المحاضرة 14: الأَكْوِينِيُّ مُقَابِلَ كَانْطْ
في نقد كانط يتطرق إلى مفهوم التركيب الكلاسيكي ويعطي نقدًا شاملاً للحجج التقليدية لوجود الله. وكان هجومه ضد وجهة نظر توما الأكويني عن اللاهوت الطبيعي. هنا يوجز د. سبرول نقد كانط بالتفصيل ويوضح كذلك أن نقد كانط يقود المرء إلى فلسفة اللاعقلانية والنسبية التي تنتشر في ثقافتها اليوم.
فِي مُحَاضَرَتِنَا الْمَاضِيَةِ، دَرَسْنَا بِاخْتِصَارٍ رَأْيَ تُومَا الأَكْوِينِيِّ عَنِ اللاهُوتِ الطَبِيعِيِّ. وَرُبَّمَا تَذْكُرُونَ أَنَّنِي خِلالَ تِلْكَ الْمُحَاضَرَةِ أَشَرْتُ إِلَى أَنَّ الأَكْوِينِيَّ عَارَضَ الأَرِسْطِيَّةَ التَكَامُلِيَّةَ فِي الْفَلْسَفَةِ الإِسْلامِيَّةِ، الَتِي عَلَّمَتْ بِنَظَرِيَّةِ الْحَقِّ الْمُزْدَوِجِ. وَالْقِدِّيسُ تُومَا - الَذِي كَانَ يُدْعَى دَكْتُور أَنْجِيلِيكُوس (Dr. Angelicus)، أَوِ الْعَالِمَ الْمَلائِكِيَّ لِلْكَنِيسَةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ - كَانَ عِمْلاقًا فِي مَجَالَيْ الْفَلْسَفَةِ وَاللاهُوتِ فِي الْعُصُورِ الْوُسْطَى. وَهُوَ الْمَسْؤُولُ الأَبْرَزُ عَنْ تَأْسِيسِ مَا يُعْرَفُ فِي تَارِيخِ الْفِكْرِ النَظَرِيِّ بِالتَوْفِيقِ الْكْلاسِيكِيِّ - أَيْ إِنَّهُ أَظْهَرَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْفَلْسَفَةِ وَاللاهُوتِ يُعْلِنُ حَقِيقَةَ وُجُودِ اللهِ. كَانَ هَذَا التَوْفِيقُ قَوِيًّا لِدَرَجَةِ أَنَّهُ كَانَ مِنَ النَادِرِ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ أَنْ يَعْتَرِضَ الْمُفَكِّرُونَ عَلَى فِكْرَةِ وُجُودِ اللهِ.
وَعَبْرَ التَارِيخِ، كَانَتِ الحُجَجُ الرَئِيسِيَّةُ الْمُؤَيِّدَةُ لِوُجُودِ اللهِ كَالتَالِي: أَوَّلًا، الْحُجَّةُ الْوُجُودِيَّةُ الشَهِيرَةُ الْمُؤَيِّدَةُ لِوُجُودِ اللهِ - الَتِي سَنَتَنَاوَلُهَا لاحِقًا - وَالَتِي صَاغَ أُوغُسْطِينُوسُ نُسْخَتَهَا الْمُبَكِّرَةَ، بَيْنَمَا نُسْخَتُهَا الأَشْهَرُ هِيَ الَتِي قَدَّمَهَا الْقِدِّيسُ أَنْسِلْم أُسْقُفُ كَانْتِرْبِرِي. وَالحُجَّةُ الْوُجُودِيَّةُ تُثْبِتُ وُجُودَ اللهِ مِنْ خِلالِ الْكَيْنُونَةِ. وَكَمَا ذَكَرْتُ، سَأُكَرِّسُ بَعْضَ الْوَقْتِ لاحِقًا لأُوَضِّحَ الْمَزِيدَ عَنْ ذَلِكَ.
ثَانِيًا، الْحُجَّةُ الْكَوْنِيَّةُ. وَهِيَ تِلْكَ الْحُجَّةُ الَتِي ابْتَدَأَتْ مِنَ الْعَالَمِ أَوِ الْكَوْنِ، رُجُوعًا إِلَى أَصْلِ الْعَالَمِ، أَيْ إِلَى الْخَالِقِ. وَهِيَ الحُجَّةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى قَانُونِ السَبَبِيَّةِ، الْقَائِلَةُ إِنَّ ذَلِكَ الْعَالَمَ الَذِي نَرَاهُ لا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَبَبٌ مُتَسَامٍ. إِذَنْ، كَانَتِ الْحُجَّةُ الْكَوْنِيَّةُ جُزْءًا مِنْ ذَلِكَ التَقْلِيدِ التَارِيخِيِّ. ثُمَّ لَدَيْنَا أَيْضًا الْحُجَّةُ الَتِي تُسَمَّى بِالْحُجَّةِ الْغَائِيَّةِ (teleological argument) - رُبَّمَا كَلِمَةُ "teleological" غَرِيبَةٌ عَلَى الْبَعْضِ. وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْكَلِمَةِ الْيُونَانِيَّةِ "telos"، وَمَعْنَاهَا "غَايَةٌ"، أَوْ "غَرَضٌ" أَوْ "هَدَفٌ". وَالْحُجَّةُ الْغَائِيَّةُ مُسْتَوْحَاةٌ مِنَ التَصْمِيمِ، أَيْ إِنَّ وُجُودَ تَصْمِيمٍ فِي الْكَوْنِ يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ مُصَمِّمٍ. وَتَقُولُ الْحُجَّةُ الْغَائِيَّةُ إِنَّنَا فِي كُلِّ الطَبِيعَةِ نَرَى أَشْيَاءَ تَعْمَلُ بِطَرِيقَةٍ مَنْطِقِيَّةٍ، وَجُمِعَتْ مَعًا فِي تَرْتِيبٍ مُذْهِلٍ، يُوحِي بِوُجُودِ خَالِقٍ ذَكِيٍّ أَوْ مُصَمِّمٍ ذَكِيٍّ. إِذَنْ، الْحُجَّةُ الْمُسْتَوْحَاةُ مِنْ مَظَاهِرِ الْمَعْنَى وَالتَرْتِيبِ وَالتَنَاغُمِ فِي الْكَوْنِ اسْتُخْدِمَتْ لإِثْبَاتِ وُجُودِ اللهِ. بِالإِضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ، هُنَاكَ أَيْضًا الْحُجَّةُ الأَخْلَاقِيَّةُ الْمُؤَيِّدَةُ لِوُجُودِ اللهِ، الَتِي لَنْ أَتَنَاوَلَها الآنَ.
لَكِنَّ هَذِهِ الْحُجَجَ، الَتِي قَدَّمَهَا الْفَلاسِفَةُ الْمَسِيحِيُّونَ عَبْرَ الْقُرُونِ، كَانَتْ بِمَثَابَةِ بَرَاهِينَ رَائِعَةٍ عَلَى وُجُودِ اللهِ، أَتَاحَتْ لِلْمَسِيحِيَّةِ أَنْ تَسُودَ فِي الْعَالَمِ الأَكَادِيمِيِّ، وَلا سِيَّمَا فِي غَرْبِ أُورُوبَّا، حَيْثُ فِي جَامِعَاتِ الْعُصُورِ الْوُسْطَى، كَانَ عِلْمُ اللاهُوتِ يُعْتَبَرُ مَلِكَةَ الْعُلُومِ، وَالْفَلْسَفَةُ هِيَ وَصِيفَتُهَا. أَيْ إِنَّ عِلْمَ الْفَلْسَفَةِ كَانَ بِمَثَابَةِ الْخَادِمِ لأَهْدَافِ عِلْمِ اللاهُوتِ، لأَنَّهُ قَدِ اتَّضَحَ وُجُودُ وَحْدَةٍ بَيْنَ التَصْرِيحَاتِ اللاهُوتِيَّةِ وَبَيْنَ الْفِكْرِ وَالْبُرْهَانِ الْفَلْسَفِيِّ.
إِذَنْ مُجَدَّدًا، يَجِبُ أَنْ نَرْفُضَ الْفِكْرَةَ الْقَائِلَةَ إِنَّ الْقِدِّيسَ تُومَا الأَكْوِينِيَّ حَاوَلَ فَصْلَ الْفَلْسَفَةِ عَنِ اللاهُوتِ، أَوِ الطَبِيعَةِ عَنِ النِعْمَةِ. لَكِنَّهُ حَاوَلَ الْحِفَاظَ عَلَى وَحْدَتِهَما بِوَضْعِ نَظَرِيَّةِ التَوْفِيقِ الْكْلاسِيكِيِّ الَتِي سَادَتْ لِعِدَّةِ قُرُونٍ. هَيْمَنَ هَذَا التَوْفِيقُ عَلَى الْفِكْرِ النَظَرِيِّ إِلَى أَنْ صَدَرَ مُؤَلَّفٌ هَائِلٌ عَلَى يَدِ إِيمَانُوِيلْ كَانْطْ نَحْوَ أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الثَامِنَ عَشَرَ.
فِي تَارِيخِ الْفِكْرِ الْغَرْبِيِّ، نَعْتَقِدُ أَنَّ صُدُورَ كِتَابِ إِيمَانُوِيل كَانْط بِعُنْوَانِ "نَقْدِ الْمَنْطِقِ الْبَحْتِ" هُوَ لَحْظَةٌ فَارِقَةٌ فِي التَارِيخِ. فَقَدْ كَانَ كِتَابًا ثَوْرِيًّا. وَفِي الْوَاقِعِ، صَدَرَ هَذَا الْكِتَابُ تَحْدِيدًا فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ الَذِي انْدَلَعَتْ فِيهِ الثَوْرَةُ الأَمْرِيكِيَّةُ. وَنَمِيلُ إِلَى اعْتِبَارِ الثَوْرَةِ الأَمْرِيكِيَّةِ أَحَدَ أَبْرَزِ الأَحْدَاثِ الَتِي وَقَعَتْ فِي التَارِيخِ الْحَدِيثِ، وَالَتِي غَيَّرَتْ مَجْرَى تَارِيخِ الْعَالَمِ بِلا رَجْعَةٍ. لَكِنْ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ، يُمْكِنُ أَنْ أَقُولَ إِنَّ الثَوْرَةَ الْفِكْرِيَّةَ الَتِي أَحْدَثَها كِتَابُ كَانْط بِعُنْوَانِ "نَقْدُ الْمَنْطِقِ الْبَحْتِ" كَانَتْ أَبْعَدَ فِي مَدَاهَا مِنْ حَيْثُ تَأْثِيرُهَا الثَوْرِيِّ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَحَقَّقَ فِي السَاحَةِ السِيَاسِيَّةِ بِثَوْرَةِ الْمُسْتَعْمَرَاتِ الأَمْرِيكِيَّةِ ضِدَّ عَرْشِ إِنْجِلْتِرَا. وَفِي كِتَابِ كَانْطْ الشَهِيرِ بِعُنْوَانِ "نَقْدُ الْمَنْطِقِ الْبَحْتِ"، تَأَثَّرَ كَانْط بِتَشَكُّكِ دَافِيد هِيُوم - التَجْرِيبِيِّ الْبَرِيطَانِيِّ - قَائِلًا إِنَّهُ اسْتَيْقَظَ مِنْ سُبَاتِهِ الْعَقِيدِيِّ، وَإِنَّهُ يَخْشَى أَنْ يَكُونَ نَقْدُ هِيُومَ لِلسَّبَبِيَّةِ، الَذِي تَنَاوَلْنَاهُ بِاخْتِصَارٍ فِي هَذَا الصَفِّ بِالْفِعْلِ، هُوَ بِدَايَةُ الْقَضَاءِ عَلَى كَافَّةِ الْعُلُومِ، نَاهِيكَ إِذَنْ عَنِ الدِينِ وَالإِيمَانِ. إِذَنْ، كَانَ جُزْءٌ مِنْ دَافِعِ كَانْطْ إِلَى تَقْدِيمِ نَقْدِهِ هُوَ إِنْقَاذُ الْعِلْمِ مِنَ التَشَكُّكِ، لَكِنَّهُ فِي غُضُونِ ذَلِكَ، وَضَعَ فَأْسَهُ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةِ التَوْفِيقِ الْكْلاسِيكِيِّ، مُقَدِّمًا نَقْدًا تَفْصِيلِيًّا لِلْحُجَجِ التَقْلِيدِيَّةِ الْمُؤيِّدَةِ لِوُجُودِ اللهِ. وَبِهَذَا، لَمْ يَكُنْ كَانْطْ مُلْحِدًا، وَلَمْ يُحَاوِلِ الْقَضَاءَ تَمَامًا عَلَى الْمَسِيحِيَّةِ، لَكِنَّهُ حَاوَلَ الْهُجُومَ عَلَى الْمَنْطِقِ لإِفْسَاحِ الْمَجَالِ لِلإِيمَانِ، لأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْمَسِيحِيَّةَ تَدَهْوَرَتْ إِلَى اعْتِمَادٍ زَائِدٍ عَنِ الْحَدِّ عَلَى الْمَنْطِقِ الْبَشَرِيِّ، دُونَ اعْتِمَادٍ كافٍ عَلَى الإِيمَانِ. وَلِهَذَا، قَدَّمَ نَقْدَهُ لِوُجُودِ اللهِ. وَفِي لُبِّ هَذَا النَقْدِ - يَجِبُ أَلَّا أَقُولَ إِنَّهُ قَدَّمَ نَقْدًا لِوُجُودِ اللهِ، فَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لَكِنَّهُ قَدَّمَ نَقْدًا لِلْحُجَجِ الْمُؤَيِّدَةِ لِوُجُودِ اللهِ. فَقَدْ كَانَ هُوَ نَفْسُهُ يُؤَيِّدُ وُجُودَ اللهِ، لَكِنَّهُ قَالَ إِنَّنَا لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَعْرِفَ أَنَّ اللهَ مَوْجُودٌ بِالْمَنْطِقِ الطَّبِيعِيِّ. وَكَانَ هُجُومُهُ مُوَجَّهًا ضِدَّ اللاهُوتِ الطَبِيعِيِّ. وَأَشَارَ إِلَى وُجُودِ عَالَمَيْنِ، إِنْ جَازَ التَعْبِيرُ: الْعَالَمُ الَذِي دَعَاهُ بِالْعَالَمِ النُومِينِيِّ أَوِ الْمِيتَافِيزِيقِيِّ، وَالْعَالَمِ الظَاهِرِيِّ. وَفِي الْعَالَمِ النُومِينِيِّ قَدَّمَ ثَلاثَةَ مَفَاهِيمَ.
فِي الْعَالَمِ النُومِينِيِّ، نَجِدُ الْفِكْرَةَ عَنِ اللهِ، وَالْفِكْرَةَ عَنِ الذَاتِ، وَالْفِكْرَةَ عَمَّا دَعَاهُ كَانْطْ "دِينْج أَنْ زِيخ"، أَوِ الشَيْءَ فِي ذَاتِهِ، أَوِ الْجَوْهَرَ، إِنْ جَازَ التَعْبِيرُ. وَالآنَ، الْتَقِطُوا نَفَسًا عَمِيقًا، وَسَنُحَاوِلُ فَهْمَ ذَلِكَ. فَعِنْدَمَا تَحَدَّثَ عَنِ الأَشْيَاءِ فِي ذَاتِهَا، أَوْ عَنِ الْجَوْهَرِ، كَانَ يُشِيرُ إِلَى الْمُسْتَوَى الْمِيتَافِيزِيقِيِّ مِنَ الْوَاقِعِ، الَذِي يَفُوقُ قُدْرَةَ حَوَاسِّنَا عَلَى إِدْرَاكِهِ. تَعْلَمُونَ أَنَّ أَفْلاطُونَ، وَأَرِسْطُو، وَغَيْرَهُمْ مِنَ الْفَلاسِفَةِ كَانُوا مُولَعِينَ بِالتَحَدُّثِ عَنْ جَوْهَرِ الأَشْيَاءِ. لَكِنَّنَا لا نَرَى أَبَدًا جَوْهَرَ الأَشْيَاءِ، بَلْ نَرَى فَقَطْ مَظْهَرَهَا الْخَارِجِيَّ. فَإِنَّنَا لا نَرَى الْبَتَّةَ جَوْهَرَ الشَجَرَةِ أَوْ جَوْهَرَ الْبَشَرِ، بَلْ فَقَطْ نَرَى بَشَرًا. وَلا نَعْرِفُ نَفْسَ الإِنْسَانِ - أَوْ حَتَّى إِنْ كَانَ لَدَيْهِ نَفْسٌ - عَنْ طَرِيقِ الْمُلاحَظَةِ وَالتَحْلِيلِ. فَلا يُمْكِنُنِي الذَهَابُ إِلَى الطَبِيبِ لِلْخُضُوعِ لِلْفَحْصِ، قَائِلًا: "أَيُّهَا الطَبِيبُ، كَيْفَ يَبْدُو شَكْلُ نَفْسِي؟ وَمَا مُؤَشِّرَاتُهَا الْحَيَوِيَّةُ؟" لأَنَّهُ لا يُمْكِنُ إِدْرَاكُ النَّفْسِ بِالْحَوَاسِّ. وَبِالتَالِي، فَكُلُّ تِلْكَ الْحَقائِقِ الْمِيتَافِيزِيقِيَّةِ الَتِي سَلَّمَ بِهَا الْفَلاسِفَةُ، فِيمَا وَرَاءَ الْعَالَمِ الْمَادِّيِّ - أَيِ الْمِيتَافِيزِيقْيَا، أَوْ مَا يَتَجَاوَزُ الْعَالَمَ الْمَادِّيَّ - تِلْكَ الأُمُورُ لا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا بِشَكْلٍ مُبَاشِرٍ مِنْ خِلالِ الإِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ. فَإِنَّنَا عَاجِزُونَ عَنْ رُؤْيَتِهَا أَوْ تَذَوُّقِهَا أَوْ لَمْسِهَا أَوْ شَمِّهَا، إِلَى آخِرِهِ. تِلْكَ الأُمُورُ نَسَبَها كَانْطْ إِلَى الْعَالَمِ النُومِينِيِّ، مِثْلِ الذَاتِ أَوِ النَفْسِ أَوِ الْعَقْلِ. فَكَيْفَ نَعْلَمُ أَنَّهُ يُوجَدُ مَا يُسَمَّى بِالذَاتِ؟ قَدْ تَقُولُ لِنَفْسِكَ: "الأَمْرُ بَسِيطٌ. فَإِنَّنَا جَمِيعًا عَلَى وَعْيٍ بِأَنْفُسِنَا، أَيْ لَدَيْنَا نَوْعٌ مِنَ الْوَعْيِ الذَّاتِيِّ". لَكِنَّ كَانْط ابْتَدَأَ يُحَلِّلُ ذَلِكَ عَنْ كَثْبٍ، مِنْ مَنْظُورٍ فَلْسَفِيٍّ، وَقَالَ: "لَكِنْ كَيْفَ يُمْكِنُنَا قِيَاسُ نَفْسِ الإِنْسَانِ؟" وَهَكَذَا، ضَمَّ الذَاتَ إِلَى اللهِ فِي الْعَالَمِ النُومِينِيِّ: اللهُ، والذاتُ، وَالْجَوْهَرُ.
لَمْ يَقُلْ كَانْطْ إِنَّهُ لا وُجُودَ للهِ، وَلا وُجُودَ لِلذَاتِ، وَلا وُجُودَ لِلْجَوْهَرِ. بَلْ بِحَسَبِ كَانْطْ، الأَمْرُ مَعْرِفِيٌّ. فَالأَمْرُ يَتَعَلَّقُ بِالآتِي: "هَلْ نَسْتَطِيعُ مَعْرِفَةَ شَيْءٍ عَنْ هَذِهِ الْحَقَائِقِ، أَوْ مَا إِذَا كَانَتْ مَوْجُودَةً مِنَ الأَسَاسِ، عَنْ طَرِيقِ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ وَالْبَحْثِ الْعَقْلانِيِّ؟" وَكَانَ جَوَابُهُ بِالنَفْيِ. فَمَعْرِفَتُنَا بِرُمَّتِهَا قَاصِرَةٌ عَلَى هَذَا الْعَالَمِ، أَيْ عَالَمِ الظَوَاهِرِ.
وَعَالَمُ الظَوَاهِرِ لَيْسَ هُوَ الْعَالَمَ الْعَجِيبَ. نَقُولُ أَحْيَانًا حِينَ يَتَفَوَّقُ أَحَدُهُمْ فِي الرِيَاضَةِ إِنَّهُ "ظَاهِرَةٌ"، أَيْ إِنَّهُ مُذْهِلٌ وَرَائِعٌ. كَلَّا، بَلْ تُشِيرُ كَلِمَةُ "ظَاهِرَةٌ" إِلَى مَا يُمْكِنُ إِدْرَاكُهُ بِالْحَواسِّ الْخَمْسِ، أَيْ إِلَى عَالَمِ الْمَظَاهِرِ، وَالْعَالَمِ الَذِي يُمْكِنُ دِرَاسَتُهُ وَتَحْلِيلُهُ وَفَحْصُهُ عِلْمِيًّا. هَذَا هُوَ الْعَالَمُ الظَاهِرِيُّ. وَقَالَ كَانْطْ إِنَّهُ بِاسْتِخْدَامِ الْمَنْطِقِ أَوِ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ، لا نَسْتَطِيعُ الانْتِقَالَ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَا. بَلْ ثَمَّةَ هُوَّةٌ لا يُمْكِنُ تَجَاوُزُهَا بَيْنَ الْعَالَمِ الَذِي نَرَاهُ وَعَالَمِ الْجَوْهَرِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ. وَبِالتَالِي، لا نَسْتَطِيعُ اكْتِسَابَ مَعْرِفَةٍ حَقِيقيَّةٍ بِمَا يُوجَدُ هُنَا بِالأَعْلَى. وَمِنَ الأَسْبَابِ الرَئِيسِيَّةِ لِذَلِكَ الَتِي قَدَّمَهَا أَنَّهُ قَالَ: "مَعَ أَنَّ قَانُونَ السَبَبِيَّةِ يَعْمَلُ دَاخِلَ الدَائِرَةِ الَتِي نَعِيشُ فِيهَا - أَيِ الْعَالَمِ الظَاهِرِيِّ - لا نَسْتَطِيعُ التَأَكُّدَ مِنْ إِمْكَانِيَّةِ تَطْبِيقِهِ عَلَى الْعَالَمِ الْمِيتَافِيزِيقِيِّ، أَيْ إِنَّنَا لا نَسْتَطِيعُ اسْتِخْدَامَ الْمَنْطِقِ الْمَبْنِيِّ عَلَى السَبَبِ وَالنَتِيجَةِ، لِنَصِلَ مِنَ الْكَوْنِ إِلَى اللهِ، وَمِنْ هَذَا الْعَالَمِ إِلَى الْعَالَمِ الْفَائِقِ لِلطَبِيعَةِ". وَلِذَا، وَكَمَا ذَكَرْتُ، كَانَ مُتَشَكِّكًا فِي إِمْكَانِيَّةِ مَعْرِفَةِ أَيِّ شَيْءٍ عَنِ اللهِ.
وَفِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ، قَالَ فِي نَقْدِهِ لِلْمَنْطِقِ الْعَمَلِيِّ، إِنَّهُ لِأَغْرَاضٍ عَمَلِيَّةٍ، يَنْبَغِي أَنْ نَحْيَا كَمَا لَوْ أَنَّهُ يُوجَدُ إِلَهٌ. فَيَنْبَغِي أَنْ نُؤْمِنَ بِوُجُودِ إِلَهٍ، حَتَّى تَكُونَ الْحَضَارَةُ مُمْكِنَةً؛ لأَنَّ فَرَضِيَّةَ وُجُودِ اللهِ، كَمَا سَنَرَى بَعْدَ قَلِيلٍ، ضَرُورِيَّةٌ لأَجْلِ وُجُودِ أَخْلاقِيَّاتٍ هَادِفَةٍ. وَإِذَا لَمْ تُوجَدْ أَخْلَاقِيَّاتٌ هَادِفَةٌ، لا يُمْكِنُ أَنْ تُوجَدَ حَضَارَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ. فَدُونَ أَخْلاقِيَّاتٍ أَوْ قَانُونٍ مَبْنِيٍّ عَلَى الْفَضِيلَةِ الْمُطْلَقَةِ، إِنْ آجِلًا أَوْ عَاجِلًا، سَتَنْحَدِرُ الْمُجْتَمَعَاتُ إِلَى اتِّبَاعِ قَانُونِ الْغَابَةِ، وَإِلَى الْفَوْضَى، حَيْثُ الْبَقَاءُ لِلأَقْوَى. عَبَّرَ دُوسْتُويِفْسْكِي عَنْ ذَلِكَ قَائِلًا: "إِنْ لَمْ يُوجَدْ إِلَهٌ، يَصِيرُ كُلُّ شَيْءٍ مُبَاحًا، وَيُخْتَزَلُ الْقَانُونُ إِلَى تَفْضِيلاتٍ شَخْصِيَّةٍ، وَيُسْتَبْدَلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْمَلَ بِمَا يُعْمَلُ بِالْفِعْلِ".
لَكِنْ عَلَى أَيِّ حَالٍ، بِسَبَبِ هَذِهِ الشُكُوكِيَّةِ، وَقَعَتِ الْكَنِيسَةُ الْمَسِيحِيَّةُ فِي أَزْمَةٍ. وَالْكَثِيرُ مِنَ اللاهُوتِيِّينَ وَالدِفَاعِيِّينَ، بَعْدَ ظُهُورِ هَذا النَقْدِ الَذِي وُجِّهَ إِلَى الْحُجَجِ التَقْلِيدِيَّةِ، تَرَاجَعُوا عَنْ تَبَنِّي التَوْفِيقِ الْكْلاسِيكِيِّ، وَاللَاهُوتِ الطَبِيعِيِّ، مُتَّبِعِينَ مَا نُسَمِّيهِ فِي اللاهُوتِ "الإِيمَانِيَّةَ" (fideism). وَالْمُصْطَلَحُ fideism ("إِيمَانِيَّةُ") مُشْتَقٌّ مِنْ كَلِمَةِ "إِيمَانٍ" فِي اللاتِينِيَّةِ. وَالإِيمَانِيَّةُ تَعْنِي بِبَسَاطَةٍ أَنْ نَقْبَلَ فِكْرَةَ وُجُودِ اللهِ بِالإِيمَانِ، عَنْ طَرِيقِ الْقِيَامِ بِقَفْزَةِ إِيمَانٍ مِنْ نَوْعٍ مَا. فَلا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ فِكْرَةِ وُجُودِ اللهِ بِالْمَنْطِقِ. وَقَطْعًا، لا نَسْتَطِيعُ إِثْبَاتَ وُجُودِ اللهِ. فَعَلَيْكَ أَنْ تَقْبَلَ ذَلِكَ بِالإِيمَانِ، أَوْ بِنَاءً عَلَى افْتِرَاضٍ أَوَّلِيٍّ مِنْ نَوْعٍ مَا، يُبْنَى عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ آخَرَ. رُبَّمَا يُمْكِنُكَ أَنْ تَفْتَرِضَ مُسْبَقًا وُجُودَ اللهِ، أَوْ أَنْ تُسَلِّمَ بِوُجُودِ اللهِ بِالإِيمَانِ. لَكِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ إِثْبَاتَ وُجُودِ اللهِ بِالْمَنْطِقِ. وَكَمَا ذَكَرْتُ، اتَّفَقَ الْعَدِيدُ مِنَ الْفَلاسِفَةِ وَاللاهُوتِيِّينَ مَعَ كَانْط فِي الرَأْيِ، فِيمَا رَفَضَ آخَرُونَ الإِذْعَانَ لإِيمَانُوِيلْ كَانْطْ، وَحَاوَلُوا مُنْذُ الْقَرْنِ الثَامِنَ عَشَرَ إِعَادَةَ بِنَاءِ اللاهُوتِ الطَبِيعِيِّ، لِلرَّدِّ عَلَى الاعْتِرَاضَاتِ الَتِي أَبْدَاها كَانْط ضِدَّ الإِيمَانِ التَقْلِيدِيِّ بِوُجُودِ اللهِ. كُنْتُ شَدِيدَ الاهْتِمَامِ بِهَذَا المَسْعَى فِي مِهْنَتِي التَعْلِيمِيَّةِ لِسَبَبٍ بَسِيطٍ، وَهُوَ رَغْبَتِي أَنْ أَكُونَ أَمِينًا تُجَاهَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. وَأَرَى تَعَارُضًا بَسِيطًا بَيْنَ مَا عَلَّمَهُ كَانْطْ وَمَا يُعَلِّمُهُ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ.
سَبَقَ أَنْ قَرَأْنَا فِي الأَصْحاحِ الأَوَّلِ مِنَ الرِسَالَةِ إِلَى رُومِيَةَ، حَيْثُ قَالَ الرَسُولُ بُولُسُ إِنَّ أُمُورَ اللهِ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ، مِثْلَ قُدْرَتِهِ السَرْمَدِيَّةِ وَلاهُوتِهِ، تُدْرَكُ بِالْمَصْنُوعَاتِ. إِذَنْ، قَالَ بُولُسُ إِنَّنَا نَسْتَطِيعُ الْوُصُولَ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَا، وَإِنَّهُ يُوجَدُ إِعْلَانٌ عَامٌّ يَجْعَلُ مَعْرِفَةَ اللهِ لَيْسَتْ فَقَطْ مُمْكِنَةً، بَلْ أَكِيدَةٌ، فِي الْخَلِيقَةِ وَمِنْ خِلالِهَا. وَتِلْكَ الْمَعْرِفَةُ ظَاهِرَةٌ وَجَلِيَّةٌ لِدَرَجَةٍ تَجْعَلُ الْعَالَمَ بِلا عُذْرٍ. وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ حَقًّا حَاجِزٌ بَيْنَ هَذَا الْعَالَمِ وَعَالَمِ اللهِ، أَيْ لَوْ كَانَ كَانْطْ مُحِقًّا، يَصِيرُ لَدَى غَيْرِ الْمُؤْمِنِ، أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، عُذْرٌ لِرَفْضِهِ حَقَّ اللهِ، وَسَيُمْكِنُهُ التَذَرُّعُ بِجَهْلِهِ قَائِلًا: "لَمْ أَسْتَطِعِ الْوُصُولَ مِنْ هُنَا إِلَى هُنَا".
إِذَنْ، يُوجَدُ فَرْقٌ شَاسِعٌ بَيْنَ تَعْلِيمِ الرَسُولِ بُولُسَ وَتَعْلِيمِ إِيمَانُوِيل كَانْط. وَحِينَ أَنْظُرُ إِلَى هَذَا كَمَسِيحِيٍّ، أَقُولُ: "إِذَا كَانَ بُولُسُ مُحِقًّا، فَلا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ إِيمَانُوِيل كَانْطْ مُخْطِئًا. وَلَوْ كَانَ كَانْط مُحِقًّا، فَلا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بُولُسُ مُخْطِئًا". هَذَا، مُجَدَّدًا، لأَنَّ كَانْط يَقُولُ إِنَّنَا لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَعْرِفَ اللهَ مِنْ خِلالِ مَعْرِفَةِ هَذَا الْعَالَمِ، فِي حِينِ يَقُولُ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ إِنَّنَا نَعْرِفُ اللهَ بِالْفِعْلِ مِنْ خِلالِ مَعْرِفَةِ هَذَا الْعَالَمِ، أَيْ إِنَّنَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَعْرِفَ اللهَ كَوْنِيًّا.
تَابَعَ كَانْط نَقْدَهُ قَائِلاً إِنَّ كُلَّ الْحُجَجِ التَقْلِيدِيَّةِ عَنْ وُجُودِ اللهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحُجَّةِ الْوُجُودِيَّةِ، أَيْ الحُجَّةِ الْمُؤَيِّدَةِ لِوُجُودِ اللهِ الْمُسْتَوْحَاةِ مِنَ الْوُجُودِ. قَدَّمَ الْقِدِّيسُ أَنْسِلْم الصِيغَةَ الْكْلاسِيكِيَّةَ لِهَذِهِ الْحُجَّةِ، قَائِلًا إِنَّ اللهَ هُوَ الْكَائِنُ الَذِي لا يُمْكِنُ تَصَوُّرُ وُجُودِ شَيْءٍ أَعْظَمَ مِنْهُ. أَوْ بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، يُمْكِنُ الْقَوْلُ إِنَّ اللهَ هُوَ أَعْظَمُ كَائِنٍ يُمْكِنُ تَصَوُّرُهُ. وَقَالَ إِنَّ أَعْظَمَ كَائِنٍ يُمْكِنُ تَصَوُّرُهُ لا بُدَّ مِنْ أَنْ يُعْتَبَرَ مَوْجُودًا، لأَنَّكَ إِنِ اعْتَبَرْتَ أَنَّ أَعْظَمَ كَائِنٍ يُمْكِنُ تَصَوُّرُهُ هُوَ فَقَطْ مِنْ صُنْعِ الْخَيَالَ، أَوْ مُجَرَّدُ فِكْرَةٍ لَيْسَ لَهَا مَا يُكَافِئُهَا فِي الْوَاقِعِ، فَإِنَّكَ بِهَذَا لَسْتَ تُفَكِّرُ فِي اللهِ، لأَنَّ أَنْسِلْم قَالَ إِنَّ اللهَ وَحْدَهُ هُوَ الَذِي لا يُمْكِنُ تَصَوُّرُ وُجُودِ شَيْءٍ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَالتَصَوُّرُ الصَحِيحُ وَالْوَحِيدُ عَنْهُ هُوَ أَنَّهُ كَائِنٌ وَمَوْجُودٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ كَائِنٌ لا يُمْكِنُ أَلَّا يَكُونَ مَوْجُودًا.
عارَضَ كَانْطْ ذَلِكَ. وَسنَتَناوَلُ ذَلِكَ قَرِيبًا مَرَّةً أُخْرَى بِمَزِيدٍ مِنَ التَمَعُّنِ. قَالَ كَانْطْ إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ الْمَفْهُومِ، لا فَرْقَ بَيْنَ كَائِنٍ افْتِرَاضِيٍّ وَكَائِنٍ حَقِيقِيٍّ، لأَنَّهُ قَالَ إِنَّ الْوُجُودَ لَيْسَ صِفَةً. لَيْسَ الْوُجُودُ صِفَةً، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُوجَدُ فَرْقٌ بَيْنَ الْفِكْرَةِ عَنِ الدُولارِ وَحَقِيقَةِ الدُولارِ، لأَنَّ مَفْهُومَ الدُولارِ هُوَ مَفْهُومُ الدُولارِ. هَذِهِ هِيَ الْحُجَّةُ نَفْسُهَا الَتِي قَدَّمَهَا جُونِيلُو ضِدَّ أَنْسِلْم، حِينَ تَحَدَّثَ عَنِ الْجُزُرِ، قَائِلًا: "وُجُودُ فِكْرَةٍ لَدَيَّ عَنْ أَفْضَلِ جَزِيرَةٍ يُمْكِنُ تَصَوُّرُهَا لا يَجْعَلُهَا حَقِيقَةً". وَقَالَ أَنْسِلْم: "لَقَدْ أَسَأْتَ فَهْمَ قَصْدِي. لَسْتُ أَتَحَدَّثُ عَنِ الْجُزُرِ أَوِ الدُولاراتِ أَوْ أيِّ شَيْءٍ آخَرَ، بَلْ فَقَطْ أَتَحَدَّثُ عَنْ حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، عَنْ ذَلِكَ الْكَائِنِ الَذِي لا يُمْكِنُ تَصَوُّرُ وُجُودِ شَيْءٍ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَالَذِي يَجِبُ تَصَوُّرُ وُجُودَهُ، لأَنَّ الْوُجُودَ أَعْظَمُ مِنْ عَدَمِ الْوُجُودِ. فَالْوُجُودُ فِي الْوَاقِعِ أَفْضَلُ مِنْ مُجَرَّدِ الْوُجُودِ فِي الْخَيَالِ".
هَذَا الْجَدَلُ مُسْتَمِرٌّ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا. لَكِنْ سَأْخْتِمُ حَدِيثِي بِهَذَا: فِي نَقْدِ كَانْط لِلْحُجَجِ التَقْلِيدِيَّةِ الْمُؤَيِّدَةِ لِوُجُودِ اللهِ، قَالَ إِنَّهَا تُخْتَصَرُ جَمِيعُها فِي النِهَايَةِ فِي شَكْلٍ مِنْ أَشْكَالِ الْحُجَّةِ الْوُجُودِيَّةِ، لأَنَّنَا إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَكُونَ مَنْطِقِيِّينَ، فَإِنَّ الْمَنْطِقَ يَقْتَضِي وُجُودَ اللهِ. لَكِنَّ مُجَرَّدَ كَوْنِ الْمَنْطِقِ يَقْتَضِي وُجُودَ اللهِ لا يَعْنِي أَنَّ اللهَ مَوْجُودٌ، بَلْ يَعْنِي فَقَطْ أَنَّ الْمَنْطِقَ يَقْتَضِي ذَلِكَ. لَكِنْ رُبَّمَا لا يَكُونُ الْوَاقِعُ فِي النِهَايَةِ مَنْطِقِيًّا. وَلِهَذَا رَفَضَ كَثِيرُونَ نَقْدَ كَانْطْ، وَتَحَوَّلُوا إِلَى فَلْسَفَةِ اللا مَنْطِقِ، كَالْفَلْسَفَةِ الْوُجُودِيَّةِ، وَإِلَى النِسْبِيَّةِ الَتِي تَجْتَاحُ مُجْتَمَعَنَا الْيَوْمَ.