المحاضرة 5: أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ

فِي هَذِهِ الْمُحَاضَرَةِ، سَنُتَابِعُ دِرَاسَتَنَا لِلاسْتِنْتَاجَاتِ الَتِي نَسْتَخْلِصُها مِنْ سَرْدِ قِصَّةِ لِقَاءِ مُوسَى مَعَ اللهِ عِنْدَ الْعُلَّيْقَةِ الْمُتَّقِدَةِ فِي بَرِّيَّةِ مِدْيَانَ. سَبَقَ أَنْ رَأَيْنَا أَنَّ هَذِهِ لَمْ تُشَكِّلْ نُقْطَةَ تَحَوُّلٍ فِي حَيَاةِ مُوسَى فَحَسْبُ، لَكِنَّهَا شَكَّلَتْ نُقْطَةَ تَحَوُّلٍ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ كُلِّها.

وَفِي هَذِهِ الْمُحَاضَرَةِ، سَأُرَكِّزُ بِشَكْلٍ أَكْبَرَ عَلَى جُزْءٍ صَغِيرٍ مِنَ النَصِّ، ابْتِداءً مِنَ الآيَةِ الثَالِثَةِ مِنَ الأَصْحَاحِ الثَالِثِ، بَعْدَ أَنْ كَانَ مُوسَى قَدْ شَاهَدَ الْعُلَّيْقَةَ الْمُتَّقِدَةَ، تِلْكَ الْعُلَّيْقَةَ الَتِي كَانَتْ تَشْتَعِلُ بِدُونِ أَنْ تَحْتَرِقَ، نَقْرَأُ "فَقَالَ مُوسَى: "أمِيلُ الآنَ لأنْظُرَ هَذَا الْمَنْظَرَ الْعَظِيمَ. لِمَاذَا لا تَحْتَرِقُ الْعُلَّيْقَةُ؟" فَلَمَّا رَأى الرَّبُّ أنَّهُ مَالَ لِيَنْظُرَ، نَادَاهُ اللهُ مِنْ وَسَطِ الْعُلَّيْقَةِ وَقَالَ: "مُوسَى مُوسَى!". فَقَالَ: "هَئَنَذَا". فَقَالَ (اللهُ): "لا تَقْتَرِبْ إلَى هَهُنَا. اخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ لأنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ أرْضٌ مُقَدَّسَةٌ". ثُمَّ قَالَ: "أنَا إلَهُ أبِيكَ، إلَهُ إبْرَاهِيمَ وَإلَهُ إسْحَاقَ وَإلَهُ يَعْقُوبَ". فَغَطَّى مُوسَى وَجْهَهُ لأنَّهُ خَافَ أنْ يَنْظُرَ إلَى اللهِ".

سَأَسْتَهِلُّ كَلامِي بِالإِشَارَةِ إِلَى عَمَلِ الْفَيْلَسُوفِ الْوُجُودِيِّ الْفَرَنْسِيِّ جَانْ بُولْ سَارْتْر، وَقَدْ يَتَمَثَّلُ أَشْهَرُ عَمَلٍ قَامَ بِهِ بِالْمَسْرَحِيَّةِ الَتِي كَتَبَهَا وَعُنْوَانُهَا "لا مَخْرَجَ". فِي تِلْكَ الْمَسْرَحِيَّةِ، انْتَهَى الْمَشْهَدُ الأَخِيرُ مَعَ مَجْمُوعَةٍ مِنَ الأَشْخَاصِ الْجَالِسِينَ فِي غُرْفَةٍ بِدُونِ أَبْوَابٍ، وَكَانَ وَاحِدُهُمْ يُحَدِّقُ فِي الآخَرِ لِدَرَجَةِ أَنَّهم حَوَّلُوا الآخَرَ إِلَى غَرَضٍ. وَوَرَاءَ هَذَا التَحْدِيقِ الَذِي كَانَ النَاسُ يَخْتَبِرُونَهُ، يَسْتَنْتِجُ سَارْتْر فِي الْمَسْرَحِيَّةِ أَنَّ "الْجَحِيمَ هُوَ الآخَرُونَ".

بِالطَبْعِ، فِي عَمَلِهِ هَذَا بِرُمَّتِهِ، وفِي صُلْبِ عَمَلِهِ الْفَلْسَفِيِّ وَالْمَسْرَحِيِّ، هُوَ –وَبِصِفَتِهِ مُلْحِدًا– ظَلَّ يَقُولُ إِنَّ السَبَبَ لا يَعُودُ إِلَى عَدَمِ وُجُودِ مَخْرَجٍ لِلنَاسِ مِنَ الْجَحِيمِ، بَلْ يَعُودُ الأَمْرُ إِلَى انْعِدَامِ الْوُصُولِ إِلَى اللهِ، وانْعِدامِ الْوُصُولِ إِلَى الْمُقَدَّسِ، وَانْعِدَامِ الْوُصُولِ إِلَى الْوَاقِعِ المُتَسَامِي. إِنَّ الْبَشَرَ الَذِينَ وَصَفَهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ مَشَاعِرَ غَيْرِ مُجْدِيَةٍ، وَالَذِينَ اخْتَصَرَ وَصْفَهُ النِهَائِيَّ لِحَالَتِهِمْ الْبَشَرِيَّةِ بِكَلِمَةِ "غَثَيَان"، يَقُولُ إِنَّ السَبَبَ يَعُودُ إِلَى كَوْنِنَا مُقَيَّدِينَ بِسَلاسِلَ، وَوَاقِعِينَ فِي فَخِّ الْوَقْتِ الْحَاضِرِ وَالْعَالَمِ الْعِلْمَانِي. وَلا يُوجَدُ مَهْرَبٌ مِنْ هَذَا الْفَخِّ، لا يُوجَدُ بَابٌ، لا تُوجَدُ نَافِذَةٌ نَسْتَطِيعُ مِنْ خِلالِهَا الْوُصُولَ إِلَى أَيِّ أَمْرٍ لَهُ دَلالَةٌ أَبَدِيَّةٌ.

فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، كَانَ أَعْظَمُ عَالِمَيْ اجْتِمَاعٍ دِينِيٍّ فِي الْعَالَمِ هُمَا هَيْنرِيتش كْرَامِر وَمِيرْتْشا إِلْيَادَه. رَدَّ إِلْيَادَه عَلَى هَذَا الْوَصْفِ لِلْمَأْزِقِ الْبَشَرِيِّ بِالْقَوْلِ: "نَعَمْ، طَبْعًا، الْبَشَرُ هُمْ فِي حَالَةِ دَنَسٍ، وَهْوَ أَمْرٌ اخْتَرْنَاهُ بِأَنْفُسِنا نَظَرًا لِسُقُوطِنا. وَلا يَعُودُ السَبَبُ إِلَى انْعِدَامِ الْوُصُولِ إِلَى مَا هُوَ مُقَدَّسٌ أَوِ إِلَى اسْتِحَالَةٍ تَمَكُّنِنَا مِنْ رُؤْيَةِ مَا هُوَ مُقَدَّسٌ، وَإِنَّمَا إِلَى كَوْنِنَا اخْتَرْنَا وُجُودًا دَنِسًا جِدًّا". أَعْتَقِدُ أَنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ مُنْتَبِهِينَ لِمَا يَجْرِي فِي ثَقَافَتِكُمْ، يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَرَوْا أَنَّ الدَنَسَ الَذِي يَطَالُ ثَقَافَتَنَا فِي كُلِّ مَجَالٍ هُوَ دَنَسٌ آخِذٌ فِي التَفَاقُمِ سَنَةً بَعْدَ أُخْرَى. وَحَدِيثُنَا عَنِ الدَنَسِ هُوَ مُجَرَّدُ تَعْبِيرٍ عَنْ شُعُورِنَا بِالْعَيْشِ فِي عَالَمٍ دَنِسٍ.

لَكِنَّ إِلْيَادَه تَابَعَ قَائِلًا إِنَّنَا بِقَدْرِ مَا نَسْعَى إِلَى الْعَيْشِ فِي حَالَةِ دَنَسٍ، وَبِقَدْرِ مَا نُفَضِّلُ الدَنَسَ عَلَى الْمُقَدَّسِ، إِنَّ الْحَيَاةَ الْبَشَرِيَّةَ وَبِكُلِّ بَسَاطَةٍ لا تَقْدِرُ أَنْ تُعَاشَ فِي دَنَسٍ تَامٍّ. لأَنَّهُ وَوَفْقًا لِرَأْيِ إِلْيَادَه، وَبَعْدَ دِرَاسَتِهِ لِجَمِيعِ الثَقَافَاتِ فِي الْعَالَمِ، فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ، لا يُوجَدُ ما يُسَمَّى عَدَمَ وُصُولٍ إِلَى اللهِ وَلا عَدَمَ خُرُوجٍ مِنَ الدَنَسِ، وَإِنَّمَا لا مَهْرَبَ مِنَ الْمُقَدَّسِ، لأَنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ نَذْهَبُ إِلَيْهِ يَقْتَحِمُنَا الْمُقَدَّسُ بِدُونِ اسْتِئْذَانٍ.

فِي سِفْرِ إِشَعْيَاءَ الأَصْحَاحِ السَادِسِ، وَبَيْنَمَا كَانَ يُشَاهِدُ الرُؤْيَا حِينَ تَمَّتْ دَعْوَتُهُ لِيَكُونَ نَبِيًّا، نَتَذَكَّرُ تَرْنِيمَةَ الْمَلائِكَةِ فِي مَحْضَرِ اللهِ، وَقَدْ قَالُوا فِيهَا: "قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ". وَمَا الأَمْرُ الآخَرُ الَذِي قَالُوهُ؟ مَاذَا جَاءَ أَيْضًا فِي هَذِهِ التَرْنِيمَةِ؟ "مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ".

إذًا، هَلْ لاحَظْتُمُ التَنَاقُضَ؟ هَلْ لاحَظْتُمُ التَضَارُبَ بَيْنَ الْعِلْمَانِيَّةِ الْجَذْرِيَّةِ لَدَى أُنَاسٍ مِثْلِ جَانْ بُولْ سَارْتْر، وَتَعْلِيمِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ؟ فَتَعْلِيمُ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ لا يُفِيدُ بِأَنَّ الْقُدُّوسَ وَالْمُقَدَّسَ مَوْجُودَانِ فِي عَالَمٍ خَفِيٍّ، فِي مَكَانٍ مَقْصُورٍ عَلَى فِئَةٍ مُعَيَّنَةٍ، لا يَدْخُلُهُ إِلَّا الْمُفَكِّرُونَ النُخْبَةُ وَالأَكْثَرُ بَرَاعَةً لِكَيْ يَلْمَحُوا الْقُدُّوسَ. بَلْ عَلَى الْعَكْسِ تَمَامًا، الأَرْضُ كُلُّهَا مُمْتَلِئَةٌ مِنْ مَجْدِ اللهِ.

إِذًا، لِمَاذَا لَدَيْنَا حِسُّ الدَنَسِ هَذَا؟ أَجَابَ كَالْفِن عَنْ هَذَا السُؤَالِ بِهَذِهِ الطَرِيقَةِ. قَالَ: "الْخَلِيقَةُ كُلُّهَا هِيَ مَسْرَحٌ مَجِيدٌ يَصْرُخُ –إِذَا جَازَ التَعْبِيرُ– مُظْهِرًا مَجْدَ اللهِ بِوُضُوحٍ تَامٍّ، لَكِنَّ عَمَانَا يَمْنَعُنَا مِنْ رُؤْيَةِ ذَلِكَ. وَهَذَا الْعَمَى هُوَ تَعَامٍ مَقْصُود. نَحْنُ مِثْلُ الْبَشَرِ الَذِينَ يَسِيرُونَ فِي هَذَا الْمَسْرَحِ الْمَجِيدِ مَعْصُوبِي الْعُيُونِ. وَنَحْنُ وَضَعْنَا الْعِصَابَةَ عَلَى أَعْيُنِنَا لِئَلَّا نَرَى الْقُدُّوسَ وَالْمُقَدَّسَ. لأَنَّ مَا مِنْ أَمْرٍ أَكْثَرَ رُعْبًا لِلْخَلِيقَةِ الآثِمَةِ مِنَ الانْكِشَافِ أَمَامَ الْقُدُّوسِ".

هَذَا مَا نَرَاهُ هُنَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ. أَبْصَرَ مُوسَى الْعُلَّيْقَةَ الْمُتَّقِدَةَ بِدُونِ أَنْ تَحْتَرِقَ. وَجَاءَ فِي سَرْدِ الْحَادِثَةِ أَنَّهُ مَالَ لِيَنْظُرَ إِلَيْهَا. وَلَمَّا مَالَ وَنَظَرَ فِي اتِّجَاهِ تِلْكَ الْعُلَّيْقَةِ لَمْ يَكْتَفِ بِمُرَاقَبَتِهَا مِنْ بَعِيدٍ، فَابْتَدَأَ يَسِيرُ بِاتِّجَاهِ الْعُلَّيْقَةِ وَأَخَذَ يَقْتَرِبُ إِلَيْهَا. وَبَيْنَمَا كَانَ يَقْتَرِبُ إِلَيْهَا، فَجْأَةً، خَرَجَ صَوْتٌ مِنَ الْعُلَّيْقَةِ وَنَادَاهُ بِاسْمِهِ قَائِلًا: "مُوسَى، مُوسَى، قِفْ فِي مَكَانِكَ! لا تَقْتَرِبْ إِلَى هَهُنَا! لا تَتَقَدَّمْ! وَإِنَّمَا، اخْلَعْ حِذَاءَكَ. اخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ، لأنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ أرْضٌ مُقَدَّسَةٌ".

فَلْنَطْرَحْ بَعْضَ الأَسْئِلَةِ حَوْلَ هَذَا الأَمْرِ. مَا الَذِي جَعَلَهَا أَرْضًا مُقَدَّسَةً؟ هَلْ كَانَ يُوجَدُ أَمْرٌ فِي تَرْكِيبَةِ تُرْبَةِ بَرِّيَّةِ مِدْيَانَ مُخْتَلِفٌ عَنْ تُرْبَةِ أَيِّ قِطْعَةِ أَرْضٍ فِي هَذَا الْعَالَمِ؟ هَلْ كَانَ يُوجَدُ أَيُّ بُعْدٍ مُكَرَّسٍ أَوْ مُقَدَّسٍ بِشَكْلٍ خَاصٍّ فِي التُرْبَةِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ؟ لَمْ يُوجَدْ أَيُّ أَمْرٍ يُمَيِّزُ جَوْهَرَ التُرْبَةِ. مَا جَعَلَ تِلْكَ الأَرْضَ مُقَدَّسَةً هُوَ حُضُورُ اللهِ. كُلُّ مَا يَلْمِسُهُ اللهُ يَنَالُ –إِذَا جَازَ التَعْبِيرُ– إِدْخَالًا وَإِشْعَاعًا مِنْ جَلالِهِ الْفَائِقِ. مَا جَعَلَ تِلْكَ الأَرْضَ مُقَدَّسَةً وَمُخْتَلِفَةً عَنْ أَيِّ قِطْعَةِ أَرْضٍ عَادِيَّةٍ أُخْرَى هُوَ أَنَّهُ فِي هَذَا الْمَكَانِ كَانَ مُلْتَقَى الطُرُقِ، فِي هَذَا الْمَكَانِ حَدَثَ الافْتِقَادُ الإِلَهِيُّ، فِي هَذَا الْمَكَانِ، الأَرْضُ الطَبِيعِيَّةُ نَالَتْ لَمْسَةً مِنَ الْحُضُورِ الْفَائِقِ لِلطَبِيعَةِ. مَا نَرَاهُ هُنَا هُوَ مَفْهُومٌ مُتَعَلِّقٌ بِمَا نُسَمِّيهِ "الْعَتَبَةَ"، وَهْيَ الْبُقْعَةُ الَتِي تُحَدِّدُ مَكَانَ النَقْلَةِ، إِنَّهَا الْحُدُودُ –إِذَا جَازَ التَعْبِيرُ– بَيْنَ الطَبِيعِيِّ وَالْفَائِقِ لِلطَبِيعَةِ. وَتَمَّ تَجَاوُزُ تِلْكَ الْحُدُودِ حِينَ اقْتَرَبَ مُوسَى وَقَالَ اللهُ: "تَوَقَّفْ لا تَقْتَرِبْ أَكْثَرَ يَا مُوسَى".

فِي صَبَاحِ كُلِّ يَوْمِ أَحَدٍ نَحْنُ نُصْدِرُ نَشْرَةً هُنَا فِي سَانْت أَنْدْرُوز. وَفِي مُقَدِّمَةِ النَشْرَةِ نَكْتُبُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ "نَحْنُ نَجْتَازُ الْعَتَبَةَ مُنْتَقِلِينَ مِنَ الْعِلْمَانِيِّ إِلَى الْمُقَدَّسِ، مِنَ الْعَادِيِّ إِلَى غَيْرِ الْعَادِي، مِنَ الدَنِسِ إِلَى الْمُقَدَّسِ". يَجِبُ أَنْ أَعْتَرِفَ بِأَنِّي كَتَبْتُ ذَلِكَ بِنَفْسِي، وَأَنَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِسَبَبٍ. أَرَدْتُ أَنْ يُدْرِكَ النَاسُ أَنَّهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ إِلَى الْكَنِيسَةِ صَبَاحَ الأَحَدِ، فَهُمْ يَدْخُلُونَ إِلَى مَكَانٍ مُخْتَلِفٍ عَنْ صَالَةِ السِينِمَا، وَعَنْ قَاعَةِ الاجْتِمَاعَاتِ المَدَنِيَّةِ، وَعَنْ أَيِّ مَكَانٍ آخَرٍ يَزُورُونَهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَحَالَمَا يَفْتَحُونَ الْبَابَ وَيَدْخُلُونَ، يَكُونُونَ قَدْ قَامُوا بِالنَقْلَةِ وَعَبَرُوا الْعَتَبَةَ، إِنَّهُمْ يَدْخُلُونَ إِلَى مَكَانٍ مُقَدَّسٍ، لأَنَّ هَذِهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ.

إِنَّ الْهَنْدَسَةَ الْمِعْمَارِيَّةَ لِكَنِيسَتِنا صُمِّمَتْ لإِيصَالِ هَذِهِ الْفِكْرَةِ لِلنَاسِ، وَهْيَ أَنَّهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ إِلَى هَذَا الْمَبْنَى فَإِنَّهُمْ بِذَلِكَ يَعْبُرُونَ الْعَتَبَةَ. لَيْسَ هَذَا مَكَانًا يَشْهَدُ نُصْرَةَ الْعَالَمِ الْعِلْمَانِيِّ. لَقَدْ قِيلَ الْكَثِيرُ عَنِ الْعِلْمَانِيَّةِ وَالْعَلْمَنَةِ. وَكُلُّ مَا يَعْنِيهِ ذَلِكَ: كَلِمَةُ "عِلْمَانِيٍّ" فِي الْعَالَمِ الْقَدِيمِ تَعْنِي "هَذَا الْعَالَمَ" وَهْوَ مَحْصُورٌ بِالْوَقْتِ الْحَاضِرِ. وَتُعَلِّمُ الْعِلْمَانِيَّةُ مَا يَلِي: وَهْوَ أَنَّ الْوُجُودَ مَحْصُورٌ بِالـ"هُنَا" وَ"الآنَ"، وَأَنَّ هَذَا كُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ. السَمَاءُ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ، وَلَيْسَ لِعَالَمِ الأَبَدِيَّةِ أَيُّ وُجُودٍ، وَلَيْسَ لِلْعَالَمِ الْفَائِقِ لِلطَبِيعَةِ وُجُودٌ. وَتَعْنِي الْعِلْمَانِيَّةُ الاعْتِقَادَ أَنَّكُمْ تَعِيشُونَ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَطْ، وَأَنَّ هَذَا الْعَالَمَ هُوَ كُلُّ مَا فِي الْوُجُودِ، وَأَنَّهُ لا يُوجَدُ سِوَاهُ.

لَكِنْ حِينَ نَدْخُلُ مِنَ الْبَابِ فَإِنَّنَا نَجْتَازُ الْعَتَبَةَ وَنَخْرُجُ مِنَ الْعَالَمِ الْعِلْمَانِيِّ لِنَدْخُلَ إِلَى الْمُقَدَّسِ. وَمَا هُوَ مُقَدَّسٌ هُوَ الْمُخْتَلِفُ، مَا هُوَ مُقَدَّسٌ هُوَ مَا تَمَّ فَرْزُهُ وَقَدْ قَامَ اللهُ بِفَرْزِهِ. الْمَكَانُ الْمُقَدَّسُ هُوَ الْمَكَانُ الَذِي يَدُوسُ فِيهِ اللهُ، وَيَعْمَلُ فِيهِ اللهُ وَيَتَحَرَّكُ. نَحْنُ نَأْتِي إِلَى هُنَا يَوْمَ الربِّ لأَنَّ اللهَ دَعَانَا لِلْمَجِيءِ إِلَى هُنَا. هُوَ يَقُولُ: "هَذَا هُوَ الْمَكَانُ الَذِي سَأَتَقابَلُ فِيهِ مَعَ شَعْبِي صَبَاحَ أَيَّامِ الأَحَدِ". لِذَا يُوصِينَا الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِأَلَّا نُهْمِلَ أَبَدًا اجْتِمَاعَ الْقِدِّيسِينَ، لأَنَّنَا نَحْتَاجُ كَبَشَرٍ إِلَى زِيَارَةِ أَرْضٍ مُقْدَّسَةٍ كُلَّ أُسْبُوعٍ، وَإِلَى الابْتِعَادِ عَمَّا هُوَ عِلْمَانِيٌّ وَالْعُبُورِ إِلَى مَا هُوَ مُقَدَّسٌ. إِنَّهُ مَكَانٌ نَنْتَقِلُ فِيهِ مِنَ الْعَادِيِّ إِلَى غَيْرِ الْعَادِيِّ، مِنَ الْمَأْلُوفِ إِلَى غَيْرِ الْمَأْلُوفِ، مِنَ الدَنِسِ إِلَى الْمُقَدَّسِ. إِذًا، مَا نَخْتَبِرُهُ فِي حَيَاتِنَا هُنَا هُوَ تَحْدِيدًا مَا اخْتَبَرَهُ مُوسَى فِي الْبَرِّيَّةِ وَفِي الصَحْرَاءِ. هُوَ اقْتَرَبَ، وَعَبَرَ الْعَتَبَةَ، فَكَلَّمَهُ اللهُ وَاسْتَوْقَفَهُ وَقَالَ: "تَوَقَّفْ! لا تَقْتَرِبْ أَكْثَرَ يَا مُوسَى اخْلَعْ حِذَاءَكَ، فَهَذِهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ".

تَذَكَّرُوا فِي سِفْرِ التَكْوِينِ الاخْتِبَارَ الَذِي كَانَ لِيَعْقُوبَ فِي بَيْتِ إِيلَ. سَأَقْرَأُ الْحَادِثَةَ بِاخْتِصَارٍ شَدِيدٍ. حِينَ ذَهَبَ لِلنَوْمِ أَثْنَاءَ رِحْلَتِهِ وَرَأَى هَذَا الْحُلْمَ، شَاهَدَ سُلَّمًا تَصِلُ إِلَى السَمَاءِ وَمَلائِكَةُ اللهِ صَاعِدَةٌ وَنَازِلَةٌ عَلَيْهَا. فِي هَذَا الْحُلْمِ، قَالَ: "وَهُوَذَا الرَّبُّ وَاقِفٌ عَلَيْهَا، فَقَالَ: "أنَا الرَّبُّ إلَهُ إبْرَاهِيمَ أبِيكَ وَإلَهُ إسْحَاقَ..." إِنَّهَا الطَرِيقَةُ نَفْسُهَا الَتِي كَلَّمَ بِهَا اللهُ مُوسَى لاحِقًا فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ ثُمَّ قَطَعَ لَهُ وَعْدَ الْعَهْدِ. ثُمَّ نَقْرَأُ "فَاسْتَيْقَظَ يَعْقُوبُ مِنْ نَوْمِهِ وَقَالَ: "حَقًّا إنَّ الرَّبَّ فِي هَذَا الْمَكَانِ وَأنَا لَمْ أعْلَمْ!"". هُوَ كَانَ هُنَا تَحْدِيدًا. فِيمَا كُنْتُ نَائِمًا، سَانِدًا رَأْسِي عَلَى صَخْرَةٍ، كَانَ اللهُ هُنَا، وَفَاتَنِي هَذَا الأَمْرُ. لَقَدْ غَفَلْتُ عَنْ هَذَا الأَمْرِ. وَمَاذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ؟ "مَا أرْهَبَ هَذَا الْمَكَانَ! وَهَذَا بَابُ السَّمَاءِ!". "وَأخَذَ الْحَجَرَ الَّذِي وَضَعَهُ تَحْتَ رَأْسِهِ كَوِسَادَةٍ، وَجَلَبَ زَيْتًا وَسَكَبَ عَلَى الْحَجَرِ". يَا لَهُ مِنْ أَمْرٍ غَرِيبٍ! لِمَاذَا قَامَ بِهَذَا الْعَمَلِ؟ كَانَ يُكَرِّسُ تِلْكَ الْوِسَادَةَ، كَانَ يُكَرِّسُ ذَلِكَ الْحَجَرَ، كَانَ يُقَدِّسُهُ. فَوَضَعَ عَلامَةً عَلَيْهِ قَالَ "هَذِهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ. هَذَا مَكَانٌ مُقَدَّسٌ، فَهُنَا ظَهَرَ لِي اللهُ فِي الْحُلْمِ".

قَرَأْتُ قِصَّةَ عَائِلَةٍ ذَهَبَتْ لِقَضَاءِ الْعُطْلَةِ فِي سَانْتْ لُويِس. لا تَسْأَلُوني لِمَاذا قَدْ يَذْهَبُ أَحَدٌ لِقَضَاءِ الْعُطْلَةِ فِي سَانَتْ لُويِس، لَكِنَّهُمْ فَعَلُوا. وَأَحَدُ الأُمُورِ الَتِي أَرَادُوا فِعْلَهَا هِيَ زِيَارَةُ كَاتِدْرَائِيَّةِ سَانْتْ لُوِيس. وَجَاءَ فِي الْقِصَّةِ أَنَّهُ وَقَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا إِلَى تِلْكَ الْكَنِيسَةِ ذَاتِ الْهَنْدَسَةِ الْمِعْمَارِيَّةِ الْقُوطِيَّةِ، كَانَتِ الْفَتَاةُ الْمُرَاهِقَةُ تَقُولُ كَلامًا سَخِيفًا وَتَافِهًا فِي مَوْقَفِ السَيَّارَاتِ، وَتَسْتَهْزِئُ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي تِلْكَ الرِحْلَةِ. ثُمَّ دَخَلُوا مِنَ الْبَابِ الأَمَامِيِّ. وَحَالَما دَخَلُوا إِلَى الْمَكَانِ لَزِمَتِ الْفَتَاةُ الصَمْتَ التَامَّ، وَكَانَ أَهْلُهَا يُرَاقِبُونَهَا. وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَنْسَوْا كَيْفَ تَغَيَّرَتْ مَلامِحُهَا حِينَ رَاحَتْ تَتَأَمَّلُ فِي السُقُوفِ الْمُقَبَّبَةِ وَالْقَنَاطِرِ الْقُوطِيَّةِ، وَرَأَتِ البَلاطَ الْفُسَيْفَسَائِيَّ الَذِي يُصَوِّرُ تَارِيخَ الْفِدَاءِ. وَكَانَتْ مُتَأَنِّيَةً جِدًّا فِي الْقِيَامِ بِأَيِّ خُطْوَةٍ. ثَمَّ رَأَتْ شَيْئًا عِنْدَ الْجَانِبِ الآخَرِ مِنْ قَاعَةِ الْكَاتِدْرَائِيَّةِ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ عَنْ كَثَبٍ. فَالْتَفَتَتْ نَحْوَ وَالِدَيْهَا وَقَالَتْ: "هَلْ مِنَ الْمَسْمُوحِ أَنْ أَمْشِيَ هُنَا؟" لَقَدْ غَمَرَها شُعُورٌ بِحُضُورِ قَدَاسَةِ اللهِ. هَذَا مَا يَجِبُ أَنْ نَخْتَبِرَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ نَدْخُلُ إِلَى كَنِيسَةٍ، لأَنَّنَا هُنَا نَجْتَازُ الْحُدُودَ وَنَقُومُ بِالنَقْلَةِ وَنَعْبُرُ الْعَتَبَةَ، كَمَا فَعَلَ مُوسَى.

فِي النِهَايَةِ، فِي سَرْدِ قِصَّةِ مُوسَى، نَقْرَأُ أَنَّ اللهَ قَالَ لَهُ: "أنَا إلَهُ أبِيكَ، إلَهُ إبْرَاهِيمَ وَإلَهُ إسْحَاقَ وَإلَهُ يَعْقُوبَ". هَذِهِ هِيَ الْجُمْلَةُ الَتِي أُرِيدُ أَنْ تَتَأَمَّلُوا فِيهَا: "فَغَطَّى مُوسَى وَجْهَهُ لأنَّهُ خَافَ أنْ يَنْظُرَ إلَى اللهِ". فِي الْبِدَايَةِ، أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ، فَتَقَدَّمَ لِيَقْتَرِبَ إِلَى الْمَكَانِ. لَكِنْ حِينَ أَدْرَكَ إِلَى أَيْنَ كَانَ يَتَّجِهُ، حِينَ أَدْرَكَ أَيْنَ كَانَ وَاقِفًا، حِينَ مَيَّزَ الشَخْصَ الْحَاضِرَ فِي الْمَكَانِ، قَالَ "لا يُمْكِنُنِي أَنْ أَنْظُرَ". فَلَقَدْ كَانَ الأَمْرُ أَقْوَى مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى الاسْتِيعَابِ. لَكِنْ لَيْسَتْ هَذِهِ نِهَايَةَ الْقِصَّةِ، إِنَّهَا الْبِدَايَةُ، كَمَا سَنَرَى فِي مُحَاضَرَاتِنَا الْمُقْبِلَةِ.