
امتحان أيّوب
۲۷ مارس ۲۰۲۵
امتحان بطرس
۷ أبريل ۲۰۲۵امتحان يونان

يمتلئ التاريخ بمدنٍ عظيمة. كانت هناك مدينة أور، مكان ولادة إبراهيم، والراجح أنَّها كانت أوَّل مدينة وصل تعداد سكّانها إلى مئة ألف. وكانت هناك بابل وحدائقها المُعلَّقة البهيّة المهيبة. وكانت هناك روما، التي لم تنافسها أيّة مدينة بعظمتها وتأثيرها. وهناك اليوم مدنٌ، مثل لندن ولوس أنجيلوس وطوكيو ونيويورك. تمثِّل المدنُ المراكزَ الثقافية في الحضارات والمدنيّات. وهناك مدينة أخرى مهمّة في التاريخ هي نينوى.
كانت نينوى مدينة عظيمة (يونان 1: 2)، إذْ كانت عاصمة مملكة أشور. كانت مدينةً ضخمةً ومعروفةً بصورة جيّدة (يونان 3: 3). ربما وصل عددُ سكّانها إلى 130 ألف إنسان. كانت نينوى تستمدّ عظمتها من قوّتها ومن كونها ممتلئةً بالشرّ. كانت تشبه مدينة "جوثام" (في المسلسلات الأميركيّة) في زمنها. ولكونها عاصمة أشور، فقد مثَّلتْ كلّ ما اتّصف به الأشوريّون، بما في ذلك القسوة.
وبلغة اليوم، يمكن اعتبار أشور دولةً إرهابيّةً. فقد كانت كالوبأ لجيرانها. اكتسب الأشوريّون سمعةَ القسوة والبربريّة ونمّوا وعزّزوا هذه السمعة. عاملوا أعداءهم بأقصى درجات القسوة، إذ أهلكوا شعوبًا، وكانوا يعدمون خصومهم باستخدام خوازيق منتصبة. لم يكن أحدٌ يحبُّهم، بمَن في ذلك شعب إسرائيل، وخاصّة يونان.
ولذا، يمكننا أن نفهم تردُّد يونان حين دعاه الربّ للذّهاب إلى نينوى لينادي برسالة الإيمان والتوبة. ومع هذا، لم تكن مقاومة يونان علامةً على البرّ بقدر ما كانت مؤشِّرًا على التمرُّد. فقد كان يظنّ أن محبّة الله ورحمته لأهل نينوى في غير مكانهما. كان أهلُ نينوى هم الأعداءَ، ولذا فإنّهم يستحقّون غضب الله. وكان الامتحان المُعطى ليونان وكلّ شعب الله هو أن يتذكَّروا أنَّ محبّة الله هي بكلّ وضوح لأعدائه أيضًا.
إحدى التجارب التي تواجه المسيحيّ الحقيقي هي أن ينسى أنّه لم يكن دائمًا مؤمنًا. فلم نكُن دائمًا من شعب الله. لم نكن دائمًا مقبولين في ابنه الحبيب. كُنّا في الماضي أعداء الله (رومية 5: 10)، مُقيَّدين بالخطية، عصاةً، وتحتَ دينونته بعدلٍ وحقّ (أفسس 2: 1-3). ولم ينسَ الرسول بولس هذا الأمر قطّ.
فمع أنّ بولس دُعي إلى أن يكون رسولاً، خادمًا لله وآنيةً لنعمته، لم ينسَ قطّ ما كان عليه قبلًا. لم ينسَ قطّ أنّه لم يكن مستحقًّا (1كورنثوس 15: 9). لم ينسَ قطّ أنّه كان في السابق متمرّدًا وعاصيّا ومُجدِّفًا. ولأنّه كان كذلك، أدرك أيضًا أن المسيح أتى ليُظهِر محبّته ويخلِّصه (1تيموثاوس 1: 13-16). فقد غيَّرته نعمة الله ومحبّته في المسيح يسوع، فصارتا الدافعَ وراء خدمة المحبّة التي دُعي لأن يحظى بها نحو الآخرين (1كورنثوس 15: 16). هذا ما نسيه يونان، وهو دائمًا تجربةٌ يواجهها شعب الله.
كان يونان يعرف غنى رحمة الله. كان يعرف إسراف محبّة الله. كان يعرف عظمة نعمة الله (يونان 4: 2). كان يعرف كلّ هذا لأنّه كان قد اختبره، ولم يكن يجهله في حياته الشخصيّة. كانت هذه الرحمةُ والمحبّةُ والنعمةُ هي السبب في بقائه حيًّا (يونان 2: 8-9). كانت السبب في وجوده في نينوى. ومع هذا، فإنّ معرفة نعمة الله ومحبّته لم يدفعاه إلى أن يكون لطيفًا ومُحبًّا استجابةً لتلك المحبّة. فقد كان يونان يرى نفسه مختلفًا عن أهل نينوى. وفي الحقيقة، أثبتت محنته أنّه كان مثلهم تمامًا.
تبدأ محبّة الذين لا يُحَبُّون بتذكُّر هذا الأمر: لولا نعمة الله لما كنتُ حيثُ أنا. كان يونان يرى نفسه مختلفًا بصورة تامّة عن أهل نينوى، ومع أنّه كان يمكنه أن يكون متلقّيًّا لنعمة الله، فإنّه كان يظنُّ أنّ أهل نينوى لم يكونوا يستحقّون هذه النعمة. محبّة أعدائنا تعني أن نفهم ونعترف أنّ لا أحدَ منّا يستحقّ محبّة الله. لم يكتسب أحدٌ نعمة الله استحقاقًا. نسيَ يونان هذه الحقيقة. وكثيرًا ما ننساها أنا وأنتَ أيضًا.
بالنسبة إلينا، يكمن التحدّي في أن نحبّ من يحبّهم الله، في أن نحبّ مَن أتى المسيح ليُظهِر محبّته لهم. أحبّ يسوع الفجّار، وغير المُقدَّسين، وغير المستحقّين، والبغيضين الذين لا يُحَبّون. وبكلمات أخرى، أحبّ الذين لم يحبّوه. أحبَّ أعداءه. وبصورةٍ أكثر تحديدًا، أحبَّك وأحبَّني.
ليست الدعوة إلى محبّة أعدائنا دعوة لمحبّةٍ عن بُعد، ولكنّها دعوة لأن نُحِبّ عن قرب أولئك الذين يسعون إلى إيذائنا ويتسبَّبون بضررنا (متّى 5: 43-44). لم يكن أهل نينوى أعداء بعيدين، بل كانوا الجيران الصعبين، والأنسباء الطائشين غير الحسّاسين، والابن المتمرِّد وغير المحترِم، وزميل الدراسة العنصري، والخصم المعادي في الجانب الآخر من الجدل السياسي.
لم يرِد يونان أن يحبّ أعداءه. ولكنّ الخبرَ السارّ هو أنّ يسوع لا يشابه يونان. والخبر السارّ حقًّا هو أنّ يسوع أعظم من يونان (متّى 12: 41). يُحِبّ يسوع الذين لا يستحقّون المحبّة (رومية 5: 6-11). أحبَّنا يسوع حين كُنّا ما نزال أعداءه، وصالحنا مع الله، وأعطانا مهمّة المحبّة لنأتي بتلك المُصالحة إلى العالم (2كورنثوس 5: 19). أصلّي أن يذكّرنا يونان وامتحانه بفخّ عدم محبّة أعدائنا. وأصلّي أن نشكر الله دائمًا على محبّة يسوع أعداءه مع أنّهم لم يحبّوه. وأصلّي أن نشكره دائمًا على محبّته إيّاهم، رغم موقفهم وموقفنا الفاتر نحوه.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.