلم الجميع أن هذه ساعة حقيقية، إنها ساعة أصلية، لكن كل ما في الأمر هو أنها معطلة. لكن ما يمكن قوله عنها هو أنها تعطي وقتًا صحيحًا مرتين يوميًا.
قال مارتن لوثر إن المسيحيّ، في صراعه من أجل الطاعة يترتب عليه التغلب على عقبات عديدة. لكن بشكل أساسي، نحن نخوض حربًا لا تدور على جبهة أو اثنتين، بل على ثلاث جبهات. والأعداء الثلاثة الذين يواجههم المؤمن، على حد تعبير لوثر، هم العالم، والجسد، والشيطان – هذا اقتباس شهير جدًا للوثر. وبالطبع أدرك لوثر أنه حين أعدّ قائمة العالم والجسد والشيطان، وعلى الرغم من أنه ميّز بين هؤلاء الأعداء بالذات، إلا أنه أدرك أن الثلاثة على ارتباط وثيق، وأن روح الجسد الذي يتكلم عنه الكتاب المقدس هو ذلك الجزء من طبيعتنا المأخوذ والمسحور بروح هذا العالم، وهذا العالم هو المجال الذي يمارس الشيطان نفوذه وسيطرته فيه أحيانًا. إذًا، على الرغم من أننا نميز بين الثلاثة، إلا أننا لا نريد الفصل بينهم، بل سنتطرق إلى كل واحد منهم بشكل متسلسل. وفي هذه المحاضرة، سنتكلم عن صراع المؤمن مع ما يسميه العهد الجديد "العالم".
من الواضح أن كلمة "عالم" في العهد الجديد لها أكثر من وجه استعمال واحد. وفي بعض الحالات، تشير كلمة "عالم" ببساطة إلى هذا الكوكب. لا يوجد نوع من التحقير أو السلبية في الكلمة عندما يتم استعمالها بهذه الطريقة، إنها موقع جغرافي بكل بساطة – هذا المكان متميّز عن المريخ أو المشتري، أو السماوات فوق. لكن أيضًا وردت كلمة "عالم" في العهد الجديد للإشارة إلى الميدان الساقط في هذا الكوكب، إلى وجهة نظر مناهضة لله، متمحورة حول الإنسان أكثر ممّا هي متمحورة حول الله.
سأقرأ مقتطفًا وجيزًا من إنجيل يوحنا، لنرى كيف أن يسوع أجرى هذا النوع من التمييز في ما يتعلق بالعالم. سأقرأ من يوحنا الفصل 17 والآية 12. بالمناسبة، بينما أقرأ هذا المقتطف الوجيز من إنجيل يوحنا، دعوني أذكركّم بأنه مأخوذ من مقطع طويل جدًا من الحديث الذي دار في العلية بين يسوع وتلاميذه عشية قتله، كما أنه يتضمن مقطعًا من العبارات التي قالها يسوع في أطول صلاة مدونة نطق بها يسوع في العهد الجديد. هذا هو سرد ما يعرف بـ"صلاة الكاهن الأعلى العظيمة التي تلاها يسوع"، أو "صلاة يسوع التشفعية". إنها المرة الوحيدة التي يُصلّى فيها لأجلكم في العهد الجديد، لأن يسوع لا يصلي فحسب لأجل تلاميذه الموجودين معه آنذاك، لكنه يتكلم ويصلي ويتشفع لكل من سيؤمن في الأجيال المقبلة من خلال تعليمهم.
ولاحظوا ما قال في الآية 11 من الفصل 17. سأبدأ من هنا، قال "وَلَسْتُ أَنَا بَعْدُ فِي الْعَالَمِ، وَأَمَّا هَؤُلاَءِ فَهُمْ فِي الْعَالَمِ، وَأَنَا آتِي إِلَيْكَ". هنا نرى أن كلمة "عالم" تشير بوضوح إلى هذا المكان، صحيح؟ هو قال "سوف أرحل من هذا الموقع من العالم، لكن الآن أيها الآب أنا أصلي لأجل أصدقائي وتلاميذي الذين سيبقون هنا عاملين في هذا العالم". لكنه يتابع قائلًا "أَيُّهَا الْآبُ الْقُدُّوسُ، احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا نَحْنُ. حِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ فِي الْعَالَمِ كُنْتُ أَحْفَظُهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ، وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا ابْنُ الْهَلَاكِ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ. أَمَّا الْآنَ فَإِنِّي آتِي إِلَيْكَ. وَأَتَكَلَّمُ بِهَذَا فِي الْعَالَمِ لِيَكُونَ لَهُمْ فَرَحِي كَامِلًا فِيهِمْ. أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كَلَامَكَ، وَالْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ، كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ". أترون كيف أن كلمة "عالم" بدأت تحمل فارقًا بسيطًا في المعنى، بحيث أنها لا تشير ببساطة إلى موقع جغرافي بل إلى وجهة نظر أحدهم في ما يتعلق بأمور الله؟ العالم هو ذلك الميدان، أو تلك المجموعة من الناس الذين لا يميلون أبدًا إلى أمور الله. العالم موجود في هذا الصدد في تناقض وتضارب ومنافسة مع ملكوت الله.
إذًا، قال "لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ. لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ. قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلَامُكَ هُوَ حَقٌّ". هذا كلام مليء بالمعاني، أليس كذلك؟ قال يسوع "أنا لا أسأل أيها الآب أن تأخذهم من العالم". كم أرجو أن نصغي إلى صلاة المسيح في هذا الصدد، لأنه في كل جيل من التاريخ المسيحي توجد دائمًا شدّ وصراع ضمن المجتمع المسيحي للانفصال عن كل ما يكون فيه أثر هذا العالم، ولعزل أنفسنا لكي نحافظ على نقاوتنا. يكفي أن نقرأ جيدًا مثلًا ما جاء في إنجيل لوقا. ففي إنجيل لوقا نجد فكرة كررها لوقا مرارًا في ما يتعلق بتعليم يسوع ضد الفريسيين. إحدى العقائد التي برزت بين الفريسيين كانت كالاتي "الخلاص بالانعزال". أذكر أن أحد الأمور التي فعلها يسوع والتي أثارت سخط الفريسيين هي أن يسوع، برأيهم، لوّث نفسه عبر تمضية وقت مع العشارين وجباة الضرائب والخطاة، علمًا بأن الفريسيين لم يقتربوا منهم أبدًا.
أذكر أني كنت ذات مرة أسير في الشارع وأتحدث مع صديق لي، وهو كاهن أنجليكاني، وهو كان فخورًا بنفسه لأنه كرس ذاته للكهنوت. وكنا نسير في شوارع فيلادلفيا، وجاء ذلك الصبي الصغير، كان يبيع الجرائد أو ما شابه، وهو ولد صغير مشرّد في الشارع وكان قذرًا جدًا، وكان وجهه ملطخًا بالبوظة أو غير ذلك، وكان قميصه وسخًا وملابسه ممزقة. ثم اقترب وأمسك بكمّ الكاهن وبدأ يشدّه قائلًا "سيدي، سيدي" – كان يحاول بيعه مجلة أو ما شابه وهو يشدّ له كمّه. وفجأة، استدار الكاهن ونفض يد الصبيّ بيده قائلًا "كيف تجرؤ على لمس يد كاهن لله! " فأردت التوقف هناك والنظر إلى صديقي الكاهن قائلًا "كيف تجرؤ أنت على الاعتبار أن ذراع الكاهن محظور لمسها من الإنسان؟" أعني أن يسوع كان ليعانق ذلك الصبي في الشارع، وما كان أبدًا ليعتنق فكرة الانفصال الجذري عن العالم، أي أن يبدي أحدهم احتقارًا للمجال الذي يشكل بؤرة فداء الله.
قال يسوع "لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ". لم يشأ يسوع تأسيس مجموعة جديدة من اليسينيين. أتذكرون اليسينيين الذي تم العثور على عملهم في مخطوطات البحر الميت؟ إنهم أشخاص انسحبوا من المجتمع ليعيشوا في عزلة تامة، لكي يبقوا أنقياء لأجل مجيء المسيح. وبينما كانوا مختبئين في الكهوف على طول البحر الميت، جاء المسيح وفاتهم. كانوا منهمكين جدًا في عزل أنفسهم عن العالم حتى إن المسيح فاتهم حين جاء إلى العالم ليفدي البشر. فقال يسوع "لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ"، أي أن تحفظهم بينما يعيشون إيمانهم ويعيشون حياتهم وسط العالم.
أظن أن هذا يتوافق مع ما يعلّمه الرسول بولس في ذروة كتاباته في التطبيق العملي لرسالة رومية، بعد توسيع العقيدة اللاهوتية العميقة. تذكرون كيف أنه يستهل الفصل 12 بالقول "فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ"، ثم ماذا يقول بعد ذلك؟ "وَلَا تُشَاكِلُوا هَذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ". فلنلقِ نظرة على هاتين الكلمتين: "مشاكلة"، و"تغير". في اللغة الأجنبية، تتضمن الكلمتان الجذر نفسه، وهو "فورم"، الذي يشير إلى البنية أو النظام. أما الفرق الوحيد الذي نجده بين هاتين الكلمتين فهو البادئة، أليس كذلك؟ ماذا تعني البادئة "كون"؟ "تشيلي كون كارني" تعني "الفاصوليا مع اللحم"، أليس كذلك؟ إذًا، "كون" هنا تعني "مع". إذًا، كلمة "يشاكل" تعني حرفيًا "أن يكون معه"، "أن يكون جزءًا من الهيكلية الأساسية المتعارفة لنظام العالم الحالي".
أذكر أني حين كنت في الصف السادس، على ما أظن، اصطحبتني أمي إلى وسط المدينة في بيتسبرغ لشراء حذاء. لا أعلم لماذا ما زلت أتذكر هذا الأمر. لكن بينما كان الموظف يجرّب لي ذلك الحذاء الجميل، كنا ننظر في جهاز الأشعة السينية الأخضر فننحني لنرى أصابعنا عند طرف الحذاء. لا أظن أنهم لا يزالون يستعملون هذه الأشياء حتى اليوم، لكنها كانت مهمة جدًا حين كنت فتى، كانت تكنولوجيا عالية. وكان البائع لطيفًا جدًا وأخذ يكلّمني عن المدرسة والصف السادس، فنظرت إليه وقال لي "كيف تجري الأمور في المدرسة؟" فطفرت عن مقعدي وقلت "أنا هو الصبي الأكثر شعبية في صفي"، فصُعقت أمي تمامًا! وما إن ابتعد ذلك الرجل، أخذتني جانبًا وقالت "لا يمكنك أن تكلم الناس هكذا". قالت "هذا رهيب! هذا كلام مغرور جدًا ومتعجرف وفظ. لا يجب أن تتكلم أبدًا بهذه الطريقة". وأسمعتني عظة مطنبة عن فضيلة التواضع، لكن أتعلمون أمرًا؟ لم آبه البتة، لأن هدفي في الحياة حين كنت في الصف السادس لم يكن التواضع، كان هدفي حين كنت في الصف السادس شبيهًا بهدف سائر التلاميذ في الصف السادس في هذا العالم، ألا وهو أن أكون ماذا؟ الإنسان الأكثر شعبية على الإطلاق. لأننا حين نبلغ سن المراهقة وسنين المراهقة، حيث نتيقن أخيرًا لوجود عالم خارجي غير آبائنا وأعمامنا وعماتنا، ولوجود مجتمع حيث يتم تقديرنا أو الحكم علينا أو قبولنا أو رفضنا، فإن الشعبية ضمن أصدقائنا في الثالثة عشرة من العمر تقريبًا تصبح من أهم أهوائنا في حياتنا. ولم نحظَ بقدر معين من الشعبية، فإن الأمر يسحق روح الإنسان، لدرجة أنه يلازم نفوسنا بقية حياتنا.
يريد الكل أن يحبه الآخرون، لكننا نتعلم في سن الطفولة، كما تعلمت في الصف السادس، أني إن أردت أن أكون شعبيًا، فثمة ثمن علي أن أدفعه. والثمن الأهم للشعبية هو المشاكلة. إن أردت أن أكون الأكثر شعبية في مدرستي، كان علي أن أعرف كلمات أحدث الأغاني، وأحدث الأغاني الأكثر شعبية؛ وكان علي أن أعرف معدلات ضرب الكرة بالمضرب في فريق بيراتز. كان علي أن أتمكن من فعل الأمور التي تفعلها لتثبت أنك رجل فعلي، كان علي الاستماع إلى التحديات وقبولها، وأن أحاول أن أسرق شيئًا من المتجر من دون أن يُكشَف أمري، وأن أشارك في الألعاب التي تلعبونها ليلًا، حين تطاردكم الشرطة في شوارع المدينة وتحرصون على ألا تقبض الشرطة عليكم. فمارست تلك الألعاب كلها، لأن هذا ما كان عليك فعله لتصبح شعبيًا.
وما زلت أذكر أن العظة التي كنت ألقاها من أبي دائمًا كمراهق كانت" بني، تحتاج إلى المزيد من الشجاعة لتقول "لا" مما لتقول "نعم"". هل سمعت يومًا عظة مماثلة؟ أو الكلام الذي كان مدير المدرسة يقوله لي: "أيها الشاب، ألا تعلم أنك تطعن أمك في الظهر؟" بالإضافة إلى أمور أخرى مشابهة. وكنت أجيب "لكن ألا تدرك أني لا أحاول أن أرضي أمي؟ أن لا أحاول أن أشاكل قِيم أمي. هنا يتم الحكم علي، وسط أصدقائي". إذًا، كأولاد نحن نمارس جميع تلك الألاعيب لتحقيق هدف الشعبية المرجو. لكن بالطبع، هذه إحدى ظواهر المراهقة القصيرة الأمد. لكن ما إن نبلغ سن الرشد حتى نضع الأمور الصبيانية جانبًا ولا نعود نقلق بشأن الشعبية، أليس كذلك؟ يُقال إن الفرق الوحيد بين الرجال والصبيان هو ماذا؟ ثمن ألعابهم. تتغير الألعاب، ويتغير الثمن، لكن هدف الفوز بقبول أصدقائنا هو أمر يشدّنا كل يوم من أيام حياتنا.
إذًا، القوة المغرية في هذا العالم هي مشاكلته. ما الذي يجعلنا ننجذب وراء المشاكلة؟ لدى الألمان كلمة لوصف الأمر. تعرفون كيف يقول الألمان ذلك باللغة الألمانية إنهم يستعملون اسمَين محددين ويمزجانهما ويحوّلونهما إلى كلمة واحدة. لا اقصد إهانة اللغة الهولندية التي لا تفكر أبدًا في فعل أمر مماثل. لكن الألمان يأخذون كلمتين ويلصقونهما ليصبحا كلمة "زايتغايست". أنا متأكد من أنكم سمعتم جميعًا بكلمة "غايست" في اللغة الإنجليزية، لأنكم سمعتم بكلمة "بولترغايست". والبولترغايست نوع من الأشباح الصغيرة التي تظهر في الليل. "زايت" كلمة ألمانية تعني "الزمن"، و"غايست" كلمة ألمانية تعني "الروح". إذًا، هذه الكلمة المركبة "زايتغايست" تعني حرفيًا "روح الأزمنة"، أو "روح الدهر". وما يقصده الألمان بـ"زايتغايست" هو أساسًا الآتي: ما هو الأمر الرائج والسائد والمقبول ما الذي نفعله؟
في القرن التاسع عشر، أصبح أحدهم رجلًا مهمًا جدًا، ليس فقط كشخصية أدبية في ألمانيا بل كفيلسوف أيضًا، وبزر كواحد من أهم النقاد في جيله، وهو يدعى فريديريك نيتشه. وتعلمون أن نيتشه اشتهر بإعلانه موت الله، وبتأييده لما أسماه "البطولة البيولوجية"، حيث كان يسعى إلى إنشاء جنس بشري خارق. وتبنى هتلر الأمر وتطرف به. لكن نيتشه تذمّر من تدهور أوروبا في القرن التاسع عشر. وفي ذلك التذمر، قال إن الأغلبية الساحقة من الناس تعيش – على حد تعبيره – وفق ما تمليه عليها أخلاقية القطيع، أي أن انتقاد نيتشه جاء كالآتي، قال "الناس بمعظمهم يشبهون القطيع؛ إنهم يطيعون من دون تمييز ومن دون شجاعة أي أمر متوقع منهم في وضعهم الراهن". بتعبير آخر، هم يصبحون عبيدًا لـ"زايتغايست" أو لروح الدهر. لذا نادى بالرجل الخارق، "أوبرمنش". قال إن الأوبرمنش هو الشخص الذي يترك القطيع، ويتجرأ على التفكير بنفسه. بتعبير آخر، الرجل الخارق بحسب نيتشه، هو الذي لا يشاكل إطلاقًا.
على الأقل هذا هو وجه الشبه الوحيد بين العهد الجديد وعدمية نيتشه – يدعونا الاثنان إلى عدم المشاكلة. لكني أسارع إلى الإضافة أنه ليس النوع نفسه من عدم المشاكلة. لكن بولس يقول "وَلاَ تُشَاكِلُوا هَذَا الدَّهْرَ". إن كان يوجد مقطع في الكتاب المقدس حرّفه المسيحيون فهو هذا المقطع، لأننا ننظر إلى المقطع ونقرأ نصفه فقط، ونقول "ما يريده الله منا هو أننا إن أردنا أن نكون أبرارًا فعلًا، يجب أن نُعرف بعدم مشاكلتنا لهذا الدهر". أتدركون، من ناحية، مدى صعوبة عدم المشاكلة. فكما أشرت سابقًا، نحن نتوق بشدة إلى أن تقبلنا الجماعة. ومن ناحية أخرى، أتدركون مدى سهولة عدم المشاكلة؟
ما يميل إلى الحصول بين المسيحيين هو أنهم يقولون "سوف نظهر للعالم أننا مختلفون، وما سنفعله هو أننا سنبيّن مدى اختلافنا عن العالم عبر رفض المشاركة في دنيوية العالم، ما يعني أننا لن نرقص، ولن نتبرج، ولن نذهب إلى السينما ولن نلعب الورق". أذكر أني حين ذهبت إلى عملي الأول كأستاذ في كلية مسيحية، تم توظيفي لأعلّم الكتاب المقدس. وقبل بداية العام الدراسي، خرجنا في نزهة على الشاطئ، فأخرج بعض التلاميذ ورق اللعب وبدأوا يلعبون بريدج. فجاء العميد وصادر الورق، عندئذٍ ذُهلت إذ اكتشفت أن لعبة الورق الوحيدة التي كان يُسمح لتلك المجموعة من المسيحيين بلعبها هي الرُّخ – لعبة الورق المسيحية. فقلت "رخ؟ أنا توقفت عن لعب الرخ حين كنت في الثامنة!" وقلت "ماذا سيفعلون حين يكتشفون أن أستاذ التعليم المسيحي لديهم يشارك في مباريات في لعبة البريدج؟" لم يخطر في بالي أبدًا وجود أمر روحي أو غير روحي في لعبة البريدج. تخيّلوا ذلك! إنه أمر لا يصدَّق أن يبرز هذا النوع من الأمور في ثقافية فرعية. لكن ما يحدث هو أننا ننظر من حولنا، ونرى الأمور التي يفعلها أشخاص في العالم العلماني، ونحن نريد أن نحرص على ألا نبدو إطلاقًا مثل الأشخاص العلمانيين، فنضع هذه الأشكال الزائفة لعدم المشاكلة.
أيها الأحباء، ليس لملكوت الله أي علاقة بلعبة الرُّخ. هذه أشكال سطحية من عدم المشاكلة. إن أردت ألّا تشاكل هذا الدهر بالمعنى الكتابي، كن شخصًا يمكن الوثوق بكلامه، كن شخصًا يفعل الصواب حتى إن كلّفه الأمر مالًا. هذا أمر مختلف، وهو لا يعني أنه إن بدأ الجميع في العالم يعتمرون قبعات بيضاء نبدأ نحن باعتمار قبعات حمراء. ليس هذا نوع عدم المشاكلة الذي يتكلم عنه العهد الجديد. لكننا نقرأ الجزء المتبقي من الآية، ونرى أنه لا يجدر بنا ألا نشاكل هذا الدهر ببساطة بهدف عدم المشاكلة، بل إنه يجدر بنا أن نتغير أيضًا. وبادئة الكلمة هي بيت القصيد. التغير يعني تجاوز وتخطي تركيبة هذا العالم الحاضر.
في بداية إيماني، الرجل الذي قادني إلى المسيح قال لي أمرًا في الأسبوعين الأولين. سألته "ماذا يعني لك أن تكون مسيحيًا؟" فقال "ما يعنيه لي أن أكون مسيحيًا هو أني سأتفوق عليك في العمل، وسأتفوق عليك في النضال، وسأتفوق عليك في المحبة"، فأدرك أن المسيحية هي دعوة إلى التفوق، دعوة إلى التفوق تتجاوز معايير ما كان مقبولًا في العالم. اليوم يستمدّ معظم المسيحيين الإرشاد الأخلاقي مما هو قانوني ومقبول في بقية العالم، أو أننا نريد أن يفرض القضاء المدني الأخلاقيات المسيحية، لكننا نقول "مهلًا، الأخلاقية المسيحية تبقى نفسها مهما فعلت المحكمة العليا، أو مهما قالت المحكمة العليا أنا لا أتّبع هذا النمط". لدينا رب يعطينا أخلاقياتنا ووصاياه. هو قال "أطيعوا وصاياي" هذه هي مسؤوليتنا.