المحاضرة 19: الخَلْقُ الذَاتِيُّ (الجُزْءُ الثَّانِي)
ما هي احتمالات أن شيء آخر غير الله قد خلق الكون؟ كثير من الناس في مجال العلوم قد اختزلت فكرة الخلق إلى مجرد خرافة دينية. وهناك الكثير في الكنيسة يتعرضون للترهيب من خلال حجج علمية قوية حسب الظاهر. ولكن، كما نرى في هذه المحاضرة، فإن هذه الحجج العلمية لا تملك أي قوة. في هذا الجزء الثاني من "الخلق الذاتي"، يفضح د. سبرول أسطورة الصدفة.
فِي مُحَاضَرَتِنَا الْمَاضِيَةِ، تَنَاوَلْنَا مَفْهُومَ الْخَلْقِ الذَّاتِيِّ، وَأَنْوَاعَهُ الْمُخْتَلِفَةَ، مِثْلَ التَّوَلُّدِ التِّلْقَائِيِّ، وَالتَّوَلُّدِ التِّلْقَائِيِّ التَّدْرِيجِيِّ، وَتَفَجُّرِ الْكَوْنِ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ، إِلَى آخِرِهِ. لَكِنَّنِي اخْتَتَمْتُ تِلْكَ الْمُحَاضَرَةَ بِقَوْلِي إِنَّهُ فِي الْمَشْهَدِ الْمُعَاصِرِ، يُوصَفُ بَدِيلُ الْإِيمَانِ بِوُجُودِ اللَّهِ عَادَةً مِنْ خِلَالِ احْتِكَامٍ إِلَى مَا نُسَمِّيهِ "الْخَلْقَ التَّصَادُفِيَّ". وَأَوَدُّ تَنَاوُلَ ذَلِكَ بِبَعْضِ التَّفْصِيلِ فِي مُحَاضَرَةِ الْيَوْمِ.
ذَكَرْتُ بِشَكْلٍ عَابِرٍ فِي الْمُحَاضَرَةِ السَّابِقَةِ أَنَّنِي أَلَّفْتُ كِتَابًا كَامِلًا عَنْ هَذَا الْمَوْضُوعِ. وَسَأُبَيِّنُ أَسْبَابَ ذَلِكَ. وَعُنْوَانُ الْكِتَابِ "Not a Chance"، وَهُوَ تَحْلِيلٌ لِدَوْرِ وَوَظِيفَةِ الْمُصَادَفَةِ فِي عِلْمِ الْكَوْنِيَّاتِ الْحَدِيثِ وَنَشْأَةِ الْكَوْنِ. وَمَا حَفَّزَنِي عَلَى تَأْلِيفِ هَذَا الْكِتَابِ هُوَ قِرَاءَتِي لِلْعَدِيدِ مِنَ النَّظَرِيَّاتِ لِأُنَاسٍ فِي الْمُجْتَمَعِ الْعِلْمِيِّ، فِي مُحَاوَلَةٍ مِنْهُمْ لِتَفْسِيرِ بَعْضٍ مِنْ أَصْعَبِ الْمَفَاهِيمِ الَّتِي يُمْكِنُ لِعَالَمِ الْعَصْرِ الْحَدِيثِ التَّعَامُلُ مَعَهَا - وَهِيَ أُمُورٌ تَجْرِي فِي الْمُخْتَبَرِ، وَتَتَعَلَّقُ بِالتَّجَارِبِ، وَبِالْجُزَيْئَاتِ دُونَ الذَرِّيَّةِ، وَالضَّوْءِ، وَمِيكَانِيكَا الْكَمِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَشَرْتُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، عَلَى سَبِيلِ إِخْلَاءِ الْمَسْؤُولِيَّةِ، إِلَى أَنَّنِي لَسْتُ عَالِمَ فِيزْيَاءَ، أَوْ خَبِيرًا فِي فِيزْيَاءِ الْكَمِّ عَلَى الْإِطْلَاقِ. فَلَسْتُ أَجْرُؤُ عَلَى تَقْوِيمِ اِكْتِشَافَاتِ الْفِيزْيَائِيِّينَ مِنْ تَجَارِبِهِمْ. وَلَسْتُ أُحَاوِلُ إِعَاقَةَ اسْتِمْرَارِيَّةِ تِلْكَ التَّجَارِبِ فِي سَعْيِهَا إِلَى التَّوْسِيعِ مِنْ إِدْرَاكِنَا لِلْوَاقِعِ. فَخِلَافِي مَعَ الْفِيزْيَائِيِّينَ لَا يَتَعَلَّقُ بِتَجَارِبِهِمْ، بَلْ بِطَرِيقَةِ تَعْبِيرِهِمْ عَنْ نَتَائِجِ تَجَارِبِهِمْ، وَمَا يَسْتَنْتِجُونَهُ مِنَ الْمُعْطَيَاتِ الَّتِي قَامُوا بِالْعَمَلِ عَلَيْهَا.
لَا يَلْزَمُنِي أَنْ أَكُونَ فِيزْيَائِيًّا كَيْ أَتَمَكَّنَ مِنْ تَحْلِيلِ مُحْتَوى وَدَلَالَةِ التَّصْرِيحَاتِ وَمَدَى تَمَاسُكِهَا. فَهَذَا تَخَصُّصُ الْفَلَاسِفَةِ، الَّذِي يُقَدِّمُونَ تَحْلِيلًا مَنْطِقِيًّا لِمَدَى صِحَّةِ التَّصْرِيحَاتِ. وَعِنْدَمَا يُعَبِّرُ الْفِيزْيَائِيُّونَ عَنْ نَظَرِيَّاتِهِمْ بِكَلَامٍ بِلَا مَعْنًى، يَكُونُ الْوَقْتُ قَدْ حَانَ لِيُطْلِقَ الْفَلَاسِفَةُ صَافِرَةَ الْإِنْذَارِ، قَائِلِينَ: "لَسْنَا نَفْهَمُ مَا تَقُولُونَهُ، لِأَنَّ كَلَامَكُمْ مُنَافٍ لِلْعَقْلِ وَغَيْرُ مَفْهُومٍ. رَجَاءً، ابْدَأُوا مِنْ جَدِيدٍ، وحاوِلوا إعادَةَ صِياغَةِ تَصْريحاتِكُم". أو رُبَّما يكتَفونَ بالقول: "فقط قولوا إنَّكُم تَجْهَلونَ عَمَّ تتحدَّثون، لأنَّ أُسلوبَ حديثِكُم يُظهِرُ أنَّكُم على الأقلِّ لا تَعرِفونَ كيفَ تتحدَّثون. رُبَّما سيَعْكِسُ ذلكَ جَهْلًا أكبر، لكنَّهُ على الأقلِّ سيَعكِسُ جَهْلاً يتعلَّقُ بكلامٍ مَفْهوم".
وفي مُقَدِّمَةِ هذا الكتاب، أَشَرْتُ إلى آرثر كيسلر الذي قال: "ما دامَتْ المُصادَفَةُ تَحكُم، فإنَّ فِكرَةَ اللهِ قد عَفا علَيْها الزمن". وتناوَلْتُ هذا الاقْتِباسَ لأنَّني رأيتُ أنَّ كيسلر طَرَحَ فِكرَةً مُهِمَّةً للغاية. فما دامَتْ المُصادفَةُ تَحْكُم، فإنَّ فِكرَةَ اللهِ قد عَفا علَيْها الزَّمَن. أَتَّفِقُ مَعَ هذهِ الفِكرَةِ إلى حدٍّ ما. لكنَّ اعْتِراضي الوَحيد رُبَّما يكونُ مُعَقَّدًا بعضَ الشيء، وهو أنَّني كُنتُ أتمنّى أنْ يَتَمادى كيسلر بتصريحِهِ أكثَرَ قليلًا، لأنَّني لستُ أظنُّ أنَّهُ مِنَ الضروريِّ أنْ تحكُمَ المُصادَفَةُ حتى يَعْفُوَ الزَّمَنُ عن فِكرَةِ الله. بَلْ أَعْتَقِدُ أَنَّ كُلَّ مَا يَجِبُ إِثْبَاتُهُ حَتَّى يَعْفُوَ الزَّمَنُ عَنْ فِكْرَةِ اللَّهِ هُوَ وُجُودُ الْمُصَادَفَةِ، أَيِ الْوُجُودُ الْحَقِيقِيُّ فِي الْوَاقِعِ لِمَا نُسَمِّيهِ بِالْمُصَادَفَةِ. فَلَوْ تَمَتَّعَتِ الْمُصَادَفَةُ بِأَيَّةِ سُلْطَةٍ، سَتَخْلَعُ اللَّهَ عَنْ عَرْشِهِ تَمَامًا. وَكُلُّ مَا يَلْزَمُهَا لِذَلِكَ هُوَ فَقَطْ أَنْ تُوجَدَ. وَكَتَبْتُ أَنَّ مُجَرَّدَ وُجُودِ الْمُصَادَفَةِ كَافٍ لِخَلْعِ اللَّهِ عَنْ عَرْشِهِ الْكَوْنِيِّ. فَلَيْسَتِ الْمُصَادَفَةُ بِحَاجَةٍ إِلَى أَنْ تَحْكُمَ أَوْ تَسُودَ. فَفَقَطْ إِذَا وُجِدَتْ كَخَادِمَةٍ ضَعِيفَةٍ وَمُتَوَاضِعَةٍ، سَتَجْعَلُ اللَّهَ لَيْسَ فَقَطْ فِكْرَةً عَفَا عَلَيْهَا الزَّمَنُ، بَلْ أَيْضًا بِلَا أَدْنَى دَوْرٍ. وَالْفَرْضِيَّةُ الْأَسَاسِيَّةُ الَّتِي أَقَدِّمُهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ هِيَ أَنَّهُ فِي النِّهَايَةِ، لَا وُجُودَ لِلْمُصَادَفَةِ. وَأَكْبَرُ خُرَافَةٍ فِي الْمِيثُولُوجْيَا الْحَدِيثَةِ هِيَ خُرَافَةُ الْمُصَادَفَةِ. وَهَذَا مَا أُحَاوِلُ الْوُصُولَ إِلَيْهِ هُنَا.
وَمَا حَفَّزَنِي عَلَى تَأْلِيفِ هَذَا الْكِتَابِ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ هُوَ حَدِيثٌ دَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أُسْتَاذٍ بِكُلِّيَّةِ هَارْفَارْدْ لِلدِّرَاسَاتِ الْعُلْيَا فِي فَلْسَفَةِ الْعُلُومِ، فِيمَا كُنَّا نَتَحَدَّثُ مَعًا عَنْ أَصْلِ الْكَوْنِ، فَرَفَضَ نَظَرِيَّةَ الْخَلْقِ، فَسَأَلْتُهُ: "حَسَنًا، وَمِنْ أَيْنَ جَاءَ الْكَوْنُ؟" فَأَجَابَ: "وُجِدَ الْعَالَمُ نَتِيجَةَ مُصَادَفَةٍ". وَأَضَافَ: "خُلِقَ الْكَوْنُ بِالْمُصَادَفَةِ". فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَقُلْتُ: "هَلْ خُلِقَ الْعَالَمُ بِالْمُصَادَفَةِ؟" فَأَجَابَنِي: "أَجَلْ". فَمَدَدْتُ يَدِي فِي جَيْبِي وَأَخْرَجْتُ رُبْعَ دُولَارٍ، وَقَذَفْتُهُ فِي الْهَوَاءِ، ثُمَّ الْتَقَطْتُهُ، وَقَلَبْتُهُ، فَكَانَ طُرَّةً، وَقُلْتُ: "أَنَا الْآنَ قَذَفْتُ الْعُمْلَةَ فِي الْهَوَاءِ. فَمَا احْتِمَالَاتُ سُقُوطِ هَذِهِ الْعُمْلَةِ طُرَّةً أَوْ نَقْشًا، إِذَا لَمْ تَسْقُطْ عَلَى جَانِبِهَا؟" فَفَهِمَ مَا أَعْنِيهِ وَقَالَ: "نِسْبَةُ مِئَةٍ بِالْمِئَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ سِوَى خِيَارَيْنِ - إِمَّا الطُّرَّةُ أَوْ النَّقْشُ. إِذَنْ، لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ إِمَّا هَذَا أَوْ ذَاكَ". فَقُلْتُ: "حَسَنًا، حِسَابِيًّا، مَا احْتِمَالَاتُ سُقُوطِهَا طُرَّةً؟" فَأَجَابَ: "خَمْسُونَ بِالْمِئَةِ". فَقُلْتُ: "رَائِعٌ". ثُمَّ أَضَفْتُ: "وَالْآنَ دَعْنِي أَطْرَحُ عَلَيْكَ سُؤَالًا: مَا مَدَى تَأْثِيرِ الْمُصَادَفَةِ فِي سُقُوطِهَا طُرَّةً أَوْ نَقْشًا؟ بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، إِذَا تَحَكَّمْنَا فِي التَّجْرِبَةِ بِالْكَامِلِ، أَيْ إِذَا وَضَعْنَا الْعُمْلَةَ عَلَى مُحَرِّكٍ، وَبَدَأْنَا بِوَضْعِيَّةِ الطُّرَّةِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَأَجْرَيْنَا التَّجْرِبَةَ فِي فَرَاغٍ، حَيْثُ تَكُونُ الْقُوَّةُ الَّتِي تُمَارَسُ عَلَى تِلْكَ الْعُمْلَةِ مُتَسَاوِيَةً تَمَامًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ. ثُمَّ صَعِدَتْ إِلَى الِارْتِفَاعِ نَفْسِهِ فِي الْفَرَاغِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَكَانَ عَدَدُ مَرَّاتِ دَوَرَانِهَا فِي الْفَرَاغِ مُتَسَاوِيًا فِي كُلِّ مَرَّةٍ، ثُمَّ هَبَطَتْ فِي الْمَكَانِ نَفْسِهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَلَمْ تَكُنْ لَدَيْنَا أَيَّةُ مُتَغَيِّرَاتٍ مِنْ قَبِيلِ مَا إِذَا كُنَّا سَنَقْلِبُهَا أَوْ نَلْتَقِطُهَا هُنَا أَوْ هُنَا أَوْ هُنَا أَوْ هُنَا، أَوْ أَيٌّ مِنْ تِلْكَ الْمُتَغَيِّرَاتِ، فَهَلْ سَتَتَمَكَّنُ مِنْ زِيَادَةِ نِسْبَةِ هُبُوطِهَا طُرَّةً إِلَى أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ بِالْمِئَةِ؟" أَجَابَنِي: "بِالتَّأْكِيدِ". فَقُلْتُ: "حَسَنًا، لِأَنَّنَا نُدْرِكُ أَنَّ الْعَوَامِلَ السَّبَبِيَّةَ الْمُسَاهِمَةَ فِي التَّوَصُّلِ إِلَى مَا إِذَا كَانَتِ الْعُمْلَةُ سَتَهْبِطُ طُرَّةً أَوْ نَقْشًا لَا تَمُتُّ بِصِلَةٍ لِقُوَّةٍ خُرَافِيَّةٍ تُدْعَى بِالْمُصَادَفَةِ، لَكِنَّهَا مُتَّصِلَةٌ حَتْمًا بِالْعَوَامِلِ الَّتِي ذَكَرْتُهَا، أَيْ إِنْ كُنَّا بَدَأْنَا بِطُرَّةٍ أَوْ نَقْشٍ، وَالْقُوَّةُ الَّتِي يُمَارِسُهَا الْإِبْهَامُ عَلَيْهَا، وَمَدَى كَثَافَةِ الْجَوِّ، وَالِارْتِفَاعُ الَّذِي تَصِلُ إِلَيْهِ، وَعَدَدُ مَرَّاتِ دَوَرَانِهَا فِي الْهَوَاءِ، وَالْتِقَاطُنَا لَهَا هُنَا أَمْ هُنَا أَمْ هُنَا، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ نَلْتَقِطَهَا، إِنْ كُنَّا نَنْظُرُ إِلَيْهَا فِي الْحَالِ أَمْ نَقْلِبُهَا. كُلُّ تِلْكَ الْمُتَغَيِّرَاتِ يُمْكِنُ أَنْ تُؤَثِّرَ فِي نَتِيجَةِ التَّجْرِبَةِ. لَكِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّهُ حَتَّى عَلَى الرَّغْمِ مِنْ كُلِّ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا وَقْتَ لَدَيْنَا لِنَدْرُسَهَا فِي كُلِّ مَرَّةٍ، لَا تَزَالُ الِاحْتِمَالَاتُ تُخْبِرُنَا بِأَنَّهُ فِي النِّهَايَةِ، يَجِبُ أَنْ يَتَحَقَّقَ احْتِمَالٌ مِنِ اثْنَيْنِ، إِمَّا طُرَّةٌ أَوْ نَقْشٌ، وَلِهَذَا نَقُولُ إِنَّ نِسْبَةَ الِاحْتِمَالِ هِيَ خَمْسُونَ بِالْمِئَةِ.
مَا مِنْ خَطْبٍ فِي كَلِمَةِ "مُصَادَفَةٍ". فَهِيَ كَلِمَةٌ مَفْهُومَةٌ تَمَامًا حِينَ نَسْتَخْدِمُهَا لِوَصْفِ احْتِمَالَاتٍ حِسَابِيَّةٍ. وَهِيَ مُرَادِفَةٌ لِكَلِمَةِ "احْتِمَالَاتٍ" (odds). فَمَا احْتِمَالَاتُ (odds, chances) حُدُوثِ أَمْرٍ مَا؟ بَلْ وَمِنَ الشَّائِعِ أَنْ نَسْتَخْدِمَ كَلِمَةَ "مُصَادَفَةٍ" لِلْإِشَارَةِ إِلَى "لِقَاءَاتٍ دُونَ تَخْطِيطٍ".
أَتَذَكَّرُ ذَاتَ مَرَّةٍ أَنَّنِي كُنْتُ مُسَافِرًا بِالْقِطَارِ مِنْ أُورْلَانْدُو إِلَى كَالِيفُورْنِيَا. وَفِي تِلْكَ الرِّحْلَةِ، كَانَ عَلَيَّ الذَّهَابُ إِلَى وَاشِنْطُنْ الْعَاصِمَةِ أَوَّلًا. وَمِنْ وَاشِنْطُنْ، كَانَ عَلَيَّ التَّوَقُّفُ لِبَعْضِ الْوَقْتِ، ثُمَّ اسْتِقْلَالُ الْقِطَارِ مُجَدَّدًا لِلذَّهَابِ إِلَى شِيكَاغُو. فَحَدَثَ أَنْ تَرَجَّلْتُ مِنَ الْقِطَارِ فِي الصَّبَاحِ لِلتَّوَقُّفِ لِنَحْوِ ثَمَانِي سَاعَاتٍ، فِي وَقْتٍ كَانَ فِيهِ زِحَامٌ كَبِيرٌ مِنَ الرُّكَّابِ الْمَحَلِّيِّينَ الذَّاهِبِينَ مِنْ ضَوَاحِي شِيكَاغُو إِلَى وَسَطِ مَدِينَةِ شِيكَاغُو. وَكَانَ عَلَيَّ الْبَقَاءُ فِي الْمَدِينَةِ لِمُدَّةِ ثَمَانِي سَاعَاتٍ، ثُمَّ الْعَوْدَةُ إِلَى مَحَطَّةِ الْقِطَارِ لِأَسْتَقِلَّ الْقِطَارَ إِلَى لُوسْ أَنْجِلُوسْ. وَتَصَادَفَ أَنَّنِي اسْتَقْلَلْتُ الْقِطَارَ فِي وَقْتٍ مُتَأَخِّرٍ مِنْ فَتْرَةِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ الَّذِي كَانَتْ فِيهِ الْقِطَارَاتُ الْمَحَلِّيَّةُ عَائِدَةً إِلَى وُجْهَتِهَا. فَنَزَلْتُ مِنَ الْقِطَارِ فِي شِيكَاغُو صَبَاحًا، وَبَيْنَمَا كُنْتُ أَعْبُرُ ذَلِكَ الْمَبْنَى الَّذِي يَعِجُّ بِحُشُودٍ مِنَ الْبَشَرِ، نَظَرْتُ أَمَامِي، وَفَجْأَةً، رَأَيْتُ صَدِيقًا لِي لَمْ أَلْتَقِ بِهِ مُنْذُ عَشْرِ سَنَوَاتٍ. "آلَ، كَيْفَ حَالُكَ؟" وَدَارَ بَيْنَنَا حَدِيثٌ رَائِعٌ. فَقَالَ لِي: "مَاذَا تَفْعَلُ هُنَا؟" فَقُلْتُ: "تَصَادَفَ مُرُورِي بِالْمَدِينَةِ، وَسَأَنْتَظِرُ هُنَا قِطَارِي التَّالِي". ثُمَّ بَعْدَ ثَمَانِي سَاعَاتٍ، عُدْتُ إِلَى مَحَطَّةِ الرُّكَّابِ نَفْسِهَا. وَمُجَدَّدًا، كَانَ هُنَاكَ آلَافُ الْأَشْخَاصِ الَّذِينَ يَتَزَاحَمُونَ لِيَسْتَقِلُّوا اَلْقِطَارَاتِ، وَفَجْأَةً الْتَقَيْتُ بِصَدِيقِي مُجَدَّدًا. مَا احْتِمَالَاتُ حُدُوثِ ذَلِكَ؟
نُسَمِّي ذَلِكَ "تَجْرِبَةً تَصَادُفِيَّةً"، وَنُسَمِّيهِ "لِقَاءً دُونَ تَخْطِيطٍ"، لِأَنَّنَا لَمْ نَلْتَقِ عَمْدًا. فَحِينَ غَادَرْتُ فُلُورِيدَا، لَمْ أُخَطِّطْ أَوْ أَتَعَمَّدِ الِالْتِقَاءَ بِصَدِيقِي آلْ فِي أَرْوِقَةِ مَحَطَّةِ شِيكَاغُو. وَعِنْدَمَا غَادَرَ هُوَ مَنْزِلَهُ فِي ذَلِكَ الصَّبَاحِ، لَمْ يَكُنْ يَنْوِي أَنْ يَلْتَقِيَ بِي. لَكِنْ إِنْ جَازَ التَّعْبِيرُ، اصْطَدَمَ أَحَدُنَا بِالْآخَرِ فِي لِقَاءٍ تَصَادُفِيٍّ. لَكِنَّ الْمُصَادَفَةَ لَا تُفَسِّرُ سَبَبَ حُدُوثِ ذَلِكَ، أَيْ إِنَّ الْمُصَادَفَةَ لَمْ تَتَسَبَّبْ فِي ذَلِكَ. فَقَدِ الْتَقَيْنَا لِأَنَّهُ تَصَادَفَ تَوَاجُدُنَا فِي الْمَكَانِ نَفْسِهِ وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ لِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ، تَلَاقَتْ مَعًا فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ. إِذَنْ مُجَدَّدًا، كَلِمَةُ مُصَادَفَةٍ كَلِمَةٌ مَشْرُوعَةٌ تَمَامًا حِينَ نَسْتَخْدِمُهَا لِوَصْفِ اللِّقَاءَاتِ غَيْرِ الْمُتَعَمَّدَةِ، أَوْ لِوَصْفِ اِحْتِمَالَاتٍ حِسَابِيَّةٍ.
لَكِنَّ مَا حَدَثَ فِي اللُّغَةِ الْحَدِيثَةِ هُوَ أَنَّ كَلِمَةَ مُصَادَفَةٍ اتَّخَذَتْ بِشَكْلٍ غَيْرِ مَلْحُوظٍ مَعْنًى أَكْبَرَ بِكَثِيرٍ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ الْحِسَابِيَّةِ، وَنُسِبَتْ إِلَيْهَا قُوَّةٌ مُسَبِّبَةٌ. وَعِنْدَمَا تَحَدَّثْتُ مَعَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذِ مِنْ هَارْفَارْدْ، وَقُلْتُ لَهُ: "هَلْ أَدْرَكْتَ مِنْ خِلَالِ تَشْبِيهِ الْعُمْلَةِ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ الَّذِي تُسَمِّيهِ بِالْمُصَادَفَةِ لَمْ يُمَارِسْ أَيَّةَ قُوَّةٍ يُمْكِنُ أَنْ تَجْعَلَ الْعُمْلَةَ تَسْقُطُ طُرَّةً؟" فَاتَّفَقَ مَعِي. فَعِنْدَمَا قَدَّمْتُ لَهُ ذَلِكَ الْمِثَالَ التَّوْضِيحِيَّ الْبَسِيطَ، مُسْتَخْدِمًا اللُّغَةَ الْعَادِيَّةَ، خَبَطَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: "أَظُنُّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي أَنْ أَقُولَ إنَّ الْكَوْنَ خُلِقَ بِالْمُصَادَفَةِ". فَقُلْتُ: "هَذَا صَحِيحٌ"، لِأَنَّهُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِعِلْمِ الْأَنْطُولُوجْيَا (عِلْمُ الْأَنْطُولُوجْيَا مَعْنَاهُ دِرَاسَةُ وُجُودِ وَجَوْهَرِ الْوَاقِعِ، أَيْ كَيْنُونَتِهِ)، كَمَا قُلْتُ لِصَدِيقِي مِنْ هَارْفَارْدْ، الْحَالَةُ الْوُجُودِيَّةُ لِلْمُصَادَفَةِ هِيَ صِفْرٌ. فَلَيْسَ لِلْمُصَادَفَةِ أَيُّ وُجُودٍ. لَيْسَتِ الْمُصَادَفَةُ شَيْئًا يَعْمَلُ وَيُؤَثِّرُ فِي أَشْيَاءَ أُخْرَى، لَكِنَّهَا مُجَرَّدُ مَفْهُومٍ عَقْلِيٍّ يُشِيرُ إِلَى احْتِمَالَاتٍ حِسَابِيَّةٍ، وَلَيْسَ لَهَا وُجُودٌ فِي ذَاتِهَا. وَلَيْسَتْ لَهَا كَيْنُونَةٌ.
هَذِهِ الطَّبْشُورَةُ لَهَا وُجُودٌ. وَوُجُودُهَا قَادِرٌ أَنْ يَشْغَلَ الْفِيزْيَائِيِّينَ وَالْفَلَاسِفَةَ لِقُرُونٍ، لِمُحَاوَلَةِ فَهْمِ الشَّكْلِ الْأَسَاسِيِّ لِجَوْهَرِ هَذِهِ الطَّبْشُورَةِ. لَكِنَّنَا نَتَّفِقُ مَعًا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ لَا شَيْءَ، لَكِنَّ تِلْكَ الطَّبْشُورَةَ هِيَ شَيْءٌ. وَتَذَكَّرُوا أَنَّنِي قُلْتُ إِنَّ أَبْسَطَ حُجَّةٍ تُؤَيِّدُ وُجُودَ اللَّهِ هِيَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ شَيْءٌ مَوْجُودًا، أَوْ إِذَا كَانَ أَيُّ شَيْءٍ مَوْجُودًا، أَوْ إِذَا كَانَ أَيُّ شَيْءٍ يَتَمَتَّعُ بِحَالَةٍ وُجُودِيَّةٍ، فَإِنَّنَا نَصِيرُ مَدْفُوعِينَ بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ إِلَى اسْتِنْتَاجِ وُجُودِ كَائِنٍ أَزَلِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ. لَكِنَّنِي اسْتَبَقْتُ الْأُمُورَ هُنَا. فَمَا أَقُولُهُ هُوَ إِنَّ لِهَذِهِ الطَّبْشُورَةِ حَالَةً وُجُودِيَّةً، أَيْ إِنَّهَا شَيْءٌ، لَهُ وُجُودٌ. فَهِيَ حَقِيقَةٌ وَلَيْسَتْ وَهْمًا. فَإِنَّنِي أَتَمَتَّعُ بِحَالَةٍ وُجُودِيَّةٍ. أَنَا كَائِنٌ. لَسْتُ الْكَائِنَ الْأَسْمَى، أَوِ الْكَائِنَ الْإِلَهِيَّ، فَإِنَّنِي بَشَرٌ. لَكِنَّنِي شَيْءٌ وَلَيْسَ لَا شَيْءَ. لَكِنْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُصَادَفَةِ، قُلْتُ لِصَدِيقِي مِنْ هَارْفَارْدْ إِنَّهُ لَيْسَ لِلْمُصَادَفَةِ وُجُودٌ. وَلِأَنْ لَيْسَ لَهَا وُجُودٌ، فَهِيَ إِذَنْ بِلَا قُوَّةٍ، لِأَنَّ مَا هُوَ بِلَا وُجُودٍ، لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِالضَّرُورَةِ بِلَا قُوَّةٍ، لِأَنَّهُ كَيْ تُوجَدَ الْقُوَّةُ أَوْ تَعْمَلَ، لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ قُوَّةَ شَيْءٍ. فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُولَدَ قُوَّةٌ مَنْ لَا شَيْءٍ، تَمَامًا كَمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَأْتِيَ أَشْيَاءُ مَنْ لَا شَيْءٍ. فَالْقُوَّةُ أَوْ الْعَمَلُ يَسْتَلْزِمَانِ وُجُودَ عَامِلٍ، مِثْلَمَا قَالَ دِيكَارْتْ إِنَّ التَّفْكِيرَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ مُفَكِّرٍ.
إِذَنْ، الْفَرْضِيَّةُ الَّتِي سَأُقَدِّمُهَا لَكُمْ - وَهَذَا مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْفَلَاسِفَةِ وَالْعُلَمَاءِ عَبْرَ الْعُصُورِ - هِيَ أَنَّ كَلِمَةَ مُصَادَفَةٍ أَصْبَحَتْ كَلِمَةً تَصِفُ جَهْلَنَا. فَإِنَّنَا نُقْحِمُ كَلِمَةَ مُصَادَفَةٍ فِي الْمُعَادَلَةِ حِينَ نَجْهَلُ مَا يَحْدُثُ مِنْ حَوْلِنَا. فَحِينَ نُخْفِقُ فِي الْقِيَامِ بِمَا عَلَيْنَا مِنْ تَحْلِيلٍ، وَالتَّوَصُّلِ إِلَى حُجَجٍ مُقْنِعَةٍ وَقَوِيَّةٍ، نَنْسِبُ الْأُمُورَ إِلَى الْمُصَادَفَةِ، أَوْ إِلَى قُوَّةِ الْمُصَادَفَةِ. رُبَّمَا تَقُولُونَ لِي: "لَكِنْ مَهْلًا يَا أَرْ. سِي.، نَحْنُ نَلْعَبُ أَلْعَابَ الْحَظِّ، حَيْثُ تُخْلَطُ الْأَوْرَاقُ عَشْوَائِيًّا، وَتُوَزَّعُ، وَيُمْكِنُكَ تَحْدِيدُ احْتِمَالَاتٍ إِحْصَائِيَّةٍ بِنَاءً عَلَى الْأَوْرَاقِ الَّتِي تُوَزَّعُ عَلَيْكَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ. هَذَا صَحِيحٌ. وَأَنَا أُحِبُّ لَعِبَ الْوَرَقِ. وَدَرَسْتُ الِاحْتِمَالَاتِ الْحِسَابِيَّةَ فِي مُخْتَلِفِ أَلْعَابِ الْوَرَقِ. وَحِينَ أَلْعَبُ، أَلْعَبُ وَفْقًا لِلِاحْتِمَالَاتِ. وَيُفِيدُنِي بِالْفِعْلِ أَنْ أَعْرِفَ الِاحْتِمَالَاتِ الْحِسَابِيَّةَ فِي الْأَلْعَابِ الَّتِي تُسَمَّى أَلْعَابَ الْحَظِّ. لَكِنَّهَا لُعْبَةُ حَظٍّ لِأَنَّنِي لَا أَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ تَوْزِيعِ تِلْكَ الْأَوْرَاقِ. لَكِنَّ سَبَبَ حُصُولِي عَلَى أَوْرَاقٍ مُعَيَّنَةٍ أَثْنَاءَ تَوْزِيعِ الْوَرَقِ، يَعْتَمِدُ عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي رُتِّبَتْ بِهَا الْأَوْرَاقُ عِنْدَ خَلْطِهَا لِلْمَرَّةِ الْأُولَى، وَالْكَيْفِيَّةِ الَّتِي رُتِّبَتْ بِهَا عِنْدَ خَلْطِهَا لِلْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، وَطَرِيقَةِ تَوْزِيعِهَا، وَالتَّسَلْسُلِ الَّذِي اتُّبِعَ أَثْنَاءَ تَوْزِيعِهَا، إِلَى آخِرِهِ. لَمْ تَكُنِ الْمُصَادَفَةُ شَبَحًا غَيْرَ مَنْظُورٍ تَحَكَّمَ فِي يَدِ الْمُوَزِّعِ، وَتَسَبَّبَ فِي تَرْتِيبِ الْأَوْرَاقِ فِي تَسَلْسُلٍ مُعَيَّنٍ، لِأَنْ لَا وُجُودَ لِمِثْلِ هَذِهِ الْقُوَّةِ غَيْرِ الْمَنْظُورَةِ الَّتِي تُدْعَى بِالْمُصَادَفَةِ، لِأَنَّهُ مُجَدَّدًا لَيْسَ لِلْمُصَادَفَةِ وُجُودٌ. وَبِمَا أَنَّهَا بِلَا وُجُودٍ، فَهِيَ بِلَا قُوَّةٍ.
وَهَكَذَا، قُلْتُ مُجَدَّدًا لِصَدِيقِي: "لَيْسَتِ الْمُصَادَفَةُ شَيْئًا يُمْكِنُ أَنْ يُمَارِسَ قُوَّةً. أَتُوَافِقُنِي الرَّأْيَ؟" وَأَخِيرًا أَجَابَنِي: "أَجَلْ، لَيْسَتِ الْمُصَادَفَةُ شَيْئًا". وَالْآنَ دَعُونِي أُصِيغُ ذَلِكَ بِأُسْلُوبٍ مُخْتَلِفٍ بَعْضَ الشَّيْءِ. الْمُصَادَفَةُ لَيْسَتْ شَيْئًا. أَوْ الْمُصَادَفَةُ هِيَ لَا شَيْءٌ. وَحِينَ تَقُولُ إِنَّ الْكَوْنَ خُلِقَ بِالْمُصَادَفَةِ، فَإِنَّكَ تَقْصِدُ مَنْطِقِيًّا أَنَّ الْكَوْنَ خُلِقَ بِلَا شَيْءٍ. وَبِذَلِكَ، لَسْتَ فَقَطْ تَنْسُبُ قُوَّةً إِلَى الْمُصَادَفَةِ، لَكِنَّكَ تَنْسُبُ إِلَيْهَا أَسْمَى قُوَّةٍ يُمْكِنُ تَصَوُّرُهَا، بِقَوْلِكَ إِنَّهَا قَادِرَةٌ لَيْسَ فَقَطْ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ مَا، بَلْ عَلَى إِيجَادِ الْوَاقِعِ كَكُلٍّ. وَهَذَا مَا أَوَدُّ قَوْلَهُ. فَهَذَا الْمَفْهُومُ، بَعْدَ دَقَائِقَ مِنَ التَّحْلِيلِ الْمَنْطِقِيِّ، يَكْشِفُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ مُنَافٍ لِلْعَقْلِ، وَيُظْهِرُ أَنَّهُ أَسْوَأُ أَنْوَاعِ الْخُرَافَاتِ. لَكِنْ إِذَا غَلَّفْتَهُ بِلُغَةٍ فَخْمَةٍ، وَعَبَّرْتَ عَنْهُ بِلُغَةِ الْعِلْمِ، كَمَا حِينَ ظَنَّ النَّاسُ فِيمَا مَضَى أَنَّ بِإِمْكَانِهِمْ تَحْوِيلَ الْمَعْدِنِ إِلَى ذَهَبٍ، فَقَدَّمُوا تِلْكَ النَّظَرِيَّاتِ فِي شَكْلِ مُصْطَلَحَاتٍ عِلْمِيَّةٍ، فَحَظِيَتْ بِالِاحْتِرَامِ لِقُرُونٍ، هَكَذَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُضْفِيَ عَلَى الْخُرَافَاتِ احْتِرَامًا إِذَا غَلَّفْتَهَا بِلُغَةٍ أَكَادِيمِيَّةٍ كَافِيَةٍ. لَكِنْ مَهْمَا جَمَّلْتَ كَلَامَكَ، حِينَ تَنْسُبُ أَيَّةَ قُوَّةٍ إِلَى الْمُصَادَفَةِ، تَنْطِقُ بِهُرَاءٍ، لِأَنَّ الْمُصَادَفَةَ هِيَ لَا شَيْءٌ. وَلَوْ ظَنَنْتَ أَنَّهَا شَيْءٌ، سَيَكُونُ عَلَيَّ أَنْ أَسْأَلَكَ: وَمَا هِيَ؟ وَكَمْ تَزِنُ؟ هَلْ لَهَا أَبْعَادٌ حَقِيقِيَّةٌ أَمْ إِنَّهَا غَيْرُ مَلْمُوسَةٍ؟ هَلْ هِيَ حَقْلُ طَاقَةٍ؟ هَلْ هِيَ كَهْرُومَغْنَاطِيسِيَّةٌ؟ مَا مَصْدَرُ هَذِهِ الْقُوَّةِ؟ فَحِينَ تَقُولُ إِنَّ أَمْرًا مَا مُصَادَفَةٌ، فَإِنَّكَ تَعْنِي "لَا أَعْلَمُ".
حِينَ نَتَحَدَّثُ عَنْ أَهَمِّ مُؤَيِّدِي الْمُصَادَفَةِ، نَجِدُ أُنَاسًا مِثْلَ نِيلْزْ بُورْ، الَّذِي تَبَنَّى شِعَارَ "Contraria sunt complimentaria"، وَمَعْنَاهُ "التَّنَاقُضَاتُ تُكَّمِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا". وَكَانَ عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِتَأْيِيدِ كَلَا طَرَفَيْ النَّقِيضِ، مِمَّا أَثَارَ جُنُونَ أَيْنِشْتَايِنْ، فَقَالَ: "مَا أَنْ يَبْدَأَ نِيلْزْ فِي التَّحَدُّثِ عَنْ تَأْيِيدِ طَرَفَيْ النَّقِيضِ، يَتَوَقَّفُ لَيْسَ فَقَطْ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَنْطِقِيًّا، بَلْ عَنْ أَنْ يَكُونَ عِلْمِيًّا أَيْضًا".
وَبِظُهُورِ مَبَادِئِ الرِّيبَةِ لِهَايْزَنْبِرْغْ، يُمْكِنُ التَّعْبِيرُ عَنْ ذَلِكَ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ. يُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ: "نَحْنُ نُجْرِي التَّجَارِبَ عَلَى الْجُزَيْئَاتِ دُونَ الذَّرِّيَّةِ، وَلَسْنَا نَعْلَمُ سَبَبَ سُلُوكِهَا هَكَذَا". يَبْدُو أَنَّ هَذَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ التَّجَارِبَ أَثَّرَتْ فِي نَتَائِجِهَا. وَيَبْدُو أَنَّ تِلْكَ الْأَشْيَاءَ تَسْلُكُ بِطَرِيقَةٍ غَيْرِ مَنْطِقِيَّةٍ تَمَامًا. فَحِينَ يَقُولُ الْعَالِمُ: "لَسْتُ أَعْلَمُ سَبَبَ سُلُوكِ الْجُزَيْئَاتِ دُونَ الذَّرِّيَّةِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي تَجَارِبِنَا، وَلَا شَيْءَ مِنْ نَمَاذِجِنَا الْعِلْمِيَّةِ مُؤَهَّلٌ لِتَفْسِيرِ هَذَا السُّلُوكِ الَّذِي يَتَعَذَّرُ تَفْسِيرُهُ تَمَامًا. أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا يَحْدُثُ، وَأُلَاحِظُهُ جَيِّدًا، وَأُجْرِي عَلَيْهِ تَجَارِبَ، لَكِنَّنِي لَا أَعْرِفُ السَّبَبَ"، يَسْلُكُ بِهَذَا سُلُوكًا مُلَائِمًا لِلْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ. فَعِنْدَمَا يَصْطَدِمُ بِمَحْدُودِيَّةِ مَعْرِفَتِهِ، يَقُولُ: "لَا أَعْلَمُ".
يَجِبُ فِعْلُ ذَلِكَ فِي عِلْمِ الْأَحْيَاءِ، وَفِي الْكِيمْيَاءِ، وَالْفِيزْيَاءِ، وَالْفَلْسَفَةِ، وَعِلْمِ اللَّاهُوتِ. فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ هِيَ السِّمَةُ الَّتِي تُمَيِّزُ أَيَّ بَاحِثٍ حَقِيقِيٍّ عَنِ الْحَقِيقَةِ. لَكِنَّ قَوْلَنَا "لَا أَعْلَمُ" يَخْتَلِفُ تَمَامَ الِاخْتِلَافِ عَنْ قَوْلِنَا: "لَا شَيْءٌ سَبَّبَ هَذِهِ النَّتِيجَةَ"، لِأَنَّكَ كَيْ تَعْرِفَ ذَلِكَ، سَيَتَحَتَّمُ عَلَيْكَ أَنْ تَعْرِفَ كُلَّ قُوَّةٍ يُمْكِنُ تَصَوُّرُهَا مَوْجُودَةً دَاخِلَ الْكَوْنِ أَوْ خَارِجَهُ. وَالْوَسِيلَةُ الْوَحِيدَةُ لِاكْتِسَابِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ هِيَ أَنْ تَكُونَ كُلِّيَّ الْعِلْمِ. وَلِذَا، أَظُنُّ، عَلَى سَبِيلِ التَّعَقُّلِ، أَنَّنَا يَجِبُ أَنْ نَتَوَقَّفَ عَنِ الْقَوْلِ بِأَنَّ لَا شَيْءَ يُسَبِّبُ شَيْئًا، لِأَنَّ هَذَا تَصْرِيحٌ بِلَا مَعْنًى، وَخُرَافِيٌّ. فَلَيْسَ فَقَطْ لَاهُوتًا خَاطِئًا، وَإِنَّمَا أَيْضًا عِلْمٌ خَاطِئٌ، أَنْ نَنْسُبَ الْخَلْقَ الذَّاتِيَّ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ تَحْتَ أَيِّ مُسَمًّى.