المحاضرة 11: اللُغْزُ

هل يمكننا اختراق أعماق مفهوم الثالوث؟ ماذا عن تجسُّد يسوع، حيث يوجد شخص واحد له طبيعتين كاملتين؟ نعرض الآن فئة يقول عنها د. سبرول إنه من الآمن أن نقول إن الكتاب المقدس به العديد من الألغاز. في محاضرة "اللغز"، نجد أنه من الممكن أن نعرف إلهنا على مستوى حميم، لكننا ننحني أمام حقيقة أن المعرفة الكاملة به عالية جدًا بالنسبة لنا وهي تتجاوزنا.

تَطَرَّقْنا فِي هَذَا الْمُقَرَّرِ عَنْ عِلْمِ الدِفَاعِيَّاتِ إِلَى بَعْضِ الأَفْكَارِ أَوِ الْمَفَاهِيمِ وَثِيقَةِ الصِلَةِ جدًّا بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، لِدَرَجَةِ أَنَّهُ كَثِيرًا مَا يَحْدُثُ خَلْطٌ بَيْنَها. وَبَدَأْنَا بِالْفِئَاتِ الثَلاثِ الرَئِيسِيَّةِ، وَهِيَ التَنَاقُضُ، وَثَانِيًا، الْمُفَارَقَةُ، وَثَالِثًا، اللُغْزُ. لَكِنْ فِي سِيَاقِ دِرَاسَتِنَا لِهَذِهِ الأَفْكَارِ الثَلاثِ، تَحَدَّثْتُ عَنْ فِئَةٍ رَابِعَةٍ، وَهِيَ مُصْطَلَحُ الطِبَاقِ، الَذِي زادَ مِنَ الْخَلْطِ، لأَنَّ الْبَعْضَ، وَلا سِيَّمَا فِي بَرِيطَانْيَا الْعُظْمَى، يَسْتَخْدِمُونَ مُصْطَلَحَ الطِبَاقِ كَمُرَادِفٍ لِلْمُفَارَقَةِ، فِي حِينِ أَنَّ تَقْلِيدِيًّا وَتَارِيخِيًّا، كَانَ الْمُصْطَلَحُ طِبَاقُ يُسْتَخْدَمُ كَمُرَادِفٍ لِلتَنَاقُضِ.

وَلِزِيَادَةِ الأَمْرِ تَعْقِيدًا، إِذَا قُمْتُمْ بِتَصَفُّحِ الطَبْعَاتِ الْحَدِيثَةِ مِنَ الْقَوَامِيسِ الإِنْجْلِيزِيَّةِ، سَتَجِدُونَ عَلَى الأَرْجَحِ، إِنْ بَحَثْتُمْ عَنْ كَلِمَةِ "contradiction"، بَعْدَ تَعْرِيفِهَا، وعَنْ مُرَادِفَاتِ كَلِمَةِ "contradiction"، وَمِنْ بَيْنِهَا سَتَجِدُونَ عَادَةً "antinomy" و"paradox". فَهَا أَنَا أَبْذُلُ جَهْدًا كَبِيرًا لأُبَيِّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ، وَمَعَ ذَلِكَ إِذَا فَتَحْتُمُ الْقَامُوسَ، سَتَرَوْنَ الأَمْرَ ذَاتَهُ الَذِي أُحَاوِلُ التَغَلُّبَ عَلَيْهِ، أَيْ خَلْطًا بَيْنَ هَذِهِ الْمُصْطَلَحاتِ، حَيْثُ يُخْبِرُنَا مُؤَلِّفُو الْمَعَاجِمِ الْيَوْمَ بِأَنَّ هَذِهِ الْمُصْطَلَحَاتِ فِعْلِيًّا مُتَرَادِفَةٌ.

كَيْفَ نُفَسِّرُ ذَلِكَ؟ رَأَيْنَا فِي أَمْثِلَةٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ اللُغَةَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ. وَهِيَ تَخْضَعُ لِتَغَيُّراتٍ مُعَيَّنَةٍ عَبْرَ الزَمَنِ. وَعِنْدَ اضْطِلاعِ مُؤَلِّفِي الْمَعَاجِمِ بِمُهِمَّةِ تَعْرِيفِ الْكَلِمَاتِ، وَإِعْدَادِ مُعْجَمٍ أَوْ قَامُوسٍ، يَنْتَبِهُونَ إِلَى ثَلاثَةِ اعْتِبَارَاتٍ رَئِيسِيَّةٍ عَلَى الأَقَلِّ. الأَمْرُ الأَوَّلُ هُوَ دِرَاسَةُ أَصْلِ الْكَلِمَةِ. فَكَمَا رَأَيْنَا سَابِقًا، ذَكَرْتُ أَنَّ كَلِمَةَ contradiction مُشْتَقَّةٌ مِنَ اللُغَةِ اللاتِينِيَّةِ، وَقُمْتُ بِتَجْزِئَتِهَا رُجُوعًا إِلَى أَصْلِهَا - "contra" وَمَعْنَاهَا "ضِدُّ"، و"dictio" وَمَعْنَاهَا "يَتَكَلَّمُ"، بِحَيْثُ يَكُونُ هَذَا هُوَ أَصْلُ الْكَلِمَةِ، أَوِ اشْتِقَاقُهَا، أَيِ اللُغَةُ الأَصْلِيَّةُ الَتِي جَاءَتْ مِنْهَا الْكَلِمَةُ. ثُمَّ نَدْرُسُ الاسْتِخْدَامَ التَارِيخِيَّ لِلْكَلِمَةِ. فَإِذَا تَصَفَّحْنَا مُجَلَّدَاتِ قَامُوسِ أُوكْسْفُورْد لِلُغَةِ الإِنْجْلِيزِيَّةِ، سَنَجِدُ إِشَارَاتٍ مُتَكرِّرَةً إِلَى اسْتِخْداماتِ الْكَلِمَاتِ عَبْرَ تَارِيخِ اللُغَةِ الإِنْجْلِيزِيَّةِ. وَقَدْ نَجِدُ اقْتِبَاسَاتٍ، مَثَلًا، مِنْ شِكْسْبِير، تُبَيِّنُ كَيْفَ اسْتَخْدَمَ شِكْسْبِيرُ فِي عَصْرِهِ لَفْظًا مُعَيَّنًا، ثُمَّ اسْتِخْدَامَهُ عَلَى مَرِّ الْقُرُونِ، وَإِظْهارَ خُضُوعِ الْكَلِمَةِ لِتَغيُّراتٍ فِي مَعْنَاهَا. لَكِنَّ الْمِعْيَارَ الأَخِيرَ الَذِي يُعَرِّفُ بِهِ مُؤَلِّفُو الْمَعَاجِمِ الْكَلِمَاتِ هُوَ الاسْتِخْدَامُ الْمُعَاصِرُ لَهَا. فَهُمْ يُلاحِظُونَ مَا يَحْدُثُ حَوْلَهُمْ، لِيَرَوْا اسْتِخْدَامَ مُعَاصِرِيهِمْ لِلَّفْظِ. وَإِنْ تَبَيَّنَ اسْتِخْدَامُ عَدَدٍ كَافٍ مِنَ الْبَشَرِ لِلْكَلِمَةِ بِشَكْلٍ غَيْرِ صَحِيحٍ، وَبِصُورَةٍ مُتَكَرِّرَةٍ بِمَا يَكْفِي، يَصِيرُ هَذَا الاسْتِخْدَامُ الْخَاطِئُ فَجْأَةً هُوَ الْمَعْنَى الصَحِيحُ لِلَّفْظِ، وَفْقًا لِمِعْيَارِ الاسْتِخْدَامِ الْمُعَاصِرِ لَهُ. وَلِذَلِكَ، لَمْ يُفَاجِئْنِي عَلَى الإِطْلاقِ أَنْ أَرَى أَنَّ الْقَوَامِيسَ الْحَدِيثَةَ تَعْتَبِرُ الْمُفَارَقَةَ مُرَادِفًا لِلتَنَاقُضِ، مَعَ أَنَّهُ تَارِيخِيًّا، كَانَ هُنَاكَ فَرْقٌ مُهِمٌّ بَيْنَهُمَا.

وَعِنْدَ هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ، وَبِمَا أَنَّنَا نَتَكَلَّمُ فَلْسَفِيًّا وَلاهُوتِيًّا، أَوَدُّ أَنْ أُؤَكِّدَ اسْتِخْدَامِي لِهَذِهِ الْمُصْطَلَحاتِ بِمَعْنَاهَا التَارِيخِيِّ، وَلَيْسَ كَمَا جَرَى الْخَلْطُ بَيْنَهَا فِي ثَقَافَتِنَا الْمُعَاصِرَةِ. وَفِي حَالِ وُجِدَ خَلْطٌ بَيْنَ هَذِهِ الْمُصْطَلَحاتِ الثَلاثَةِ، كَمَا رَأَيْنَا بِالْفِعْلِ، يَزْدَادُ الْخَلْطُ حِدَّةً حِينَ نُضِيفُ إِلَى هَذَا الْمَزِيجِ فِئَةَ اللُغْزِ. أَوَدُّ الْقَوْلَ، بِصِفَتِي عَالِمَ لاهُوتٍ مَسِيحِيًّا، وَعَالِمَ دِفَاعِيَّاتٍ، إِنَّ الإِيمَانَ الْمَسِيحِيَّ لا يَحْوِي أَدْنَى تَنَاقُضٍ. رَأَيْنَا فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، فِي الْفِكْرِ اللاهُوتِيِّ، هَذَا التَيَّارَ الَذِي لَيْسَ فَقَطْ يَقْبَلُ بِالتَنَاقُضَاتِ عَلَى أَنَّهَا جُزْءٌ مِنَ الْحَقِّ، بَلْ يَرْفَعُهَا أَيْضًا إِلَى مُسْتَوَى كَوْنِهَا السِمَةَ الَتِي تُمَيِّزُ الْحَقَّ. وَلأَنَّنا نَعِيشُ فِي عَصْرٍ تَأَثَّرَ فِيهِ النَاسُ بِشِدَّةٍ بِفَلْسَفَةِ النِسْبِيَّةِ، ازْدَادَ الْوَضْعُ سُوءًا. وَكَمَا ذَكَرْتُ سَابِقًا، أُلاحِظُ أَنَّ الطُلَّابَ الَذِينَ يَنْضَمُّونَ الْيَوْمَ إِلَى كُلِّيَّاتِ اللاهُوتِ، بَعْدَ تَخَرُّجِهِمْ مِنْ كُلِّيَّاتٍ وَجَامِعَاتٍ عِلْمَانِيَّةٍ، يَقْبَلُونَ الْفَلْسَفةَ النِسْبِيَّةَ دُونَ فَحْصٍ، بِاعْتِبارِهَا مَنْظُورًا عَنِ الْوَاقِعِ، وَلا يُمَانِعُونَ قَبُولَ كِلا طَرَفَيْ النَقِيضِ، الأَمْرُ الَذِي ذَكَرْتُ أَنَّهُ يَقْضِي عَلَى الْمَسِيحِيَّةِ، وَيُهِينُ الرُوحَ الْقُدُسَ وَاللهَ. فَإِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ اللهَ يَتَحَدَّثُ بِأُمُورٍ مُتَنَاقِضَةٍ يَعْنِي صَرَاحَةً أَنَّ اللهَ غَيْرُ صَادِقٍ فِي كَلامِهِ، وَبِالتَالِي غَيْرُ جَدِيرٍ بِالثِقَةِ، لأَنَّ مَا يَقُولُهُ يَعْنِي وَلا يَعْنِي مَا يَقُولُهُ، فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ وَدَاخِلَ الْعَلاقَةِ نَفْسِهَا. وَكَمَا ذَكَرْتُ سَابِقًا، يُحَاوِلُ النَاسُ تَجَنُّبَ هَذِهِ الْمُشْكِلَةِ بِافْتِرَاضِ أَنَّ اللهَ لَدَيْهِ مَنْطِقٌ سامٍ، يُتِيحُ لَهُ انْتِهَاكَ قَانُونِ التَنَاقُضِ، بَيْنَمَا إِنِ انْتَهَكْتُ قَانُونَ التَنَاقُضِ، أُعْتَبَرُ كاذِبًا. لَكِنْ، لا بَأْسَ أَنْ يَفْعَلَ اللهُ ذَلِكَ، لأَنَّهُ كَائِنٌ أَسْمَى، وَمَنْطِقُهُ يَسْمُو عَلَى مَنْطِقِنَا، وَمَا قَدْ يَبْدُو غَيْرَ مَنْطِقِيٍّ أَوْ مُتَنَاقِضًا بِالنِسْبَةِ إِلَيْنَا لَهُ حَلٌّ فِي فِكْرِ اللهِ. مُجَدَّدًا، هَذِهِ النَظْرَةُ مُتَفَشِّيَةٌ فِي الْكَنِيسَةِ الْيَوْمَ. ذَكَرْتُ أَيْضًا أَنَّنَا إِذَا تَتَبَّعْنَا ذَلِكَ وُصُولًا إِلَى الاسْتِنْتَاجِ الْمَنْطِقِيِّ، نَجِدُهُ يَقْضِي تَمَامًا عَلَى الإيمانِ الْمَسِيحِيِّ، لأَنَّ هَذا يَعْنِي عَمَلِيًّا أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْكَ الْوُثُوقُ فِي أَيَّةِ كَلِمَةٍ قَالَها اللهُ، لأَنَّ وَرَاءَ كَلِمَتِهِ الْمُعْلَنَةِ يَخْتَبِئُ دَائِمًا هَذَا الْمَنْطِقُ الأَعْلَى وَالأَسْمَى، يَصِيرُ مُمْكِنًا فِي النِهَايَةِ أَنْ يَقْصِدَ اللهُ النَقِيضَ تَمامًا لِمَا أَعْلَنَهُ فِي كَلِمَتِهِ، وَأَنَّهُ فِي النِهَايَةِ، وَبِحَسَبِ الْمَنْطِقِ الإِلَهِيِّ، يُمْكِنُ لِلْمَسِيحِ أَنْ يَكُونَ هُوَ ضِدَّ الْمَسِيحِ، وَيُمْكِنُ لِضِدِّ الْمَسِيحِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَسِيحُ. وَسَيَسْتَحِيلُ مُلاحَظَةُ الْفَرْقِ بَيْنَهُما.

لَكِنْ مُجَدَّدًا، عِنْدَمَا نَتَحَدَّثُ عَنِ الأَلْغَازِ، نُعَرِّفُ فِئَةً أَرَى أَنَّهُ مِنَ الآمِنِ أَنْ نَقُولَ إِنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ يَحْوِي الْكَثِيرَ مِنْهَا. تُوجَدُ أَلْغَازٌ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. لَسْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ تُوجَدُ فِيهِ تَنَاقُضَاتٌ، بَلْ أَلْغَازٌ، أَجَلْ مُفَارَقَاتٌ، وَأَلْغَازٌ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ. فَحِينَ نَقُولُ إِنَّ اللهَ وَاحِدٌ فِي الْجَوْهَرِ وَثَلاثَةُ أَقَانِيمَ، لَسْتُ أَظُنُّ أَنَّهُ يُمْكِنُ لأَحَدٍ أَنْ يَسْبُرَ غَوْرَ هَذَا الْمَفْهُومِ عَنِ الثَالُوثِ. أَوْ حِينَ نَتَحَدَّثُ عَنِ التَمْيِيزِ الَذِي نَصْنَعُهُ بِشَأْنِ تَجَسُّدِ يَسُوعَ، قَائِلِينَ إِنَّ يَسُوعَ شَخْصٌ وَاحِدٌ لَهُ طَبِيعَتَانِ، طَبِيعَةٌ بَشَرِيَّةٌ وَطَبِيعَةٌ إِلَهِيَّةٌ. وَتَارِيخِيًّا، عَرَّفَتِ الْكَنِيسَةُ طَبِيعَةَ الْمَسِيحِ بِقَوْلِهَا إِنَّهُ "فِيرِي أُومُو" وَ"فِيرِي دِيُوس"، أَيْ إِنْسَانٌ حَقِيقِيٌّ وَإِلَهٌ حَقِيقِيٌّ. وَهَاتَانِ الطَبِيعَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، لَكِنَّهُمَا مُتَّحِدَتَانِ مَعًا تَمامًا دُونَ اخْتِلاطٍ أَوِ امْتِزاجٍ، وَدُونَ انْفِصَالٍ أَوِ انْقِسامٍ. هَذِهِ هِيَ عِبَارَاتُ النَفْيِ الأَرْبَعِ الَتِي اسْتُخْدِمَتْ فِي مَجْمَعِ خَلْقِيدُونِيَّةَ عَامَ أَرْبَعِمائَةٍ وَأَحَدٍ وَخَمْسِينَ. لَكِنْ، كَانَ كُلُّ مَا فَعَلَهُ مَجْمَعُ خَلْقِيدُونِيَّةَ هُوَ وَضْعُ سِيَاجٍ حَوْلَ مَفْهُومِ التَجَسُّدِ، قَائِلًا إِنَّنَا لا نَعْلَمُ كَيْفَ تُوجَدُ هَاتَانِ الطَبِيعَتَانِ مَعًا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ، فِي لُغْزِ التَجَسُّدِ. فَإِنَّنَا لَمْ نَسْبُرْ غَوْرَ كَيْفِيَّةِ حُدُوثِ هَذَا الاتِّحادِ بَيْنَ الطَبِيعَتَيْنِ، بَلْ كُلُّ مَا نَقُولُهُ هُوَ إِنَّنَا يَجِبُ أَلَّا نُفَكِّرَ فِي الاتِّحَادِ بِحَيْثُ نَرَى خَلْطًا، أَوِ امْتِزَاجًا، أَوِ انْفِصَالًا، أَوِ انْقِسَامًا بَيْنَهُمَا. إِذَنْ، مِنْ نَوَاحٍ عَدِيدَةٍ، تَحَدَّثَ مَجْمَعُ خَلْقِيدُونِيَّةَ عَمَّا لا يَعْنِيهِ التَجَسُّدُ، بَدَلاً مِنْ أَنْ يُخْبِرَنَا بِمَا يَعْنِيهِ، تَارِكًا الطَبِيعَةَ الدَقِيقَةَ لاتِّحَادِ الطَبِيعَتَيْنِ فِي يَسُوعَ لُغْزًا يُمْكِنُ مُحَاوَلَةُ اكْتِشَافِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

لَسْتُ أَدَّعِي فَهْمِي لِلثَالُوثِ بِعَقْلِي الْمَحْدُودِ، أَوْ فَهْمِي لِشَخْصِ الْمَسِيحِ، أَوْ لِفِعْلِ الْخَلْقِ الإِلَهِيِّ. أَقْرَأُ قِصَّةَ الْخَلْقِ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، حَيْثُ أَوْجَدَ اللهُ الْعَالَمَ بِكَلِمَتِهِ وَسُلْطَانِ كَلِمَتِهِ، قَائِلًا فَقَطْ "لِيَكُنْ نُورٌ"، فَكَانَ نُورٌ. وَلا يُمْكِنُنِي اسْتِيعَابُ ذَلِكَ بِالْكَامِلِ، أَوْ اسْتِيعَابُ لا مَحْدُودِيَّةِ اللهِ. أَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ، لَكِنْ لَيْسَتْ لَدَيَّ الإِمْكَانِيَّةُ كَكَائِنٍ مَحْدُودٍ أَنْ أَتَمَتَّعَ بِمَعْرِفَةٍ شَامِلَةٍ عَنِ اللهِ. وَفِي الْوَاقِعِ، الأَجْزَاءُ الأُولَى مِنْ عِلْمِ اللاهُوتِ النِظَامِيِّ تَتَنَاوَلُ عَقِيدَةَ عَدَمِ قَابِلِيَّةِ اللهِ لِلإِدْرَاكِ، وَالصِيغَةَ التَالِيَةَ: "فِينِيتُوم نُونْ كَابَاكْس إِينْفِينِيتِي" - وَمَعْنَاهَا "لا يَقْدِرُ الْمَحْدُودُ أَنْ يَحْتَوِيَ أَوْ يُدْرِكَ غَيْرَ الْمَحْدُودِ". إِذَنْ، نَحْنُ عَاجِزُونَ عَنْ فَهْمِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ عَنِ اللهِ. وَالْمَعْرِفَةُ الْكَامِلَةُ لَهُ أَسْمَى وَأَعْلَى مِنَّا.

سَأَلَنِي أَحَدُهُمْ الأُسْبُوعَ الْمَاضِي قَائِلًا: "آرْ. سِي.، مَكْتُوبٌ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ أَنَّنَا نَعْرِفُ الآنَ بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ، لَكِنْ حِينَ نَمُوتُ وَنَذْهَبُ إِلَى السَّمَاءِ، سَنَعْرِفُ كُلَّ الْمَعْرِفَةِ، تَمَامًا كَمَا عُرِفْنَا. "فَإِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ فِي لُغْزٍ، لَكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ". ثُمَّ قَالَ: "أَلَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّنَا حِينَ نَصِلُ إِلَى السَمَاءِ، سَنَبْلُغُ مَعْرِفَةً كَامِلَةً بِاللهِ؟" فَقُلْتُ: "كَلَّا، لَيْسَ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ". بَلْ يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّهُ سَتَحْدُثُ نَقْلَةٌ نَوْعِيَّةٌ فِي إِدْرَاكِنَا لأُمُورِ اللهِ، حِينَ نَراهُ فِي السَّمَاءِ". لَكِنْ حِينَ نَصِلُ إِلَى السَمَاءِ، سَنَظَلُّ مَخْلُوقَاتٍ، وَسَنَظَلُّ مَحْدُودِينَ. وَحَتَّى فِي السَمَاءِ، لَنْ نَتَمَتَّعَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى إِدْرَاكِ عَدَمِ مَحْدُودِيَّةِ اللهِ بِالْكَامِلِ. سَنَعْرِفُ أَكْثَرَ كَثِيرًا مِمَّا نَعْرِفُهُ الآنَ، لَكِنْ سَيَظَلُّ الْغُمُوضُ يَلُفُّ بَعْضَ جَوَانِبِ اللهِ فِي السَمَاءِ.

لا يَنْتَقِصُ غُمُوضُ الشَيْءِ مِنْ حَقِيقَتِهِ. فَلَوْ حَدَثَ ذَلِكَ، لانْهَارَ الْعِلْمُ الْحَدِيثُ مِنْ تِلْقَاءِ ذَاتِهِ. فَلا تَزَالُ الْجَوَائِزُ تُمْنَحُ لِمَنْ يَسْتَطِيعُ كَشْفَ النِقَابِ عَنِ الطَبِيعَةِ الْكَامِلَةِ لِلْجَاذِبِيَّةِ. وَلا تَزَالُ هُنَاكَ نِزَاعَاتٌ حَوْلَ الطَبِيعَةِ الْفِعْلِيَّةِ لِلْحَرَكَةِ، وَالْوَقْتِ، وَالْمَفَاهِيمِ الَتِي نَسْتَخْدِمُهَا يَوْمِيًّا. لَكِنْ تَظَلُّ عَنَاصِرُ مِنْ هَذِهِ الأَفْكَارِ مُخْفَاةً عَنْ عُقُولِنَا، وَغَامِضَةً بِالنِسْبَةِ إِلَيْنَا.

سَأُقدِّمُ لَكُمْ تَشْبِيهًا بَسِيطًا. لَسْتُ ضَلِيعًا بِأَسَاسِيَّاتِ الْكَهْرَبَاءِ، لَكِنَّنِي أَفْهَمُ أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ، وَأَنَّهُ عِنْدَ انْقِطاعِ الْكَهْرَبَاءِ فِي الْمَنْزِلِ، سَأَتَحَقَّقُ أَوَّلًا مِنْ مِفْتَاحِ الْكَهْرَبَاءِ، وَأَضْغَطُ عَلَيْهِ. وَإِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ وَظَلَّتِ الْكَهْرَبَاءُ مُنْقَطِعَةً، فَسَأَتَحَقَّقُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ الْمِصْبَاحِ الْكَهْرَبَائِيِّ. وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْمِصْبَاحُ الْكَهْرَبَائِيُّ تَالِفًا، سَأَتَحَقَّقُ مِنْ عُلْبَةِ الصَمَّامَاتِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْمِرْآبِ. وَإِنْ لَمْ يُجْدِ ذَلِكَ، سَأَتَّصِلُ عِنْدَئِذٍ بِالْكَهْرَبَائِيِّ، لأَنَّنِي اسْتَنْفَدْتُ كُلَّ فَهْمِي لِلْكَيْفِيَّةِ الَتِي تَعْمَلُ بِهَا هَذِهِ الأَشْيَاءُ، مِنْ خِلالِ الْخُطْوَاتِ الثَلاثِ الأُولَى الَتِي اتَّخَذْتُها. ثَمَّةَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَلا سِيَّمَا فِي مَجَالِ الْعُلُومِ، لَسْتُ أَفْهَمُهَا. وَهِيَ تَظَلُّ لُغْزًا بِالنِسْبَةِ إلَيَّ. وَثَمَّةَ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ أَيْضًا تُشَكِّلُ لُغْزًا بِالنِسْبَةِ إلَيَّ، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ لُغْزًا بِالنِسْبَةِ إلى آخَرِينَ، مِمَّنْ تَعَلَّمُوا وَاكْتَسَبُوا خِبْرَةً مُعَيَّنَةً فِي عِدَّةِ مَجَالاتٍ لَمْ أَكْتَسِبْ فِيهَا أَيَّةَ خِبْرَةٍ. إِذَنْ، مُسْتَوَى الْغُمُوضِ بِالنِسْبَةِ إلى نِطَاقِ مَعْرِفَتِهِمْ يَخْتَلِفُ كَثِيرًا عَنْ مُسْتَوَى الْغُمُوضِ لَدَيَّ. فَلَسْتُ أَفْهَمُ الطِبَّ كَمَا يَفْهَمُهُ الطَبِيبُ. وَلَسْتُ أَفْهَمُ عِلْمَ الأَحْيَاءِ كَمَا يَفْهَمُهُ عَالِمٌ فِي الأَحْيَاءِ الْمِجْهَرِيَّةِ. إِذَنْ مُجَدَّدًا، هُنَاكَ مَنْ يَجِدُونَ شَتَّى أَنْوَاعِ الأَلْغَازِ فِي الْمَسِيحِيَّةِ، الَتِي نَجَحَ اللاهُوتِيُّونَ فِي حَلِّها. وَتُوجَدُ أَجْوِبَةٌ عَلَى أَسْئِلَةٍ يَطْرَحُهَا أُنَاسٌ لَمْ يَتَعَمَّقُوا فِي دِرَاسَةِ تِلْكَ الأُمُورِ. وَلِذَا، أَرْجُو أَلَّا أَكُونَ حُفْنَةً مِنَ الأَلْغَازِ تَجُولُ وَتَنْشُرُ مَزِيدًا مِنَ الْغُمُوضِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِيمَا سَبَقَ. لَكِنَّنِي لَمْ أَلْتَقِ قَطُّ بِشَخْصٍ يَعْرِفُ كُلَّ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ عَنْ عِلْمِ الأَحْيَاءِ، أَوْ كُلَّ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ عَنِ الْفِيزْيَاءِ، أَوْ كُلَّ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ عَنْ عِلْمِ الْفَلَكِ، أَوْ كُلَّ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ عَنْ عِلْمِ اللاهُوتِ. فَإِنَّنَا نُؤْمِنُ بِأَنَّهُ لا يَزالُ أَمَامَنا الْكَثِيرُ لِنَتَعَلَّمَهُ عَنْ أُمُورِ اللهِ، مِمَّا لَسْنَا نَفْهَمُهُ بَعْدُ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، وَبِأَنَّ اللهَ يُوَسِّعُ تَدْرِيجِيًّا مِنْ قُدْرَتِنَا عَلَى الْفَهْمِ.

كَلِمَةُ "mystery" ("لُغْزٍ") مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْكَلِمَةِ الْيُونَانِيَّةِ "مُوسْتِيرْيُون". وَيَرَى الْبَعْضُ نَوْعًا مَا أَنَّهَا كَانَتِ الْكَلِمَةَ الْمُفَضَّلَةَ لَدَى الرَسُولِ بُولُسَ. فَبُولُسُ مُولَعٌ بِالتَحَدُّثِ عَنِ الأَلْغَازِ. وَبِالنِسْبَةِ إليهِ، لَيْسَ اللُغْزُ قِصَّةً بُولِيسِيَّةً. فَقَدِ اسْتَخْدَمَ كَلِمَةَ "لُغْزٍ" لِوَصْفِ أَمْرٍ كَانَ خَفِيًّا وَمَكْتُومًا، لَكِنَّهُ أُظْهِرَ وَأُعلِنَ الآنَ. فَمَثَلًا، لَمْ يَكُنْ وَاضِحًا فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ أَنَّهُ حِينَ يَأْتِي الْفَادِي، سَيَخْلُقُ كَنِيسَةً مِنْ جَسَدِهِ، تَضُمُّ لَيْسَ فَقَطِ الشَعْبَ الْيَهُودِيَّ، بَلْ شَتَّى أَنْوَاعِ الأُمَمِ وَالْجَمَاعَاتِ الْعِرْقِيَّةِ مِنَ الْجَمَاعَاتِ غَيْرِ الْيَهُودِيَّةِ. وَلِذَا، تَحَدَّثَ بُولُسُ عَنِ الأَمْرِ الَذِي كَانَ مَكْتُومًا قَبْلًا، وَكَانَ سِرًّا مِنْ قَبْلُ، لَكِنَّهُ أُعْلِنَ الآنَ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ بِعَمَلِ الْمَسِيحِ. وَتُوجَدُ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ مُمَاثِلَةٌ كَانَتْ مَكْتُومَةً عَنْ قِدِّيسِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، وَأُعْلِنَتِ الآنَ فِي تَعْلِيمِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. هَذَا لا يَعْنِي إِذَنْ أَنَّ الْعَهْدَ الْجَدِيدَ يَكْشِفُ كُلَّ الأَلْغَازِ. بَلْ سَيُعلَنُ الْمَزِيدُ أَيْضًا، كَمَا ذَكَرْتُ، حِينَ نَصِلُ إِلَى السَّمَاءِ.

السُؤالُ الآنَ هُوَ: مَا عَلاقَةُ الْمُصْطَلَحِ "لُغْزٍ" بِالْمُصْطَلَحِ "تَنَاقُضٍ" أَوِ الْمُصْطَلَحِ "مُفَارَقَةٍ"؟ إِلَيْكُمُ الْفِكْرَةَ الَتِي أَعْتَبِرُ أَنَّهَا الأَهَمُّ هُنَا، وَهِيَ أَنَّ التَنَاقُضَ وَاللُغْزَ، أَيْ كِلا هَذَيْنِ الْمَفْهُومَيْنِ، بَيْنَهُمَا قَاسِمٌ مُشْتَرَكٌ مُهِمٌّ جِدًّا. وَالْقَاسِمُ الْمُشْتَرَكُ هُوَ عَدَمُ الْوُضُوحِ. لَيْسَ هَذَا أُسْلُوبًا جَيِّدًا لِوَصْفِهِ، لَكِنَّ عَدَمَ الْوُضُوحِ يَعْنِي عَلَى الأَقَلِّ افْتِقارًا إِلَى الْفَهْمِ. فَإِذَا أَخْبَرْتُكُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الطَبْشُورَةَ لَيْسَتْ طَبْشُورَةً، أَيْ إِذَا أَدْلَيْتُ بِتَصْرِيحٍ مُتَنَاقِضٍ عَنْ هَذِهِ الطَبْشُورَةِ، فَمَاذَا سَتَتَعَلَّمُونَ عَنْ هَذِهِ الطَبْشُورَةِ؟ لا شَيْءَ، لأَنَّ تَصْرِيحِي مُتَنَاقِضٌ. وَلأَنَّهُ مُتَنَاقِضٌ، فَهُوَ غَيْرُ مَفْهُومٍ.

أُذكِّرُكُمْ بِأَنَّنِي فِي جُزْءٍ سَابِقٍ مِنْ هَذَا الْمُقرَّرِ، ذَكَرْتُ كَيْفَ عَرَّفَ أَرِسْطُو الْمَنْطِقَ فِي الْعَالَمِ الْقَدِيمِ. يَظُنُّ الْبَعْضُ أَنَّ أَرِسْطُو اخْتَرَعَ الْمَنْطِقَ. لَكِنَّنِي ذَكَّرْتُكُمْ بِأَنَّهُ لَمْ يَخْتَرِعِ الْمَنْطِقَ مِثْلَمَا لَمْ يَخْتَرِعْ كُولُومْبُوسُ أَمْرِيكَا. فَكُلُّ مَا فَعَلَهُ أَرِسْطو هُوَ عَرْضُ الْقَوَاعِدِ وَالْقَوَانِينِ الَتِي كَانَتْ عَامِلَةً بِالْفِعْلِ، وَالَتِي تَحْكُمُ وَتَقِيسُ الْعَلاقاتِ بَيْنَ التَصْرِيحَاتِ. وَمَعَ أَنَّ أَرِسْطُو دَرَسَ عِدَّةَ عُلُومٍ مُخْتَلِفَةٍ، قَالَ إِنَّ الْمَنْطِقَ لَيْسَ عِلْمًا فِي حَدِّ ذَاتِهِ، لَكِنَّهُ، كَمَا تَذكُرُونَ، الْوَسِيلَةُ أَوِ الأَدَاةُ لِكُلِّ عِلْمٍ. وَقَالَ: "يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْطِقُ لَدَيْكَ حَتَّى تَفْهَمَ أَيَّ شَيْءٍ"، أَيْ كَيْ تَفْهَمَ عِلْمَ الأَحْيَاءِ، وَكَيْ تَفْهَمَ الْكِيمْيَاءَ، وَكَيْ تَفْهَمَ عِلْمَ الْفَلَكِ. وَفِي الْوَاقِعِ، تَارِيخِيًّا، يُعَدُّ الْمَنْطِقُ نِصْفَ الْمَنْهَجِ الْعِلْمِيِّ، وَنِصْفُهُ الآخَرُ اسْتِقْرَائِيٌّ، حَيْثُ نَجْمَعُ الْبَياناتِ وَنُجْرِي بَعْضَ التَجَارِبِ فِي الْمُخْتَبَرِ. لَكِنْ مَا أَنْ نُحَاوِلَ فَهْمَ الْبَياناتِ الَتِي لَدَيْنا، نَخْطُو إِلَى عَالَمِ الاسْتِدْلالِ الْمَنْطِقِيِّ، الَذِي يُدْخِلُنَا إِلَى عَمَلِيَّةِ التَفْكِيرِ الْمَنْطِقِيِّ. وَقَالَ أَرِسْطُو إِنَّ الْمَنْطِقَ، وَلا سِيَّمَا قَانُونُ التَنَاقُضِ، هُوَ مَطْلَبٌ أَسَاسِيٌّ لِخَوْضِ أَيِّ حَدِيثٍ لَهُ مَعْنًى، أَيِ لِلتَوَاصُلِ الْمَفْهُومِ. فَإِنْ قُلْتُ "هَذِهِ الطَبْشُورَةُ لَيْسَتْ طَبْشُورَةً"، يَكُونُ مِنَ الأَفْضَلِ أَنْ أَقِفَ هُنَا وَأَقُولَ "بلبلبلبلبل"، لأَنِّي أُدْلِي بِتَصْرِيحٍ عَدِيمِ الْمَعْنَى. إِذَنْ، عِنْدَمَا أَقُولُ: "هَذِهِ الطَبْشُورَةُ لَيْسَتْ طَبْشُورَةً"، لَنْ تَجْنُوا مِنْ هَذَا أَيَّ مَعْنًى مُتَرَابِطٍ منطقيًّا. وَلِهَذَا، يُمْكِنُ أَنْ تَقُولُوا: "لَسْنَا نَفْهَمُ مَا قَصَدَهُ د. سْبْرُول هَذَا الصَبَاحَ، فَقَدْ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِأَلْغَازٍ". أَتَرَوْنَ الْقَاسِمَ الْمُشْتَرَكَ؟

اللُغْزُ هُوَ شَيْءٌ لا أَفْهَمُهُ، وَالتَنَاقُضُ هُوَ شَيْءٌ لا أَفْهَمُهُ. إِذَنْ، لا بُدَّ مِنْ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ. كَلَّا، بَلْ بَيْنَهُمَا قَوَاسِمُ مُشْتَرَكَةٌ. فَإِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَفْهَمُونَ التَنَاقُضَ، أَتَعْرِفُونَ السَبَبَ؟ لأَنَّ التَنَاقُضَ غَيْرُ مَفْهُومٍ فِي ذَاتِهِ. فَآيْنْشْتَايْن نَفْسُهُ لا يَقْدِرُ أَنْ يَفْهَمَ التَنَاقُضَ. أَتَجَاسَرُ وَأَقُولُ إِنَّهُ حَتَّى اللهُ نَفْسُهُ لا يَقْدِرُ أَنْ يَفْهَمَ التَنَاقُضَ، لأَنَّ التَنَاقُضَاتِ، بِحُكْمِ طَبِيعَتِهَا، غَيْرُ مَفْهُومَةٍ. أَمَّا اللُغْزُ، مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، فَيُشِيرُ إِلَى شَيْءٍ لا أَفْهَمُهُ الآنَ، لَكِنْ رُبَّمَا أَسْتَطِيعُ فَهْمُهُ إِنْ حَصَلْتُ عَلَى مَزِيدٍ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ. فَقَدْ نَكْتَشِفُ أُمُورًا مُعَيَّنَةً فِي الْعِلْمِ، وَنَقُولُ "وَجَدْتُها!". فَمَا لَمْ أَفْهَمْهُ مِنْ قَبْلُ، يُمْكِنُنِي إِدْرَاكُهُ الآنَ، لأَنَّنِي حَصَلْتُ عَلَى مَعْلُومَاتٍ جَدِيدَةٍ. وَمَا يَدْفَعُ الْعِلْمَ إِلَى الأَمَامِ طَوَالَ الْوَقْتِ هُوَ اكْتِسَابُ مَعْلُومَاتٍ جَدِيدَةٍ تُنْقِصُ مِنْ قَدْرِ الْغُمُوضِ. فَمَا مُهِمَّةُ الْعِلْمِ؟ وَمَا مَعْنَى كَلِمَةُ عِلْمٍ؟ الْكَلِمَةُ تَعْنِي الْمَعْرِفَةَ. وَاللُغْزُ يُشِيرُ إِلَى نَقْصٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، أَوْ غِيَابِ الْمَعْرِفَةِ. إِذَنْ، كُلَّمَا ازْدَادَتْ مَعْرِفَتُنَا، تَنَاقَصَ الْغُمُوضُ. لَكِنْ أَحْيَانًا، كُلَّمَا تَزْدَادُ مَعْرِفَتُنَا، يَزْدَادُ وَعْيُنَا بِوُجُودِ الْمَزِيدِ مِنَ الأَلْغَازِ، الَتِي لَمْ نَكُنْ نَعِي وُجُودَهَا فِيمَا سَبَقَ. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ، قَدْ تَكْشِفُ الْمَعْرِفَةُ الْجَدِيدَةُ مَزِيدًا مِنَ الأَلْغَازِ. لَكِنْ دَعُونَا لا نَخْلِطُ بَيْنَ هَذِهِ الأُمُورِ، لأَنَّ اللُغْزَ عُنْصُرٌ مَشْرُوعٌ مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَالسَعْيِ وَرَاءَ الْحَقِّ، يَجِبُ أَنْ يُنْشِئَ بِدَاخِلِنَا اتِّضَاعًا، حِينَ نَقِفُ أَمَامَ أُمُورٍ لا نَعْرِفُهَا أَوْ نَفْهَمُهَا. يَجِبُ أَلَّا يَدْفَعُنَا ذَلِكَ إِلَى اسْتِخْدَامِ اللُغْزِ رُخْصَةً لِقَبُولِ التَنَاقُضاتِ. وَهَذَا هُوَ مَا يَحْدُثُ. يَقُولُ الْبَعْضُ "هَذَا تَنَاقُضٌ، لا بَأْسَ. فَإِنَّنِي لَسْتُ أَفْهَمُهُ، لَكِنْ أَعْطِنِي مَزِيدًا مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَمَزِيدًا مِنَ الْمَعْلُومَاتِ، وَسَأَتَمَكَّنُ مِنْ فَكِّ شَفْرَتِهِ". أَرْفُضُ ذَلِكَ. فَإِنْ كَانَ هَذَا تُنَاقُضًا حَقِيقِيًّا، فَلَنْ تَعْجُزَ عَنْ فَكِّ شَفْرَتِهِ الْيَوْمَ فَقَطْ، لَكِنَّكَ سَتَعْجُزُ عَنْ فَكِّ شَفْرَتِهِ غَدًا، وَفِي الْيَوْمِ الَذِي يَلِيهِ، وَفِي أَيِّ وَقْتٍ. وَإِذَا أُتِيحَتْ لَكَ الأَبَدِيَّةُ لِتَدْرُسَهُ، وَاكْتَسَبْتَ كُلَّ الْمَعْرِفَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْعَالَمِ، لَنْ تَفُكَّ شَفْرَةَ تَنَاقُضٍ حَقِيقِيٍّ. وَلِذَا مِنَ الْحَيَوِيِّ جِدًّا أَنْ نَفْهَمَ الْفَرْقَ، لأَنَّ الْمَسِيحِيَّةَ تَعْتَرِفُ بِالأَلْغَازِ، لَكِنْ لا تَعْتَرِفُ بِالتَنَاقُضَاتِ.