ترياق القلق
۲۵ أغسطس ۲۰۲۲مصدر القلق
۱ سبتمبر ۲۰۲۲ما هو القلق؟
ملاحظة المُحرِّر: المقالة 2 من سلسلة "القلق"، بمجلة تيبولتوك.
يبدو أن القلق هو في تزايُد سريع في عالمنا في هذه الأيام. تقول إحدى منظمات الصحة إن "اضطرابات القلق هي المرض العقلي الأكثر شيوعًا في الولايات المتحدة". أثبتت الدراسات أنه على مدار السنوات العديدة الماضية، كان القلق في تزايُد مستمر حتى بين المراهقين. وفقط منذ عامين، أعلنت مؤسسة بارنز آند نوبل، وهي واحدة من أكبر مؤسسات بيع الكتب في العالم، أن مبيعات الكتب التي تتناول موضوع القلق ارتفعت بنسبة 25 بالمئة. وكلُّ هذا كان قبل انتشار الجائحة الأخيرة. فلا شك أن القلق ازداد أكثر من ذلك أيضًا في السنة الماضية.
أتذكَّر في طفولتي أنَّ أحدهم قال عن أبي: "يا له من رجل قلق!" قيلت هذه الملاحظة بأسلوب مرح وفي شبه مزاح، لكنها كانت صحيحة. كان أبي رجلًا قلقًا. فبعدما باع جدي المشروع الخاص بالعائلة، شرع أبي في بناء مشروعه الخاص من الصفر. كان الأمر صعبًا، وتطلَّب الكثير من الجهد والعمل الذي استنزف وقته وتركيزه. وقد لاقى مشروعه نجاحًا كبيرًا، لكن تلك السنوات كانت مليئة أيضًا بالتوتر. فعلى رأس هذه القائمة، كان قلقًا أيضًا على أبنائه الستة. وبصفتي راعي كنيسة لديه ستة أبناء أيضًا، فإنني أسير على خطى والدي، أي إنني أصارع أيضًأ مع القلق - على أولادي، وعلى شعب كنيستي؛ بل ويساورني القلق في كثيرٍ من الأحيان فقط بسبب أعباء مسؤولياتي.
بحسب الكتاب المقدس، القلق أمر خطير. أوصى يسوع تلاميذه قائلًا: "لاَ تَهْتَمُّوا [تقلقوا] لِحَيَاتِكُمْ" (متى 6: 25). وبالمثل، كتب بولس يقول: "لاَ تَهْتَمُّوا [تقلقوا] بِشَيْءٍ" (فيلبي 4: 6). ليس الغرض من هذه الآيات هو تطييب الخاطر، على شاكلة "كلُّ شيء سيكون على ما يرام"، لكن هذه وصايا كتابية، ولذلك، فإن كسرها يُعَد خطية.
لكن، لا يقول الكتاب المقدس إن كلَّ قلق هو خطية. فالرسول بولس، في عمله الرعوي، عانى نوعًا معيَّنًا من القلق اللائق. فقد كتب إلى أهل كورنثوس يقول إنه بالإضافة إلى المشقات الأخرى التي واجهها، يوجد "التَّرَاكُمُ [الضغوط]) عَلَيَّ كُلَّ يَوْمٍ، الاهْتِمَامُ [القلق] بِجَمِيعِ الْكَنَائِسِ" (2 كورنثوس 11: 28). والكلمة اليونانية المترجمة هنا إلى "الاهْتِمَامُ" هي صيغة الاسم من الفعل "يهتم" (يقلق) الذي استخدمه بولس في فيلبي 4: 6، الذي اقتبسناه أعلاه. ومع ذلك، كما قال بولس لأهل كورنثوس، لم يكن ما عانى منه هو قلق خاطئ، لكنه كان قلقًا بحسب مشيئة الله، وقلقًا مُحِبًّا.
وعبر الكتاب المقدس، نرى بالفعل أنواعًا متضادة من القلق – قلق لائق وسليم، وقلق آخر مخالف لمشيئة الله. وفي حقيقة الأمر، يستخدم العهد الجديد الكلمات اليونانية نفسها لوصف كلا نوعي القلق. واستخدم بولس الفعل اليوناني نفسه الذي جاء في فيلبي 4: 6 (وأيضًا في متى 6: 25) عندما كتب أن أعضاء جسد المسيح يجب أن "تهتم" ["تقلق"] ٱهْتِمَامًا وَاحِدًا بَعْضُهَا لِبَعْضٍ (1 كورنثوس 12: 25). وعلى هذا المنوال نفسه، امتدح بولس تيموثاوس لدى كنيسة فيلبي لأنه "يَهْتَمُّ [يقلق] بِأَحْوَالِكُمْ بِإِخْلاَصٍ" (فيلبي 2: 20)، أكثر من أي شخص آخر من العاملين مع بولس.
معظم قلقنا الذي هو خطية متعلِّق باهتمامات مشروعة. فمن اللائق أن تبلي حسنًا في عملك، وأن تعول عائلتك، وأن تعتني بأولادك، وأن تؤدِّي الواجبات التي دعاك الله إليها. فإننا يجب أن نهتم بكلِّ هذه الأمور. لكن السؤال هو: متى تتحول هذه الاهتمامات المشروعة إلى قلق خاطئ؟ ومتى تتحول العناية التي بحسب مشيئة الله إلى قلق ليس بحسب مشيئته؟
على صعيد معيَّن، يمكن أن نقول عن القلق تلك الكلمات الشهيرة التي قالها أحد القضاة عن الإباحية. فإذ لم يستطع أن يُعرِّفها، قال: "لكنني أعرفها عندما أراها". نحن نعلم جيدًا شكل القلق الذي هو خطية لأننا اختبرناه. فإننا نعرف علاماته، مثل تعرُّق الكفين، وتسارع ضربات القلب، وعدم القدرة على الهدوء أو الاسترخاء، والشعور بوجود ثقل كبير يجثم على الصدر، والأرق، والكثير من الأعراض الأخرى. لكن، ما الذي يجعل هذا النوع من القلق خطية؟
نقطة البداية الجيدة للإجابة عن هذا السؤال هي قصة يسوع ومريم ومرثا، التي نقرأ عنها في لوقا 10: 38-42. كان يسوع في بيت مريم ومرثا، وكانت مرثا منشغلة بخدمة الضيوف، وعلى الأرجح كانت تعد الطعام. أما مريم، فجلست عند قدمي يسوع تستمع إلى تعاليمه. وحينئذ، غضبت مرثا بشدة، وقالت ليسوع أن يطلب من مريم أن تعينها؛ لكن يسوع أجابها قائلًا: "مَرْثَا، مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ [تقلقين] وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ، وَلكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا" (الآيتان 41-42). فقد كانت مرثا مستنزَفة في أمور جيدة، ففاتتها الأمور الأفضل على الإطلاق. وقد كانت تعمل كادحة في خدمة يسوع، لكنها رفعت عينيها عن يسوع نفسه.
هذا، باختصار، هو القلق الذي هو خطية. فهو أن تُستنزَف في اهتمامات مشروعة، بينما ترفع عينيك عن يسوع. بتعبير آخر، القلق الذي هو خطية يضع الاهتمامات والمسئوليات الدنيوية فوق المسيح، بحيث تحتل المكانة الأولى، ويحتل المسيح المكانة الثانية.
كتب تشارلز سبرجن عن مرثا يقول: "لم يَكمُن خطؤها في أنها كانت تخدم. فكلُّ مؤمن هو بالطبيعة خادم. بل تمثَّل خطؤها في أنها ‘كَانَتْ مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ كَثِيرَةٍ’، حتى أنها نسيت يسوع ولم تعد تتذكر سوى الخدمة". الفعل اليوناني الذي تُرجم هنا إلى "مُرْتَبِكَةً" في الآية 40 معناه أن تنجذب بعيدًا عن شخص أو شيء، موجهًا انتباهك إلى شيء آخر. ومعناه أيضًا، كما هو مذكور في أحد القواميس اليونانية، "أن تصبح ... شديد الانشغال، ومثقلًا بالأعباء أكثر من اللازم".
فالقلق الذي هو خطية ناتج عن الانجذاب بعيدًا عن المسيح، الأمر الذي يؤدي إلى حمل أعباء غير ضرورية. ولهذا حث بولس أهل فيلبي قائلًا: "لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَعَ الشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى اللهِ. وَسَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْل، يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (فيلبي 4: 6-7). فعندما تزداد أعباؤك من هموم العالم، تطلَّع إلى الله بالصلاة والدعاء، مع الشكر أيضًا، حتى تتغلَّب على القلق، وتختبر السلام الذي من الله.
كذلك، القلق الذي هو خطية ناتجٌ عن إنزال أعيننا عن المسيح، بالسعي وراء الأمور الخاطئة أو خدمتها. يوصينا يسوع في المقطع الكتابي الشهير عن القلق بأن نطلب ملكوت الله وبرَّه أولًا، والله بدوره سيعطينا كلَّ ما نحتاجه (متى 6: 33). تَكمُن المشكلة في أننا في كثير من الأحيان نهتم ببناء ملكوتنا الصغير أكثر من اهتمامنا ببناء ملكوت الله. لكن من المستحيل، كما قال يسوع، أن نخدم الله والمال، أو أن نخدم الله وأيَّ هدف أرضي آخر (الآية 24). ومحاولة فعل ذلك ستؤدِّي لا محالة إلى القلق الذي هو خطية. لا عجب إذن، في هذا الزمان العلماني الذي نعيش فيه، الذي صار بعيدًا عن الله، أن يكون القلق في تزايد مستمر.
والقلق الذي هو خطية ناتج أيضًا عن عدم الاتكال على الله كما ينبغي. وصف يسوع القلقين بأنهم "قَلِيلِي الإِيمَانِ" (متى 6: 30). فإننا خلصنا بالإيمان، ونحيا أيضًا بالإيمان. فخلاصنا لا يعتمد على قوة إيماننا، بل بالأحرى على موضوع إيماننا. ومع ذلك، نستطيع دائمًا أن ننمو في إيماننا. يوصينا يسوع بأن ننظر إلى طيور السماء، وكيف يعتني بها الله، مذكِّرًا إيانا بأننا أفضل من عصافير كثيرة (الآية 26).
لا يعني ذلك ألا نحرِّك ساكنًا، منتظرين فقط أن يسدِّد الله حاجاتنا. فالطيور لا تجلس فاغرةً أفواهها منتظرة أن يُسقط الله الطعام في داخلها. لكننا مدعوون إلى العمل في هذه الحياة، بل ونقرأ أيضًا: "أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضًا" (2 تسالونيكي 3: 10). فقد خلق الله الإنسان ليعمل ويجتهد، حتى أن القلق قد ينبع في كثير من الأحيان من التقصير في العمل والاجتهاد كما ينبغي.
كذلك، لا يعني السلوك والعيش بالإيمان ألا نخطِّط للغد. فقد أوصانا يسوع ألا نهتم بالغد، بل نركِّز بالأحرى على مهام اليوم. لكن لا يعني ذلك ألا نخطط للغد. يريدنا الله أن نكون أناسًا يخططون، وبالأخص أن نخطط لمستقبلنا. نرى مثالًا لذلك في التجهيزات التي أعدَّها يوسف تأهُّبًا للمجاعة الآتية (تكوين 41؛ انظر أيضًا أمثال 6: 6-8؛ 16: 9؛ لوقا 14: 28-32). فإن وصية ألا نهتم بالغد هي دعوة إلى أن نكون أمناء فيما دعانا الله إلى أن نفعله اليوم، عالمين أنه يحمل الغد بين يديه الضابطتين والكريمتين.
"الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ" (لوقا 10: 42). هذه تذكرة جيدة لنا في هذا العالم المرتبك والمليء بالانشغالات. فالله يدعو شعبه دعوات مختلفة، ومع ذلك، فالحاجة إلى واحد. يصيغ كاتب المزمور الأمر كالتالي: "وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ، وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ" (مزمور 27: 4). ووصف بولس الأمر أيضًا كالتالي: "وَلكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئًا وَاحِدًا: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ، أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (فيلبي 3: 13-14). ففي خضم انشغالات الحياة اليومية، دعونا نثبِّت أعيننا على المسيح، ونطلبه، ونطلب ملكوته، وهو سيعطينا سلامًا.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.