المحاضرة 3: هَلْ نُولَدُ أَحْرَارًا؟
رَأَيْنَا فِيمَا سَبَقَ جَانِبًا وَاحِدًا مِنَ الْحَرْبِ الدَائِرَةِ عَلَى جَبْهَتَيْنِ، وَهُوَ الْجَانِبُ الْمُتَعَلِّقُ بِحُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ، وَعَلَاقَةِ حُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ بِالسِيَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ. قَطْعًا، هَذَا الْمَوْضُوعُ فِي حَدِّ ذَاتِهِ يَسْتَحِقُّ سِلْسِلَةً كَامِلَةً، لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ الْكَثِيرَ جِدًّا مِنَ الْمَسَائِلِ. لَكِنْ أَوَدُّ التَرْكِيزَ فِي هَذِهِ السِلْسِلَةِ عَلَى الْأَزْمَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجَبْهَةِ الْأُخْرَى مِنَ الْحَرْبِ، وَهِيَ عَقِيدَةُ الْخَطِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَعَلَاقَتُهَا بِحُرِّيَّةِ الْإِرَادَةِ.
أَثَارَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ جَدَلًا كَبِيرًا فِي الْكَنِيسَةِ الْأُولَى، بِسَبَبِ تَأْثِيرِ رَجُلٍ يُدْعَى بِيلَاجْيُوسْ، الَذِي بِسَبَبِهِ يُطْلَقُ عَلَى الْجَدَلِ اسْمُ الْجَدَلِ الْبِيلَاجِيِّ. دَارَ الْجَدَلُ بَيْنَ بِيلَاجْيُوسْ وَزَمِيلَيْهِ –كُولِيسْتُوسْ (Coelestus) وَجُولْيَانْ (Julian)- وَبَيْنَ عِمْلَاقِ الْكَنِيسَةِ فِي الْأَلْفِيَّةِ الْأُولَى، الْقِدِّيسِ أُوغُسْطِينُوسْ. انْدَلَعَ هَذَا الْجَدَلُ نَحْوَ أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الرَابِعِ، وَاسْتَمَرَّ حَتَى الْقَرْنِ الْخَامِسِ، وَحُسِمَ أَخِيرًا فِي مَجْمَعِ قَرْطَاجَ، عامَ 418، حَيْثُ أَدَانَتِ الْكَنِيسَةُ بِيلَاجْيُوسْ بِالْهَرْطَقَةِ. لَكِنْ كَمَا هُوَ الْحَالُ عَادَةً فِي تَارِيخِ الْهَرَاطِقَةِ، وَفِي قَرَارَاتِ الْكَنِيسَةِ وَمَرَاسِيمِهَا، مُجَرَّدُ حُكْمِ الْكَنِيسَةِ عَلَى رَأْيٍ لَاهُوتِيٍّ بِأَنَّهُ هَرْطَقَةٌ، وَرَفْضِهَا لَهُ، لَا يَعْنِي تَلَاشِيَهُ وَاخْتِفَاءَهُ بِبَسَاطَةٍ بِلَا رَجْعَةٍ. لَكِنْ أَتَجَرَّأُ عَلَى الْقَوْلِ إِنَّ الضَلَالَةَ الْبِيلَاجِيَّةَ وَاحِدَةٌ مِنْ أَصْعَبِ الضَلَالَاتِ الَتِي تُوَاجِهُ الْكَنِيسَةَ بِاسْتِمْرَارٍ، حَتَّى فِي يَوْمِنَا هَذَا.
لِنَرْجِعْ إِلَى الْوَرَاءِ لِلَحْظَةٍ، وَنَطْرَحْ هَذَا السُؤَالَ: "بِمَ كَانَ الْجَدَلُ الْبِيلَاجِيُّ يَتَعَلَّقُ؟" لِنَجِيبَ عَنْ هَذَا السُؤَالِ، عَلَيْنَا أَوَّلًا أَنْ نَفْهَمَ قَدْرًا عَنْ خَلْفِيَّةِ بِيلَاجْيُوسْ. بِحَسْبِ التَقْلِيدِ، وُلِدَ بِيلَاجْيُوسْ فِي أَيِرْلَنْدَا، وَهَذَا يَجْعَلُهُ وَاحِدًا مِنْ أَسْلَافِي. قَطْعًا، كَانَ بِيلَاجْيُوسْ بَرِيطَانِيًّا. فَقَدْ جَاءَ مِنَ الْجُزُرِ الْبَرِيطَانِيَّةِ. وَكَانَ رَاهِبًا جَادًّا وَمُتَشَدِّدًا، سَافَرَ إِلَى رُومَا، وَعَاشَ فِيهَا. وَهُنَاكَ أَزْعَجَتْهُ رُوحُ التَعَجْرُفِ الَتِي وَجَدَهَا بَيْنَ رِجَالِ الدِينِ وَالْمَسِيحِيِّينَ فِي الْمَدِينَةِ الْخَالِدَةِ. وَفِي الْوَاقِعِ، رَوَّعَهُ الْفِسْقُ، وَالْفُجُورُ، وَسُلُوكُ الَذِينَ ادَّعَوْا أَنَّهُمْ مَسِيحِيُّونَ. فَهُوَ كَانَ غَيُورًا تُجَاهَ الْبِرِّ. وَفِي هَذَا الصَدَدِ، كَانَ لَدَى بِيلَاجْيُوسْ قَاسِمٌ مُشْتَرَكٌ مَعَ الْفَرِّيسِيِّينَ الْأَوَائِلِ.
عِنْدَمَا نَسْتَخْدِمُ لَفْظَ "فَرِّيسِيٍّ"، نَسْتَخْدِمُهُ عَادَةً بِالْمَعْنَى السَلْبِيِّ. فَلِلْفَرِّيسِيِّينَ دَلَالَةٌ سَلْبِيَّةٌ، لِأَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ هُمُ الَذِينَ كَانُوا دَائِمًا مُعَادِينَ لِيَسُوعَ. لَكِنْ لَمْ يَكُنِ الْجِيلُ الْأَوَّلُ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ هَكَذَا. فَقَدْ كَانَ الْفَرِّيسِيُّونَ الْأَصْلِيُّونَ أَشْبَهَ بِالْبْيُورِيتَانِيِّينَ، أَيْ كَانُوا أُنَاسًا أَحَبُّوا عَهْدَ اللَّهِ، وَشَرِيعَةَ اللَّهِ، وَكَانُوا قَلِقِينَ لِلْغَايَةِ حِيَالَ الِانْحِلَالِ الْأَخْلَاقِيِّ الَذِي اجْتَاحَ مُجْتَمَعَ إِسْرَائِيلَ. لِهَذَا، كَرَّسَ وَأَفْرَزَ الْفَرِّيسِيُّونَ أَنْفُسَهُمْ لِطَلَبِ الْبِرِّ عَنْ طَرِيقِ إِطَاعَةِ شَرِيعَةِ اللَّهِ. إِذَنْ، كَانَتْ دَوَافِعُهُمْ الْأَصْلِيَّةُ هِيَ اسْتِرْدَادُ حَقِيقَةِ الْعَهْدِ وَالشَرِيعَةِ إِلَى إِسْرَائِيلَ. ثُمَّ قَطْعًا، أُصِيبُوا بِالْبِرِّ الذَاتِيِّ، وَتَحَوَّلُوا إِلَى أَعْدَاءٍ لِلْمَسِيحِ، كَمَا نَرَاهُمْ عَبْرَ صَفَحَاتِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ.
وَإِذَا نَظَرْنَا إِلَى بِيلَاجْيُوسْ، نَرَى كَيْفَ كَانَ غَيُورًا تُجَاهَ التَقْوَى وَالْبِرِّ، وَقَلِقًا وَمُنْزَعِجًا لِلْغَايَةِ حِيَالَ الِانْحِلَالِ الْأَخْلَاقِيِّ لِلْكَنِيسَةِ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الرَابِعِ. وَمَا دَفَعَهُ إِلَى إِثَارَةِ الْجَدَلِ اللَاهُوتِيِّ الَذِي يَحْمِلُ اسْمَهُ، هُوَ رَدُّ فِعْلٍ مِنْهُ تُجَاهَ صَلَاةٍ شَهِيرَةٍ كَتَبَهَا أُسْقُفُ هِيبُو، الْقِدِّيسُ أُوغَسْطِينُوسْ. قَالَ أُوغَسْطِينُوسْ فِي صَلَاتِهِ "يَا رَبُّ، أَعْطِ مَا تَأْمُرُ بِهِ، وَلْتَأْمُرْ بِمَا تُرِيدُ". دَعُونِي أُكَرِّرُهَا: "يَا رَبُّ، أَعْطِ مَا تَأْمُرُ بِهِ، وَلْتَأْمُرْ بِمَا تُرِيدُ". مَا رَدُّ فِعْلِكَ تُجَاهَ صَلَاةٍ كَهَذِهِ؟ قَدْ يَتَجَاوَبُ مُعْظَمُنَا بِشَكْلٍ جَيِّدٍ وَإِيجَابِيٍّ مَعَ صَلَاةٍ كَهَذِهِ، عَلَى عَكْسِ بِيلَاجْيُوسْ. فَقَدْ صُدِمَ لَدَى قِرَاءَتِهِ لِهَذِهِ الصَلَاةِ. كَانَ مُتَّفِقًا تَمَامًا مَعَ الْجُزْءِ الثَانِي مِنَ الصَلَاةِ، حَيْثُ قَالَ أُوغُسْطِينُوسُ لِلَّهِ: "وَلْتَأْمُرْ بِمَا تُرِيدُ". قَطْعًا، لَمْ يَفْتَرِضْ أُوغُسْطِينُوسُ أَنَّهُ يُعْطِي اللَّهَ تَصْرِيحًا بِأَنْ يُوصِيَ بِمَا يَشَاءُ، لَكِنَّهُ بِبَسَاطَةٍ عَبَّرَ عَنِ اسْتِعْدَادِهِ لِلْخُضُوعِ لِشَرِيعَةِ اللَّهِ، مَهْمَا أَرَادَهَا اللَّهُ أَنْ تَكُونَ. كَانَ هَذَا مَا يَعْنِيهِ الْجُزْءُ الثَانِي مِنَ الصَلَاةِ، الَذِي لَمْ يَكُنْ لَدَى بِيلَاجْيُوسْ أَدْنَى اعْتِرَاضٍ عَلَيْهِ.
لَكِنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنَ الصَلَاةِ هُوَ مَا أَزْعَجَهُ كَثِيرًا، إِذْ سَمِعَ أُوغُسْطِينُوسْ يَقُولُ: "يَا رَبُّ، أَعْطِ مَا تَأْمُرُ بِهِ". فَقَالَ: "حَسَنًا، لِمَ قَدْ تُصَلِّي صَلَاةً كَهَذِهِ؟ فَإِنْ أَوْصَاكَ اللَّهُ بِشَيْءٍ، فَمِنَ الْمُؤَكَّدِ أَنَّهُ لَيْسَ مُضْطَرًّا أَنْ يَمْنَحَكَ الْقُوَّةَ لِتَنْفِيذِهِ". وَبِالطَبْعِ، كَانَ أُوغُسْطِينُوسُ يَقُولُ: "يَا رَبُّ، هَبْنِي عَطِيَّةً. أَعِنِّي". كَانَ أُوغُسْطِينُوسْ يَتَحَدَّثُ هُنَا عَنِ النِعْمَةِ. وَعِنْدَمَا قَالَ: "يَا رَبُّ، أَعْطِ مَا تَأْمُرُ بِهِ"، كَانَ يَقْصِدُ: "يَا رَبُّ، أَعْطِنِي النِعْمَةَ لَأَتَمَكَّنَّ مِنْ تَنْفِيذِ مَا تَأْمُرُ بِهِ". لِأَنَّ أُوغَسْطِينُوسْ كَانَ يُؤْمِنُ –كَمَا سَنَرَى مِنْ خِلَالِ دِرَاسَتِنَا لَهُ– بِأَنَّ الْإِنْسَانَ عَاجِزٌ عَنْ إِطَاعَةِ وَصَايَا اللَّهِ، مَا لَمْ يَمْنَحْهُ اللَّهُ النِعْمَةَ اللَازِمَةَ لِإِطَاعَتِهَا.
هَذَا مَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِيلَاجْيُوسْ. وَقَالَ: "كَلَّا، بَلْ يَفْرِضُ اللَّهُ عَلَى الْمَخْلُوقِ وَاجِبَ وَمَسْؤُولِيَّةَ إِطَاعَةِ كُلِّ مَا يُوصِي بِهِ". وَأَوَّلُ بَنْدٍ فِي عِلْمِ اللَاهُوتِ يَتَعَلَّقُ بِعَقِيدَةِ اللَّهِ، بِحَسْبِ بِيلَاجْيُوسْ. وَقَالَ بِيلَاجْيُوسْ: "مَا نَفْهَمُهُ بِوُضُوحٍ شَدِيدٍ عَنِ اللَّهِ هُوَ أَنَّهُ عَادِلٌ. وَلِأَنَّهُ عَادِلٌ، لَا يُمْكِنُهُ الْبَتَّةَ أَنْ يُوصِيَ مَخْلُوقَاتِهِ بِفِعْلِ مَا يَعْجَزُونَ عَنْ فِعْلِهِ". فَأَنْ يُوصِيَنَا اللَّهُ بِفِعْلِ مَا نَعْجَزُ عَنْ فِعْلِهِ هُوَ وَكَأَنَّهُ يَفْرِضُ عَلَيْنَا وَصِيَّةً غَيْرَ عَادِلَةٍ. وَالْأَسْوَأُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مُعَاقَبَتَهُ لَنَا، حِينَ نَخْفِقُ فِي فِعْلِ مَا نَعْجَزُ عَنْ فِعْلِهِ مِنَ الْأَسَاسِ، سَتَكُونُ تَصَرُّفًا شِرِّيرًا. فَكَأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَنَا: "طِيرُوا، بِدُونِ مُسَاعَدَةٍ، وَبِلَا أَيَّةِ مُعَدَّاتٍ أَوْ أَدَوَاتٍ، مِنْ أُورْلَانْدُو إِلَى شِيكَاغُو". ثُمَّ يُحَاسِبُنَا عَلَى ذَلِكَ، بَيْنَمَا لَمْ يُعْطِنَا أَجْنِحَةً أَوْ رِيشًا أَوْ أَيَّةَ عِدَّةٍ أُخْرَى نُحَلِّقُ بِهَا فِي الْهَوَاءِ. إِذَنْ، كَانَتْ فِكْرَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ تَلْزَمُهُ نِعْمَةٌ أَوْ نَوْعٌ مِنَ الْمَعُونَةِ الْإِلَهِيَّةِ لِيُؤَدِّيَ وَاجِبَهُ مُنَفِّرَةً تَمَامًا لِبِيلَاجْيُوسْ، لِأَنَّهُ قَالَ مُجَدَّدًا: "هَذَا يُفْسِدُ بِرَّ اللَّهِ".
قَطْعًا، رَدَّ أُوغُسْطِينُوسْ عَلَى ذَلِكَ قَائِلًا: "مَهْلًا، لَا يُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُطِيعَ شَرِيعَةَ اللَّهِ دُونَ مَعُونَةِ النِعْمَةِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ سَاقِطٌ. وَنَتَائِجُ السُقُوطِ تَشْمَلُ، إِلَى حَدٍّ مَا، فُقْدَانًا لِلْقُدْرَةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ". وَشَرِيعَةُ اللَّهِ لَا تَتَغَيَّرُ. فَعِنْدَ الْخَلْقِ، قَالَ اللَّهُ: "كُونُوا قِدِّيسِينَ كَمَا أَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ. وَكُونُوا كَامِلِينَ كَمَا أَنِّي أَنَا كَامِلٌ". وَيُدْرِكُ مُعْظَمُنَا الْيَوْمَ أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى أَنْ نَكُونَ قَدِّيسِينَ بِالْكَامِلِ، وَعَلَى أَنْ نَعْكِسَ بِرَّ اللَّهِ بِالْكَامِلِ، هِيَ قُدْرَةٌ لَا نَتَمَتَّعُ بِهَا. كَانَ آدَمُ يَتَمَتَّعُ بِهَا عِنْدَ الْخَلْقِ، لَكِنَّ آدَمَ سَقَطَ. وَبِسُقُوطِ آدَمَ، سَقَطَ الْجِنْسُ الْبَشَرِيُّ بِأَكْمَلِهِ مَعَهُ. وَالسُقُوطُ كَانَ إِلَى حَالَةٍ مِنَ الْفَسَادِ، بِمُوجِبِهَا نُولَدُ بِطَبِيعَةٍ خَاطِئَةٍ، بِحَيْثُ لَا نَعُودُ قَادِرِينَ أَخْلَاقِيًّا عَلَى إِطَاعَةِ شَرِيعَةِ اللَّهِ بِشَكْلٍ كَامِلٍ. وَلِهَذَا نَحْتَاجُ إِلَى النِعْمَةِ. إِذَنْ، سَلَّمَ أُوغُسْطِينُوسْ هُنَا بِحَقِيقَةِ السُقُوطِ. وَفِي ضَوْءِ السُقُوطِ، قَالَ أُوغُسْطِينُوسْ إِنَّنَا بِحَاجَةٍ إِلَى النِعْمَةِ لِنُطِيعَ اللَّهَ.
تَحَوَّلَ هَذَا النِزَاعُ إِلَى جَدَلٍ حَوْلَ السُقُوطِ وَنَتَائِجِهِ. بِالطَبْعِ، لَمْ يُنْكِرْ بِيلَاجْيُوسْ أَنَّ آدَمَ أَخْطَأَ. لَكِنَّهُ قَالَ إِنَّ آدَمَ خُلِقَ صَالِحًا. وَعِنْدَ خَلْقِهِ، جُعِلَ صَالِحًا بِلَا أَيِّ تَغْيِيرٍ فِي تَكْوِينِهِ. يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّهُ، بِحَسْبِ بِيلَاجْيُوسْ، خُلِقَ الْإِنْسَانُ صَالِحًا، لَكِنْ كَانَتْ لَدَيْهِ الْحُرِّيَّةُ أَوِ الْقُدْرَةُ أَنْ يُطِيعَ أَوْ يَعْصَى، وَأَنْ يَفْعَلَ الْخَيْرَ أَوْ يَفْعَلَ الشَرَّ. لَكِنْ حَتَّى حِينَ اخْتَارَ أَنْ يَفْعَلَ الشَرَّ –وَكَانَتْ هَذِهِ خَطِيَّةً حَقِيقِيَّةً– لَمْ يُغَيِّرْ هَذَا الْخَيَارُ مِنْ طَبِيعَتِهِ. وَلِهَذَا، يُولَدُ كُلُّ إِنْسَانٍ فِي هَذَا الْعَالَمِ بِالْحَالَةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ نَفْسِهَا الَتِي خُلِقَ آدَمُ عَلَيْهَا قَبْلَ السُقُوطِ. إِذَنْ، لَمْ يُنْكِرْ بِيلَاجْيُوسْ أَنَّ آدَمَ أَخْطَأَ، لَكِنَّهُ أَنْكَرَ أَنَّ آدَمَ بِسُقُوطِهِ أَغْرَقَ نَفْسَهُ وَذُرِّيَّتَهُ فِي حَالَةٍ مِنَ الْفَسَادِ الْأَخْلَاقِيِّ، أَدَّتْ إِلَى تَغْيِيرٍ فِي طَبِيعَتِهِمْ. قِيلَ قَدِيمًا إِنَّنَا لَسْنَا خُطَاةً لِأَنَّنَا نُخْطِئُ، بَلْ إِنَّنَا نُخْطِئُ لِأَنَّنَا خُطَاةٌ - أَيْ إِنَّنَا نُولَدُ بِطَبِيعَةٍ خَاطِئَةٍ. هَذِهِ هِيَ الْفِكْرَةُ الَتِي كَانَتْ مَثَارَ جَدَلٍ كَبِيرٍ مَعَ بِيلَاجْيُوسْ. إِذَنْ، بِحَسْبِ بِيلَاجْيُوسْ، لَدَى الْإِنْسَانِ دَائِمًا الْقُدْرَةُ سَوَاءٌ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ أَوِ الشَرِّ. فَهُوَ لَمْ يَفْقِدِ الْقُدْرَةَ الْأَخْلَاقِيَّةَ عَلَى إِطَاعَةِ اللَّهِ. تُؤَثِّرُ الْخَطِيَّةُ فِيهِ، لَكِنْ لَيْسَ فِي طَبِيعَتِهِ.
تَذْكُرُونَ أَنِّي فِي الْمُحَاضَرَةِ السَابِقَةِ تَحَدَّثْتُ عَنِ اسْتِطْلَاعِ الرَأْيِ، حَيْثُ طُلِبَ مِمَّنْ يُسَمَّوْنَ إِنْجِيلِيِّينَ الْإِجَابَةَ عَنْ سُؤَالِ: "هَلْ تُؤْمِنُ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ صَالِحٌ بِطَبِيعَتِهِ - أَيْ صَالَحٌ فِي جَوْهَرِهِ؟" وَكَانَ رَدُّ الْغَالِبِيَّةِ الْعُظْمَى مِمَّنْ يُسَمَّوْنَ إِنْجِيلِيِّينَ بِالْإِيجَابِ. وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الْبِيلَاجِيُّ. فَالْجَوَابُ هُوَ أَنَّهُ قَدْ تَكُونُ لَدَيْنَا خَطَايَا فِي الْعَنَاصِرِ الْخَارِجِيَّةِ مِنْ حَيَاتِنَا، تُؤَثِّرُ فِينَا مِنَ الْخَارِجِ، لَكِنْ فِي صَمِيمِ قُلُوبِنَا، وَأَعْمَاقِ نُفُوسِنَا، وَإِنْ أَزَلْنَا السَطْحَ الْخَارِجِيَّ، نَجِدُ صَلَاحًا ثَابِتًا لَا يَتَغَيَّرُ لِقَلْبِ الْإِنْسَانِ. وَقَطْعًا، كَانَ هَذَا رَأْيَ بِيلَاجْيُوسْ.
مُجَدَّدًا، بِحَسْبِ بِيلَاجْيُوسْ، مَعَ أَنَّ آدَمَ سَقَطَ، لَمْ يُؤَثِّرِ السُقُوطُ إِلَّا فِي آدَمَ وَحْدَهُ. وَلَمْ يَنْتَقِلْ شَيْءٌ إِلَى نَسْلِهِ. فَلَمْ يَحْدُثِ انْتِقَالٌ أَوِ احْتِسَابٌ لِلذَنْبِ، أَوْ فَسَادٌ لِلطَبِيعَةِ، نَتِيجَةَ خَطِيَّةِ آدَمَ. أَيْ لَمْ يَحْدُثْ سُقُوطٌ. فَقَدْ أَخْفَقَ آدَمُ، لَكِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْأَمْرِ عَوَاقِبُ عَلَى آدَمَ أَوْ عَلَى أَيِّ شَخْصٍ آخَرَ، تَتَعَلَّقُ بِقُوَّةِ إِرَادَتِنَا وَطَبِيعَتِنَا.
ثُمَّ اسْتَطْرَدَ بِيلَاجْيُوسْ قَائِلًا إِنَّهُ لَيْسَ ضِدَّ النِعْمَةِ. فَقَدْ كَانَ يُدْرِكُ أَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ يَقُولُ الْكَثِيرَ عَنِ النِعْمَةِ، وَأَنَّ النِعْمَةَ خَيْرٌ لَا شَرٌّ. وَمَا مِنْ خَطْبٍ فِي الصَلَاةِ طَلَبًا لِلنِعْمَةِ. لَكِنْ بِحَسَبِ بِيلَاجْيُوسْ، النِعْمَةُ تَسَهِّلُ -وَهِيَ الْكَلِمَةُ الَتِي اسْتَخْدَمَهَا- الطَاعَةً أَوِ الْبِرَّ. يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّهُ بِمُسَاعَدَةِ النِعْمَةِ، يَصِيرُ مِنَ الْأَسْهَلِ أَنْ نَعِيشَ حَيَاةَ الْكَمَالِ الْأَخْلَاقِيِّ، وَأَنْ نُطِيعَ شَرِيعَةَ اللَّهِ تَمَامًا. لَكِنَّهَا لَيْسَتْ ضَرُورِيَّةً. فَهِيَ تُسَاعِدُ، وَتُسَهِّلُ الْأُمُورَ، لَكِنَّهَا لَيْسَتْ لَازِمَةً. مُجَدَّدًا، لِمَ قَالَ ذَلِكَ؟ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتِ النِعْمَةُ ضَرُورِيَّةً لِيَكُونَ الْإِنْسَانُ بَارًّا، فَغَيْرُ الْبَارِّ، دُونَ مُسَاعَدَةِ النِعْمَةِ، لَمْ يَعُدْ مَسْؤُولًا، أَوْ مُذْنِبًا أَخْلَاقِيًّا، لِارْتِكَابِهِ الْخَطِيَّةَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ بِوُسْعِهِ فِعْلُ شَيْءٍ سِوَى الْخَطِيَّةِ.
يُجَسِّدُ بِيلَاجْيُوسْ هُنَا سُؤَالَ الْجَبْلَةِ لِجَابِلِهَا: "لِمَاذَا صَنَعْتَنِي هَكَذَا؟" وَهُوَ يَعْتَرِضُ عَلَى أَيِّ مَفْهُومٍ لِلسُقُوطِ يَجْعَلُ النِعْمَةَ ضَرُورِيَّةً لِنَكُونَ أَبْرَارًا. لَكِنَّهُ لَمْ يَكْتَفِ بِالْقَوْلِ بِأَنَّ النِعْمَةَ تُسَهِّلُ الْبِرَّ لَكِنَّهَا غَيْرُ ضَرُورِيَّةٍ لِلْبِرِّ، بَلْ تَابَعَ قَائِلًا إِنَّ الْبَعْضَ، بَلْ وَالْكَثِيرِينَ، لَيْسَ فَقَطْ بِإِمْكَانِهِمْ بُلُوغُ الْكَمَالِ، بَلْ إِنَّ كَثِيرِينَ بَلَغُوهُ بِالْفِعْلِ، دُونَ مُسَاعَدَةِ النِعْمَةِ. فِي الْمُقَابِلِ، صَرَّحَ أُوغُسْطِينُوسْ بِرَأْيِهِ الْقَائِلِ إِنَّ الْجِنْسَ الْبَشَرِيَّ كُتْلَةٌ مِنَ الْخَرَابِ. وَلَمْ يَكْتَفِ بِقَوْلِ إِنَّ لَا أَحَدَ عَاشَ حَيَاةَ الْكَمَالِ، لَكِنَّهُ أَضَافَ إِنَّ لَا أَحَدَ صَنَعَ عَمَلًا صَالِحًا بِالْكَامِلِ، وَإِنَّ أَفْضَلَ أَعْمَالِنَا هِيَ عَلَى أَقْصَى تَقْدِيرٍ مَا دَعَاهُ أُوغُسْطِينُوسْ "رَذَائِلَ مُذْهِلَةً". تَذْكُرُونَ بِالتَأْكِيدِ تَعْلِيمَ الرَسُولِ بُولُسَ فِي رُومِيَةَ الأَصْحَاحِ 3: "لَيْسَ بَارٌّ وَلَا وَاحِدٌ... لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلَاحًا لَيْسَ وَلَا وَاحِدٌ". فِي الْمُقَابِلِ، قَالَ بِيلَاجْيُوسْ: "كَثِيرُونَ أَبْرَارٌ، أَجَلْ كَثِيرُونَ. كَثِيرُونَ يَعْمَلُونَ صَلَاحًا، أَجَلْ كَثِيرُونَ"، فِي تَعَارُضٍ مُبَاشِرٍ مَعَ التَعْلِيمِ الْوَاضِحِ لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ.
فِي هَذَا الْهُجُومِ الْبِيلَاجِيِّ، مَا عَلَى الْمِحَكِّ لَيْسَ فَقَطْ فِكْرَةَ ضَرُورَةِ النِعْمَةِ، بَلْ مَفْهُومُ خَلَاصِنَا بِرُمَّتِهِ، وَالْفَهْمُ الْكَامِلُ لِمَا يَحْدُثُ فِي دْرَامَا الْخَلَاصِ. فَإِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ تَصِيرُ بِهَذَا مُجَرَّدَ مُلْحَقٍ خِتَامِيٍّ غَيْرِ أَسَاسِيٍّ، أَيَّ شَيْءٍ لَيْسَتْ لَهُ ضَرُورَةٌ مُطْلَقَةٌ لِخَلَاصِنَا. مَهَّدَ هَذَا السَبِيلَ لِظُهُورِ النَامُوسِيَّةِ الْجَدِيدَةِ، أَوِ النَامُوسِيَّةِ الْبَحْتَةِ، وَبِمُوجِبِهَا يُمْكِنُ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَكُونَ بَارًّا مِنْ ذَاتِهِ. وَهَذَا مَا نُسَمِّيهِ بِالْبِرِّ الذَاتِيِّ، أَيِ الْبِرِّ الَذِي يَتَحَقَّقُ بِإِمْكَانِيَّاتِنَا الطَبِيعِيَّةِ، دُونَ مُسَاعَدَةِ النِعْمَةِ.
يُفْسِدُ ذَلِكَ مَا عَمِلَهُ الْمَسِيحُ لِأَجْلِ شَعْبِهِ، أَيِ الْعَمَلَ الْفَائِقَ لِنِعْمَةِ اللَّهِ، إِذْ أَعْطَانَا فَادِيًا عَاشَ حَيَاةَ الْبِرِّ الْكَامِلِ عِوَضًا عَنَّا، وَعَلَى أَسَاسِ بِرِّهِ يَتَبَرَّرُ الَذِينَ يُؤْمِنُونَ فِي نَظَرِ اللَّهِ. فَبِحَسْبِ بِيلَاجْيُوسْ، لَسْنَا نَتَبَرَّرُ عَلَى أَسَاسِ احْتِسَابِ بِرِّ الْمَسِيحِ، بَلْ نَتَبَرَّرُ عَلَى أَيِّ أَسَاسٍ؟ عَلَى أَسَاسِ بِرِّنَا، الَذِي نُحَقِّقُهُ بِمُمَارَسَتِنَا لِحُرِّيَّةِ إِرَادَتِنَا.
وَعِنْدَمَا ابْتَدَأَ الْجَدَلُ يَحْتَدِمُ، تَمَادَى بِيلَاجْيُوسْ إِلَى حَدِّ التَعْلِيمِ بِأَنَّ الْوَسِيلَةَ الْأَسَاسِيَّةَ الَتِي اتَّبَعَهَا الْمَسِيحُ لِفِدَائِنَا هِيَ أَنَّهُ قَدَّمَ لَنَا نَمُوذَجًا رَائِعًا لِلْكَمَالِ الْأَخْلَاقِيِّ. رَأَيْنَا هَذَا كَثِيرًا جِدًا فِي تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ، حَيْثُ اسْتُبْعِدَتِ الْكَفَّارَةُ، وَحَلَّتْ مَحَلَّهَا نَظَرِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِالتَأْثِيرِ، مَفَادُهَا أَنَّ يَسُوعَ يُخَلِّصُنَا بِتَقْدِيمِ نَمُوذَجٍ جَيِّدٍ، وَبِإِحْدَاثِ تَأْثِيرٍ أَخْلَاقِيٍّ، وَبِتَوْجِيهِنَا إِلَى السَبِيلِ الصَحِيحِ لِبُلُوغِ الْبِرِّ.
رَأَى أُوغُسْطِينُوسْ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فَقَطْ هُجُومًا عَلَى فِكْرَةٍ ثَانَوِيَّةٍ أَوْ تَافِهَةٍ فِي اللَاهُوتِ الْمَسِيحِيِّ، لَكِنَّ الْأَمْرَ يَمَسُّ لُبَّ مَفْهُومِنَا الْكَامِلِ لِلْخَلَاصِ وَالْفِدَاءِ، لِأَنَّنَا كَيْ نَخْلُصَ، لَا بُدَّ أَنْ نُدْرِكَ أَوَّلًا حَاجَتَنَا الْمَاسَّةَ إِلَى الْخَلَاصِ، وَحَالَتَنَا الْمُزْرِيَةَ، وَأَنَّنَا مَدِينُونَ عَاجِزُونَ عَنْ تَسْدِيدِ دُيُونِهِمْ. مُجَدَّدًا، رَأَى بِيلَاجْيُوسْ أَنْ لَا أَحَدَ مَدِينٌ. وَحَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ مَدِينًا، فَبِوُسْعِهِ تَسْدِيدُ دَيْنِهِ بِنَفْسِهِ. هَذِهِ عَقِيدَةُ "الِاعْتِمَادِ عَلَى النَفْسِ"، الَتِي بِمُوجِبِهَا يَدْخُلُ الْبَشَرُ بِجَهْدِهِمْ أَوْ اسْتِحْقَاقِهِمْ مَلَكُوتَ اللَّهِ.
لِهَذَا اعْتَبَرَ أُوغُسْطِينُوسْ هَذِهِ طَعْنَةً فِي قَلْبِ النِعْمَةِ، وَفِي قَلْبِ الْمَفْهُومِ الْكِتَابِيِّ لِلْخَلاصِ. قَالَ أَدُولْفْ فُونْ هَارْنَاكْ (Adolf von Harnack)، الْمُؤَرِّخُ الْكَنَسِيُّ الْأَلْمَانِيُّ الْعَظِيمُ: "صِيغَ هَذَا الْجَدَلُ بِعِبَارَاتٍ أَوْضَحَ مِنْ أَيِّ جَدَلٍ لَاهُوتِيٍّ آخَرَ فِي تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ، بِاسْتِثْنَاءِ الْجَدَلِ الْأَرْيُوسِيِّ، الَذِي بَلَغَ ذُرْوَتَهُ فِي مَجْمَعِ نِيقِيَّةَ. فَفِي هَذَا النِزَاعِ، كَانَ كِلَا الطَرَفَيْنِ يَفْهَمُ بِوُضُوحٍ مَا يَقُولُهُ الطَرَفُ الْآخَرُ، دُونَ أَيِّ غُمُوضٍ أَوِ الْتِبَاسٍ". وَكَانَ السُؤَالُ هُوَ: "هَلِ النِعْمَةُ مَطْلَبٌ أَسَاسِيٌّ لِلْخَلَاصِ، أَمْ مُجَرَّدُ وَسِيلَةِ مُسَاعِدَةٍ؟"