الأنثروبولوجيا المسيحيّة والحياة الأخلاقيّة - خدمات ليجونير
الإنسان كمُحطّمٍ للعهد وحاملٍ للصورةِ المُستردّة
۱٤ سبتمبر ۲۰۲۳
رأسُنا المُهيمن على كلّ شيء
۲۱ سبتمبر ۲۰۲۳
الإنسان كمُحطّمٍ للعهد وحاملٍ للصورةِ المُستردّة
۱٤ سبتمبر ۲۰۲۳
رأسُنا المُهيمن على كلّ شيء
۲۱ سبتمبر ۲۰۲۳

الأنثروبولوجيا المسيحيّة والحياة الأخلاقيّة

    ملاحظة من المُحرِّر: هذا هو الفصل [السادس] في سلسلة مجلّة تيبولتوك [ عقيدة الإنسان ].

يقولُ الكتّاب المسيحيّون أحيانًا، إنّ العقيدةَ والأخلاقَ يتماشيان معًا. ولكن، في حين أنّه يوجد آثار أخلاقيّة لكلّ ناحية من نواحي اللاهوت، إلّا أنّ لعقيدةَ الإنسانِ (الأنثروبولوجيا) تداعيات قويّة بشكل خاصّ على الحياة الأخلاقيّة. لا يُمكن فصل من نحن عن كيف يجب أنْ نعيشَ. علاوة على ذلك، كيف يدعونا الله إلى التصرّف يتوافق مع الطبيعة البشريّة التي منحنا الله إيّاها.

ادّعاءات مثل هذه تتحدّى الطريقةَ التي يفكّر بها كثيرون من الناس في مسألة الأخلاق المسيحيّة. حتّى أنّ العديدَ من المسيحيّين يميلون إلى النظر إلى شريعة الله كما لو أنّها مجموعةً من القوانين التي فرضَها الله علينا، والتي تمنعنا من التمتّع بالكثير من المرح والمتعة. لكنّ شريعةَ الله ليست اعتباطيّة، بل تأمرنا بما تأمرنا به لأسباب وجيهة. إنّ شريعةَ الله لا تعكس طبيعتَه المقدّسة والصالحة فحسب، بل تعكسُ أيضًا طبيعتَنا الشخصيّة. تتوافق إرادته الأخلاقيّة مع الطريقة التي خُلقنا بها، والأهداف التي خُلقنا من أجل تحقيقها. هذا يعني أنَّ شريعةَ الله ليست سُترة مُقيّدة تمنعنا من الاستفادة من الأشياء الممتعة. إنّ شريعة الله صالحة بصدق لنا.

بالطبع، في عالم ساقط بالخطيّة، غالبًا ما نعاني بسبب أمانتنا للربّ. لكنّ العيشَ بحسبِ شريعةِ الله يتناسب مع تصميمه في خلقنا، وبالتالي يجلب الرضا الحقيقيّ حتّى وسط تجارب الحياة ومُصابَها. لا يُمكن للعيشِ خلافًا لشريعةِ الله إلّا أنْ يتركَ البشرَ في حالةٍ من التعاسة وعدم الرضا العميقَيْن، لأنّ مثل هذه الحياة تتعارض مع مقاصد الله التي خلقنا لنحيا على أساسِها. لا يمكن للعصفور أنْ يشعرَ بالرضا إنْ حاول أنْ يعيشَ كالحصان، ولا يمكن للحصان أنْ يشعر بالرضا إنْ حاولَ أنْ يعيشَ مثل السَمَكة. وهذا هو حال البشر الذين يحاولون أنْ يعيشوا خلافًا للشريعة الإلهيّة التي تتناسب تمامًا مع طبيعتهم ومصيرهم.

لنتأمّل في هذه الأمور بشكل حسّيّ من خلال التأمّل في أربع مجالات مُهمّة ومثيرة للجدل في الأخلاق البشريّة: العمل، والعلاقات الجنسيّة وجِنس الإنسان، والعِرق، وقيمة الحياة البشريّة.

العمل

سواء كنّا نعمل داخلَ المنزلِ أو خارجه، وسواء كانت مِهنتنا تدرّ علينا دخلًا أم لا، غالبًا ما يستهلك العملُ قدرًا كبيرًا من وقتِنا. قد نفكّر في العمل لضرورته فحسب، فهنالك الكثير من الفواتير التي يجب علينا دفعها، وأفواه يجب إطعامها، وحفاضات يجب تغييرها. أو قد نفكّر في الأمر من حيث واجبنا الأخلاقيّ بأنْ نكونَ مجتهدين وأنْ نتجنّب الخمول، كما يذكّرنا الكتاب المقدّس كثيرًا (مثلًا، أمثال 6: 6-11؛ 1 تسالونيكي 4: 11-12؛ 2 تسالونيكي 3: 6-12). إنّ الضرورةَ والواجبَ الأخلاقيّ هما في الواقع دوافع مشروعة للعمل، ولكن هناك أمر أساسي أكثر. منذ البدء، خلقَ اللهُ البشرَ ليكونوا مخلوقات عاملة. العمل الجادّ يتوافق مع الطبيعة التي أعطانا الله إيّاها.

أحد الأمور المُذهلة في الإصحاح الأوّل من سفر التكوين، هو وصفُه اللهَ كعامل. فهو يدعو كلّ الأشياء إلى الوجود، ثمّ يضعها بالترتيب الصحيح، ويسمّيها، ويعطيها مهمّات لتقوم بها. إنّه ليس متعسّفًا كسولًا ومُتـرفًا، بل هو عامل منشغل ومُثمر. لذلك لا نتفاجأ أنّه عندما خلق الإنسان على صورته ومثاله، أعطاهما على الفور عملًا يقومان به: ممارسة السيادة على المخلوقات الأخرى، وأنْ يثمرا ويكثرا، ويملآ الأرضَ ويُخضعانها (تكوين 1 :26، 28). أنْ تكونَ إنسانًا يعني أنْ تحمِلَ صورةَ الله، وأنْ تحمل صورةَ الله يعني دعوةً إلى العمل المُثمر. إنّ شريعة الله تأمرُنا أنْ نعملَ لأنّه أمر إنسانيّ حقيقيّ.

هذا يشرحُ سببَ شعور الأشخاص الذين يتوقّفون عن العمل لسبب أو لآخر بالخسارة العميقة والارتباك. غالبًا ما يعاني الذين يُصابون بإعاقات ويتركون العمل بالاكتئاب. كثيرون من الذين ينتظرون التقاعدَ بفارغ الصبر، يشعرون بفُقدان معنى حياتهم بعد وقتٍ قصير من تركِ وظائفهم. يمكنْ أنْ يصيبَ الشعورُ بعدم وجودِ هدفٍ في الحياة ربّات المنازل المُخْلِصات بعد أنْ يكبرَ أطفالهنّ ويغادرون المنزل. يمكن أنْ تبدو الحياةَ بلا عمل جذّابة للغاية من بعيد، وسط الانشغال والتوتّر، ولكن يتبيّن بعد ذلك أنّ الواقعَ فارغ.

كان على العالم أنْ يواجهَ هذه الحقائق بطرقٍ مُثيرة للقلق خلال السنوات القليلة الماضية، حيث أدّى فيروس كورونا (كوفيد-19) والقيود الحكوميّة إلى تعطيل الحياة الاقتصاديّة. اختفت العديدُ من الوظائف، وأصبحت وظائفَ أخرى خطرةً ومُرهقةً على نحو غير اعتياديّ. أثبتت المساعدات الحكوميّة وخدمات البثّ عبر الإنترنت أنّها بدائل سيّئة للمهن الإنتاجيّة. ليس من باب المصادفة أنّ مشاكل الصحّة العقليّة وتعاطي المخدّرات قد ارتفعت بشكل كبير. نسمع الآن، حتّى بعد رَفْعِ معظم القيود المتعلّقة بالوباء، أنّ مُعدّل المشاركة الإجماليّ في القوى العاملة لم يتعافى. وما يثيرُ القلقَ بشكل خاصّ، هو أنّه يبدو أنّ العديدَ من الرجال الذين هم في سنّ العمل قد تركوا العملَ بشكل نهائيّ.

هذه ليست مجرّد مسائل اقتصاديّة أو سياسات عامّة، إنّما هي أمور تخترق جوهرَ وجودِنا الإنسانيّ. لقد أمرنا اللهُ أنْ نعملَ لأنّه أعطانا طبيعةً تتوق إلى العمل. وعندما لا يريد الناس أنْ يعملوا، أو عندما لا يستطيعون ذلك، فلا بدّ أنْ تكونَ الأضرارُ الجانبيّة ضخمة.

العلاقات الجنسيّة وجنس الإنسان

عندما يتأمّل المسيحيّون في غُربتهم المتزايدة عن التيّار الثقافي السائد في المجتمعات الغربيّة، نادرًا ما تكون قضايا العلاقات الجنسيّة وجنس الإنسان بعيدةً عن أذهانهم. قد يتساءَل المسيحيّون أحيانًا عمّا إذا كان التمسّك بالآراء التقليديّة يستحقّ حقًا كلّ السخرية والتهميش الذَي يتعرّضون له. لكنّ العلاقات الجنسيّة ومسألة جِنس الإنسان أمران مُهمّان حقًا، وأحد الأسباب الرئيسيّة هو أنّ الطبيعة البشريّة أصبحت على المحكّ. إنّ الثورةَ الأخيرة في العلاقات الجنسيّة وتحديد جنس الإنسان هي تمرّد على شريعةِ الله، وإنكار كبير للواقع – واقع الطريقة التي خلقنا بها الله.

قال يسوع مرّة: "مِنَ ٱلْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَرًا وَأُنْثَى" (متى 19: 4). قال يسوع هذا عندما قدّم تعليمه الشامل عن الزواج في الأناجيل (19: 4-12؛ راجع مرقس 10: 1-12). قدّم أكثر من مجرّد نصّ من العهد القديم ليُثبت ديمومة الزواج وعدم أخلاقيّة الطلاق في أغلب الظروف. وأشارَ أيضًا إلى أنّ شريعةَ الله فيما يختصّ بالعلاقات الجنسيّة والزواج فهي متجذّرة في نظام الخلق. يتوقّع الله أنْ تكون الزيجات دائمة وأمينة، وأنْ يكونَ الهدفُ منها الإنجاب، وأنْ تكونَ بين ذكر وأنثى بحسب الطريقة التي خلقنا بها. أوّل أمر يُخبرنا به الكتاب المقدّس عن أنفسِنا، هو أنّ الله خلقَنا على صورته ومثاله (تكوين 1: 26). الأمر الثاني الذي يقوله، هو أنّنا نحن الذين نحمل صورة الله، ذكور وإناث (الآية 27). جميع البشر يحملون صورة الله، ولكن يوجد طريقتان (وطريقتان فقط) لنكون حاملي صورة الله: كرجل أو كامرأة. يشكّل هذا التميّز الأساسيّ حياتَنا بطرق مُختلفة، واضحة وغامضة، لكن قد يكون الإصحاح الثاني من سفر التكوين هو الذي يسلّط الضوء على الطريقة الأكثر أهميّة: لقد خلقَ الله المرأة بطريقة "مناسبة" تمامًا للرجل (2: 18) لكي يتّحدا في الزواج، وهي علاقة "جسد واحد" دائمة ومُثمرة جنسيًّا (الآيات 22-24). لا يُمكن أنْ تكونَ هذه العلاقة إلّا بين ذكرٍ واحد وأنثى واحدة.

ومن الأهميّة بمكان التشديد على مِثْلِ هذه الاعتبارات عند تدريب الأجيال القادمة. يواجه أطفالُنا وشبابُنا ضغوطًا كبيرة لرفض تعاليم الكنيسة حول العلاقات الجنسيّة، أو على الأقلّ للتقليل من أهمّيّتها. من المهمّ جدًّا أنْ يعرفوا أنّ الله لم يفرضْ علينا قواعدَ متشدّدة لقمع رغباتِنا وإبقائنا بائسين. بل تُظهر لنا شرائعه المتعلّقة بالحياة الجنسيّة كيف نتصرّف حقًّا بحسب إنسانيّتنا. تصفُ لنا شريعته الطريقةَ الوحيدةَ التي يمكننا من خلالها التعبيرَ عن رغباتِنا الجنسيّة من دون الشعور بالذنب والندم والاستياء الذي ينتج عن الطرق الأخرى في كثير من الأحيان. يُمكن للإفراط في تناول الطعام والإسراف في شرب الكحول ولنوبات الغضب أنْ تُشعرَكَ بالبهجة، لكنّها تجعل الإنسانَ في نهاية المطاف (وغالبًا الآخرين) يشعر بالتعاسة. لا يختلف الأمر فيما يتعلّق بالعلاقات الجنسيّة وتحديد جنس الإنسان. قد يُعطي اختيار أو تحديد الفرد لجنسه إحساسًا مؤقّتًا بالرضى والقوّة والحريّة. قد يوفّر إشباعَ الرغبات الجنسيّة خارج العلاقة الزوجيّة مُتعة مؤقّتة. لكن لا يُمكن لمثلِ هذه الأمور أنْ تُشعرَكَ بالرضى أبدًا، لأنّها تُحارب طبيعتَنا البشريّة التي لا يمكننا تغييرها فعليًّا.

العِرْق

من الواضح أنّ مسألةَ العِرْقِ هي من أكثر المسائل إثارة للجدل، إضافة إلى العلاقات الجنسيّة ومسألة جنس الإنسان في الحضارة المعاصرة. ومع ذلك، لا يجد المسيحيّون أنفسهم في هذه الحالة مُختلفين مع التيّار الثقافي السائد، على الأقلّ بشكل عامّ. عندما تعلن ثقافتُنا الأوسع مُعارضتَها للتمييز العرقيّ، ينضمّ المسيحيّون إلى هذه المعارضة بكلّ فرح وسرور، ويمكنهم أيضًا التعبير عن أسفِهم العميق لإخفاقات الكنيسة في هذا الصدد. ومع ذلك، فإنّ قضيّة التمييز العرقيّ قضيّة أخلاقيّة أخرى ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالطبيعة البشريّة. إنّ التفكيرُ في هذه المسألة من خلال عَدَسة المسيحي الأنثروبولوجيّة يَعِدُ بتقديم إلهام إضافيّ.

تقدّم الأنثروبولوجيا المسيحيّة من جهة اعتراضًا واضحًا وبديهيًّا إلى حدّ ما فيما يختصّ بالتمييز العرقي: لقد خلقَ اللهُ كلّ البشر على صورتِه ومثالِه. إنّ احتقارَ أيّ شخصٍ آخر بسبب لون بشرته، أو استعباد إنسان آخر بسبب أصوله العرقيّة، هو تجاهل لهذه الحقيقة العميقة لوجودنا، وإهانةٌ للذي يحملون صورته. ومهما تمّ تبرير العنصريّة بذكاء المنطق، لا يمكنها أبدًا أنْ تفلتَ من هذا الاعتراض المدمّر. يدين العديد من غير المسيحيّين التمييز العرقيّ على أساس الكرامة الإنسانيّة العالميّة، لكنّ عند المسيحيّين أسباب أكثر عمقًا للقيام بذلك.

ومع ذلك، تستدعي الأنثروبولوجيا المسيحيّة تحليلًا أعمق. لا يشير الكتاب المقدّس إلى أنّ جميع البشر يحملون صورة الله فحسب، بل يشير أيضًا إلى أنّ جميع البشر ينتمون إلى النسلِ البشريّ نفسِه. لقد خلقَ اللهُ كلّ البشر من "دم واحد" (كما تقول الترجمة الحرفيّة لأعمال الرسل 17: 26)، متّحدين في الولادة تحت رأس عهد واحد، هو آدم الأوّل، برجاء واحد فقط للخلاص تحت رأس عهد آخر، أي آدم الأخير. (رومية 5: 12-19؛ 1 كورنثوس 15: 21-22، 45-49). نحن نتشارك في طبيعة مُشتركة، وبالتالي، بحسب الكتاب المقدّس، لا يوجد سوى جنس بشريّ واحد لا غير. يعترف الكتاب المقدّس أّنّ مجموعات من البشر اتّحدت معًا كشعوب أو أمم (مثلًا، المصريّين والحثيّين والآشوريّين والبابليّين)، لكنّه لا يصف الناسَ أبدًا بأنّهم ينتمون إلى "أعراق" مُختلفة بالمعنى الحديث للكلمة. وبصراحة، لا يذكر الكتاب المقدّس شيئًا عن العرق "الأبيض"، أو العرق "الأسود"، أو ما شابه ذلك.

ومن الجدير ذكره أنّ علم الوراثة المعاصر توصّل إلى النتيجة نفسها تمامًا. يقوم العلماء بفحص ومقارنة التركيب الجينيّ للبشر حول العالم، وكذلك تحليل البقايا الجينيّة للعديد من الذين عاشوا قبلَنا بوقت طويل، لكنّهم يرفضون فكرةَ أنّ البشريّة مقسّمة إلى عدد صغير من الأجناس المتميّزة بيولوجيًّا. نحن عرقٌ واحد متشابك للغاية، بحيث لا يُمكن أنْ يكونَ هذا صحيحًا.

إنّ تقسيم البشر إلى أعراق مُختلفة، هو اختراع بشريّ يتحدّى حقيقة الطبيعة البشريّة، سواء نظرنا إليها من الناحية اللاهوتيّة أو العِلْميّة. إنّ تقسيمَ البشر بحسب أعراقِهم هو بمثابة اختراع جنسٍ آخر غير الذكور والإناث. إنّ أفضلَ السُبُل لتضميد الجراح وتصحيح الأخطاء التي تسبّبت بها قرون من التمييز العرقيّ، هي مسألة صعبة ومثيرة للجدل. نحن نُدرك أنّ المسيحيّين يتوصّلون أحيانًا إلى استنتاجات مُختلفة بشأن تفاصيل هذه المسألة. لكن الأنثروبولوجيا المسيحيّة تشير إلى أنّه يجب أن يكون هدفَنا النهائيّ إنتاجُ مُجتمع، وبشكل خاصّ مجتمع كنسيّ حيث لا نتحدّث أو نتعامل مع بعضنا البعض كما لو كنّا ننتمي إلى أعراق مختلفة.

قيمة الحياة البشريّة

إنّ كلّ المسائل التي بحثنا فيها حتّى الآن هي مسائل مُهمّة، ولكن الأهم منها كلّها، أو على الأقلّ أكثرها أهميّة، هو قيمة الحياة البشريّة. نحن نرتكب عددًا لا يحصى من الأخطاء تجاه بعضنا البعض كلّ يوم، وبدرجات متفاوتة من الخطورة. ولكن لا يوجد خطأ خطير ومدمّر ونهائيّ مثل قتلِ إنسانٍ آخر. ومن المناسب أنْ نختتم دراستنا الأنثروبولوجية للحياة الأخلاقيّة بالتأمّل في هذه المسألة.

بينما أكتبُ هذا المقال، يشعر العالم كلّه بالذعر من التقارير والصور القادمة من أوكرانيا. بالتأكيد، لم أضطرّ أنا ولا العديد من قرّاء هذا المقال أبدًا أن نعيش وسط حرب مُشتعلة. إنّها لبَرَكة عظيمة، لكن يُمكن لهذا الأمر أن يُعطي إحساسًا زائفًا بالواقع. عالمنا الساقط هو عالم يسوده العنف. إنّ الخطيّة عميقة جدًّا لدرجة أنّ الناسَ غالبًا ما يقتلون بعضهم البعض بطرق وحشيّة وفاحشة. إنّ القتل، وبشكل خاصّ أثناء الحرب، لا يقضي على حياة الأفراد فحسب، بل يدمّر أيضًا العائلات والمجتمعات والاقتصاد والبيئة.

كما هو الحال مع مواضيعنا السابقة، لقد سبق وأخبرنا الإصحاح الأوّل من سفر التكوين الكثير ممّا نحتاج إلى معرفته. خلق الله "الإنسان" على صورته "ذكرًا وأنثى" (تكوين 1: 26-27). لهذا السبب، يتمتّع جميع البشر بأعمق كرامة يمكنكم تخيّلها. إنّ الاعتداء على أيّ إنسان هو اعتداء على صورة الله نفسه. ويضيف تكوين 9: 6 شيئًا دقيقًا ومُهمًّا إلى هذه الفكرة. بعد الطوفان العظيم، الذي أحدثه الله بسبب انتشار العنف (انظر 6: 11)، قطع الله عهدًا مع نوح والعالم كلّه حتّى انتهاء التاريخ، لحفظ كلّ الأشياء والحُكم عليها (8: 21-9: 17). وكجزء من هذا العهد، أعلن الله: "سَافِكُ دَمِ ٱلْإِنْسَانِ بِٱلْإِنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ. لِأَنَّ ٱللهَ عَلَى صُورَتِهِ عَمِلَ ٱلْإِنْسَانَ" (9: 6). وبِحَسَبِ هذه الصيغة، فإنّ دم كلّ البشر متساوٍ بالقيمة بالقدر نفسه. وأيّ كان من يسفك دم إنسان آخر بطريقة غير شرعيّة عليه أنْ يدفعَ الثمنَ بدمه. لا فرقَ إنْ كان الجاني مَلِكًا والضحية خادمًا، أو العكس. إنّ دمَ الإنسان هو دمُ إنسان، وقتلَ أيّ شخص يتطلّب قصاصًا عادلًا. ويجب الدفاع عن حياة الأضعف والأكثر تهميشًا. هنا يظهر شرّ الإجهاض بشكل خاصّ. لا أحد أكثر ضعفًا من الذين لم يولدوا بعد، والعدالة المذكورة في تكوين 9: 6 تعنيهم أيضًا.

من الجدير أيضًا ملاحظة سياق تكوين 9: 6 في مسألة أخرى تتعلّق بهذا الأمر. في الآية 5، يقول الله إنّه سينتقم بنفسه لسفك الدماء البشريّة. لكنّ الآية 6 تنصّ على أنّ الله عيّن البشرَ ليكونوا أدواته في تحقيق العدالة. إنّ حقيقة أنّ الله سيعْهَد بهذه المَهمّة العظيمة إلى البشر (الساقطين) هي شهادة أخرى على كرامتنا الأصليّة. ولكنّه يذكّرنا أيضًا بأنّ تقديرَ قيمة الحياة البشريّة يعني ضمنًا ضرورة دعم الأنظمة القانونيّة، والحروب (دفاعًا عن النفس) العادلة، وغير ذلك من الأمور التي تحمي الناس من العنف وتعاقب المذنبين. يستلزم حِمْل صورة الله دعوةً لممارسة السيادة (1: 26)، ويتطلّب هذا الأمر في العالم الساقط تعزيز العدالة في مواجهة الشرّ.

نقطة أخيرة تتطلّب اهتمامنا، وهي الأهم على الإطلاق. كنّا نتأمّل في المقاصد المختلفة التي خلقنا الله من أجلها، ولكنّ أعظمها هو تحقيق البركة الأبديّة من خلال الشركة معه. لقد جعلَنا الله نحكم ليس فقط هذا العالم الحاضر، بل أيضًا العالم الآتي (عبرانيين ٢: ٥). على الرغم من فشلنا الذريع في تحقيق هذا الهدف، إلّا أنّ الله أرسلَ ابنه إلى حالتنا الساقطة ليتألّم من أجلنا، حتّى نتمكّن يومًا ما من الانضمام إليه في مجد الخليقة الجديدة (الآيات 5-10). إنّ الله لا يُحافظ على حياتِنا الحاضرة من خلال نعمته العامّة في عهد نوح فحسب، بل يهبنا أيضًا الحياة الأبديّة بواسطة دم العهد الجديد. وهذا يعني أنّه على الرغم من قيمة حياتنا الآن، إلّا أنّنا كمسيحيّين، لا نجرؤ على اعتبارها الشيء الأكثر أهمّيّة. نحن نُنكرُ ذواتَنا، ونحمل صليبَنا، ونتبعُ يسوع (متى 16: 24). نحن "أمناء حتّى الموت"، عالمين أنّ المسيح سيعطينا "إكليلَ الحياة" (رؤيا 2: 10). لا تكتمل أي أنثروبولوجيا مسيحيّة من دون رَفْعِ هذا المصير الأسمى. حقًا، "لنتمسّك بالحياة الأبديّة" (1 تيموثاوس 6: 19).

تم نشر هذه المقالة في الأصل في مجلة تيبولتوك.

ديفيد فاندرونين
ديفيد فاندرونين
الدكتور ديفيد فاندرونين هو أستاذ علم اللاهوت النظامي والأخلاق المسيحيَّة في كليَّة وستمنستر للاهوت بولاية كاليفورنيا. وقد ساهم في كتابة كتاب "بالإيمان وحده: الرد على تحديات عقيدة التبرير" (By Faith Alone: Answering the Challenges to the Doctrine of Justification).