إقرارات الإيمان والعضوية الكنسية
۲۰ يناير ۲۰۲۳الآن ولكن ليس بعد
۲۵ يناير ۲۰۲۳إقرارات الإيمان وإرسالية الكنيسة
ملاحظة المُحرِّر: المقالة 7 من سلسلة "الكنيسة الملتزمة بقوانين وإقرارات الإيمان التاريخي المصلَح"، بمجلة تيبولتوك.
تتعَّرض إقرارات الإيمان اليوم لنقد غير منصف. فالكنيسة القديمة وكنائس الإصلاح ورَّثت لنا عقائد وإقرارات إيمان مُجرَّبة ومُختبَرة. وفيها، وجدت الكنيسة ملخصات مَوثُوقة عن "الإِيمَانِ الْمُسَلَّمِ مَرَّةً لِلْقِدِّيسِينَ" (يهوذا 3). ومع ذلك، يسود اليوم على نطاق واسع رأيٌ، يتبنَّاه البعض بحماس، مفاده أن الكنائس التي تتمسك بشكل صريحٍ بإقرار إيمان لا تتمِّم تكليف الإرسالية العظمى، تحديدًا لأنها كنائس ملتزمة بقوانين وإقرارات الإيمان التاريخية. فإنه يُفترَض أن المعايير العقائدية والإيمانية لتلك الكنائس لا تساعدها على الكرازة بالإنجيل، بل على النقيض، تلك المعايير تحبط على نحو لا يقبل الجدل أيَّ جهد حقيقي يُبذَل في سبيل توصيل رسالة الإنجيل الواضحة والبسيطة إلى العالم.
للأسف، تلك الملاحظة تحوي قدرًا من الحق. فالكنائس الملتزمة بقوانين وإقرارات الإيمان لا تكرز عادة بالإنجيل إلى العالم بالحماس والحرارة اللازمين. ففي غالبية الأحيان، تبدو الجدالات حول إقرارات الإيمان بالنسبة للذين من خارج مجرد جدالات داخلية حول نقاط أكثر تعقيدًا وغموضًا في علم اللاهوت. وبالتالي، يظن الكثيرون أن المعايير العقائدية الإيمانية الدسمة فكريًا المختصة بالإصلاح هي في حد ذاتها عائق أمام العمل المرسلي الحقيقي للكنيسة. وبصفتي راعى كنيسة منخرطًا في مجال زرع الكنائس في ألمانيا في حقبة ما بعد المسيحية، طلب مني مؤمنون حسنو النية أكثر من مرة ألا أستخدم إقرارات الإيمان كأداة لتقديم رسالة الإنجيل، وزرع الكنائس، وتعليم أساسيات الإيمان المسيحي للمؤمنين الجُدد.
لكن، هل الحقيقة المؤسفة المتعلقة بافتقار الكنائس المُلتزمة بقوانين وإقرارات الإيمان عادة إلى الحرارة في الكرازة تدل أن المشكلة تكمن في إقرارات الإيمان نفسها؟ هل إقرارات الإيمان ببساطة "عديمة الجدوى" في المجال المُرسلي؟ كلا، بل على العكس تمامًا. ففي حين أن الكنائس المُلتزمة بقوانين وإقرارات الإيمان قد تكون، بل وعادة ما تكون، متراخيةً في تتميم الإرسالية العظمى، لا تكمن المشكلة في إقرارات الإيمان في حد ذاتها.
الغرض الحقيقي من إقرارات الإيمان
إن دعوة المؤمن الحقيقية هي أن يحمل صليبه ويعترف بالمسيح. في كثيرٍ من الأحيان، يكون هذان الأمران واحدًا في المجال المرسلي اليوم في العديد من مناطق العالم. فالاعتراف بالمسيح قد يترتب عليه، بل وعادة ما يترتب عليه، تهديد مباشر على حياة المؤمن نفسها في الكثير من الأماكن. يوحدنا ذلك بيسوع نفسه، الذي كان أول شهيد كان على استعداد للموت بسبب إيمانه واعترافه به. وقطعًا، ينبغي ألا يتوقَّع تلاميذه أن يكونوا أفضل من معلِّمهم (يوحنا 13: 16). وقد طالب يسوع تلاميذه بأن يعترفوا به، مُعلنين مَن كان ومَن يكون (متى 10: 32؛ 16: 15)، حاسبين حساب النفقة قبل أن يفعلوا ذلك، ومستعدِّين لتحمُّل العواقب، بل وربما أن يقاسوا الموت نفسه (متى 10: 27-28). فإن الاعتراف هو قناعتنا القلبية بما يُعَلِّمه الكتاب المقدس فعليًّا، وهي قناعة نتبنَّاها ونتمسَّك بها بقوة لدرجة أننا نفضَّل الموت على أن نساوم فيها. فلم يكن أيُّ من المؤمنين على استعداد أن يُعدَموا حرقًا على العمود لأجل أمرٍ "ربما" يرون أنه حقٌّ؛ بل بالأحرى، مات هؤلاء المؤمنون حرقًا على العمود بسبب اعترافٍ بالإيمان يحسبونه حقًا مطلقًا، دون أيِّ استثناء أو شروط.
يمكننا أن نراجع بتدقيق ظروف ظهور كلِّ إقرار إيمان من إقرارات إيمان الكنيسة، كي نُثبت أنها لم تُكتَب من داخل غرف مكتب مريحة، لكنها بالأحرى صيغت وسط نار الاضطهاد، وكُتِبت بالدم. فهي دليل على أن دماء الشهداء هي في حقيقة الأمر بذار الكنيسة. ويكفي أن نقدِّم مثالًا واحدًا لذلك. فعندما خطَّ جيدو دو بري (Guido de Bres) إقرار الإيمان البلجيكي في عام 1561، أرسل أيضًا رسالةً إلى الحاكم الإسباني فيليب الثاني في ذلك الوقت، قدَّم فيها المبرر وراء إصدار إقرار الإيمان هذا. فكتب يقول:
إن النبذ، والسجون، وأعمال التخريب، والنفي، والتعذيب، وسائر الاضطهادات الأخرى التي لا تُحصى، إنما تُظهِر بوضوح أن رغباتنا وقناعاتنا ليست جسدية، لأننا كنا لنعيش حياة أسهل كثيرًا إذا لم نكن نعتنق تلك التعاليم، ونتمسَّك بها. لكننا إذ نضع مخافة الله نصب أعيننا، ونرتعد من تحذير يسوع المسيح، بأنه سينكرنا قدام الله أبيه إذا أنكرناه قدام الناس، نبذل ظهورنا للضرب، وألسنتنا للقطع، وأفواهنا للتكميم، وأجسادنا بأكملها للحرق، لأننا نعلم أن من أراد أن يتبع المسيح يجب أن يحمل صليبه وينكر نفسه.
كان دو بري وآخرون لا حصر لهم على استعداد للاستشهاد، بل واستشهدوا بالفعل، بسبب اعتراف إيمانهم. لكن لماذا؟ لأنهم كانوا يَعلَمون جيدًا أن إنكار الحق الموجود في إقرار الإيمان هو إنكارٌ للمسيح. وإنكار المسيح هو فعلٌ مميتٌ للنفس، يسلب البشر رجاءهم الوحيد في الخلاص. فقد كانوا على استعداد للإقرار بإيمانهم والموت لأجله لا لأيِّ سبب آخر سوى أن يتقدَّم الإنجيل. وبالتالي، فأن نكون مستعدين، بل ومدفوعين، إلى الاعتراف بالمسيح في كلمات مفهومة هو التوجُّه القلبي الكامن وراء أيِّ مَسعى مُرسلي عظيم وأمين.
في حين كان الغرض من إقرارات الإيمان الأولى للكنيسة هو أن تكون تصريحات عن الإيمان القويم – أي عن الحق اللاهوتي - لم يكن الغرض منها قط هو أن تكون لأجل الكنيسة وحدها، بل لطالما كان الغرض منها هو أن تكون وسيلة للتفاعل مع أنظمة التعاليم الكاذبة في أنحاء العالم. فلا وجود في إقرارات إيمان الكنيسة لإيمان قويم ميت. فإن هذه الإقرارات تتحدانا دائمًا، بل وتتحدَّى العالم دائمًا.
كان الغرض من إقرارات الإيمان أيضًا هو أن تكون دليلًا إرشاديًّا للكرازة بالإنجيل. فإن "الكرازة بالإنجيل" التي ستسهم بأمانة في تبشير العالم هي فقط تلك الكرازة التي تتفق مع حق كلمة الله، كما تلخِّصه إقرارات إيمان الكنيسة. فإن إقرار الإيمان يضع حرفيًّا الكلمات على أفواهنا؛ وهذه الكلمات هي كلمات كتابية، ومفهومة، تفسِّر اختبار إيماننا الشخصي، وتعبِّر عنه؛ كما أنها كلمات يُمكننا، بل ويجب علينا، أن نستخدمها عندما نخرج إلى العالم كشهودٍ للمسيح. فإن إقرارات الإيمان هي أدوات اجتازت اختبار الزمن، وهي نافعة لتعليم المؤمنين الجدد والتلاميذ على حد سواء المحتوى الكامل للإيمان المَسِيحِيّ، ولكلِّ ما علمنا المسيح إياه (متى 28: 20). فهي تمدُّنا بالكلمات التي يُمكننا من خلالها، صغارًا وكبارًا على حد سواء، أن نعترف من قلوبنا بمحتوى الإيمان. لكن في كل ذلك، الغرض الأبرز من إقرارات الإيمان لطالما كان وسيظل دائمًا هو أن تكون إعلانًا جازمًا عن الإيمان الصحيح، وعن الإنجيل، من أجل ربح البشر للخلاص في المسيح.
فعل الاعتراف
عادة ما نسيء فهم إقرارات الإيمان، فننظر إليها على أنها شيء عتيق عفا عليه الزمن، بل وعلى أنها شيء جامد. فإننا ننظر إلى إقرارات الإيمان على أنها وثائق يجب أن تُصنَّف ضمن "الإيمان القويم"، وأن يُحتَفَظ بها في الجوارير لحين الحاجة إليها، هذا إذا احتجنا إليها من الأساس. لكن صدقًا، إن الاعتراف بالإيمان هو حدث مؤثر وديناميكي للغاية. فهو شيء يحدث لنا، وللكنيسة، وللعالم. عبَّر دوروثي سايرز (Dorothy Sayers) عن ذلك الأمر قائلًا: "العقيدة هي الدراما". فإن إقرار الإيمان الكتابي السليم يسرد دراما تدخُّل الله في العالم ليخلق ويفتدي شعبًا، أي الكنيسة، بواسطة ابنه، بالروح القدس. فما نعترف به يخصُّنا وجوديًّا بشكل كامل ومباشر. فعندما يفتح المؤمن فمه ناطقًا بإقرار إيمان من القلب، وعندما تفتح الكنيسة مجتمعة فمَها للاعتراف بإقرار إيمان اجتاز اختبار الزمن، تكون هذه بمثابة مواجهة منقادة بالروح القدس بين العالم المنظور والعالم غير المنظور، يُستخدَم فيها سيف الحق الإلهي ذي الحدين. فإن هذا حدثٌ يأتي فيه الله نفسه كي يدين ويخلِّص غير المؤمنين. فما من تعارُض بين الكرازة بالإنجيل والإقرار بالإيمان. فالكرازة بالإنجيل هي وظيفة إقرار الإيمان، ونتيجةً له. فالاعتراف بالإيمان هو أكثر فعل مضاد للثقافة يُمكن تصوُّره. فهو يعلن الحرب على الافتراضات التي يطرحها العالم غير المؤمن، والتي قد تمرُّ دون معارضة بدونه.
دعونا نعترف
إن الاعتراف بالإيمان هو مُكبِّر الصوت الخاص بالكنيسة. فعندما لا تعترف الكنيسة بإيمانها، تصير صامتة وبكماء، إذ لا يكون لديها ما تقوله للعالم غير المؤمن. لكن عندما تعترف بإيمانها، يستخدم الله اعترافها هذا بقوة في عمله الخلاصي. إذن، لأجل المختارين، دعونا نتمسَّك بإقرار الإيمان. ودعونا لا ننخرط في مجرد جدالات داخلية، بل دعونا نعتنق إقرار الإيمان، ونستخدمه بالطريقة التي كان من المفترض دائمًا أن يُستخدم بها، أي باعتباره مُكبر صوت يطغى صوته على أكاذيب إبليس والعالم، ودليلًا إرشاديًّا إلى الحق، وحصنًا له، ووسيلةً لاجتذاب غير المؤمنين إلى الإيمان.
إن التمسُّك الحقيقي بقوانين وإقرارات الإيمان دائمًا ما يكون موجَّهًا إلى الخارج، ودائمًا ما يؤدي بنا بشكل مباشر إلى حرب روحية، بل وربما إلى الاستشهاد أيضًا. ومع ذلك، تلك هي التربة التي يحدث فيها التغيير، وتنمو فيها الكنيسة. وربما يكون هذا أهم درس تعلَّمتُه في الحقل المرسلي.
إن الاعتراف بالمسيح عن الطريق النطق بكلمات الحق لعالم غير مؤمن ليس عائقًا أمام تتميم التكليف المُرسلي للكنيسة؛ بل بالأحرى، هذا جزء من كيفية تتميم الكنيسة للإرسالية العظمى.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.