المحاضرة 4: مَلاكُ الرَبِّ

نُتَابِعُ الآنَ دِرَاسَتَنا لِحَادِثَةِ مُوسَى وَالْعُلَّيْقَةِ الْمُتَّقِدَةِ، الْوَارِدَةِ فِي الأَصْحَاحِ الثَالِثِ مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ. فِي هَذِهِ الْمُحَاضَرَةِ، سَأُتَابِعُ التَحَدُّثَ عَنْ ظُهورِ مَجْدِ اللهِ ضِمْنَ مَفْهُومِ الـ"شِيكَايْنَا"، وَهْوَ أَمْرٌ تَطَرَّقْنَا إِلَيْهِ بِاخْتِصَارٍ فِي لِقَائِنَا السَابِقِ. قَبْلَ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ، سَأَرْبُطُ الأَمْرَ بِحَادِثَةٍ جَرَتْ لِي.

حِينَ كُنْتُ طَالِبًا فِي السَنَةِ الثَانِيَةِ فِي الْكُلِّيَّةِ، كُنْتُ أَتَخَصَّصُ فِي الْفَلْسَفَةِ. وَدَعَانِي أُسْتَاذُ الْفَلْسَفَةِ لِلذَّهَابِ إِلَى فِيلادِلْفْيا لِحُضُورِ مُؤْتَمَرٍ فَلْسَفِيٍّ حَوْلَ فَيْلَسُوفٍ هُولَنْدِيٍّ يُدْعَى هِيرْمِن دُويِيوِيرْد، فِي كُلِّيَّةِ وِسْتْمِنِسِتِر لِلاهُوتِ. كَانَ هَذَا فِي الْمَاضِي الْبَعِيدِ، حِينَ كَانَتِ الْكُلِّيَّةُ الأَسَاسِيَّةُ الْمُنْبَثِقَةُ مِنْ بْرِينْسْتُون لِتَأْسِيسِ هَذِهِ الْكُلِّيَّةُ لا تَزَالُ قَائِمَةً. كانَ الإِصْلاحُ قَدْ خَمَدَ فِعْلًا. لَكِنَّ كُورْنِيلْيُوس فَان تِيل، وَجُون مُورَايْ، وَإِي جِي يُونْغ، وَنِيدْ سِتُونْهَاوْسْ، وَغَيْرَهُمْ مِنَ النُجُومِ الْعُظَمَاءِ فِي تِلْكَ الْكُلِّيَّةِ كَانُوا مَوْجُودِينَ هُنَاكَ لِحُضُورِ ذَلِكَ الْمُؤْتَمَرِ.

حِينَ ذَهَبْتُ إِلَى هُنَاكَ، وَاسْتَمَعْتُ إِلَى الْجَلْسَةِ الأُولَى فِي الصَبَاحِ، كُنْتُ عَاجِزًا عَنِ اسْتِيعَابِ مَا يُقَالُ. لَمْ تَكُنْ لَدَيَّ أَدْنَى فِكْرَةٍ عَمَّا يَجْرِي، وَلَمْ أَشَأْ الاسْتِفْهَامَ. شَعَرْتُ بِالْغَبَاءِ الشَدِيدِ وَلَمْ أَشَأْ أَنْ أَفْتَحَ فَمِي وَأَكْشِفَ مَدَى حَمَاقَتِي، فَلَزِمْتُ الصَمْتَ. ثُمَّ أَخَذْنَا اسْتِرَاحَةَ غَدَاءٍ، وَأَنَا كُنْتُ جَالِسًا قُبَالَةَ أُسْتَاذِ الْفَلْسَفَةِ فِي كُلِّيَّةِ اللَاهُوتِ. وَفِيمَا كُنْتُ أَتَنَاوَلُ الْحَسَاءَ قَالَ لِي: "يَا شَابُّ، هَلْ تُؤْمِنُ بِأَنَّ اللهَ مُتَعَالٍ أَمْ قَرِيبٌ؟" فَخَرَجَ الْحَسَاءُ حَرْفِيًّا مِنْ فَمِي، لأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ مَعْنَى كَلِمَةِ "مُتَعَالٍ" وَلَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ مَعْنَى كَلِمَةِ "قَرِيبٍ" فِي مَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ اللهِ.

وَهُنَا، كُشِفَ جَهْلِي تَمَامًا أَمَامَ هَذَا الأُسْتَاذِ الْمُثَقَّفِ. وَهْوَ أَشْفَقَ عَلَيَّ، وَبَدَأَ يُجِيبُ عَنِ السُؤالِ بِالنِيَابَةِ عَنِّي. قَالَ: "الْجَوَابُ عَنِ السُؤَالِ هُوَ نَعَمْ". هَلِ اللهُ مُتَعَالٍ أَمْ قَرِيبٌ؟ نَعَمْ، لأَنَّهُ مُتَعَالٍ وَقَرِيبٌ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ. وَيُشارُ بِتَعالِيهِ إِلَى كَوْنِ اللهِ أَعْلَى وَأَسْمَى مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، يُشَارُ بِذَلِكَ إِلَى جَلالِهِ الْمُتَسَامِي وَإِلَى كَوْنِهِ مُخْتَلِفًا عَنْ كُلِّ الأَشْيَاءِ الَّتِي خَلَقَها. لَكِنْ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ لَيْسَ اللهُ ذَلِكَ الإِلَهَ الْبَعِيدَ الْمَوْجُودَ فِي مَكَانٍ مَا شَرْقَ الشَمْسِ وَغَرْبَ الْقَمَرِ، وَخَارِجَ نِطَاقِ إِدْرَاكِنَا. لَكِنَّ اللهَ جَعَلَ نَفْسَهُ حَاضِرًا بَيْنَنَا، إِنَّهُ قَرِيبٌ أَيْضًا. إِنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ بِحُكْمِ وُجُودِهِ الْكُلِّيِّ. إِنَّهُ قَرِيبٌ تَارِيخِيًّا مِنْ خِلالِ شَخْصِ الْمَسِيحِ، وَهْوَ قَرِيبٌ أَيْضًا مِنْ خِلالِ زِيَارَتِهِ لِلأَرْضِ فِي تَارِيخِ الْفِدَاءِ. نَحْنُ نُعَايِنُ اقْتِرَانَ التَعَالِي وَالْقُرْبَ فِي الْعُلَّيْقَةِ الْمُتَّقِدَةِ، لأَنَّ الْمَجْدَ وَالنَارَ كَانَا إِظْهَارًا للهِ الْمُتَعَالِي، لِلْخَالِقِ، وَهْوَ إِظْهَارٌ لا تَجِدُونَهُ عَادَةً فِي الشُجَيْرَاتِ. لَكِنْ هُنَا، هُوَ يُعْلِنُ عَنْ نَفْسِهِ عَبْرَ إِظْهَارِ حُضُورِهِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، مِنْ خِلالِ افْتِقَادِ مُوسَى فِي هَذَا اللِقاءِ فِي الْبَرِّيَّةِ.

فِي مُحَاضَرَتِنا السَابِقَةِ، تَحَدَّثْنَا عَنِ الـ"ثِيُوفَانِي"، أَيِ الظُهُورِ الإِلَهِيِّ. أَوَدُّ الْغَوْصَ أَكْثَرَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ، مُتَجَاوِزًا عُنْوَانَ الظُهُورِ الإِلَهِيِّ الْوَاسِعِ الآفَاقِ وَمُنْتَقِلًا إِلَى مَصْطَلَحٍ آخَرَ يُسَمَّى "كْرِيسْتُوفَانِي". وَيُشارُ بِمُصْطَلَحِ "كْرِيسْتُوفَانِي" إِلَى ظُهُورِ الْمَسِيحِ قَبْلَ التَجَسُّدِ، أَيْ أَنَّهُ يُعَالِجُ السُؤَالَ التالي: "هَلْ نَجِدُ الْمَسِيحَ، أَوِ الأُقْنُومَ الثَانِي مِنَ الثَالُوثِ، مُتَجَلِّيًا فِي مَكَانٍ مَا فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ؟" ثَمَّةَ مَقَاطِعُ عِدَّةٌ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ يَعْتَقِدُ عُلَمَاءُ الْكَتَابِ الْمُقَدَّسِ –وَأَنَا حَتْمًا أَعْتَقِدُ– أَنَّهَا تُشِيرُ إِلَى ظُهُورِ الْمَسِيحِ قَبْلَ التَجَسُّدِ.

اسْمَحُوا لِي بِالرُجُوعِ لِبَعْضِ الْوَقْتِ إِلَى سِفْرِ التَكْوِينِ. وَهَذِهِ الْمَرَّةَ إِلَى الأَصْحَاحِ الرَابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ التَكْوِينِ، حَيْثُ نَقْرَأُ عَنْ هَذَا اللِقَاءِ الْوَجِيزِ الَذِي كانَ لإِبْرَاهِيمَ مَعَ ذَلِكَ الشَخْصِ الْغَامِضِ الَذِي يُدْعَى مَلْكِي صَادَقَ. نَقْرَأُ فِي الآيَةِ الثَامِنَةَ عَشْرَةَ مِنَ الأَصْحَاحِ الرَابِعَ عَشَرَ "وَمَلْكِي صَادَقُ مَلِكُ شَالِيمَ، أخْرَجَ خُبْزًا وَخَمْرًا. وَكَانَ كَاهِنًا لِلَّهِ الْعَلِيِّ. وَبَارَكَ (إِبْرَاهِيمَ) وَقَالَ: "مُبَارَكٌ أبْرَامُ مِنَ اللهِ الْعَلِيِّ مَالِكِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ، وَمُبَارَكٌ اللهُ الْعَلِيُّ الَّذِي أسْلَمَ أعْدَاءَكَ فِي يَدِكَ". فَأعْطَاهُ (إِبْرَاهِيمُ) عُشْرًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ".

هَذِهِ الشَخْصِيَّةُ الْغَامِضَةُ مُهِمَّةٌ جِدًّا لِكَاتِبِ رِسَالَةِ الْعِبْرَانِيِّينَ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. لِماذَا؟ لأَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ يُعَلِّمُ أَنَّ يَسُوعَ لَيْسَ مَلِكَنَا الْمُتَحَدِّرَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ فَحَسْبُ، لَكِنَّهُ دَخَلَ الآنَ إِلَى قُدْسِ الأَقْدَاسِ السَمَاوِيِّ بِصِفَتِهِ رَئِيسَ كَهَنَتِنَا الْعَظِيمِ. إِذًا، يَطْرَحُ النَاسُ السُؤالَ التَالِي: "كَيْفَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا وَكَاهِنًا فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ؟" يَجِبُ عَلَى الْمَلِكِ الَذِي مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ أَنْ يَتَحَدَّرَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا، وَيَسُوعُ مُتَحَدِّرٌ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا. لَكِنَّ الْكَهَنَةَ يَتَحَدَّرُونَ مِنْ سِبْطِ لاوِي وَهَارُونَ. إِذًا، نَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنِ الْكَهْنُوتِ اللَاوِيِّ أَوْ عَنْ كَهْنُوتِ هَارُونَ. وَبِمَا أَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَتَحَدَّرْ مِنْ تِلْكَ السُلالَةِ تَمَّ طَرْحُ تَسَاؤُلاتٍ حَوْلَ شَرْعِيَّةِ تَسْمِيَتِهِ رَئِيسَ الْكَهَنَةِ الْعَظِيمِ لِشَعْبِهِ.

كَمَا تَعْلَمُونَ، يُجِيبُ كَاتِبُ رِسَالَةِ الْعِبْرَانِيِّينَ عَنْ هَذَا السُؤالِ عَبْرَ الإِثْبَاتِ أَنَّ يَسُوعَ هُوَ كَاهِنٌ لا عَلَى رُتْبَةِ لاوِي، وَلا عَلَى رُتْبَةِ هَارُونَ، لَكِنَّهُ كَاهِنٌ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادَقَ، اسْتِنَادًا إِلَى الْمَقْطَعِ الَذِي قَرَأْتُهُ عَلَيْكُمْ لِلتَوِّ. وَمَلْكِي صَادَقُ هَذَا لَمْ يَكُنْ لَدَيْهِ أَهْلٌ وَلا نَسَبُ، مَا يَدْفَعُ إِلَى التَسَاؤُلِ مَا إِذَا كَانَ شَخْصِيَّةً تَارِيخِيَّةً حَقِيقِيَّةً مِنْ لَحْمٍ وَدَمٍ، أَوْ مَا إِذَا كَانَ أَمْرٌ آخَرُ يَدُورُ هُنَا؟ وَاسْمُهُ مَلْكِي صَادَقُ يَعْنِي مَلِكَ الْبِرِّ. وَهْوَ يُدْعَى مَلِكَ سَالِيمَ، مَا يَعْنِي "السَلامَ". إِذًا، يُعْرَفُ هَذَا الشَخْصُ الْغَامِضُ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ بِمَلِكِ الْبِرِّ أَوْ مَلِكِ السَلامِ، وَهْيَ صِفاتٌ تَنْطَبِقُ حَتْمًا عَلَى يَسُوعَ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. وَالْتَقَى إِبْرَاهِيمُ كَاهِنَ اللهِ الْعَلِيِّ الْغَامِضَ هَذَا، وَدَفَعَ عُشُورَهُ لِمَلْكِي صَادَقَ، وَنَالَ بَرَكَةً مِنْ مَلْكِي صَادَقَ.

إِذًا، كَاتِبُ رِسَالَةِ الْعِبْرَانِيِّينَ يَسْتَخْلِصُ الْكَثِيرَ مِنَ الْعِبَرِ مِنْ هَذِهِ الْحَادِثَةِ قَائِلًا: "مَهْلًا، الأَكْبَرُ يُبَارِكُ الأَصْغَرَ، وَالأَصْغَرُ يَدْفَعُ الْعُشُورَ لِلأَكْبَرِ". إِذًا، بِحَسَبِ التَقْلِيدِ الْعِبْرَانِيِّ، مِنَ الْوَاضِحِ جِدًّا هُنَا أَنَّ مَلْكِي صَادَقَ أَكْبَرُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ. وَبِحَسَبِ التَقْلِيدِ الْعِبْرَانِيِّ، الأَبُ أَكْبَرُ مِنَ الابْنِ وَالابْنُ أَكْبَرُ مِنَ الْحَفِيدِ، وَهَكَذَا دَوَالَيْكَ. إِذًا، يُحَلِّلُ كَاتِبُ رِسَالَةِ الْعِبْرَانِيِّينَ الأَمْرَ قَائِلًا: "لاوِي أَصْغَرُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، وَأَصْغَرُ مِنْ إِسْحَقَ، وَأَصْغَرُ مِنْ يَعْقُوبَ. إِذًا كَانَ لاوِي خَاضِعًا لإِبْرَاهِيمَ، وَإِبْرَاهِيمُ خَاضِعًا لِمَلْكِي صَادَقَ، فَمَا مَعْنَى ذَلِكَ؟ وَهْوَ الأَمْرُ الْمَطْلُوبُ إِثْبَاتُهُ. لاوِي خَاضِعٌ لِمَلْكِي صَادَقَ، إِذًا، مَلْكِي صَادَقُ هُوَ الْكَهْنُوتُ الأَعْظَمُ".

لَكِنْ مُجَدَّدًا، ثَمَّةَ أَشْخَاصٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ مَا نَرَاهُ هُنَا، فِي هَذَا الظُهُورِ الْغَرِيبِ لِمَلْكِي صَادَقَ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، هُوَ تَجَلِّي مَا قَبْل التَجَسُّدِ لِلْمَسِيحِ، الأُقْنُومِ الثَانِي مِنَ الثَالُوثِ. ثُمَّ تَقْرَؤُونَ سِفْرَ يَشُوعَ فَيَحْدُثُ لِقَاءٌ غَرِيبٌ آخَرُ، حَيْثُ نَقْرَأُ فِي سِفْرِ يَشُوعَ الأَصْحَاحِ الْخَامِسِ وَالآيَةِ الثَالِثَةَ عَشْرَةَ "وَحَدَثَ لَمَّا كَانَ يَشُوعُ عِنْدَ أَرِيحَا أَنَّهُ رَفَعَ عَيْنَيْهِ وَنَظَرَ، وَإِذَا بِرَجُلٍ" –فِي اللُغَةِ الإِنْجْلِيزِيَّةِ أَوَّلُ حَرْفٍ مِنْ كَلِمَةِ رَجُلٍ هُوَ حَرْفٌ كَبِيرٌ–  "وَإِذَا بِرَجُلٍ وَاقِفٍ قُبَالَتَهُ، وَسَيْفُهُ مَسْلُولٌ بِيَدِهِ. فَسَارَ يَشُوعُ إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ: "هَلْ لَنَا أَنْتَ أَوْ لأَعْدَائِنَا؟" أَقْصِدُ، فَجْأَةً، يَظْهَرُ هَذَا الْمُحَارِبُ الْجَبَّارُ، وَيَشُوعُ لا يَعْرِفُهُ، هُوَ لَمْ يَكُنْ قَدْ رَآهُ مِنْ قَبْلُ، لَمْ يَكُنْ يَتَمَتَّعُ بِالذَكَاءِ الْعَسْكَرِيِّ الَذِي يَتَمَتَّعُ بِهِ مُحَارِبٌ مُمَاثِلٌ، كَانَ سَيَذْهَبُ لِيُحَارِبَ لِصَالِحِ الْقُوَى الْمُعَادِيَةِ. وَحِينَ رَأَى هَذَا الْمُحَارِبَ قَالَ: "مَنْ أَنْتَ؟ هَلْ لَنَا أَنْتَ أَوْ لأَعْدَائِنَا؟"

وَتُلاحِظُونَ كَيْفَ أَنَّ الْجَوَابَ جَاءَ كَالآتِي: "كَلاَّ". كَلَّا؟ مَهْلًا! إِمَّا أَنْ تَكُونَ لَنَا أَوْ لَهُمْ؟ مَنْ أَنْتَ؟ "كَلَّا". أَنَا لَسْتُ لأَيٍّ مِنْكُمَا، بَلْ أَنَا رَئِيسُ جُنْدِ الرَّبِّ، أَوْ رَئِيسٌ لِجَيْشِ رَبِّ الْجُنُودِ. الآنَ أَتَيْتُ. أَنَا جِئْتُ مِنْ عِنْدِ اللهِ يَا يَشُوعُ" وَمَا الَذِي فَعَلَهُ يَشُوعُ؟ "فَسَقَطَ يَشُوعُ عَلَى وَجْهِهِ إِلَى الأَرْضِ وَسَجَدَ، وَقَالَ لَهُ: "بِمَاذَا يُكَلِّمُ سَيِّدِي عَبْدَهُ؟" فَقَالَ رَئِيسُ جُنْدِ الرَّبِّ لِيَشُوعَ: "اخْلَعْ نَعْلَكَ مِنْ رِجْلِكَ، لأَنَّ الْمَكَانَ الَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ هُوَ مُقَدَّسٌ"". إِنَّهُ الأَمْرُ نَفْسُهُ الَذِي أُعْطِيَ لِمُوسَى عِنْدَ الْعُلَّيْقَةِ الْمُتَّقَدَةِ: "اخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ لأنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ". نَرَى أَنَّ هَذَا اللِقَاءَ هُوَ ظُهُورٌ قَبْلَ التَجَسُّدِ لِلْمَسِيحِ، لِلأُقْنُومِ الثَانِي مِنَ الثَالُوثِ، الَذِي يَظْهَرُ فِي التَارِيخِ قَبْلَ الدُخُولِ إِلَى أَرْضِ الْمَوْعِدِ.

فَلْنُلْقِ نَظْرَةً عَلَى مَرْجَعٍ آخَرَ لَوْ سَمَحْتُمْ، فِي سِفْرِ دَانِيآلَ الأَصْحاحِ الثَالِثِ، والآيَةِ التَاسِعَةَ عَشْرَةَ "حِينَئِذٍ امْتَلَأَ نَبُوخَذْنَصَّرُ غَيْظًا وَتَغَيَّرَ مَنْظَرُ وَجْهِهِ عَلَى شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُو، وَأَمَرَ بِأَنْ يَحْمُوا الأَتُونَ سَبْعَةَ أَضْعَافٍ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ مُعْتَادًا أَنْ يُحْمَى. وَأَمَرَ جَبَابِرَةَ الْقُوَّةِ فِي جَيْشِهِ بِأَنْ يُوثِقُوا شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُوَ وَيُلْقُوهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ. ثُمَّ أُوثِقَ هَؤُلاَءِ الرِّجَالُ فِي سَرَاوِيلِهِمْ وَأَقْمِصَتِهِمْ وَأَرْدِيَتِهِمْ وَلِبَاسِهِمْ وَأُلْقُوا فِي وَسَطِ أَتُونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ. وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ كَلِمَةَ الْمَلِكِ شَدِيدَةٌ وَالأَتُونَ قَدْ حَمِيَ جِدًّا، قَتَلَ لَهِيبُ النَّارِ الرِّجَالَ الَّذِينَ رَفَعُوا شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُوَ. وَهَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ الرِّجَالِ، شَدْرَخُ وَمِيشَخُ وَعَبْدَنَغُو، سَقَطُوا مُوثَقِينَ فِي وَسَطِ أَتُونِ النَّارِ الْمُتَّقِدَةِ. حِينَئِذٍ تَحَيَّرَ نَبُوخَذْنَصَّرُ الْمَلِكُ وَقَامَ مُسْرِعًا وَسَأَلَ مُشِيرِيهِ: "أَلَمْ نُلْقِ ثَلاَثَةَ رِجَالٍ مُوثَقِينَ فِي وَسَطِ النَّارِ؟" فَأَجَابُوا: "صَحِيحٌ أَيُّهَا الْمَلِكُ". فَقَالَ نَبُوخَذْنَصَّرُ: "هَا أَنَا نَاظِرٌ أَرْبَعَةَ رِجَالٍ مَحْلُولِينَ يَتَمَشَّوْنَ فِي وَسَطِ النَّارِ وَمَا بِهِمْ ضَرَرٌ، وَمَنْظَرُ الرَّابِعِ شَبِيهٌ بِابْنِ الآلِهَةِ"".

أَعْتَقِدُ أَنَّ هَذَا ظُهُورٌ لِلْمَسِيحِ قَبْلَ التَجَسُّدِ. الأُقْنُومُ الثَانِي مِنَ الثَالُوثِ دَخَلَ فِي النَارِ لأَجْلِ عَبِيدِهِ شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُو، وَحَمَاهُمْ مِنْ كُلِّ أَذًى. فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، إِنَّ مَجْدَ حُضُورِ اللهِ وَالنَارَ الْمُتَّقِدَةَ اللَذَيْنِ لَمْ يُظْهِرَا حُضُورَ الْمَسِيحِ قَبْلَ التَجَسُّدِ فَحَسْبُ، بَلْ أَظْهَرَا الْحُضُورَ الإِلَهِيَّ أَيْضًا، تَجَلَّيَا أَيْضًا فِي حَادِثَةِ انْتِقَالِ إِيلِيَّا إِلَى السَمَاءِ. هَلْ تَذْكُرُونَ كَيْفَ أَنَّ خَادِمَهُ أَلِيشَعَ رَافَقَهُ مُلْتَمِسًا نَصِيبَ اثْنَيْنِ مِنَ الرُوحِ الَذِي عَلَيْهِ؟، فَقَالَ: "هَلْ تُرَافِقُنِي؟ فَإِنْ رَأَيْتَنِي أُوخَذُ مِنْكَ يَكُونُ لَكَ كَذَلِكَ". وَفِي نِهَايَةِ الرِحْلَةِ، إِذَا مَرْكَبَةٌ مِنْ نَارٍ ظَهَرَتْ فِي السَمَاءِ، فَنَظَرَ أَلِيشَعُ إِلَيْهَا وَقَالَ لإِيلِيَّا "يَا أَبِي يَا أَبِي، مَرْكَبَةَ اللهِ". مُجَدَّدًا، مَرْكَبَةُ النَارِ تِلْكَ أَظْهَرَتْ مَجْدَ اللهِ. كَانَ هَذَا تَجَلِّيًا آخَرَ لِلظُهُورِ الإِلَهِيِّ، "شِيكَايْنا"، الَذِي أَحَاطَ بِحُضُورِ اللهِ. مُجَدَّدًا، كَانَتْ مَرْكَبَةُ النَارِ هِيَ عَرْشُ اللهِ الْمُتَحَرِّكُ، وَلَمْ يَكُنْ عَرْشُهُ ثَابِتًا وَراسِخًا وَجَامِدًا فِي زَاوِيَةٍ مَا فِي السَمَاءِ، بَلْ كَانَ يُمْكِنُ لِعَرْشِهِ الانْتِقَالُ إِلَى الْمَكَانِ الَذِي يُرِيدُهُ. وَحَيْثُمَا انْتَقَلَ عَرْشُهُ، كَانَ مَجْدُهُ يُرَافِقُهُ، وَكَانَ مَجْدُهُ يَسْطَعُ فِي تَأَلُّقِ النُورِ وَالنَارِ.

إِلَيْكُمُ الْحَادِثَةَ الأَخِيرَةَ بَيْنَ تِلْكَ الْحَوَادِثِ. الأَصْحَاحُ الأَوَّلُ مِنْ سِفْرِ حِزْقِيَالَ هُوَ وَاحِدٌ مِنَ الأَصْحَاحَاتِ الأَكْثَرِ غُمُوضًا فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ كُلِّهِ، حَيْثُ يَتَحَدَّثُ حِزْقِيَالُ عَنْ رُؤَى اللهِ الَتِي رَآهَا. "كَانَ فِي سَنَةِ الثَّلاَثِينَ، فِي الشَّهْرِ الرَّابِعِ، فِي الْخَامِسِ مِنَ الشَّهْرِ، وَأَنَا بَيْنَ الْمَسْبِيِّينَ عِنْدَ نَهْرِ خَابُورَ، أَنَّ السَّمَاوَاتِ انْفَتَحَتْ، فَرَأَيْتُ رُؤَى اللَّهِ". الآيَةُ الرَابِعَةُ: "فَنَظَرْتُ وَإِذَا بِرِيحٍ عَاصِفَةٍ جَاءَتْ مِنَ الشَمَالِ. سَحَابَةٌ عَظِيمَةٌ وَنَارٌ مُتَوَاصِلَةٌ وَحَوْلَهَا لَمَعَانٌ، وَمِنْ وَسَطِهَا كَمَنْظَرِ النُّحَاسِ اللاَّمِعِ مِنْ وَسَطِ النَّارِ". الرَهْبَةُ الْمُتَجَلِّيَةُ كَالرِيحِ، الْبَكَرَاتُ وَسَطَ البَكَرَاتِ في حِزْقِيَالَ، مُجَدَّدًا، رُؤْيَةُ مَرْكَبَةِ عَرْشِ اللهِ مُحَاطَةٍ بِبَهَاءِ مَجْدِهِ.

إِنَّ الْعُلَّيْقَةَ الْمُتَّقِدَةَ الَتِي لَمَحَ فِيهَا مُوسَى لِلْمَرَّةِ الأُولَى الظُهُورَ الإِلَهِيَّ لَمْ تَكُنِ الْحَادِثَةَ الأَخِيرَةَ مِنْ هَذَا النَوْعِ، فَفِي جَمِيعِ أَنْحَاءِ سِفْرِ الْخُرُوجِ يَظْهَرُ اللهُ مِرَارًا فِيمَا كانَ يَقُودُ شَعْبَ إِسْرَائِيلَ فِي الْبَرِّيَّةِ، مِنْ خِلالِ عَمُودِ السَحَابِ فِي النَهَارِ وَعَمُودِ النَارِ فِي اللَيْلِ. وَيَنْتَهِي سِفْرُ الْخُرُوجِ بَعْدَ بِنَاءِ الْمَسْكَنِ وَتَأْسِيسِهِ. وَقَبْلَ الْبَدْءِ بِاسْتِعْمَالِهِ لِلْعِبَادَةِ، أَوَّلًا، حَلَّ مَجْدُ اللهِ وَنَزَلَ فِي الْمَسْكَنِ. وَحِينَ كَانَ الظُهُورُ الإِلَهِيُّ يَتَجَلَّى، كَانَ مُوسَى يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ حَاضِرٌ فِي الْمَكَانِ، وَأَنَّهُ حَانَ الْوَقْتُ لِيُكَرِّسَ الشَعْبُ نَفْسُهُ لِلْعِبَادَةِ.

لَكِنْ إِلَيْكُمُ السُؤَالَ الَذِي أَوَدُّ طَرْحَهُ عَلَيْكُمْ، نَحْنُ نَتَحَدَّثُ عَنْ هَذَا التَأَلُّقِ، عَنْ هَذَا النُورِ السَاطِعِ وَالْمُشِعِّ الَذِي يُعْمِي، وَنَقُولُ إِنَّهُ كَثِيفٌ جِدًّا، فَمِقْدَارُ النُورِ كَبِيرٌ جِدًّا لِدَرَجَةِ أَنَّهُ يُعْمِي النَاسَ وَيَدُسُّ الْخَوْفَ وَالرِعْدَةَ فِي وَسَطِهِمْ. السُؤَالُ الَذِي أَوَدُّ طَرْحَهُ عَلَيْكُمْ هُوَ الآتِي "مَا هُوَ مَصْدَرُ هَذَا النُورِ؟" قُلْتُ سَابِقًا إِنَّ مَجْدَ اللهِ مُنْبَثِقٌ مِنْ كِيَانِهِ الدَاخِلي. الـ"شِيكَايْنا" هُوَ الظُهُورُ الْخَارِجِيُّ لِعَظَمَةِ اللهِ الدَاخِلِيَّةِ. لَكِنْ مِنْ أَيْنَ يَأْتِي النُورُ؟ مِنْ أَيْنَ اسْتَمَدَّ بَرِيقَهُ؟ تَأَلُّقُهُ الْمُتَعَالِي وَالْمَهِيبُ، مِنْ أَيْنَ جَاءَ؟

يُجِيبُ كَاتِبُ رِسَالَةِ الْعِبْرَانِيِّينَ عَنْ هَذَا السُؤالِ حِينَ يَتَحَدَّثُ عَنِ الْمَسِيحِ، وَهْوَ يَصِفُ الْمَسِيحَ عَلَى أَنَّهُ بَهَاءُ مَجْدِ اللهِ، وَالْمَسِيحُ هُوَ الظُهُورُ الْمَنْظُورُ لِمَجْدِ اللهِ الأَبَدِيِّ. الْمَسِيحُ، بِطَبِيعَتِهِ الإِلَهِيَّةِ، هُوَ حُضُورُ اللهِ الْمُتَجَلِّي، إِنَّهُ هُوَ مَنْ يُضِيءُ النُورَ، وَمَنْ يُعْطِي النَارَ وَلَهِيبَ مَجْدِ اللهِ. هَذَا أَمْرٌ مُذْهِلٌ. يُمْكِنُكُمْ التَفْكِيرُ فِي هَذَا الأَمْرِ لِبَقِيَّةِ أَيَّامِ حَيَاتِكُمْ بِدُونِ أَنْ تَبْدَؤُوا بِالْوُصُولِ إِلَى عُمْقِ كَوْنِ الْمَسِيحِ بَهَاءَ مَجْدِ اللهِ، مَا يَعْنِي أَنَّ الْخُلاصَةَ الْمَنْطِقِيَّةَ تُفِيدُ بِأَنَّهُ بِدُونِ الْمَسِيحِ، بِدُونِ الأُقْنُومِ الثَانِي مِنَ الثَالُوثِ، لَمَا كَانَ فِي اللهِ أَيُّ شَيْءٍ سِوَى الظُلْمَةِ.

سَأُشَارِكُ النُقْطَةَ الأَخِيرَةَ بِسُرْعَةٍ. إِنَّ الْفَيْلَسُوفَ الْهِلْنِسْتِيَّ الْيَهُودِيَّ فِيلُونَ السَكَنْدَرِيِّ أَقَامَ رَابِطًا، لَيْسَ مِنْ وُجْهَةِ نَظَرٍ مَسِيحِيَّةٍ وَإِنَّمَا مِنْ وُجْهَةِ نَظَرٍ فَلْسَفِيَّةٍ، بَيْنَ الْمَفْهُومِ الْيُونَانِيِّ لِفِكْرَةِ الـ"لُوجُوس". كَانَ اللُوجُوسُ ذَلِكَ الْجَوْهَرَ الْمُتَعَالِي الَذِي أَعْطَى تَرْتِيبًا وَمَعْنًى وَهَدَفًا لِلْكَوْنِ فِي الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ. رَبَطَ فِيلُونُ مَفْهُومَ اللُوجُوس بِحُضُورِ اللهِ الْمُتَجَلِّي. ثُمَّ نَصِلُ إِلَى الْعَهْدِ الْجَدِيدِ إِلَى إِنْجِيلِ يُوحَنَّا "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ". الـ"لُوجُوس" هُوَ أُلُوهِيَّةُ اللهِ وَبَهَاءُ مَجْدِهِ.