المحاضرة 1: هدف الحياة المسيحية
منذ بضعة أسابيع تسنَّت لي فرصة التحدث إلى صديق هو رجل أعمال في أورلاندو، وراح يخبرني عن آخر التطورات في عالم التمويل الدولي، وأطلعني على دراسة أجرتها شركات دولية في ما يتعلق بتخطيطها المستقبلي، وأشار إلى أن بعض الشركات اليابانية لم تضع ببساطة مخططات على مدى ثلاث أو خمس سنوات لمشاريعها، بل إن البعض منها وسّع مخططاته التجارية على مدى مئة أو مئتي سنة؛ وبالتالي وضعت أمامها هدفًا شاملًا طوال الوقت، لتتمكن من التحقق على نحو دوري للتأكد من أن كل عمل في الشركة يتجه نحو تحقيق الهدف.
بعد أن أخبرني رجل الأعمال هذا بكل ما يجري في مجال التمويل الدولي، نظر إليَّ قائلًا "والآن، ماذا عن الحياة المسيحية يا آر سي؟" وقال "رجاءً أخبرني، ما هي فكرتها الرئيسية؟" ما هي الفكرة الرئيسية في المسيحية؟ يجب أن أعترف بأنه حين نظر مباشرة في عيني قائلًا "ما هي الفكرة الرئيسية يا آر سي؟" جفلت قليلًا، وعدت بالذاكرة إلى والدتي وهي واقفة أمامي حين كنت ولدًا، واضعةً يديها على وركيها، ثم كانت تشير إلي بيدها اليمنى قائلة "ما الفكرة التي تشغلك أيها الفتى؟" من الواضح أنها لم تطرح ذلك السؤال محاولة اكتشاف ما كنت أعتبره الهدف الجوهري في حياتي، بل إنها كانت توجّه إلي اتهامًا غير مباشر كالآتي: "ليس لديك أي تبرير لما فعلته لتوّك، ما الذي يشغلك؟" لكن من وجهة نظر أخرى، هذا سؤال حاسم. نحن نستمع إلى العظات، ونقرأ الكتاب المقدس، ونغوص في متاهة التفاصيل اللاهوتية، لكننا نتوق إلى فرصة لتجاوز جميع الأمور الدقيقة والتفاصيل في المسيحية والوصول إلى جوهر الحياة المسيحية. هذا ما نقصده بتمييز الفكرة الرئيسية.
إذًا، حين قال رجل الأعمال هذا "يا آر سي، ما هي الفكرة الرئيسية؟" فكرت في الأمر لبعض الوقت، والجواب الذي خطر في بالي مقتبس من إصلاح القرن السادس عشر، حين كان على المصلحين البروتستانتيين في ذلك الوقت التعريف عن أنفسهم أمام عالم يراقبهم، فكان عليهم بلورة جوهر خدمتهم وحركتهم. وصدرت عن عملية البلورة تلك جملة – لاتينية طبعًا – غالبًا ما استعملها مارتن لوثر لإعلان جوهر الحياة المسيحية. واستعمل لوثر هذه الجملة "جوهر الحياة المسيحية هو أن يعيش المرء حياته ’كوروم ديو‘". قد تكون هذه الجملة غريبة بالنسبة إليكم – "كوروم ديو"، ما يعني حرفيًا "أمام وجه الله". وما كان لوثر يقوله ببساطة هو الآتي: "الحياة المسيحية تعني أن تعيش حياتك كلّها في محضر الله".
وأحيانًا، نحن نسلك ونعيش حياتنا، لا لأجل الله بل لأجل الناس ليروها. وقد يكون سلوكنا في الخفاء مختلفًا عن سلوكنا أمام الأشخاص الذين نطلب حكمهم واستحسانهم. فلنفكر مثلًا في الابن الضال حين طلب من أبيه أن ينال ميراثه باكرًا، وكيف بدّد ذلك المال. لكن قبل أن يبدّد ذلك الميراث، ما الذي فعله؟ ذهب إلى بلاد بعيدة حيث كان مجهولًا، لا يعرفه أحد، وحيث لم يشعر بأنه يجدر به أن يعيش حياته تحت إشراف شخص قد لا يستحسن ما يفعله. يقول لوثر إنه يجدر بنا أن نعيش حياتنا كلها، ليس كأشخاص يتستّرون بالظلمة، حيث نعيش حياة سرية خاصة بعيدة عن أنظار أصدقائنا أو السلطات، بل إنه يجدر بنا أن نعيش حياتنا علنًا في محضر الله، أمام وجه الله، مدركين وجود الله في كل لحظة.
نضيف إلى ذلك بعض الأفكار الأخرى، لكن الفكرة الرئيسية في المسيحية هي العيش "كوروم ديو"، أي أن يعيش الإنسان حياته كلها في محضر الله، وتحت سلطان الله، ولأجل إكرام الله ومجده. سأكرر ما قلت، الفكرة الرئيسية، "كوروم ديو" هي أن يعيش المرء حياته في محضر الله، وتحت سلطان الله، ولأجل إكرام الله ومجده. هذا هو جوهر الأمر. قال يسوع الأمر بإيجاز بهذه الطريقة "إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ"، ما معناه "إن أردتم إرضائي، أرضوني عبر فعل ما أوصيتكم به".
لكن عيش هذا النوع من الحياة في البداية طبعًا يبدو مثاليًا، أليس كذلك؟ ما من أحد يعيش حياته كلها في محضر الله على نحو ثابت، وما من أحد بيننا بار جدًا لدرجة أنه يفعل كل شيء في خضوع لسلطان الله، ولأجل إكرامه ومجده. يمكننا قول ذلك دينيًا وتعريفه لاهوتيًا، لكن ممارسته فعليًا ليست بالأمر البسيط. يمكننا أن نتحمّس عاطفيًا وأن تكون لنا اختبارات روحية، حيث نأخذ عهودًا ونقطع وعودًا "يا رب، حياتي لك، قلبي على المذبح، سوف أرضيك وأعيش لأجلك"، إلى آخره، لكن في ظل الأنشطة والضغوطات اليومية التي نواجهها، تأخذ تلك الحماسة والإثارة في التلاشي، ونقع مجددًا في أنماطنا القديمة حيث نعيش بعيدًا عن محضر الله، في تحدٍّ لله، ولأجل مجد أنفسنا. إذًا، إرضاء الله لا يعني ببساطة أن نقوم بالتزامات أو أن نأخذ عهودًا، بل أن نمضي قدمًا خلال تلك اللحظات والآونة التي اختبرنا فيها العجز والإحباط في نمونا الروحي.
دعوني أطرح هذا السؤال عليكم: من منكم تابع دروسًا في العزف على البيانو؟ دعوني أرى أيديكم إن كنتم قد أخذتم دروسًا في العزف على البيانو. حوالي ثلاثة أشخاص من أصل أربعة بين الحضور رفعوا أيديهم ليعلنوا أنهم أخذوا دروسًا في العزف على البيانو في مرحلة معينة في حياتهم. هل يعمل أحد بينكم في الوقت الحاضر كعازف على البيانو في الحفلات الموسيقية؟ لا أحد بين الحضور. أليس من الغريب أنه كل سنة، وليس كل سنة فحسب بل على مدى سنوات، الملايين من الناس في الولايات المتحدة الأميركية يبدأون بمتابعة دروس في العزف على البيانو، لكن قلة هم الذين يصبحون عازفي بيانو في الحفلات الموسيقية مثل فون كلايبورن، أو حتى عازفي جاز عظماء ومشاهير مثل تيلونيوس مونك أو أوسكار بيترسون أو شارينغر أو غيرهم.
أذكر أني حين بدأت أتابع دروسًا في العزف على البيانو، راودت أمي فكرة كبيرة ووضعت يدها على وركها وقالت "يا بني، سوف تبدأ بمتابعة دروس في العزف على البيانو"، وأرسلتني إلى تلك السيدة التي تبلغ الـ110 من العمر وكانت تقيم في منزل تم تشييده منذ 150 سنة، وكان متعفنًا وصدئًا ومخيفًا. وكان عليَّ أن أجتاز أكثر من ميل في الغابة وأن أعبر الطريق السريع للوصول إلى منزل أستاذة البيانو تلك، والتي صدف أنها تدعى السيدة "بليس"، أي سيدة النعيم. أتعرفون ما هو الخطأ في التسمية؟ هذا خطأ في التسمية. كانت تلك السيدة تدعى "سيدة النعيم"، وقد أضفت كل شيء على حياتي إلا النعيم عبر ممارسة جميع تلك التمارين.
لكني أذكر جيدًا الدرس الأول. دخلت إلى ذلك البيت المخيف والقديم والعفن، وجلست على المقعد بالقرب من تلك السيدة التي كانت مخيفة وعفنة كما منزلها، وفتحت الكتاب على أول درس من سلسلة كتب جون تومبسون لتعليم العزف على البيانو، ودلتني على موقع نوتة الـ"دو" على لوحة المفاتيح، ثم طلبت مني أن أعزف الـ"دو" بسبابة إصبعي. وأخذت الدرس الأول على الصفحة، حتى إني أذكر الكلمات التي قالتها حين كنت أضرب نوتة الـ"دو" عدة مرات بسبابة إصبع يدي اليمنى، كانت الأغنية تُسمع كما يلي: أنا أعزف الـ"دو". أصحاب النغمة الممتازة بينكم يعلمون أني لا أغني الـ"دو"، لكن هكذا كانت تخرج الكلمات: أنا أعزف نوتة الـ"دو". ثم كانت اليد اليسرى تضرب النوتة نفسها، "أنا أقدر أن أعزف ذلك جيدًا"، فقلت "الأمر سهل جدًا". فبدأت أتابع دروسًا في العزف على البيانو بكل حماسة واستمتاع وكان الأمر بسيطًا، وأنهيت النصف الأول من كتاب جون تومبسون خلال أسابيع قليلة، وحلمت بأن أصبح عازف بيانو عظيمًا. لكن بعد خمس سنوات، توقفت عن متابعة دروس العزف على البيانو وكنت لا أزال في منتصف كتاب جون تومبسون للمرحلة الثانية. وتوقف تطوري كعازف على البيانو وتجمّد، وبلغ مرحلة من الصعوبة أشارت إلى بلوغ مرحلة من الاستقرار النسبي، لم أقدر أن أتجاوزها، فاستسلمت.
بعد مرور بضع سنوات على زواجي، كنت في معهد اللاهوت وكان لدينا صديقة عزيزة في بلدتنا بارعة في تعليم العزف على البيانو، وكان تلاميذها يفوزون بجائزة "أفضل عازف على البيانو لهذه السنة" في ستديو فولكوين في بيتسبرغ، فذهبت إليها قائلًا "سيدة وينزلينغ، أيمكنكِ إعطائي دروسًا في العزف على البيانو؟" فأجابت "بالطبع، يسرّني إعطاؤك دروسًا في العزف على البيانو". فذهبت لمتابعة الدرس الأول مع السيدة وينزلينغ، وجلست، فقالت لي "ماذا تريد أن تدرس؟" فقلت "آه أيتها السيدة وينزلينغ، أنا أعشق موسيقى شوبان، وأول أمر أريد فعله هو تعلّم مقطوعة حالمة لشوبان على نوتة الـ"مي"". فنظرت إلي وابتسمت قائلة "حسنًا"، وقالت "كم تدربت على العزف على البيانو؟" فقلت "وصلت إلى النصف الأول من كتاب جون تومبسون للمرحلة الثانية"، فابتسمت وضحكت قائلة "يا عزيزي، لا يمكنك عزف مقطوعة حالمة لشوبان. يجب أن تبلغ المرحلة السادسة في العزف، يجب أن نكمل من حيث توقفت وصولًا إلى تلك المرحلة. وقد تتمكن بعد سنتين من تعلم عزف المقطوعة الحالمة". فقلت "لا، أنت لا تفهمين سيدة وينرلينغ"، وقلت "أريد تعلّم المقطوعة الحالمة الآن في الحال". فابتسمت مجددًا، فهي كانت تعرفني وتعرف اندفاعي الطائش وما إلى ذلك، فقالت "حسنًا، يا آر سي، سأبرم اتفاقًا معك. سنعمل على المقطوعة الحالمة الآن، شرط أن تعد بالقيام بتمارين تدريبية في الوقت نفسه". فأعطتني أول ميزان موسيقي للمقطوعة الحالمة للأسبوع الأول. وبعد ستة أشهر، تمكنت أخيرًا من عزف المقطوعة.
ثم توقفت عن متابعة دروس البيانو إثر ذهابي إلى كلية الدراسات العليا في أوروبا. ومرة أخرى، بلغت مرحلة أخرى من الاستقرار النسبي في العزف على البيانو، وبقيت في مكاني، ولم أستطع أن أتقدم أكثر من ذلك. وبعد خمس عشرة سنة، التقيت بأحد عازفي موسيقى الجاز، واستمعت إليه وهو يعزف موسيقى الجاز، فأذهلني، وأعطاني حافزًا للبدء من جديد. فبدأت أتابع دروسًا من جديد، ومجددًا بلغت مرحلة استقرار نسبي.
لا أريد إضجاركم بقصتي مع العزف على البيانو، لكن ما تعلّمته عن الحياة خلال دراستي للعزف على البيانو هو الآتي: نحن نميل إلى البدء باندفاع في العمل في بعض الشركات، وننهمك كثيرًا بالعمل وبما نحاول أن نتعلمه، أو بما نحاول أن ننجزه، أو بما نحاول أن نفعله، وما إن نواجه عقبة ما، أو نبلغ إحدى مراحل الاستقرار النسبي الصعبة تلك حيث نُشَلّ مؤقتًا، عندئذٍ نستسلم ونقول "بلغت الحدود القصوى لقدرتي. لن أتقدم أكثر من ذلك". لكن السبيل الوحيد للتقدم في أي شركة يكمن في المثابرة خلال مرحلة الشلل تلك، لكي نتجاوز العقبة ونتقدم إلى الأمام. في الواقع، إن نظرت إلى أمر ما، فإنك ترى أننا كلّما تقدمنا في محاولتنا لإتقان عملية ما، سهل علينا التحسن أكثر فأكثر بعد أن نتعلّم كيفية تجاوز مراحل الاستقرار النسبي تلك.
ما علاقة ذلك بإرضاء الله؟ بالتأكيد، لسنا مدعوين جميعًا لنكون عازفي بيانو في الحفلات الموسيقية، لكننا مدعوون جميعًا لإرضاء الله. تكلمت مرارًا عن الأولوية في الحياة المسيحية كما يعلنها يسوع في تعليمه، حيث يطلب من تلاميذه أن يطلبوا أولًا ملكوت الله وبره وكل تلك الأشياء تُزاد لهم. في مكان آخر، يعلن يسوع كلامًا غريبًا ومبهمًا جدًا عن ملكوت الله. إنه يتكلم عن حلول ملكوت الله، ويدعو تلاميذه إلى الإلحاح في طلب ملكوت الله، قائلًا إن الغاصبين يختطفونه. قد تكون هذه فكرة سلبية تبيّن أن أعداء ملكوت الله يستخدمون العنف لمحاولة مقاومة مُلك الله، أو قد تعني – وهذا ما أظنه أيضًا – أنه يقصد أن من يسعى بجدية وراء رضاء الله ليس محاربًا عاديًا في سعيه وراء ملكوت الله، بل إنه أشبه برجل عنف يقتحم حصون العدو إلى أن يخترقها.
قال يسوع "هذه هي حال الملكوت، إنه أشبه بامرأة أضاعت درهمًا فراحت تكنس البيت كله وقلبته رأسًا على عقب، وفتشت باجتهاد إلى أن وجدت ذلك الدرهم". لا يسعني أن أتخيل كيف أن يسوع كان ثاقب البصيرة إلى هذه الدرجة في القرن الأول ليخبر قصة مقتبسة من حياة زوجتي. إن رأيتم ما يحدث في بيتي حين تفقد زوجتي محفظتها فإنكم تعرفون ما كان يجول في ذهن يسوع حين أخبر أن تلك المرأة راحت تكنس بيتها لإيجاد ذلك الدرهم. زوجتي تخبئ الأشياء دائمًا لتحفظها من اللصوص، أو لا أعلم ممن تخبئها لكن لديها مخابئ رائعة لمجوهراتها ومحفظتها. المشكلة الوحيدة هي أنها بعد أن تخبئها، تنسى أين وضعتها. والمخابئ رائعة جدًا لدرجة أنها لا تجد ما خبأته. ثم علينا اتخاذ الإجراءات، علينا رفع السجادات، وسحب الأدراج من الخزانات وتفتيش الملابس الشتوية وغيرها لمحاولة إيجاد هذا الشيء.
قال يسوع "يشبه ملكوت الله رجلًا وجد لؤلؤة غير عادية، قيّمة وكثيرة الثمن وفريدة في روعتها. وكان هذا الرجل يتوق بشدة إلى امتلاك تلك اللؤلؤة، وهي أثمن من أي لؤلؤة أخرى، فذهب وباع كل ما لديه ليقتني تلك اللؤلؤة الفريدة". قال يسوع "يشبه ملكوت الله رجلًا فقد ابنه". سبق أن ذكرت الابن الضال الذي ذهب إلى بلاد بعيدة وبدّد ميراث أبيه. ترون تلك العربات والسيارات الترفيهية على الطريق السريع التي تحمل ملصقات في الجهة الخلفية، حيث تجد زوجين جميلين متقاعدَين يقودان سيارة وينيباغو جميلة على الطريق السريع وقد كُتب على الجهة الخلفية منها "نحن ننفق ميراث أولادنا". ماذا لو أنفق أولادك ميراثهم قبل أن تموت؟ ماذا لو علّق ولدك لافتة على الجهة الخلفية من سيارته كُتب عليها "أنا أنفق مال التقاعد الذي تقاضاه أبي"؟ هذا ما فعله الابن الضال. خرج وبدد كل ما جناه والده بكدّ وبعرق جبينه، ثم ألحق العار بعائلته بسبب حياته الصاخبة تلك. تعرفون القصة. لكن حين رجع إلى نفسه، بكل إذلال وانحطاط جراء عيشه مع الخنازير وفوح رائحتها منه، حنى رأسه وكان في حالة يرثى لها، وهمّ بالرجوع إلى البيت، وقال لنفسه "أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي".
لكن جوهر القصة هو أنه حين كان الابن لا يزال بعيدًا، الأب القلق الذي لم يكن على دراية بما حل بابنه منذ رحيله، رأى ابنه آتيًا من بعيد، ونقرأ أن الأب طفر من مكانه وركض نحوه. في تلك الأيام، كان الآباء اليهود يرتدون أثوابًا. يمكنني أن أرى هذا الرجل حافي القدمين، يركض ليجد ابنه. ولما وجد ابنه، وقع على عنقه وقبّله، وأمر عبيده بأن يذبحوا العجل المسمّن وبأن يعطوه خاتم العائلة، وأكرم ابنه قائلًا "لأَنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ". جميع هذه الأمثال – الابن الضال، الدرهم المفقود، واللؤلؤة الثمينة – هي أمثال تشدّد على أهمية السعي وراء ملكوت الله، وتجاوز نقاط العجز، ومرحلة الاستقرار النسبي حيث تصبح الأمور صعبة جدًا فتوقفنا.
أريد من المؤمنين بينكم أن يتذكروا بدايات اختبارهم المسيحي، والحماسة والنار والشغف التي كانت لديهم. ربما خسرتم جميع أصدقائكم لأنكم كنتم مزعجين جدًا ومارستم ضغطًا عليهم، وكنتم شديدي الحماسة لدرجة أنكم أردتم إخبار الجميع بما جرى لكم، إلى آخره. جميعنا اختبر ذلك، لكننا تعلمنا بعد ذلك كيفية التأقلم لنلائم أصدقاءنا، وتعلمنا أن نعدّل أهدافنا، لأننا حين بدأنا ننمو وبرزت طفرة البلوغ، بلغنا فجأة مرحلة الاستقرار النسبي تلك وهمدنا. قلنا "سأقرأ الكتاب المقدس من البداية حتى النهاية"، فقرأنا سفر التكوين، ومن ثم سفر الخروج، ثم وصلنا إلى سفر اللاويين وكثيرون بيننا تراجعوا حين وصلوا إلى سفر اللاويين. البعض ثابر لقراءة سفر اللاويين وصولًا إلى سفر العدد، ولما غاص في سفر العدد قال "لم يعد بإمكاني فعل ذلك"، واستسلم. وهذا ما يحدث، نحن نبدأ لكننا لا ننهي ما بدأناه.
أيها الأحباء، ما يرضي الله هو شخص يثابر على الدوام، شخص يصلي كل يوم "ليأتِ ملكوتك"، شخص يُمضي حياته كلها، وليس بدايتها فحسب، وهو يطلب ملكوت الله. مجددًا، أعلن إدواردز هذا التصريح: "طلب ملكوت الله ليس أمرًا يصنعه غير المؤمنين، طلب ملكوت الله هو مهمة المؤمن الرئيسية". هذا عمل يدوم مدى الحياة وسعي يدوم مدى الحياة. وأظن أن هذا ما يعنيه أن يكون المرء تلميذًا، أن يتدرب على يد شخص أكثر نضوجًا. إن أردتُ تخطي مراحل العجز حيث وقفتُ مكاني في العزف، كان علي اللجوء إلى أستاذ اجتاز مرحلة الاستقرار النسبي تلك، يستطيع أن يساعدني على عبور العتبة لاختبار حرية جديدة. وأظن أن الأمر نفسه ينطبق على الحياة الروحية والنمو الروحي.
أخيرًا، سأعطيكم مثلًا إيضاحيًا يبين كيف أن الله يُسرّ بالأشخاص الذين يطلبون ملكوته. حين كنت فتى، ذهبت لمشاهدة فيلم، ولا أذكر تحديدًا عنوان الفيلم أو من كان بطله، كان يتعلق بمغامرات روبن هود. ولا أعلم ما إذا كان إيرول فلين، أو دوغلاس فيربانكس الصغير. أظن أن دوغلاس فيربانكس الصغير هو من مثّل في ذلك الفيلم، حيث كان بازيل راثبون شريف نوتنجهام. وشاهدت قصة روبن هود السحرية على الشاشة، فسبتني. يا لها من قصة رائعة! كان على الملك ريكاردوس الرحيل والانطلاق في مهمة روحية. وأثناء غيابه، اغتصب مُلكه وقوته وسلطانه الأمير جون الشرير، وهو أخوه الأصغر. كان روبن هود مخلصًا للملك، لكن الملك رحل، فأُرغم روبن هود ورجاله على العيش في الغابات وإيجاد ملجأ في الريف، فتم تخصيص مبلغ من المال لمن يقطع رأسه. وترون طوال القصة صراع رجل مخلص لملك بعيد، لملك قد رحل، يرفض الخضوع للمغتصب الذي خلع الملك الشرعي. يعيش روبن هود ليرضي الملك ريكاردوس وليس الأمير جون. وفي نهاية الفيلم، منح الملك ريكاردوس رتبة نبيل لروبن هود، وجعل منه إيرل لوكسلي، لأنه ثابر. عاش روبن هود في حضور ملكه، وتحت سلطان ملكه، ولأجل مجد ملكه وإكرامه. لا أرى نظيرًا أكثر دقة لدعوة المؤمن المسيحي الذي يرضي إلهه من خدمة ذاك الذي تم تتويجه ملك الملوك. وأثناء غيابه اِسعَ وراء إرضائه وإكرامه وطاعته.