خمس حقائق عن الروح القدس
۱٦ سبتمبر ۲۰۲۰ما هو يوم الإصلاح؟
۲۵ سبتمبر ۲۰۲۰في البدء
تقدِّم لنا الجملة الأولى التي وردت في الكتاب المقدس الشهادة الأكيدة التي عليها يُبنَى كلُّ شيء آخر:
"فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ" (تكوين 1: 1). في هذه الجملة الأولى أُعلِنت ثلاث أفكار أساسيَّة: (1) كان هناك بدء؛ (2) هناك إله؛ (3) هناك خلق. ربما نظن أنه إن أمكننا ترسيخ الفكرة الأولى جيدًا، ستترتب عليها، بحُكم الضرورة المنطقيَّة، الفكرتان الأخريان. بمعنى آخر، إن كان هناك بالفعل بدء للكون، فلا بد إذن أن يكون شيء أو شخص ما مسؤولًا عن ذلك البدء؛ وإن كان هناك بدء، فلا بد أن يكون خلقٌ من نوعٍ ما قد حدث.
يُقِرُّ غالبيَّة، ولكن ليس جميع، مَن يتبنُّون المذهب العلماني بأن الكون له بداية في الزمن. على سبيل المثال، يقول أنصار نظريَّة الانفجار الكبير إنه منذ حوالي خمسة عشر إلى ثمانية عشر مليار سنة وُجِد الكون نتيجة انفجار هائل. ولكن، إن كان الكون قد وُجد عن طريق انفجار، فمِن أي شيء انفجر؟ هل انفجر من حالة اللا وجود؟ هذه فكرة سخيفة وغير معقولة. فمن المفارقة العجيبة أن غالبيَّة أنصار الفكر العلماني يَقبَلون بأن الكون له بداية، ومع ذلك، يرفضون فكرة الخلق ووجود الله.
فعليًّا، يتفق الجميع على وجود شيء يسمَّى الكون. ربما يقول البعض إن الكون أو الواقع الخارجي — بل ووعينا الذاتي نفسه — ليس سوى خيالًا ووهمًا؛ لكن فقط أكثر أتباع مذهب الأنويَّة (solipsism) جموحًا هو مَن يحاول الدفاع عن عدم وجود أي شيء. فلا بد لهذا الشخص أن يكون موجودًا كي يطرح حُجة عدم وجود شيء. وفي ضوء حقيقة ضرورة وجود شيء ما، وضرورة وجود كون، طرح الفلاسفة وعلماء اللاهوت عبر التاريخ السؤال التالي: "لماذا يوجد شيء بدلًا من لا شيء؟" ربما كان هذا هو أقدم الأسئلة الفلسفيَّة على الإطلاق. وقد أدرك مَن حاولوا الإجابة عليه أنه لا توجد سوى ثلاث خيارات أساسيَّة لتفسير الواقع كما نراه اليوم في حياتنا.
الخيار الأول هو أن الكون ذاتي الوجود وأزلي. لكننا ذكرنا سابقًا أن الغالبيَّة العظمى من العلمانيِّين يؤمنون بأن الكون له بداية بالفعل، وأنه ليس أزليًّا. الخيار الثاني، إذن، هو أن العالم المادي ذاتي الوجود وأزلي. وقد طُرِحت هذه الحجة قديمًا، بل وفي أيامنا هذه أيضًا. يشترك هذان الخياران معًا في عنصر هام: فكلاهما يقول إن شيئًا ما ذاتي الوجود وأزلي.
الخيار الثالث هو أن الكون ذاتي الخلق. ويؤمن مَن يتبنُّون هذا الخيار بأن الكون وُجد بشكل فجائي ومثير بقوته الذاتيَّة. لكن، لا يستخدم أنصار هذا الرأي لغة ذاتيَّة الخلق (self-creation)، لأنهم يدركون جيدًا أن هذا المفهوم غير معقول منطقيًّا. فكي يخلق شيءٌ ذاته، لا بد أن يكون هو خالق نفسه، مما يعني أنه لا بد أن يكون موجودًا قبل أن يُوجد، وأيضًا أنه لا بد أن يكون ولا يكون في الآن ذاته، وداخل العلاقة نفسها. ينتهك هذا أهم قانون من قوانين المنطق، وهو قانون عدم التناقُض. ومن ثَمَّ، يبدو واضحًا أن مفهوم ذاتيَّة الخلق منافٍ للعقل، ومتناقض مع نفسه، وغير منطقي. وإن تبنِّي هذا الرأي هو بمثابة تبني لاهوت خاطئ، وكذلك أيضًا، تبنِّي فلسفة وعلمًا خاطئًا، لأن كلًا من الفلسفة والعلم يستندان على قوانين المنطق الصارمة.
من بين الجوانب الرئيسيَّة للفكر التنويري للقرن الثامن عشر هو الافتراض القائل إن "فرضيَّة الإله" قد أصبحت وسيلة غير ضروريَّة لتفسير وجود الكون الخارجي. فحتى ذلك الحين، كانت الكنيسة تحظى بالاحترام في المجال الفلسفي. وطوال العصور الوسطى، لم يتمكَّن الفلاسفة من إنكار الضرورة المنطقيَّة لوجود علَّة أولى أزليَّة. لكن، بحلول عصر التنوير، كان العلم قد تقدَّم لدرجة أنه أمكن إيجاد حل بديل لتفسير وجود الكون، دون اللجوء إلى علَّة أولى متسامية، وذاتيَّة الوجود، وأزليَّة؛ أو دون اللجوء إلى الله.
كانت النظريَّة التي طُرِحت هي "النشوء التلقائي" (spontaneous generation) — وهي الفكرة القائلة إن العالم قفز إلى حيز الوجود من تلقاء ذاته. لكن، لا تختلف هذه النظريَّة في شيء عن فكرة ذاتيَّة الخلق، المتناقضة مع نفسها. ولذلك، حين انحدرت نظرية النشوء التلقائي إلى مستوى اللا معقوليَّة في العالم العلمي، برزت أفكار أخرى بديلة. أقر مقال كتبه عالم فيزياء ربح جائزة نوبل بأنه في حين تُعَد نظرية النشوء التلقائي مستحيلة فلسفيًّا، لكن لا ينطبق هذا على نظرية النشوء التلقائي التدريجي. ثم وضع نظريَّة تقول إنه إن أتيح وقتٌ كافٍ، يمكن للعدم أو اللا شيء أن يولِّد بشكلٍ ما قوة كي يوجِد شيئًا.
وصار المصطلح الذي استُخدِم بدلًا من ذاتيَّة الخلق هو الخلق بالصدفة. وهنا، تظهر أمامنا مغالطة منطقيَّة أخرى، وهي مغالطة المراوغة أو التلاعُب بالألفاظ. تَحدُث هذه المغالطة حين تغيِّر الكلمات المفتاحيَّة في حُجَّة ما من معناها، أحيانًا في دهاء شديد. حدث هذا مع كلمة صدفة. يلائم مصطلح الصدفة الأبحاث والدراسات العلميَّة، لأنه يصف احتمالات حسابيَّة. فإن كانت لدينا خمسون ألف ذبابة في غرفة مغلقة، يمكن استخدام الاحتمالات الإحصائيَّة لإظهار احتمالات وجود عدد معيَّن من الذبابات في أيِّ متر مربع من مساحة تلك الغرفة في وقت معيَّن. ومن ثَمَّ، عند محاولة التنبؤ علميًّا بشيء ما، يصير تطبيق معادلات مُعقَّدة نابعة من محصلة الاحتمالات مهمة هامة ومشروعة.
ولكن، يختلف استخدام لفظ الصدفة لوصف احتماليَّة حسابيَّة تمام الاختلاف عن تغيير استخدامه ليصف شيئًا له قوة خلق فعليَّة. فكي تكون للصدفة أي تأثير على أي شيء في العالم، سيتحتم أن تكون شيئًا له قوة. لكن، ليست الصدفة شيئًا، بل مجرد فكرة تصف احتمالات حسابيَّة. وبما أنها ليست شيئًا له كينونة أو وجود، فهي إذن بلا قوة. ومن ثَمَّ، فحين نقول إن الكون قد وُجد بالصدفة — أي أن الصدفة مارست قوة ما حتى توجِد الكون — فهذا يُعيدنا إلى نظرية ذاتيَّة الخلق، لأن الصدفة هي لا شيء.
إن استطعنا استبعاد هذه النظرية تمامًا، وهذا ما يستلزمه المنطق بالفعل، يتبقَّى أمامنا إذن أحد الخيارين إمَّا الأول أو الثاني: فإما أن الكون ذاتي الوجود وأزلي، أو أن العالم المادي ذاتي الوجود وأزلي. كما ذكرنا قبلًا، يشترك كلا هذين الخيارين معًا في أنه ما دام شيءٌ موجودًا الآن، فلا بد إذن أن شيئًا ما، في مكان ما، ذاتي الوجود. لو لم يكن الأمر كذلك، لما أمكن أن يوجد شيء في الوقت الحالي. فمن بين القوانين العلمية المطلَقة هو قانون: ex nihilo nihil fit، ومعناه: "لا شيء يأتي من العدم". فإن كان كل ما لدينا هو العدم أو اللا شيء، فهذا كل ما سيظل لدينا طوال الوقت، لأن العدم لا يمكن أن يوجِد شيئًا. ولو جاء وقت لم يكن فيه أي شيء على الإطلاق، نستطيع أن نتيقَّن تمامًا من أن اليوم، في هذه اللحظة عينها، لن يوجد شيء البتَّة. لا بد أن يكون شيءٌ ما ذاتي الوجود، أي أن يمتلك في داخله قوة الوجود، حتى يوجِد أي شيء.
يثير كلا هذين الخيارين عدة مشكلات. فكما ذكرنا فيما سبق، يتَّفق الجميع تقريبًا على أنَّ الكون لم يكن موجودًا منذ الأزل؛ ومن ثَمَّ، يسقُط الخيار الأول. كذلك، بما أن كلَّ شيء تقريبًا في العالم المادي يُظهِر بالفحص احتمالات وطفرات، أحجَم الفلاسفة عن التأكيد على أنَّ هذا الجانب من الكون ذاتي الوجود وأزلي، لأن ما هو ذاتي الوجود وأزلي لا يخضع للطفرات أو للتغيير. ومن ثَمَّ، بوسعنا أن نطرح الحُجة أنه في مكان ما في أعماق الكون يكمُن أساس خفيٌّ ونابض بالحياة، أو مصدر قوة ذاتي الوجود وأزلي، يدين كل شيء آخر في الكون بأصله له. عند هذه المرحلة، يقول أتباع مذهب الماديَّة إنه لا حاجة إلى إله متسامٍ لتفسير وجود الكون المادي، لأن هذا الأساس الأزلي، والنابض بالحياة للوجود يمكن أن يوجد داخل الكون نفسه، وليس خارجه في الفضاء العظيم.
هنا، يُرتَكَب خطأ لغوي. فحين وصف الكتاب المقدس الله بأنه متسامٍ، لم يكن يصف بهذا موقعه. فهو لا يقصد أن الله يعيش "بالأعلى" أو "بالخارج" في مكانٍ ما. فحين نقول إن الله فوق الكون وأعلاه، نقصد بهذا أنه أعلى وأسمى من الكون من حيث جوهره أو كينونته. فهو متسامٍ وجوديًّا. فإن الشيء الذي يملك في ذاته قوة الوجود، والذي هو نفسه ذاتي الوجود، لا بد أن يكون مميَّزًا عن أي شيء اعتمادي ومستمَد من شيء آخر. وهكذا، إن كان شيء ذاتي الوجود هو أساس الكون، فهو إذن، بحُكم طبيعته، متسامٍ فوق كلِّ شيء آخر. ليس اهتمامنا هنا منصبًّا على المكان الذي يعيش فيه الله، بل على طبيعته، وكينونته الأزليَّة، واعتماد كل شيء آخر في الكون عليه.
يقول الرأي المسيحي الكلاسيكي عن الخلق إن الله خَلَق العالم ex nihilo، أي "مِن العَدَم"، الشيء الذي يبدو متناقضًا مع القانون المطلق الذي يقول ex nihilo nihil fit أو "لا شيء يأتي من العدم". عارض الكثيرون نظرية الخلق من العدم بناءً على هذا الأساس. ولكن، حين يقول علماء اللاهوت المسيحيُّون إن الله خلق العالم من العدم، فهذا لا يعني قولهم إنه في وقتٍ ما لم يكن هناك شيء، ثم من هذا اللا شيء، جاء شيءٌ ما. بل إن الرأي المسيحي يقول: "فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ". ليس الله عدمًا أو لا شيء. بل هو شيء. فإن الله ذاتي الوجود وأزلي في كينونته، وهو وحده القادر أن يخلق الأشياء من اللا شيء أو من العدم. يستطيع الله أن يوجِد العوالم بكلمته. هذه هي القوة الخالقة في معناها المطلق، والله وحده هو مَن يملكها. فهو وحده القادر على خلق المادة، ولس فقط على إعادة تشكيلها من مادة سابقة الوجود.
يستطيع أي فنان أن يمسك بكتلة مربَّعة من الرخام ويشكِّلها إلى تمثال رائع؛ أو أن يمسك بلوحة زيتيَّة عادية ويحوِّلها عن طريق تنسيق الألوان إلى صورة رائعة. لكن، ليس هكذا خلق الله الكون. فقد أوجد الله العالم بكلمة، وكان هذا الخلق كاملًا؛ بمعنى أن الله لم يكتفِ بإعادة تشكيل أشياء كانت موجودة بالفعل. يقدم لنا الكتاب المقدس أشد الأوصاف إيجازًا للطريقة التي فعل بها الله هذا. في هذا الوصف الموجَز، نجد "الأمر الإلهي" أو "المرسوم الإلهي" الذي به خلق الله بقوة وسلطان كلمته. فقد قال الله "ليكن"، فكان. هذا هو الأمر الإلهي. لا شيء يستطيع أن يقاوم أمر الله الذي أوجد العالم وكلَّ ما فيه.
تم نشر هذه المقالة في الأصل في موقع ليجونير.