المحاضرة 8: العشاء الأخير
فِي مُحاضَرَتِنا السَّابِقَةِ تَكَلَّمْنا عَنْ دُخُولِ يَسُوعَ الانْتِصارِيِّ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَتَكَلَّمْنَا عَنْ تَتْمِيمِ يَسُوعَ ثَلاثَةَ مَراكِزَ مِنَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ – مَرَاكِزَ النَّبِيِّ وَالْكَاهِنِ وَالْمَلِكِ. وَبِالطَّبْعِ، بِقَدْرِ مَا اسْتَقْبَلَتِ الْجُمُوعُ يَسُوعَ بِحَمَاسَةٍ، عَلَى النَّقِيضِ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّ رَؤُساءَ الْمَجْمَعِ وَرِجَالَ الدِّينِ غَضِبُوا لَدَى دُخُولِ يَسُوعَ الانْتِصارِيِّ. وَنَبْدَأُ بِرُؤْيَةِ غُيُومِ الْعَاصِفَةِ تَتَكاثَفُ، وَسُرْعانَ مَا يُصْبِحُ الْوَضْعُ مَشْؤُومًا لِلْغَايَةِ.
سَأَتَطَرَّقُ قَلِيلًا إِلَى لُوقَا 22، حَيْثُ نَقْرَأُ مَا يَلِي فِي الآيَةِ الأُولَى: "وَقَرُبَ عِيدُ الْفَطِيرِ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْفِصْحُ. وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ يَطْلُبُونَ كَيْفَ يَقْتُلُونَهُ، لأَنَّهُمْ خَافُوا الشَّعْبَ". ثُمَّ يُتابِعُ قَائِلًا: "فَدَخَلَ الشَّيْطَانُ فِي يَهُوذَا الَّذِي يُدْعَى الإِسْخَرْيُوطِيَّ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الاِثْنَيْ عَشَرَ. فَمَضَى وَتَكَلَّمَ مَعَ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ الْجُنْدِ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِمْ. فَفَرِحُوا وَعَاهَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّةً. فَوَاعَدَهُمْ، وَكَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ إِلَيْهِمْ خِلْوًا مِنْ جَمْعٍ".
إذًا، نَعْلَمُ هُنَا أَنَّهُ بَيْنَمَا كانَ يَتِمُّ الاسْتِعْدادُ لِعِيدِ الْفَطِيرِ فِي عِيدِ الْفِصْحِ، فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالذَّاتِ كانَ الْقَادَةُ يَتَآمَرُونَ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ يَسُوعَ. فَدَخَلُوا فِي صَفْقَةٍ مَعَ أَحَدِ الإِثْنَيْ عَشَرَ، وَهْوَ يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيُّ، لِكَيْ يُسَلِّمَهُ يَهُوذا. أَثْنَاءَ حُدُوثِ ذَلِكَ كُلِّهِ هُنَا، فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ، كَانَ يَسُوعُ يَقُومُ بِالاسْتِعْداداتِ اللَّازِمَةِ لِلاحْتِفالِ بِعِيدِ الْفِصْحِ مَعَ تَلامِيذهِ.
وَنَقْرَأُ فِي النَّصِّ: "وَجَاءَ يَوْمُ الْفَطِيرِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْبَحَ فِيهِ الْفِصْحُ. فَأَرْسَلَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا قَائِلًا: "اذْهَبَا وَأَعِدَّا لَنَا الْفِصْحَ لِنَأْكُلَ"". ثُمَّ يُخْبِرُ كَيْفِيَّةَ الْقِيامِ بِتِلْكَ الاسْتِعْدَاداتِ. وَجاءَ فِي الآيَةِ 14 "وَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ اتَّكَأَ وَالاِثْنَا عَشَرَ رَسُولًا مَعَهُ، وَقَالَ لَهُمْ: "شَهْوَةً اشْتَهَيْتُ أَنْ آكُلَ هَذَا الْفِصْحَ مَعَكُمْ قَبْلَ أَنْ أَتَأَلَّمَ، لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي لاَ آكُلُ مِنْهُ بَعْدُ حَتَّى يُكْمَلَ فِي مَلَكُوتِ اللهِ"". هُنَا نُلاحِظُ أَنَّ يَسُوعَ بَدَأَ بِالدُّخُولِ فِي مَا يُعْرَفُ بِآلامِهِ. إِنَّهُ عَلَى دِرَايَةٍ بِمَقْتَلِهِ الْوَشِيكِ. إِنَّهُ يَعِي أَنَّهُ سَيَتِمُّ تَسْلِيمُهُ، كَمَا أَنَّهُ يَعِي أَنَّ بُطْرُسَ سَيُنْكِرُهُ عَلَنًا. وَهَذَا كُلُّهُ يَخْرُجُ إِلَى الْعَلَنِ لَدَى الاحْتِفالِ بِالْعَشاءِ الأَخِيرِ.
لَكِنْ ثَمَّةَ كَلِمَةٌ هُنَا فِي النَّصِّ أُرِيدُ التَّوَقُّفَ عِنْدَهَا لِبَعْضِ الْوَقْتِ، حِينَ جَاءَ: "وَلَمَّا كَانَتِ السَّاعَةُ". خِلالَ خِدْمَةِ يَسُوعَ تَمَّتِ الإِشَارَةُ مَرَّاتٍ عِدَّةً إِلَى سَاعَتِهِ، وَهْوَ قَالَ فِي إِحْدَى الْمُنَاسَبَاتِ: "لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ". الإِشارَةُ إِلَى تِلْكَ السَّاعَةِ تَنْقَسِمُ إِلَى شِقَّيْنِ: يُوجَدُ أَوَّلًا الشِّقُّ الْقَاتِمُ وَالْمُرَوِّعُ لِهَذِهِ السَّاعَةِ، السَّاعَةِ الأَكْثَرِ قُتُومًا حِينَ سَيَتِمُّ صَلْبُهُ. لَكِنَّهُ يَتَطَلَّعُ أَيْضًا إِلَى مَا بَعْدَ تِلْكَ السَّاعَةِ، إِلَى سَاعَةِ تَمْجِيدِهِ.
لَكِنِ الآنَ، سَاعَةُ الأَزْمَةِ وَشِيكَةٌ. وَهْوَ أَدْرَكَ أَنَّ ساعاتِ حَياتِهِ فِي الْجَسَدِ مَعْدُودَةٌ. تَذَكَّرُوا أَنَّ الاحْتِفالَ بِعَشاءِ الرَّبِّ الَّذِي يُنْشِئُهُ يَسُوعُ هُنَا تَمَّ قَبْلَ أَقَلَّ مِنْ 24 سَاعَةً مِنْ مَقْتَلِهِ. إِذًا، بَعِيدًا عَنْ حَياتِهِ فِي مَرْحَلَةٍ مَا بَعْدَ الْقِيامَةِ، كانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ الأَخِيرَةَ لِحَياتِهِ فِي الْجَسَدِ عَلَى الأَرْضِ. وَهْوَ كانَ يَشْتَهِي بِشِدَّةٍ لِلْمَرَّةِ الأَخِيرَةِ أَنْ يَحْتَفِلَ بِالْفِصْحِ مَعَ تَلامِيذِهِ.
إذًا، قامَ بِتِلْكَ الاسْتِعْداداتِ لِيَجْمَعَهُمْ فِي الْعُلِّيَّةِ بُغْيَةَ الاحْتِفالِ بِالْفِصْحِ. تَذْكُرُونَ لِمَاذَا كانَ هَذَا الاحْتِفالُ مُهِمًّا جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّعْبِ الْيَهُودِيِّ مَا جَعَلَ اللهَ يَأْمُرُهُمْ بِحِفْظِهِ كُلَّ سَنَةٍ حَتْمًا. لأَنَّهُ فِي الْمَقَامِ الأَوَّلِ، كانَ الْفِصْحُ يُحْيِي ذِكْرَى عَمَلِ اللهِ الْفِدائِيِّ حِينَ خَلَّصَ شَعْبَهُ فِي وَقْتِ الْخُرُوجِ. تَذْكُرُونَ الضَّرْبَاتِ الْعِدَّةَ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمِصْرَ، وَالأَمْرُ الَّذِي أَصْدَرَهُ بِحَقِّ فِرْعَوْنُ حِينَ قَالَ: "أطْلِقْ شَعْبِي". أَطْلِقْهُمْ لِيَخْرُجُوا إِلَى الْبَرِّيَّةِ صُعُودًا إِلَى الْجَبَلِ لِكَيْ يَعْبُدُونِي هُنَاك.
وَالضَّرْبَةُ الأَخِيرَةُ، وَالأَسْوَأُ طَبْعًا، كَانَتْ دَيْنُونَةَ اللهِ النَّازِلَةَ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمِصْرَ، أَلَا وَهْيَ ذَبْحُ أَبْكارِهِمْ الذُّكُورِ، لَيْسَ فِي عَائِلاتِهِمْ فَحَسْبُ بَلْ فِي مَواشِيهِمْ أَيْضًا. إِذًا، عَيَّنَ اللهُ مَلاكَ الانْتِقامِ، مَلاكَ الْمَوْتِ، لِيَأْتِيَ وَيَجْلِبَ الْمَوْتَ عَلَى الْمِصْرِيِّينَ وَعَلَى بَيْتِ فِرْعَوْنَ. لَكِنَّهُ قَامَ بِالتَّدَابِيرِ اللَّازِمَةِ لِيَصُونَ حَيَاةَ شَعْبِهِ وَأَبْنَائِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ. تَعْرِفُونَ مَا فَعَلَهُ. أَعْطَى تَعْلِيمَاتٍ تُحَتِّمُ عَلَى كُلِّ عَائِلَةٍ اخْتِيارَ حَمَلٍ بِلا عَيْبٍ، وَذَبْحَ ذَلِكَ الْحَمَلِ، وَأَخْذَ دَمِ ذَلِكَ الْحَمَلِ وَجَعْلَهُ عَلَى قَوَائِمِ الأَبْوَابِ، بِحَيْثُ إِنَّهُ حِينَ يَأْتِي مَلاكُ الْمَوْتُ فَإِنَّهُ يَرَى دَمَ الْحَمَلِ مَرْشُوشًا عَلَى إِطارِ الأَبْوَابِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ هَذَا بَيْتُ إِنْسانٍ يَهُودِيٍّ فَيَعْبُرُ عَنْ ذَلِكَ الْبَيْتِ. وَبِالتَّالِي، فَإِنَّ الْمُقِيمِينَ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ يَنْجُونَ مِنْ دَيْنُونَةِ اللهِ. وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ نَتِيجَةَ ذَلِكَ حَدَثَ أَعْظَمُ عَمَلِ فِداءٍ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، حَيْثُ إِنَّ اللهَ صَانَ حَياةَ أَوْلادِهِ ثُمَّ أَنْقَذَهُمْ مِنْ يَدِ فِرْعَوْنَ وَمِنَ الْعُبُودِيَّةِ فِي مِصْرَ، وَفَرَزَهُمْ بَعْدَ الْخُرُوجِ وَجَعَلَهُمْ أُمَّةً مُقَدَّسَةً لَهُ، قَائِلًا: "وَأَكُونُ لَكُمْ إِلَهًا وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي شَعْبًا".
إِذًا، كُلَّ سَنَةٍ، كانَ يَتِمُّ الاحْتِفالُ بِعِيدِ الْفِصْحِ فِي كُلِّ بَيْتٍ. وَكانَ عَلَى الأَبِ أَنْ يُفَسِّرَ لأَبْنَائِهِ سَبَبَ احْتِفالِهِمْ بِعَشَاءِ الْفِصْحِ. كَمَا قُلْتُ، أَوَّلُ هَدَفٍ مِنَ الْفِصْحِ كانَ الاحْتِفالَ بِأَمْرٍ تَمَّ فِي الْمَاضِي. كانَ دَعْوَةً لإِحْيَاءِ ذِكْرًى. لا تَنْسَوْا كَيْفَ أَنِّي فَدَيْتُكُمْ مِنْ يَدِ الْمِصْرِيِّينَ مِنْ خِلالِ دَمِ حَمَلِ الْفِصْحِ.
لَكِنَّ هَذَا الْحَدَثَ لَمْ يَنْظُرْ إِلَى الْوَراءِ فِي الزَّمَنِ فَحَسْبُ، بَلْ مِنْ حَيْثُ عِنَايَةُ اللهِ كَانَ يَتَطَلَّعُ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ، إِلَى الْفِصْحِ الأَخِيرِ، إِلَى الْفِصْحِ الْكامِلِ، حِينَ يَتِمُّ ذَبْحُ حَمَلِ الْفِصْحِ الْكَامِلِ مَا يَخْتُمُ نِظَامَ تَقْدِيمِ الذَّبائِحِ مَرَّةً وَإِلَى الأَبَدِ. بِحَيْثُ إِنَّهُ بِدَمِ هَذَا الْحَمَلِ يَخْتَبِرُ الشَّعْبُ خُرُوجًا أَعْظَمَ. وَلَيْسَ بِبَسَاطَةٍ خُرُوجًا مِنْ عُبُودِيَّةِ فِرْعَوْنَ، بَلْ مِنْ عُبُودِيَّةِ الشَّيْطَانِ بِحَدِّ ذَاتِهِ، مِنْ عُبُودِيَّةِ الْمَوْتِ. لأَنَّ هَذَا الْخُرُوجَ يُدْخِلُ شَعْبَهُ حَرْفِيًّا إِلَى أَرْضِ الْمَوْعِدِ فِي السَّماءِ، إِلَى أُورُشَلِيمَ السَّمَاوِيَّةِ، إِلَى الْهَيْكَلِ السَّمَاوِيِّ.
إذًا، جَمَعَ يَسُوعُ تَلامِيذَهُ فِي الْعُلِّيَّةِ. وَبَيْنَمَا كانَ يَحْتَفِلُ بِالْفِصْحِ، بَيْنَمَا كانَ يُمارِسُ طُقُوسَ الْفِصْحِ، غَيَّرَهَا. وَأَيُمْكِنُكُمْ أَنْ تَتَخَيَّلُوا كَمْ كانَ مِنَ الْمُهِمِّ لأَيِّ يَهُودِيٍّ بَعْدَ إِقَامَةِ عِيدِ الْفِصْحِ أَنْ يَتَجَرَّأَ عَلَى تَغْيِيرِ الطُّقُوسِ. الشَّخْصُ الْوَحِيدُ فِي الْعَالَمِ الَّذِي كانَ يَتَمَتَّعُ بِالسُّلْطَانِ لِلْقِيامِ بِتِلْكَ التَّغْيِيراتِ الْجَذْرِيَّةِ فِي الطُّقُوسِ كَانَ يَسُوعَ نَفْسَهُ، لأَنَّ الْفِصْحَ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِهِ. إِنَّهُ هُوَ حَمَلُ الْفِصْحِ. إِنَّهُ هُوَ مَنْ مَنَحَهُ اللهُ السُّلْطَانَ لِيُعْطِيَ مَفْهُومًا جَدِيدًا وَمَعْنًى جَدِيدًا لِفَرِيضَةِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ هَذِهِ إِذَا جَازَ التَّعْبِيرُ.
يُمْكِنُنِي أَنْ أُضِيفَ أَيْضًا قَبْلَ أَنْ نَدْرُسَ تِلْكَ التَّغْيِيراتِ فِي الطُّقُوسِ، أَنَّ ما كانَ يَحْدُثُ هُنَا فِي مَا يَتَعَلَّقُ بِعَمَلِ الْمَسِيحِ، لَيْسَ مُجَرَّدَ تَتْمِيمٍ لِلْفِصْحِ، لَكِنَّهُ نِهايَةُ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ. فَفِي تِلْكَ الْعُلِّيَّةِ وُلِدَتْ كَنِيسَةُ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. يَظُنُّ مُعْظَمُ النَّاسِ أَنَّ الْكَنِيسَةَ وُلِدَتْ يَوْمَ الْخَمْسِينِ. أَنَا لا أَعْتَقِدُ ذَلِكَ. أَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّ الْكَنِيسَةَ وُلِدَتْ فِي الْعُلِّيَّةِ حِينَ أَنْشَأَ يَسُوعُ الْعَهْدَ الْجَدِيدَ. وَحِينَ كانَ يَتِمُّ إِنْشَاءُ الْعُهُودِ، كانَ لا بُدَّ مِنَ الْمُصادَقَةِ عَلَيْهَا بِالدَّمِ. وَالْمُصَادَقَةُ عَلَى هَذَا الْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَّذِي أَنْشَأَهُ يَسُوعُ فِي الْعُلِّيَّةِ تَمَّتْ بَعْدَ ظُهْرِ الْيَوْمِ التَّالِي، حِينَ تَمَّتِ الْمُصَادَقَةُ عَلَى الْعَهْدِ بِدَمِ يَسُوعَ.
إذًا، هُوَ أَعْلَنَ هَذَا الْعَهْدَ الْجَدِيدَ بَعْدَ أَنْ أَخَذَ الْخُبْزَ، وَغَيَّرَ مَعْنَى الْخُبْزِ عَبْرَ الْقَوْلِ "هَذَا هُوَ جَسَدِي". ثَمَّةَ جَدَلٌ لا يَنْتَهِي بِشَأْنِ مَا قَصَدَهُ يَسُوعُ بِقَوْلِهِ: "هَذَا هُوَ جَسَدِي". هَلْ قَصَدَ الْقَوْلَ إِنَّهُ وَالْخُبْزَ وَاحِدٌ؟ هَلِ الصِّيغَةُ الَّتِي اسْتَعْمَلَها هِيَ صِيغَةُ تَمَاثُلٍ؟ أَيْ أَنَّ هَذَا الْخُبْزَ مُطابِقٌ لِجَسَدِي. ثَمَّةَ أُنَاسٌ كُثُرٌ يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ. اتَّخَذَ لُوثَرُ مَوْقِفًا فِي الْجِدالاتِ وَالْمُنَاقَشاتِ بَيْنَ الْمُصْلِحِينَ بِشَأْنِ مَا إِذَا كانَ الْخُبْزُ هُوَ حَرْفِيًّا جَسَدُ الْمَسِيحِ. على غِرارِ "نِيكِيتا كْرُوشِيف" فِي الأُمَمِ الْمُتَّحِدَةِ، ضَرَبَ لُوثَرُ عَلَى الطَّاوِلَةِ قَائِلًا: "هُوك إِيسْت كُورْبُوس مِيُومْ"، "هُوكْ إِيسْتْ كُورْبُوس مِيُومَ"، هَذَا هُوَ جَسَدِي. كانَ الْكُلُّ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا مَا قَالَهُ، لَكِنَّهُ قَالَ أَيْضًا: "أَنَا هُوَ الْبَابُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ بِهِ الْجَمِيعُ". وَلَمْ يَعْتَبِرْ أَحَدٌ أَنَّ هَذَا يَعْنِي أَنَّهُ يَجِبُ مُطَابَقَةُ يَسُوعَ حَرْفِيًّا بِالْبَلُّوطِ وَالْقِشْرَةِ الْخَشَبِيَّةِ وَمَقابِضِ الأَبْوابِ وَالْمُفَصَّلاتِ. أَنْتُمْ تُدْرِكُونَ حَتْمًا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الضَّمِيرِ "هُوَ" كَثِيرًا ما يُمْكِنُ أنْ يَعْنِيَ أَيْضًا "هَذَا يُمَثِّلُ". وَحِينَ تُمارِسُ طَقْسًا مَا، وَيَأْخُذُ يَسُوعُ عُنْصُرًا كانَ يَرْمُزُ لأَمْرٍ مَا فِي الْمَاضِي، وْهَوَ يُشِيرُ الآنَ إِلَى أَنَّهُ يَرْمُزُ لأَمْرٍ جَدِيدٍ، أَيْ عَدَمِ تَقْدِيمِ حَمَلِ الْفِصْحِ كَمَا فِي الْقَدِيمِ بَلْ تَقْدِيمِ جَسَدِهِ وَحَيَاتِهِ.
ثُمَّ قِيلَ لَنَا إِنَّهُ بِالطَّرِيقَةِ نَفْسِها، بَعْدَ أَنْ تَنَاوَلُوا الْعَشاءَ، أَخَذَ الْكَأْسَ. شَرِبُوا الْكَأْسَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الْفُصْحِ. فِي هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ غَيَّرَ يَسُوعُ الطُّقُوسَ مُجَدَّدًا وَقالَ: "هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ مِنْ أَجْلِ مَغْفِرَةِ خَطَاياكُمْ. كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هَذَا الْخُبْزَ، وَشَرِبْتُمْ هَذِهِ الْكَأْسَ، تُخْبِرُونَ بِمَوْتِي إِلَى أَنْ أجِيءَ". مِنَ اللَّافِتِ أَنَّهُ فِي الْكَنِيسَةِ الأُولَى، كانَ الْمَسِيحِيُّونَ يَجْتَمِعُونَ أُسْبُوعِيًّا وَيَحْتَفِلُونَ بِفَرِيضَةِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ هَذِهِ. لَيْسَ مَرَّةً فِي السَّنَةِ فَحَسْبُ، بَلْ مَرَّةً فِي الأُسْبُوعِ. لأَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمَفْهُومِ أَنَّ الأَمْرَ مُهِمٌّ جِدًّا فِي إِعْلانِ، وفِي إِظْهارِ أَهَمِّيَّةِ الصَّلِيبِ وَالْعَهْدِ الْجَدِيدِ وَالْحَمَلِ الْمَذْبُوحِ، الْحَمَلِ الَّذِي بِلا عَيْبٍ، ذَبِيحَةِ حَمَلِ الْفِصْحِ الْكَامِلَةِ. لِذَا نَحْنُ نَحْتَفِلُ كُلَّما اجْتَمَعْنَا فِي الْكَنِيسَةِ وَنَسْتَمْتِعُ بِعَشاءِ الرَّبِّ.
أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الْكَنائِسَ مُنْقَسِمَةٌ بِشَكْلٍ مَيْؤُوسٍ مِنْهُ فِي فَهْمِهَا لِمَا يَحْدُثُ أَثْنَاءَ الاحْتِفالِ بِعَشَاءِ الرَّبِّ. وَالْجِدالاتُ لَيْسَتْ طَوِيلَةً وَمُسْهَبَةً فَحَسْبُ، بَلْ يُمْكِنُ لَهَا أَنْ تُصْبِحَ لاذِعَةً لأَنَّ الْحَمَاسَةَ كَبِيرَةٌ جِدًّا. الْكُلُّ يَفْهَمُ أَنَّ مَا نَفْعَلُهُ هُنَا مُهِمٌّ جِدًّا. إِذًا، مَا الَّذِي يَحْدُثُ فِعْلِيًّا؟ مَا عَلاقَةُ يَسُوعَ بِالأَمْرِ؟
فِي الْكَنِيسَةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ، وَضَعَتِ الْكَنِيسَةُ عَقِيدَةَ التَّحَوُّلِ. أَنَا مُتَأَكِّدٌ مِنْ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ بِهَا. وَعَقِيدَةُ التَّحَوُّلِ تُعَلِّمُ بِبَسَاطَةٍ أَنَّهُ خِلالَ مُعْجِزَةِ الْقُدَّاسِ، الْجَسَدُ، عُذْرًا الْخُبْزُ وَالْخَمْرُ، عُنْصُرَا الْخُبْزِ وَالْخَمْرِ يَتَحَوَّلانِ إِلَى جَوْهَرِ جَسَدِ الْمَسِيحِ وَدَمِهِ، بِحَيْثُ إِنَّ يَسُوعَ بِجَسَدِهِ الْمَادِّيِّ يَكُونُ مَوْجُودًا فِي الْجَسَدِ وَالدَّمِ، اسْتِنادًا إِلَى أَرِسْطُو الَّذِي قالَ إِنَّ: "لِكُلِّ شَيْءٍ جَوْهَرًا وَأَعْرَاضًا". وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ أَعْرَاضًا مَرَضِيَّةً بِلْ يُشارُ بِالأَعْرَاضِ إِلَى الصِّفاتِ الْخَارِجِيَّةِ الَّتِي يُمْكِنُ إِدْراكُها لِشَيْءٍ مَا. مِعْطَفِي أَزْرَقُ، وَذَلِكَ الأَزْرَقُ هُوَ صِفَةٌ خَارِجِيَّةٌ لِلْمِعْطَفِ.
إذًا، اسْتَعْمَلَتْ رُومَا الْفِكْرَةَ وَالتَّمْيِيزَ الأَرِسْطُوَيْنِ، وَأُصْدِرَتْ هَذِهِ الصِّيغَةُ وَهْيَ أَنَّهُ أَثْناءَ الْمُعْجِزَةِ إِنَّ الْخُبْزَ وَالْخَمْرَ، جَوْهَرَ الْخُبْزِ وَالْخَمْرِ، يَتَحَوَّلُ إِلَى جَوْهَرِ جَسَدِ الْمَسِيحِ وَدَمِهِ، لَكِنَّ أَعْرَاضَ الْخُبْزِ وَالْخَمْرِ تَبْقَى نَفْسَها. ما يَعْنِي أَنَّ الْخُبْزَ يُحَافِظُ عَلَى شَكْلِهِ وَيُحَافِظُ عَلَى مَذَاقِهِ. إِنْ أَوْقَعْتَهُ عَلَى الأَرْضِ هُوَ يُصْدِرُ صَوْتًا كَالْخُبْزِ وَيَبْدُو كَالْخُبْزِ. وَلِجَمِيعِ الْحَواسِّ الَّتِي يُمْكِنُ إِدْرَاكُهَا فَهْوَ يَظَلُّ يَبْدُو خُبْزًا، لأَنَّهُ يَتَمَتَّعُ بِصِفاتِ الْخُبْزِ الظَّاهِرِيَّةِ. لَكِنَّهُ لَمْ يَعُدْ خُبْزًا، إِنَّ جَوْهَرَهُ وَخُلاصَتَهُ هُوَ جَسَدُ الْمَسِيحِ وَدَمُهُ.
اعْتَبَرَ لُوثَرُ أَنَّ الأَمْرَ يَتَطَلَّبُ مُعْجِزَاتٍ أَكْثَرَ مِنَ اللَّازِمِ، وَأَنَّهُ تَافِهٌ نَوْعًا مَا. فَعَدَّلَ الأَمْرَ قَائِلًا: "لا، الْمَسِيحُ حَاضِرٌ فِي الْعَنَاصِرِ وَتَحْتَهَا وَعْبَرَها، لَكِنْ لا تَغْيِيرَ فِي الْجَوْهَرِ وَالأَعْرَاضِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ". لَكِنَّ الْعَقِيدَتَيْنِ تُشَدِّدَانِ عَلَى حُضُورِ الْمَسِيحِ الْحَقِيقِيِّ والْمَادِّيِّ فِي الْعَشاءِ الأَخِيرِ. بِالطَّبْعِ، وَاجَهَ كَالْفِين مُشْكِلَةً كَبِيرَةً فِي الأَمْرِ. رُجُوعًا إِلَى مَجْمَعِ خَلْقِيدُونْيَة لِلْكَنِيسَةِ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ فِي الْعَامِ 451، حِينَ أَعْلَنَتِ الْكَنِيسَةُ أَنَّهُ فِي سِرِّ التَّجَسُّدِ تُوجَدُ الطَّبِيعَتَانِ. اجْتَمَعَتِ الطَّبِيعَتانِ الإِلَهِيَّةُ وَالْبَشَرِيَّةُ فِي وَحْدَةٍ كَامِلَةٍ. بِحَيْثُ إِنَّ تِلْكَ الْوَحْدَةَ كانَتْ بِلا خَلْطٍ أَوِ الْتِباسٍ أَوْ فَصْلٍ أَوْ تَفْرِيقٍ، عَلَى أَنْ تُحافِظَ كُلُّ طَبِيعَةٍ عَلَى صِفَاتِهَا الْخَاصَّةِ. مَا يَعْنِي الْقَوْلَ إِنَّهُ فِي التَّجَسُّدِ لَمْ تَؤَلَّهْ طَبِيعَةُ يَسُوعَ الْبَشَرِيَّةُ. حَافَظَتِ الطَّبِيعَةُ الْبَشَرِيَّةُ عَلَى صِفاتِها الْبَشَرِيَّةِ، كَمَا حَافَظَتِ الطَّبِيعَةُ الإِلَهِيَّةُ عَلَى صِفاتِها الإِلَهِيَّةِ. إذًا، يُمْكِنُ لِلطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ أَنْ تَكُونَ فِي بِيتِسْبُرْغ وَشِيكاغُو وَبُوسْتُون وَأُورْلانْدُو فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ، لَكِنْ لَيْسَ الطَّبِيعَةُ الْبَشَرِيَّةُ. الطَّبِيعَةُ الْبَشَرِيَّةُ مَحْدُودَةٌ مِنْ حَيْثُ الْمَكانُ وَالزَّمانُ بِالتَّقْيِيداتِ الطَّبِيعِيَّةِ لِلطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ.
فَسَّرَتْ رُومَا ذَلِكَ، كَمَا فَعَلَ لُوثَرُ، بِعَقِيدَةِ نَقْلِ الصِّفاتِ، أَيْ أَنَّ جَسَدَ يَسُوعَ –جَسَدَهُ الْبَشَرِيَّ– قَادِرٌ أَنْ يَتَوَاجَدَ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الأَمَاكِنِ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ، لأَنَّ الطَّبِيعَةَ الإِلَهِيَّةَ تَنْقُلُ قُوَّةَ الْوُجُودِ الْمُطْلَقِ، أَوْ كُلِّيَّةَ الْوُجُودِ إِلَى الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ. أَنَا مُقْتَنِعٌ بِأَنَّ هَذَا انْتِهاكٌ خَطِيرٌ لِمَجْمَعِ خَلْقِيدُونِيَة، وَهْوَ يُمَثِّلُ النَّظْرَةَ الدُّوسِيتِيَّةَ لِيَسُوعَ، وَيَقْضِي تَمَامًا عَلَى حَقِيقَةِ طَبِيعَةِ الْمَسِيحِ الْبَشَرِيَّةِ.
نَحْنُ نُؤْمِنُ فِي كَنِيسَتِنا بِأَنَّ يَسُوعَ حَاضِرٌ فِعْلًا، لَكِنَّهُ حَاضِرٌ بِطَبِيعَتِهِ الإِلَهِيَّةِ. طَبِيعَتُهُ الإِلَهِيَّةُ غَيْرُ مُنْفَصِلَةٍ عَنْ طَبِيعَتِهِ الْبَشَرِيَّةِ. الطَّبِيعَةُ الْبَشَرِيَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي السَّماءِ، كَذَلِكَ أَيْضًا الطَّبِيعَةُ الإِلَهِيَّةُ، لَكِنَّ الطَّبِيعَةَ الإِلَهِيَّةَ مَوْجُودَةٌ هُنَا أَيْضًا. نَحْنُ مُرْتَبِطُونَ بِيَسُوعَ بِكُلِّيَّتِهِ بِمُوجَبِ حُضُورِ الطَّبِيعَةِ الإِلَهِيَّةِ. إِذًا، إِنَّهُ هُنَا. قالَ آخَرُونَ، وَحَاوَلُوا عَلَى مَرِّ التَّارِيخِ دَحْضَ جَمِيعِ تِلْكَ النَّظَرِيَّاتِ بِاعْتِبارِ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مُجَرَّدُ رَمْزٍ، وَأَنَّ الْفَرِيضَةَ بِبَسَاطَةٍ تُمَثِّلُ يَسُوعَ. وَلا يُوجَدُ أَيُّ حُضُورٍ إِلَهِيٍّ أَوْ فَائِقٍ لِلْمَسِيحِ فِي الْفَرِيضَةِ.
لَكِنَّ هَذِهِ الْجِدالاتِ تَسْتَمِرُّ إِلَى مَا لا نِهايَةٍ. لأَنَّ الْكَنِيسَةَ تُدْرِكُ أَنَّ يَسُوعَ، وَفِي اللَّيْلَةِ الَّتِي سَبَقَتْ مَمَاتَهُ، حِينَ احْتَفَلَ بِالْفِصْحِ لِلْمَرَّةِ الأَخِيرَةِ، كَانَ يَنْوِي تَمامًا إِنْشاءَ فَرِيضَةٍ تُغْنِي كَنِيسَتَهُ وَتَجْعَلُ شَعْبَهُ يَتَذَكَّرُ مَا حَقَّقَهُ، عَبْرَ تَقْدِيمِ تِلْكَ الذَّبِيحَةِ الْكَامِلَةِ، وَعَبْرَ كَوْنِهِ الْحَمَلَ الَّذِي بِلا عَيْبٍ. لَكِنَّهُ أَيْضًا كانَ يَتَصَوَّرُ بِشَوْقٍ الْوَلِيمَةَ النِّهائِيَّةَ فِي السَّمَاءِ، فِي وَلِيمَةِ عُرْسِ الْحَمَلِ، حِينَ نَجْلِسُ مَعَهُ أَمَامَ مَائِدَةِ أَبِيهِ فِي السَّماءِ. إذًا، لَمْ يَسْمَحْ يَسُوعُ بِأَنْ يُؤْخَذَ، وَلَمْ يَسْمَحْ بِأَنْ يَأْتِيَ الْجُنُودُ سَرِيعًا لِيُقَاطِعُوا أَوْ يُحْبِطُوا عَمَلِيَّةَ إِنْشَاءِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ الأَهَمِّ.