المحاضرة 9: الْمُهِمَّةُ الإِلَهِيَّةُ
فِي مُحَاضَرَتِنَا السَابِقَةِ، تَأَمَّلْنَا فِي آثَارِ كَيْنُونَةِ اللهِ الْمُعْلَنَةِ فِي اسْمِهِ "أَنَا هُوَ الَذِي هُوَ"، وَرَجَعْنَا إِلَى أَوَّلِ آيَةٍ فِي سِفْرِ التَكْوِينِ وَالَتِي تَبْدَأُ بِعِبَارَةِ "فِي الْبَدْءِ... اللهُ..."، وَتَطَرَّقْنَا إِلَى مَعْنَى ذَلِكَ، وَأَشَرْنَا إِلَى أَنَّ اللهَ أَزَلِيٌّ، وَأَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ الأُخْرَى الَتِي خَلَقَهَا لَهَا بِدَايَةٌ فِي الزَمَنِ وَتَظْهَرُ عَلَيْهَا سِمَاتُ التَغْيِيرِ أَوِ التَحَوُّلِ. وَالسِيَاقُ الَذِي تَطَرَّقْنَا ضِمْنَهُ إِلَى لِقَاءِ مُوسَى مَعَ اللهِ فِي بَرِّيَّةِ مِدْيَانَ لا يَتَعَلَّقُ بِالْخَلْقِ فَحَسْبُ، بَلْ بِالإِلَهِ نَفْسِهِ الَذِي يَخْلُقُ وَيَتَدَخَّلُ فِي التَارِيخِ مِنْ خِلالِ عَمَلِ الْفِدَاءِ.
هَذَا أَمْرٌ نَنْسَاهُ غَالِبًا. لأَنَّ الإِلَهَ نَفْسَهُ الَذِي يَتَمَتَّعُ بِالْقُوَّةِ لِيُخْرِجَ الْكَوْنَ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ مِنْ خِلالِ سُلْطَانِ كَلِمَتِهِ فَحَسْبُ، أَوْ مَا أَسْمَاهُ أُوغُسْطِينُوسُ "الأَمْرَ الإِلَهِيَّ"، وَبِمُوجَبِهِ قَالَ اللهُ بِبَسَاطَةٍ: "لِيَكُنْ..." فَكَانَ. هُوَ أَعْلَنَ كَلِمَتَهُ، فَخَرَجَ الْكَوْنُ كُلُّهُ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ. وَإِذَا أَرَدْنَا التَأَمُّلَ فِي عَظَمَةِ تِلْكَ الْقُوَّةِ، فَهِيَ تَفُوقُ قُدْرَتَنَا الذِهْنِيَّةَ. لَكِنْ مَا يَجِبُ أَنْ نَفْهَمَهُ هُوَ أَنَّ ذَاكَ الإِلَهَ نَفْسَهُ، الَذِي يَتَمَتَّعُ بِالْقُوَّةِ نَفْسِهَا وَبِالْكَلِمَةِ نَفْسِها، هُوَ ذَاكَ الإِلَهُ الَذِي وَمُنْذُ الأَزَلِ قَصَدَ أَنْ يَضَعَ خُطَّةَ فِدَاءٍ لِخَلِيقَتِهِ السَاقِطَةِ.
وَلاحَظْنَا فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ الَذِي كَانَ لِمُوسَى مَعَ الله، أَنَّهُ حِينَ أَعْلَنَ اللهُ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ خِلالِ اسْمِهِ الْمُقَدَّسِ، قَالَ فِي الآيَةِ الرَابِعَةَ عَشْرَةَ: "فَقَالَ اللهُ لِمُوسَى: "أهْيَهِ الَّذِي أهْيَهْ". وَقَالَ: "هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: أهْيَهْ أرْسَلَنِي إلَيْكُمْ". وَقَالَ اللهُ أيْضًا لِمُوسَى: "هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إسْرَائِيلَ: يَهْوَهْ إلَهُ آبَائِكُمْ، إلَهُ إبْرَاهِيمَ وَإلَهُ إسْحَقَ وَإلَهُ يَعْقُوبَ أرْسَلَنِي إلَيْكُمْ". هُوَ أَمَرَ مُوسَى قَائِلًا: "اذْهَبْ وَاجْمَعْ شُيُوخَ إسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمُ: الرَّبُّ إلَهُ آبَائِكُمْ، إلَهُ إبْرَاهِيمَ وَإسْحَقَ وَيَعْقُوبَ ظَهَرَ لِي".
مِنَ الْمُهِمِّ أَنْ نُلاحِظَ الاسْتِمْرَارِيَّةَ بَيْنَ ذَاكَ الَذِي تَمَّ التَعْرِيفُ عَنْهُ بٍأَنَّهُ إِلَهُ آبَائِهِمْ، إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ، وَذَاكَ الَذِي يُعْلِنُ اسْمَهُ التَذْكَارِيَّ الآنَ "أهْيَهِ الَّذِي أهْيَهْ". يَجِبُ أَنْ نَرْجِعَ قَلِيلًا إِلَى تَارِيخِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَأَنْ نَطْرَحَ الأَسْئِلَةَ الآتِيَةَ: لِمَاذَا أَسْمَى اللهُ نَفْسَهُ إِلَهَ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهَ إِسْحَقَ وَإِلَهَ يَعْقُوبَ؟ وَكَيْفَ أَصْبَحَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُزْءًا مِنْ هَذَا الْمَوْقِفِ الَذِي يُعَالِجُهُ اللهُ مَعَ مُوسَى الآنَ؟
يَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ الَذِي دَعَاهُ اللهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ أَرْضِ الْوَثَنِيَّةِ وَعِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالظُلْمَةِ. هُوَ دَعَاهُ لِلْخُرُوجِ مِنْ بِلادِ مَا بَيْنَ النَهْرَيْنِ، مِنْ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَنْهَضَ وَيَتْرُكَ الأَرْضَ الَتِي وُلِدَ فِيهَا، وَيَتْرُكَ أَصْدِقَاءَهُ وَعَائِلَتَهُ وَطَبِيبَهُ وَطَبِيبَ أَسْنَانِهِ وَكُلَّ مَا كَانَ مُهِمًّا بِالنِسْبَةِ إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: "انْهَضْ وَاذْهَبْ إِلَى الأَرْضِ الَتِي أُرِيكَ". وَمَكْتُوبٌ أَنَّهُ بِالإِيمَانِ أَطَاعَ إِبْرَاهِيمُ أَمْرَ اللهِ هَذَا، وَخَرَجَ يَبْحَثُ عَنْ أَرْضِ الْمَوْعِدِ الَتِي كَانَ يَجْهَلُ مَوْقِعَهَا.
تَعْلَمُونَ كَيْفَ أَنَّ قِصَّتَهُ انْطَوَتْ عَلَى وَعْدٍ بِإِنْجَابِ طِفْلٍ فِي سِنِّ الشَيْخُوخَةِ، وَعَلَى أَنَّهُ مِنْ خِلالِ هَذَا الطِفْلِ سَيَتَبَارَكُ الْكَوْنُ كُلُّهُ فَيُصْبِحُ نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ مِثْلَ نُجُومِ السَمَاءِ وَرَمْلِ الْبَحْرِ. لَكِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَحْيَ لِيَرَى نَسْلَهُ يَتَكَاثَرُ. هُوَ عَاشَ وَأَبْصَرَ ابْنَ الْوَعْدِ، إِسْحَقَ، لَكِنَّهُ لَمْ يرَ أَرْضَ الْوَعْدِ أَبَدًا. قِطْعَةُ الأَرْضِ الْفِعْلِيَّةُ الْوَحِيدَةُ الَتِي امْتَلَكَهَا فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ هِيَ "الْمَكْفِيلَةُ"، وَهِيَ الأَرْضُ الَتِي دُفِنَ فِيهَا. لَكِنَّهُ، وَفِي آخِرِ أَيَّامِ حَيَاتِهِ، أَطْلَعَ إِسْحَقَ عَلَى هَذَا الْوَعْدِ، فَانْتَقَلَتْ بَرَكَةُ الآبَاءِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِلَى إِسْحَقَ. وَبِالطَرِيقَةِ نَفْسِها، إِنَّ إِسْحَقَ، وَفِي آخِرِ أَيَّامِ حَيَاتِهِ، نَقَلَ بَرَكَةَ الآبَاءِ لا لِعِيسُو بَلْ لِيَعْقُوبَ.
وَحِينَ نَقْرَأُ الأَصْحَاحَاتِ الأَخِيرَةَ مِنْ سِفْرِ التَكْوِينِ، نَرَى أَنَّ أَحَدَ أَبْنَاءِ يَعْقُوبَ، وَيُدْعَى يُوسُفَ، خَانَهُ إِخْوَتُهُ وَبَاعُوهُ لِتُجَّارِ الرَقِيقِ، وَرُمِيَ فِي السِجْنِ. ثُمَّ تَوَالَتْ أَحْدَاثُ الْقِصَّةِ، وَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْ تَفْسِيرِ الأَحْلامِ وَجَدَ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْ فِرْعَوْنِ الْحَاكِمِ. وَنَظَرًا لِكَفَاءَتِهِ فِي مَجَالِ الإِدَارَةِ، عَلا شَأْنُهُ لِيَحْتَلَّ مَنْصِبَ رَئِيسِ وُزَراءِ مِصْرَ كُلِّها.
ثُمَّ حَدَثَ ضِمْنَ أَحْدَاثِ التَارِيخِ الْمُتَغَيِّرَةِ وَالَتِي لا مُبَرِّرَ لَهَا –مَا يُمْكِنُ أَنْ نُسَمِّيَهُ "التَقَلُّبَاتِ"– أَنَّ مَجَاعَةً ضَرَبَتْ أَرْضَ أَبِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ. فِي هَذَا الْوَقْتِ، كَانَ قَدْ تَمَّ تَعْيِينُ يُوسُفَ مَسْؤُولًا عَنْ مَخَازِنِ مِصْرَ. وَفِيمَا كَانَتْ شُعُوبُ الْبُلْدَانِ الْمُجَاوِرَةِ يَتَضَوَّرُونَ جُوعًا، كَانَ شَعْبُ مِصْرَ، وَتَحْتَ قِيَادَةِ يُوسُفَ، مُعَدًّا لاحْتِمَالِ وُقُوعِ مَجَاعَةٍ مُمَاثَلَةٍ.
وَتَعْلَمُونَ كَيْفَ دَارَتْ أَحْدَاثُ الْقِصَّةِ، وَكَيْفَ أَنَّ يَعْقُوبَ أَرْسَلَ أَبْنَاءَهُ إِلَى مِصْرَ لِلاسْتِفْسَارِ حَوْلَ كَيْفِيَّةِ الْحُصُولِ عَلَى طَعَامٍ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إِطْعَامِ عَائِلَتِهِ. وَكُلُّ الْمُؤَامَرَاتِ الَتِي تَمَّ الْقِيَامُ بِهَا أَدَّتْ إِلَى جَمْعِ شَمْلِ أَبْنَاءِ يَعْقُوبَ الآخَرِينَ وَيُوسُفَ. وَدَعَا يُوسُفُ أَبَاهُ يَعْقُوبَ لِلْهِجْرَةِ إِلَى مِصْرَ حَيْثُ يَجِدُ وَفْرَةً مِنَ الطَعَامِ وَيَتَجَنَّبُ مُوَاجَهَةَ مَشَاكِلِ الْجُوعِ. وَتَمَّ إِعْطَاءُ قِطْعَةِ أَرْضٍ مُمَيَّزَةٍ، وَهِيَ أَرْضُ جَاسَانَ، لِيَعْقُوبَ وَعَائِلَتِهِ. هَكَذَا وَصَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مِصْرَ فِي بِدَايَةِ الأَمْرِ.
ثُمَّ نَقْرَأُ ذَلِكَ الْخَبَرَ الْمَشْؤُومَ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَمَفَادُهُ أَنَّ فِرْعَوْنَ آخَرَ جَاءَ، وَلَمْ يَتَذَكَّرْ يُوسُفَ. وَبَدَلًا مِنْ أَنْ يُعَامِلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَضُيُوفٍ فِي الأَرْضِ وَيَمْنَحَهُمْ امْتِيازًا خَاصًّا، بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ، اسْتَعْبَدَهُمْ فِرْعَوْنُ، وَاسْتَخْدَمَهُمْ كَيَدٍ عَامِلَةٍ رَئِيسِيَّةٍ فِي السُخْرَةِ. هَذَا هُوَ السِيَاقُ الَذِي جَرَتْ ضِمْنَهُ أَحْدَاثُ هَذَا الْجُزْءِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ، حَيْثُ إِنَّ الْهَدَفَ الْكُلِّيَّ مِنْ هَذَا اللِقاءِ بَيْنَ اللهِ وَمُوسَى كَانَ مُعَالَجَةَ مُشْكِلَةِ عُبُودِيَّةِ الْيَهُودِ.
تَذْكُرُونَ أَنَّ اللهَ قَالَ لِمُوسَى: "لَقَدْ سَمِعْتُ صُرَاخَ شَعْبِي، صُرَاخُهُمْ ارْتَفَعَ إِلَيَّ، وَالآنَ يَا مُوسَى أَنَا عَازِمٌ عَلَى تَحْرِيرِهِمْ، عَلَى إِعْتَاقِهِمْ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ لِكَيْ يَخْرُجُوا مِنْ هَذِهِ الأَرْضِ وَيَصْعَدُوا إِلَى جَبَلِي الْمُقَدَّسِ لِيَعْبُدُونِي هُنَاكَ". إِذًا، هَذَا هُوَ الْهَدَفُ الْكُلِّيُّ مِنَ اللِقَاءِ عِنْدَ الْعُلَّيْقَةِ الْمُتَّقِدَةِ، الَذِي سَبَقَ أَنْ ذَكَرْتُ أَنَّهُ كَانَ نُقْطَةَ تَحَوُّلٍ، لا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فَحَسْبُ بَلْ لِتَارِيخِ الْعَالَمِ كُلِّهِ، فِي ذَلِكَ السِيَاقِ، يَعِدُ اللهُ بِالْفِدَاءِ وَالتَحْرِيرِ. وَلَنْ يَتَحَقَّقَ هَذَا الأَمْرُ بِدُونِ صِرَاعٍ كَبِيرٍ وَاعْتِبَارَاتٍ كَبِيرَةٍ تَشْمَلُ مُوسَى.
إِذَا رَاجَعْنَا الْعَهْدَ الْجَدِيدَ، وَتَحْدِيدًا الرِسَالَةَ إِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ، فَإِنَّنَا نَرَى فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ مَا يُشَكِّلُ تَقْيِيمًا لِمُوسَى. فِي الأَصْحَاحِ الثَالِثِ مِنَ الرِسَالَةِ إِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ نَقْرَأُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ: "مِنْ ثَمَّ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْقِدِّيسُونَ، شُرَكَاءُ الدَّعْوَةِ السَّمَاوِيَّةِ، لاَحِظُوا رَسُولَ اعْتِرَافِنَا وَرَئِيسَ كَهَنَتِهِ الْمَسِيحَ يَسُوعَ، حَالَ كَوْنِهِ أَمِينًا لِلَّذِي أَقَامَهُ، كَمَا كَانَ مُوسَى أَيْضًا فِي كُلِّ بَيْتِهِ". مَا نَجِدُهُ هُنَا، فِي الأَصْحَاحَاتِ الأُولَى مِنَ الرِسَالَةِ إِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ، هُوَ أَنَّ كَاتِبَ الرِسَالَةِ إِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ يُبَيِّنُ أَوْجُهَ الشَبَهِ وَالاخْتِلافِ بَيْنَ يَسُوعَ وَالْمَلائِكَةِ. "لأَنَّهُ لِمَنْ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ: "أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ"؟ ثُمَّ لِمَنْ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ قَالَ قَطُّ: "اِجْلِسْ عَنْ يَمِينِي"؟" لا أَحَدَ طَبْعًا. إِذًا، نَحْنُ نَرَى تَفَوُّقَ الْمَسِيحِ عَلَى الْمَلائِكَةِ.
لَكِنَّ مَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ إِظْهَارُ أَوْجُهِ الشَبَهِ والاخْتِلافِ بَيْنَ يَسُوعَ وَمُوسَى. يَجِبُ أَلَّا تَفُوتَنَا أَهَمِّيَّةُ هَذَا الأَمْرِ، لأَنَّهُ فِي الْمَقَامِ الأَوَّلِ، كَانَ مُوسَى وَسِيطَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ. وَكَمَا سَبَقَ أَنْ ذَكَرْتُ فِي هَذِهِ السِلْسِلَةِ التَعْلِيمِيَّةِ، أَنَّ تِلْكَ الْمُهِمَّةَ الْخَاصَّةَ الَتِي أُوكِلَتْ إِلَى مُوسَى، جَعَلَتْ مِنْهُ عَلَى الأَرْجَحِ الشَخْصِيَّةَ الأَكْثَرَ أَهَمِّيَّةً وَاسْتِثْنَائِيَّةً فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ كُلِّهِ. فَمِنْ خِلالِ عَمَلِ الْوَسَاطَةِ الَذِي اطَّلَعَ بِهِ مُوسَى، أُنْشِئَتْ أُمَّةُ إِسْرَائِيلَ. مِنْ خِلالِ عَمَلِ مُوسَى، الْوَصَايَا الَعَشْرُ الَتِي تَمَّ تَسَلُّمُهَا عَلَى جَبَلِ سِينَاءَ، أُعْطِيَتْ لِلشَعْبِ. وَكَوَسِيطٍ، هُوَ كَانَ قَائِمًا بِالْوَسَاطَةِ بَيْنَ اللهِ وَشَعْبِ إِسْرَائِيلَ.
الأَمْرُ الْبَالِغُ الأَهَمِّيَّةِ هُنَا، هُوَ أَنَّهُ بِقَدْرِ مَا كَانَ مُوسَى وَسِيطَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، هُوَ، نَوْعًا مَا، تَنَبَّأَ بِمَجِيءِ الْوَسِيطِ الأَعْظَمِ الَذِي سَيَأْتِي لاحِقًا، وَسِيطِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، الْمَسِيحِ نَفْسِهِ. ثَمَّةَ إِعْلاناتٌ كَثِيرَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالصِلَةِ بَيْنَ مُوسَى وَيَسُوعَ، وَقَدْ كَتَبَهَا رُسُلُ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. فَكَمَا تَعْلَمُونَ "النَّامُوسُ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا". إِذًا، مَا أَوَدُّ أَنْ نَدْرُسَهُ بِإِيجَازٍ فِي هَذِهِ الْمُحَاضَرَةِ، هُوَ ذَلِكَ التَحْلِيلُ الْمُقَارِنُ بَيْنَ الْوَسِيطَيْنِ.
مِنَ اللَافِتِ أَنَّ الْعَهْدَ الْجَدِيدَ ذَكَرَ فِي إِحْدَى الْمُنَاسَبَاتِ أَنَّهُ يُوجَدُ وَسِيطٌ وَاحِدٌ فَقَطْ بَيْنَ اللهِ وَالنَاسِ، وَهُوَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ. وَبِالطَبْعِ، مَا قَصَدَهُ بِذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ يُوجَدُ وَسِيطٌ أَعْلَى وَاحِدٌ فَقَطْ، وَهُوَ، وَبِفَضْلِ مَرْكَزِ الْوَسَاطَةِ الَذِي احْتَلَّهُ، اسْتَخْدَمَ طَبِيعَتَيْهِ الْبَشَرِيَّةَ وَالإِلَهِيَّةَ. اسْتَطَاعَ مُوسَى التَوَسُّطَ لِشَعْبِ إِسْرَائِيلَ فِي مَجَالاتٍ مُعَيَّنَةٍ كَإِنْسَانٍ، لَكِنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنِ اللهَ الْمُتَجَسِّدَ.
ثُمَّ نَقْرَأُ هَذِهِ الْمُقَارَنَةَ فِي الرِسَالَةِ إِلَى الْعِبْرَانِيِّينَ "الْمَسِيحَ يَسُوعَ، حَالَ كَوْنِهِ أَمِينًا لِلَّذِي أَقَامَهُ، كَمَا كَانَ مُوسَى أَيْضًا فِي كُلِّ بَيْتِهِ –أَيْ فِي بَيْتِ اللهِ كُلِّهِ– فَإِنَّ هَذَا قَدْ حُسِبَ أَهْلًا لِمَجْدٍ أَكْثَرَ مِنْ مُوسَى –إِنَّهُ يَسُوعُ– بِمِقْدَارِ مَا لِبَانِي الْبَيْتِ مِنْ كَرَامَةٍ أَكْثَرَ مِنَ الْبَيْتِ. لأَنَّ كُلَّ بَيْتٍ يَبْنِيهِ إِنْسَانٌ مَا، وَلَكِنَّ بَانِيَ الْكُلِّ هُوَ اللهُ. وَمُوسَى كَانَ أَمِينًا فِي كُلِّ بَيْتِهِ كَخَادِمٍ، شَهَادَةً لِلْعَتِيدِ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِهِ. وَأَمَّا الْمَسِيحُ فَكَابْنٍ عَلَى بَيْتِهِ. وَبَيْتُهُ نَحْنُ إِنْ تَمَسَّكْنَا بِثِقَةِ الرَّجَاءِ وَافْتِخَارِهِ ثَابِتَةً إِلَى النِّهَايَةِ".
نَحْنُ نَرَى فِي هَذِهِ الْمُقَارَنَةِ أَنَّ مُوسَى كَانَ أَمِينًا كَخَادِمٍ. هُوَ كَانَ خَادِمًا فِي الْبَيْتِ، لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَمْتَلِكُ الْبَيْتَ، هُوَ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ الْبَيْتِ. لَمْ يَكُنْ هُوَ مَنْ بَنَى الْبَيْتَ، هُوَ كَانَ يَخْدُمُ فِيهِ. لَكِنْ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ نَجِدُ بَيْتًا، صَانِعُهُ وَبَانِيهِ هُوَ الْمَسِيحُ، وَذَلِكَ الْبَيْتُ هُوَ شَعْبُهُ. نَحْنُ نُشَكِّلُ ذَلِكَ الْبَيْتَ. وَهُنَا، الْبَيْتُ هُوَ مُلْكٌ لِلابْنِ. هُوَ لَيْسَ خَادِمًا، بَلْ إِنَّهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ.
لاحِقًا، وَضِمْنَ قَائِمَةِ الْقِدِّيسِينَ وَالشُهُودِ الَذِينَ تَمَّ ذِكْرُهُمْ فِي الأَصْحَاحِ الْحَادِي عَشَرَ خِلالَ ذِكْرِ أَسْمَاءِ الْقِدِّيسِينَ فِي رِسَالَةِ الْعِبْرَانِيِّينَ، نَقْرَأُ هَذِهِ التَعْلِيقَاتِ عَنْ مُوسَى "بِالإِيمَانِ مُوسَى، بَعْدَمَا وُلِدَ، أَخْفَاهُ أَبَوَاهُ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ، لأَنَّهُمَا رَأَيَا الصَّبِيَّ جَمِيلًا، وَلَمْ يَخْشَيَا أَمْرَ الْمَلِكِ. بِالإِيمَانِ مُوسَى لَمَّا كَبِرَ أَبَى أَنْ يُدْعَى ابْنَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، مُفَضِّلًا بِالأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ اللهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وَقْتِيٌّ بِالْخَطِيَّةِ، حَاسِبًا عَارَ الْمَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ، لأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْمُجَازَاةِ".
مُجَدَّدًا، لا يَسَعُكُمْ سِوَى التَفْكِيرِ فِي أَنَّ مُوسَى كَانَ ابْنَ ثَمَانِينَ سَنَةً يَجُولُ فِي بَرِّيَّةِ الْمِدْيَانِيِّينَ، إِنَّهُ كَائِنٌ بَشَرِيٌّ وَلَيْسَ قِدِّيسًا مِنْ وَرَقٍ. لا بُدَّ أَنَّهُ سَأَلَ نَفْسَهُ مِرارًا وَتَكْرارًا: "مَا سَبَبُ وُجُودِي هُنَا؟ هَلْ حَيَاتِي هِيَ مُجَرَّدُ مَضْيَعَةٍ لِلْوَقْتِ؟ كُلُّ ذَلِكَ التَدْرِيبِ الَذِي لَقِيتُهُ فِي بَيْتِ فِرْعَوْنَ وَالْعِلْمِ الَذِي حَصَّلْتُهُ فِي مِصْرَ وَأَنَا أَدْرُسُ اللُغَاتِ وَالْفُنُونَ وَالطِبَّ وَغَيْرَ ذَلِكَ، هَلْ لِكَيْ أَتَمَشَّى ذَهَابًا وَإِيَابًا فِي هَذَا الْقَفْرِ الْقَاحِلِ فِي بَرِّيَّةِ مِدْيَانَ؟ أَيْنَ أَنْتَ يَا أَللهُ؟ مَا سَبَبُ وُجُودِي هُنَا؟"
هَذَا سُؤَالٌ يَطْرَحُهُ النَاسُ فِي كُلِّ جِيلٍ، وَبِالطَبْعِ، أَنْتُمْ تَطْرَحُونَ هَذَا السُؤَالَ بَيْنَ الْحِينِ وَالآخَرِ "مَا الَذِي أَفْعَلُهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ؟ يَبْدُو أَنَّهُ لَيْسَ لِحَيَاتِي مَعْنًى كَبِيرٌ". أَعْتَقِدُ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مَخْلُوقٍ عَلَى صُورَةِ اللهِ يَكْمُنُ فِي دَاخِلِه تَوْقٌ إِلَى أَنْ يَكُونَ لِحَيَاتِهِ مَعْنًى. نَحْنُ نُرِيدُ أَنْ يَكُونَ لِحَيَاتِنَا مَعْنًى، نُرِيدُ أَنْ يَقُولَ النَاسُ كَلامًا عَنَّا عِنْدَ مَمَاتِنَا لا يَقْتَصِرُ عَلَى ذِكْرِ تَارِيخِ مِيلادِنَا وَتَارِيخِ مَمَاتِنا، نَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نَتْرُكَ مِيرَاثًا يَعُودُ بِالْفَائِدَةِ عَلَى الآخَرِينَ، لِئَلَّا تَكُونَ حَيَاتُنَا قَدْ مَرَّتْ هَدْرًا، بَلْ يَكُونُ لَهَا قِيمَةٌ.
هَذَا رَجُلٌ فِي الثَمَانِينَ مِنَ الْعُمْرِ يُفَكِّرُ مَلِيًّا وَيَطْرَحُ السُؤَالَ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، إِلَى أَنْ رَأَى تِلْكَ الْعُلَّيْقَةَ الَتِي كَانَتْ تَتَّقِدُ بِدُونِ أَنْ تَحْتَرِقَ، فَقَالَ لَهُ اللهُ: "يَا مُوسَى، هَذِهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ. هُنَا أَنَا أُكَلِّمُكَ لأُكَلِّفَكَ بِمُهِمَّةٍ مُقَدَّسَةٍ. كَانَ بِإِمْكَانِي أَنْ أَصْرُخَ مِنَ السَمَاءِ وَأَنْ أَتَكَلَّمَ مُبَاشَرَةً إِلَى فِرْعَوْنَ قَائِلًا: "يَا فِرْعَوْنُ، أَطْلِقْ شَعْبِي"، لَكِنْ لَيْسَتْ هَذِهِ الطَرِيقَةَ الَتِي أَتَّبِعُهَا لِفِعْلِ الأُمُورِ. أَنَا أُكَلِّفُكَ بِهَذِهِ الْمُهِمَّةِ. هَذَا هُوَ هَدَفُ حَيَاتِكَ، هَذَا هُوَ مَصِيرُكَ، أَنَا أَعْمَلُ مِنْ خِلالِكَ لِكَيْ أَفْتَدِيَ شَعْبَكَ". إِنَّهُ أَمْرٌ مُذْهِلٌ.
ثُمَّ يُتَابِعُ كَاتِبُ رِسَالَةِ الْعِبْرَانِيِّينَ قَائِلًا: "بِالإِيمَانِ تَرَكَ مِصْرَ غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ غَضَبِ الْمَلِكِ، لأَنَّهُ تَشَدَّدَ، كَأَنَّهُ يَرَى مَنْ لاَ يُرَى. بِالإِيمَانِ صَنَعَ الْفِصْحَ وَرَشَّ الدَّمَ لِئَلاَّ يَمَسَّهُمُ الَّذِي أَهْلَكَ الأَبْكَارَ. بِالإِيمَانِ اجْتَازُوا فِي الْبَحْرِ الأَحْمَرِ كَمَا فِي الْيَابِسَةِ، الأَمْرُ الَّذِي لَمَّا شَرَعَ فِيهِ الْمِصْرِيُّونَ غَرِقُوا". هَذِهِ الْمَلْحَمَةُ كُلُّهَا هِيَ مَلْحَمَةُ الإِيمَانِ، إِيمَانِ رَجُلٍ بِدَعْوَةِ اللهِ عَلَى حَيَاتِهِ.
لَكِنْ، كَمَا ذَكَرْتُ، هُوَ يُنْبِئُ بِشَكْلٍ ضَعِيفٍ بِمَجِيءِ وَسِيطِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، الَذِي هُوَ مَالِكُ بَيْتِهِ. وَعَمَلُ التَحْرِيرِ وَالْخَلاصِ الَذِي يُتَمِّمُهُ، يَجْعَلُ عَمَلَ مُوسَى قَلِيلَ الأَهَمِّيَّةِ. لَكِنْ هَذِهِ الْمَرَّةَ، هُوَ لا يُوَاجِهُ فِرْعَوْنَ، بَلِ الشَيْطَانَ. يُوَاجِهُ اللهُ الشَيْطَانَ عَبْرَ خِدْمَةِ ابْنِهِ الْوَحِيدِ. وَالرِسَالَةُ الَتِي يُوَجِّهُهَا إِلَى الشَيْطَانِ مِنْ خِلالِ ابْنِهِ، مِنْ خِلالِ الْكَلِمَةِ الْمُتَجَسِّدِ، هِيَ الآتِيَةُ: "أَطْلِقْ شَعْبِي". وَبِكَلِمَةِ قُوَّتِهِ تَمَّ أَعْظَمُ عَمَلِ خُرُوجٍ يُمْكِنُ تَصَوُّرُهُ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ، حِينَ سَبَى الْمَسِيحُ سَبْيًا، وَحَرَّرَ قِدِّيسِيهِ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْخَطِيَّةِ، وَنَالَ الْمُكَافَأَةَ الْمُتَمَثِّلَةَ بِجُلُوسِهِ عَنْ يَمِينِ اللهِ الآبِ مُظْهِرًا أَنَّ مُهِمَّتَهُ تَفَوَّقَتْ جدًّا على مُهِمَّةِ مُوسَى. هَذَا هُوَ الَذِي سَيَأْتِي مِثْلَ مُوسَى لَكِنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ مُوسَى، لأَنَّ عَمَلَ التَحْرِيرِ وَالْخَلاصِ الَذِي تَمَّمَهُ تَمَثَّلَ بِالشَكْلِ النِهَائِيِّ لِلتَحْرِيرِ. هَؤُلاءِ الْقَوْمُ الَذِينَ تَرَكُوا أَرْضَ مِصْرَ بِأَمْرٍ مِنَ اللهِ لَمْ يَدْخُلُوا إِلَى أَرْضِ الْمَوْعِدِ. فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ، هُمْ وُجِدُوا غَيْرَ أُمَنَاءَ، لَكِنَّ جَمِيعَ الَذِينَ يَفْدِيهِمْ يَسُوعُ يَدْخُلُونَ إِلَى أَرْضِ الْمَوْعِدِ، هُوَ يُدْخِلُهُمْ إِلَى أَرْضِ الْمَوْعِدِ، وَهُوَ حَجَزَ لَهُمْ مَكَانًا فِي السَمَاءِ، لِئَلَّا يَخْزَى عَمَلُ الْوَسَاطَةِ الَذِي تَمَّمَهُ أَوْ يَكُونَ نَاقِصًا، لأَنَّهُ هُوَ تَجْسِيدُ الـ"أَنَا هُوَ".
وَقَدْ تَجَلَّى هَذَا الأَمْرُ بِوُضُوحٍ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا. قَالَ يَسُوعُ: "قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ "إِيجُو إِيمِي، أَنَا كَائِن"، "أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ"، "أَنَا هُوَ الْبَابُ الَذِي يَدْخُلُ مِنْهُ النَاسُ"، "أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ"، "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ". الاسْمُ نَفْسُهُ الَذِي أَعْلَنَ اللهُ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ خِلالِهِ فِي تِلْكَ الْعُلَّيْقَةِ، اسْتَعْمَلَهُ ابْنُ اللهِ حِينَ تَجَسَّدَ.