المحاضرة 1: التجسُّد

الْيَوْمَ سَنَبْدَأُ بِتَعْلِيمِ سِلْسِلَةٍ جَدِيدَةٍ، وَسَنُرَكِّزُ فِي هَذِهِ السِّلْسِلَةِ عَلَى عَمَلِ الْمَسِيحِ. نَحْنُ نُمَيِّزُ فِي اللَّاهُوتِ بَيْنَ شَخْصِ الْمَسِيحِ وَعَمَلِ الْمَسِيحِ لأَسْبَابٍ عِدَّةٍ. لَكِنْ بالرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ مِنَ الْمُهِمِّ الْقِيامُ بِهَذَا التَّمْيِيزِ، لا يَجْدُرُ بِنَا أَبَدًا أَنْ نَسْمَحَ بِأَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَى فَصْلٍ، لأَنَّ شَخْصَ الْمَسِيحِ مُرْتَبِطٌ ارْتِباطًا وَثِيقًا بِعَمَلِهِ. وَنَحْنُ نَفْهَمُ عَمَلَهُ إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ جُزْئِيًّا اسْتِنادًا إِلَى هُوِيَّةِ الشَّخْصِ الَّذِي يَقُومُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ. لَكِنْ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ الْعَكْسُ صَحِيحٌ، فَعَمَلُ يَسُوعَ يَكْشِفُ لَنَا الْكَثِيرَ عَنْ شَخْصِهِ. إِذًا، يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ شَخْصِهِ وَعَمَلِهِ، لَكِنْ لا يَجُوزُ أَبَدًا الْفَصْلُ بَيْنَهُما.

حِينَ نَبْدَأُ بِدِراسَةِ عَمَلِ يَسُوعَ، عَادَةً يُرِيدُ النَّاسُ الْبَدْءَ بِوِلادَتِهِ – وِلادَتِهِ مِنْ عَذْراءَ، لَكِنَّنَا لَنْ نَتَطَرَّقَ بِدَايَةً إِلَى هَذِهِ الْفِكْرَةِ فِي سِلْسِلَةِ الْمُحَاضَرَاتِ هَذِهِ. بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ أَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّ عَمَلَ الْمَسِيحِ يَبْدَأُ قَبْلَ وِلادَتِهِ بِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ. فِي الْوَاقِعِ، إِنَّهُ يَبْدَأُ فِي الْمَاضِي الأَزَلِيِّ، فِي ما نُسَمِّيهِ فِي اللَّاهُوتِ "عَهْدَ الْفِداءِ".

الأَشْخَاصُ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ إِلَى هَذَا الْبَرْنَامَجِ الإِذاعِيِّ قَالُوا لِي مِرارًا إِنَّهُمْ مِثْلَمَا يَسْتَمْتِعُونَ بِالاسْتِماعِ إِلَى قَعْقَةِ أَوْراقِ "راشْ لِيمْبُو" على مَكْتَبِهِ، هَكَذَا أَيْضًا يَسْتَمْتِعُ النَّاسُ بِالاسْتِماعِ إِلَى صَوْتِ خَرْبَشَةِ الطَّبْشُورِ عَلَى اللَّوْحِ.

لَكِنَّنَا نَسْمَعُ كَلِمَةَ "عَهْدٍ" كَثِيرًا فِي الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ. نَحْنُ نُفَكِّرُ فِي عَهْدِ الْخَلْقِ، وَنُفَكِّرُ فِي عَهْدِ الأَعْمالِ، وَعَهْدِ النِّعْمَةِ. نُفَكِّرُ فِي الْعَهْدِ الَّذِي أَبْرَمَهُ اللهُ مَعَ إِبْراهِيمَ وَنُوحٍ وَدَاوُدَ، وَحَتَّى فِي الْمِيثاقِ الْجَدِيدِ الَّذِي نُسَمِّيهِ الْعَهْدَ الْجَدِيدَ. لَكِنْ ثَمَّةَ أُناسٌ كُثُرٌ لا يَعْرِفُونَ أَبَدًا مَا نَعْتَبِرُهُ أَوَّلَ عَهْدٍ، أَوْ عَهْدِ الْفِداءِ. وَهْوَ لَيْسَ عَهْدًا أَبْرَمَهُ اللهُ مَعَ بَشَرٍ، بَلْ إِنَّهُ يُشارُ بِعَهْدِ الْفِداءِ إِلَى مِيثاقٍ أَوِ اتِّفاقٍ يَتِمُّ فِي الأَزَلِيَّةِ ضِمْنَ أَقانِيمِ اللهِ.

نَحْنُ نُمَيِّزُ بَيْنَ أَقَانِيمِ اللهِ –الآبِ وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَنَعْلَمُ لَدَى قِراءَتِنَا لِسَرْدِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ لِلْخَلْقِ أَنَّ الثَّالُوثَ كُلَّهُ، وَأَقَانِيمَ اللهِ كُلَّها، تَشَارَكَتْ مَعًا وَبِشَكْلٍ عَمَلِيٍّ فِي جَعْلِ الْكَوْنِ حَيِّزَ الْوُجُودِ. لَكِنْ لَيْسَ الْخَلْقُ وَحْدَهُ عَمَلَ الثَّالُوثِ، لَكِنَّ الْفِداءَ أَيْضًا هُوَ عَمَلُ الثَّالُوثِ. الآبُ هُوَ مَنْ أَوْجَدَ مَفْهُومَ فِداءِ خَلِيقَةٍ عَلِمَ أَنَّهَا سَتَسْقُطُ. إِذًا، الآبُ هُوَ مَنْ وَضَعَ مُخَطَّطَ الْفِداءِ. وَالابْنُ هُوَ مَنْ تَسَلَّمَ الْمُهِمَّةَ مِنَ الآبِ لِيُتَمِّمَ ذَلِكَ الْفِداءَ. وَبِالطَّبْعِ، الرُّوحُ الْقُدُسُ هُوَ مَنْ طَبَّقَ عَمَلَ الْفِداءِ لأَجْلِنا. لَكِنْ يَجِبُ أَنْ نَفْهَمَ أَنَّ هَذا لا يُمَثِّلُ صِرَاعًا ضِمْنَ شَخْصِ اللهِ، وَإِنَّمَا اتِّفاقًا أَبَدِيًّا. الآبُ أَرْسَلَ الابْنَ، وَالابْنُ سُرَّ كَثِيرًا بِأَنْ يَتِمَّ إِرْسالُهُ لِتَتْمِيمِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي كَلَّفَهُ الآبُ بِهَا.

خِلالَ إِقَامَتِهِ عَلَى الأَرْضِ، قَامَ يَسُوعُ بِتَعْلِيقٍ فِي إِحْدَى الْمُنَاسَبَاتِ قَالَ فِيهِ "وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلَّا الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ". إذًا، فِي ما يَتَعَلَّقُ بِخِدْمَةِ يَسُوعَ فِي هَذَا الْعَالَمِ، إِنَّهَا تَبْدَأُ بِالنُّزُولِ – الْمُخْتَلِفِ عَنِ الصُّعُودِ. النُّزُولُ يَعْنِي تَرْكَهُ مَكَانَةَ الْمَجْدِ مَعَ الآبِ وَالرُّوحِ وَمَجِيئَهُ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ مِنْ خِلالِ التَّجَسُّدِ. حِينَ كَتَبَ الرَّسُولُ بُولُسُ رِسالَتَهُ إِلَى أَهْلِ رُومِيَةَ، فِي بِدايَةِ رِسالَتِهِ حَيْثُ عَرَّفَ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ رَسُولٌ مَدْعُوٌّ مِنَ اللهِ وَمُفْرَزٌ لإِنْجِيلِ اللهِ، الَّذِي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، وَهْوَ يُشِيرُ إِلَى وِلادَةِ يَسُوعَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ. إِذًا، حِينَ يُعْلِنُ بُولُسُ الإِنْجِيلَ وَعَمَلَ الْمَسِيحِ فِي رِسَالَةِ رُومِيَةِ، فَهْوَ يَبْدَأُ فِي الْأَصْحاحِ الأَوَّلِ بِالإِشَارَةِ إِلَى يَسُوعَ عَلَى أَنَّهُ وُلِدَ مِنِ امْرَأَةٍ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ.

إذًا، حِينَ نَتَكَلَّمُ عَنْ جَسَدِ يَسُوعَ، فَإِنَّ الأَمْرَ يَقُودُنَا فَوْرًا إِلَى مَفْهُومِ التَّجَسُّدِ. مَا نَحْتَفِلُ بِهِ فِي عِيدِ الْمِيلادِ لَيْسَ وِلادَةَ طِفْلٍ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَهَمِّيَّةِ هَذَا الأَمْرِ. لَكِنَّ الأَمْرَ الْمُهِمَّ فِي وِلادَةِ ذَلِكَ الطِّفْلِ بِالذَّاتِ هُوَ أَنَّنَا فِي هَذِهِ الْوِلادَةِ نَشْهَدُ تَجَسُّدَ اللهِ نَفْسِهِ. وَالتَّجَسُّدُ يَعْنِي الْمَجِيءَ بِالْجَسَدِ. نَحْنُ نَعْرِفُ كَيْفَ يَسْتَهِلُّ يُوحَنَّا إِنْجِيلَهُ "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ". إذًا فِي هَذَا الْكَلامِ التَّمْهِيدِيِّ الْمُعَقَّدِ جِدًّا، إِنَّهُ يُمَيِّزُ بَيْنَ الْكَلِمَةِ وَاللهِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ يُعَرِّفُ عَنِ الاثْنَيْنِ "وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ". وفي آخِرِ هَذَا التَّمْهِيدِ يَقُولُ: "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا". فِي هَذَا التَّجَسُّدِ وَظُهورِ الْمَسِيحِ عَلَى هَذَا الْكَوْكَبِ، لَيْسَ أَنَّ اللهَ يَتَغَيَّرُ فَجْأَةً مِنْ خِلالِ عَمَلِيَّةِ تَحَوُّلٍ بَيُولُوجِيٍّ إِلَى إِنْسَانٍ، بِحَيْثُ إِنَّ الطَّبِيعَةَ الإِلَهِيَّةَ تَخْتَفِي مِنَ الْوُجُودِ أَوْ تَتَّخِذُ شَكْلًا جَسَدِيًّا جَدِيدًا، لا. التَّجَسُّدُ لَيْسَ طَرْحًا بِقَدْرِ مَا أَنَّهُ إِضَافَةٌ. حَيْثُ إِنَّ الأُقْنُومَ الثَّانِي الأَزَلِيَّ مِنَ الثَّالُوثِ يَتَّخِذُ طَبِيعَةً بَشَرِيَّةً وَيَضُمُّ طَبِيعَتَهُ الإِلَهِيَّةَ إِلَى تِلْكَ الطَّبِيعَةِ الْبَشَرِيَّةِ بِهَدَفِ الْفِداءِ.

أَوَدُّ تَوْجِيهَ انْتِباهِنا فِي هَذَا الصَّباحِ إِلَى مَقْطَعٍ مُهِمٍّ جِدًّا فِي رِسالَةِ بُولُسَ إِلَى أَهْلِ فِيلِبِّي، فِي الْأصْحاحِ الثَّانِي. حَيْثُ إنَّنا فِي الْأصْحاحِ الثَّانِي مِنْ رِسالَةِ فِيلِبِّي وَابْتِداءً مِنَ الآيَةِ 5 نَقْرَأُ الْكَلِمَاتِ الآتِيَةَ: "فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ، وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ، مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ، لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ، وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ، وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ، وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ هُوَ رَبٌّ، لِمَجْدِ اللهِ الآبِ".

هَذَا الْمَقْطَعُ الَّذِي قَرَأْتُهُ لِلتَّوِّ مَعْرُوفٌ فِي الأَوْسَاطِ الْكِتابِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ نَشِيدُ الإِخْلاءِ. وَالْمَقْصُودُ بِذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ يَتِمُّ التَّخْمِينُ أَنَّ هَذَا الْمَقْطَعَ بِالذَّاتِ، الْمُقْتَبَسَ مِنْ رِسالَةِ بُولُسَ إِلَى مُؤْمِنِي فِيلِبِّي، هُوَ مَقْطَعٌ لَمْ يَكْتُبْهُ الرَّسُولُ بَيْنَمَا كَانَ يَكْتُبُ رِسالَةَ فِيلِبِّي، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَ بُولُسُ نَشِيدًا مَسِيحِيًّا سَابِقًا مُسْتَخْدَمًا عَلَى نِطاقٍ وَاسِعٍ. نَحْنُ لَسْنَا مُتَأَكِّدِينَ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنَّهُ مُمْكِنٌ حَتْمًا. هَذَا النَّشِيدُ يَحْتَفِلُ بِالتَّجَسُّدِ، وَهْوَ يُدْعَى نَشِيدَ الإِخْلاءِ نَظَرًا لِوُجُودِ كَلِمَةٍ يُونَانِيَّةٍ بَارِزَةٍ ضِمْنَ هَذَا الْمَقْطَعِ، وَهْيَ الْكَلِمَةُ الْيُونَانِيَّةُ "كُونُوسِيس"، وَهْيَ تَعْنِي حَرْفِيًّا "الإِخْلاءَ".

وَالْفِكْرَةُ الأَسَاسِيَّةُ فِي هَذَا الْمَقْطَعِ أَوِ النَّشِيدِ، أَيًّا تَكُنْ تَسْمِيَتُهُ، تَتَعَلَّقُ بِالانْتِقالِ الَّذِي خَضَعَ لَهُ يَسُوعُ، لَدَى تَرْكِهِ مَكَانَةَ الْمَجْدِ فِي السَّمَاءِ وَالتَّجَسُّدِ لِيَصِيرَ إِنْسانًا فِي هَذَا الْعَالَمِ. وَالنَّمَطُ الْمَوْجُودُ هُنا فِي هَذَا الْمَقْطَعِ، هُوَ نَمَطٌ نَرَاهُ كَثِيرًا فِي حَيَاةِ يَسُوعَ، وَهْوَ نَمَطُ الإِذْلالِ وَالتَّمْجِيدِ، أَيْ أَنَّهُ يَبْدَأُ فِي مَكانَةِ إِعْلاءٍ وَمَجْدٍ فِي السَّماءِ، لَكِنَّهُ يَتَنازَلُ لِيَنْضَمَّ إِلَيْنَا فِي حَالَتِنَا الأَرْضِيَّةِ الصَّعْبَةِ لِكَيْ يَفْدِيَنَا. وَعَبْرَ اتِّخاذِهِ جَسَدًا بَشَرِيًّا، إِنَّهُ يَتَعَرَّضُ لإِذْلالٍ كَبِيرٍ. وَخِلالَ حَيَاتِهِ كُلِّها، يَبْدُو أَنَّهُ يُوجَدُ تَقَدُّمٌ أَوْ تَرَاجُعٌ. حَيْثُ إِنَّ الإِذْلالَ يَزْدَادُ عُمْقًا وَقُتُومًا وَسُوءًا، لِكَيْ يَبْلُغَ الْحَضِيضَ فِي الصَّلِيبِ. وَبَعْدَ الصَّلِيبِ تَأْتِي الْقِيامَةُ، وَارْتِفاعُ الْمَسِيحِ لِيَبْلُغَ الْمَجْدَ مُجَدَّدًا. ذَلِكَ التَّقَدُّمُ، أَوْ ذَلِكَ النَّمَطُ الَّذِي ذَكَرْتُهُ لِلتَّوِّ مِنَ الإِذْلالِ إِلَى التَّمْجِيدِ لَيْسَ مُطْلَقًا.

مُنْذُ بِضْعِ سَنَواتٍ أَلَّفْتُ كِتابًا عُنْوَانُهُ "مَجْدُ الْمَسِيحِ"، لأَنِّي ذُهِلْتُ كَيْفَ أَنَّهُ خِلالَ بَعْضِ اللَّحَظاتِ فِي حَيَاةِ يَسُوعَ الأَرْضِيَّةِ، وَفِي وَسْطِ اسْتِتارِ هُوِيَّتِهِ السَّرْمَدِيَّةِ، وَفِي وَسْطِ غِطاءِ التَّجَسُّدِ، تُوجَدُ بَعْضُ وَمَضَاتِ الْمَجْدِ الَّتِي تَقْتَحِمُ الأَجْوَاءَ، كَمَا لَوْ أَنَّ التَّجَسُّدَ نَفْسَهُ كانَ عَاجِزًا عَنْ حَجْبِ مَجْدِ الأُقْنُومِ الثَّانِي مِنَ الثَّالُوثِ تَمَامًا. نَحْنُ نَرَى ذَلِكَ مَثَلًا فِي سَرْدِ وِلادَةِ يَسُوعَ، حَيْثُ نَرَى أَنَّ جُزْءًا كَبِيرًا مِنَ الْمَكْتُوبِ يَدُلُّ عَلَى الرِّحْلَةِ الشَّاقَّةِ الَّتِي قَامَ بِهَا مَرْيَمُ وَيُوسُفُ لِدَفْعِ الضَّرِيبَةِ فِي بَيْتَ لَحْمٍ، فَوَصَلا إِلَى هُناكَ وَلَمْ يَجِدَا غُرْفَةً فِي الْفُنْدُقِ. فَوُلِدَ يَسُوعُ فِي ظُرُوفٍ مُخْزِيَةٍ هُنَاكَ فِي إِذْلالٍ تَامٍّ، وَتَمَّ تَقْمِيطُهُ، إِلَى آخِرِهِ. لَكِنْ طَوالَ الْوَقْتِ الَّذِي تَتَراءَى فِيهِ أَمَامَنَا صُورَةُ الإِذْلالِ خَارِجًا فِي حُقُولِ بَيْتِ لَحْمٍ، يُومِضُ مَجْدُ اللهِ. وَتَبْدَأُ الْجَوْقَةُ الْمَلائِكِيَّةُ بِالترنيم "الْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ". إذًا، هَذَا مَثَلٌ وَاحِدٌ. لَكِنْ خِلالَ حَياةِ يَسُوعَ كُلِّها نَشْهَدُ إِظْهاراتٍ لِلْمَجْدِ. لَكِنَّ النَّمَطَ الأَساسِيَّ، هُوَ نَمَطُ الانْتِقالِ مِنَ الإِذْلالِ إِلَى التَّمْجِيدِ.

مُجَدَّدًا، وَبِالرُّجُوعِ إِلَى رُومِيَةَ 1، يَتَكَلَّمُ بُولُسُ عَنْ وِلادَتِهِ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ، لَكِنَّهُ تَعَيَّنَ ابْنَ اللهِ بِالْقِيامَةِ. بَعْدَ قَوْلِ ذَلِكَ، فَلْنَتَأَمَّلْ مُجَدَّدًا بِهَذَا النَّشِيدِ وَنُحَلِّلْ بَعْضَ أَوْجُهِهِ فِي فِيلِبِّي 2. تَمَّ اسْتِعْمالُ ذَلِكَ ضِمْنَ إِطَارِ عِظَةٍ يُوَجِّهُهَا الرَّسُولُ لِلْمَسِيحِيِّينَ، تُفِيدُ بِأَنَّ عَلَى الْمَسِيحِيِّينَ الاقْتِداءَ بِتَوَاضُعِ مُخَلِّصِهِمْ. فِي مَكانٍ آخَرَ، يَقُولُ لَنَا الرَّسُولُ إِنَّنَا مَا لَمْ نَكُنْ مُسْتَعِدِّينَ لِلاقْتِداءِ بِاتِّضاعِ يَسُوعَ، لَنْ نَتَمَكَّنَ أَبَدًا مِنِ اخْتِبارِ مَجْدِهِ. حَتَّى إِنَّ مَعْمُودِيَّتَنا تَنْطَوِي عَلَى هَذَا الرَّمْزِ الْمُزْدَوِجِ. فَفِي تِلْكَ الْمَعْمُودِيَّةِ نَحْنُ نَتَشَبَّهُ بِمَوْتِ يَسُوعَ، لَكِنَّنَا نَتَشَبَّهُ أَيْضًا بِقِيامَةِ يَسُوعَ. هَلْ تَرَوْنَ هَذَا النَّمَطَ؟ الإِذْلالَ وَالتَّمْجِيدَ.

اسْتَخْدَمَ الرَّسُولُ ذَلِكَ، وَقالَ إِنَّ الْمَسِيحَ إِذْ كانَ فِي صُورَةِ اللهِ لَمْ يَحْسِبْ خِلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلًا للهِ. هَذِهِ لُغَةٌ غَرِيبَةٌ. تَرْجَمَ مُتَرْجِمُونَ آخَرُونَ ذَلِكَ بِطَرِيقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ. يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمْ يَحْسِبْ مُعَادَلَتَهُ للهِ أَمْرًا يَجِبُ التَّمَسُّكُ بِهِ. بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، لَمْ يَعْتَبِرْ يَسُوعُ الْمَجْدَ الَّذِي حَظِيَ بِهِ مَعَ الآبِ وَالرُّوحِ مُنْذُ الأَزَلِ أَمْرًا يَجِبُ التَّمَسُّكُ بِهِ بِتَصَلُّبٍ وَصَوْنُهُ بِغَيْرَةٍ، لَكِنَّهُ كَانَ مُسْتَعِدًّا لِوَضْعِهِ جَانِبًا، كَانَ مُسْتَعِدًّا لإِخْلاءِ نَفْسِهِ وَلِجَعْلِ نَفْسِهِ بِلا سُمْعَةٍ.

فِي الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ، عَرَضَ عُلَمَاءُ لِيبِرالِيُّونَ عَقِيدَةً تُدْعَى نَظَرِيَّةَ التَّجَسُّدِ الإِخْلائِيَّةِ. وَرُبَّمَا سَمِعْتُمْ ذَلِكَ. الْفِكْرَةُ هِيَ أَنَّهُ حِينَ جَاءَ يَسُوعُ إِلَى هَذِهِ الأَرْضِ تَخَلَّى عَنْ صِفاتِهِ الإِلَهِيَّةِ، بِحَيْثُ إِنَّ اللهَ الإِنْسانَ –عَلَى الأَقَلِّ وَفِي مَا يَتَعَلَّقُ بِأُلُوهِيَّتِهِ– لَمْ يَعُدْ يَمْلِكُ الصِّفاتِ الإِلَهِيَّةَ، أَيْ الْمَعْرِفَةَ الْكُلِّيَّةَ، وَالْقُدْرَةَ الْكُلِّيَّةَ وَغَيْرَها. لَكِنْ بِالطَّبْعِ، مِنْ شَأْنِ ذَلِكَ أَنْ يَتَنَافَى تَمامًا مَعَ طَبِيعَةِ اللهِ غَيْرِ الْقَابِلِ لِلتَّغْيِيرِ. حَتَّى فِي التَّجَسُّدِ، الطَّبِيعَةُ الإِلَهِيَّةُ لا تَفْقِدُ صِفاتِ اللهِ الإِلَهِيَّةَ. هُوَ لا يَنْقُلُها إِلَى الْجَانِبِ الْبَشَرِيِّ، وَهْوَ لا يُؤَلِّهُ الطَّبِيعَةَ الْبَشَرِيَّةَ. لَكِنْ ضِمْنَ لُغْزِ الاتِّحادِ بَيْنَ طَبِيعَتَيْ يَسُوعَ الإِلَهِيَّةِ وَالْبَشَرِيَّةِ، الطَّبِيعَةُ الْبَشَرِيَّةُ هِيَ بَشَرِيَّةٌ فِعْلًا، وَهْيَ لَيْسَتْ كُلِّيَّةَ الْعِلْمِ، وَلَيْسَتْ كُلِّيَّةَ الْقُدْرَةِ. هِيَ لا تَتَمَتَّعُ بِأَيٍّ مِنْ هَذِهِ الصِّفاتِ. لَكِنْ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ، الطَّبِيعَةُ الإِلَهِيَّةُ تَبْقَى إِلَهِيَّةً بِشَكْلٍ تَامٍّ وَكامِلٍ.

إِنَّ ب. ب. وَارْفِيلْد الْعَالِمَ الْعَظِيمَ فِي بْرِنْسْتُون، وَلَدَى تَعْلِيقِهِ عَلَى نَظَرِيَّةِ الإِخْلاءِ فِي أَيَّامِهِ قالَ "الإِخْلاءُ الْوَحِيدُ الَّذِي تُثْبِتُهُ هَذِهِ النَّظَرِيَّةُ هُوَ إِخْلاءُ عُقُولِ اللَّاهُوتِيِّينَ الَّذِينَ يَنْشُرُونَهَا". لَقَدْ أَخْلَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْمَنْطِقِ السَّلِيمِ. لَكِنْ بِأَيِّ حَالٍ، مَا تَمَّ إِخْلاؤُهُ، هُوَ الْمَجْدُ وَالامْتِيازُ وَالتَّسَامِي. يَسُوعُ فِي التَّجَسُّدِ أَخْلَى نَفْسَهُ، سَمَحَ لِمَكانَتِهِ الإِلَهِيَّةِ الْمُمَجَّدَةِ بِالْخُضُوعِ لِلْعَدَاوَةِ الْبَشَرِيَّةِ وَالنَّقْدِ الْبَشَرِيِّ وَالرَّفْضِ، لَقَدْ أَخَذَ صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. إِنَّهُ لأَمْرٌ مُذْهِلٌ أَنَّهُ لا يَأْتِي كَإِنْسانٍ فَحَسْبُ، بَلْ إِنَّهُ يَأْتِي كَعَبْدٍ. اتَّخَذَ مَكانَةً لا تَتَمَتَّعُ بِالتَّمْجِيدِ وَلا بِالْكَرامَةِ، بَلْ بِالإِذْلالِ فَحَسْبُ. "وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ، مَوْتَ الصَّلِيبِ".

بَعْدَ عَرْضِ هَذَا الْمُلَخَّصِ الْوَجِيزِ عَنْ إِذْلالِ يَسُوعَ خِلالَ التَّجَسُّدِ، الْكَلِمَةُ التَّالِيَةُ الَّتِي تَتْبَعُهَا مُهِمَّةٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا؛ "لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا". هَلْ تَذْكُرُونَ أَنَّهُ حِينَ كانَ يَسُوعُ فِي الْعُلِّيَّةِ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي سَبَقَتْ تَسْلِيمَهُ، فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الَّتِي قَدَّمَ فِيهَا الْعَشاءَ الإِلَهِيَّ؟ رَفَعَ تِلْكَ الصَّلاةَ الْمُسْهَبَةَ الَّتِي تُدْعَى صَلاةَ الْكَاهِنِ الأَعْلَى. هَلْ تَذْكُرُونَ أَحَدَ الأُمُورِ الَّتِي طَلَبَها يَسُوعُ فِي تِلْكَ الصَّلاةِ؟ طَلَبَ إِلَى الآبِ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِ الْمَجْدَ الَّذِي كَانَ لَهُ عِنْدَ الآبِ مُنْذُ الْبَدْءِ. قَالَ: لَقَدْ تَمَّمْتُ مُهِمَّتِي وَكُنْتُ مُطِيعًا، "وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ". وَهَذَا تَحْدِيدًا مَا يَفْعَلُهُ اللهُ مَعَ يَسُوعَ لَدَى تَتْمِيمِ عَمَلِهِ. لِمَذَلَّتِهِ نِهايَةٌ. لا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكْمُلَ مَذَلَّتُهُ الَّتِي بَدَأَتْ عِنْدَ وِلادَتِهِ بِكُلِّ مَا فِي الْكَلِمَةِ مِنْ مَعْنًى.

"لِذَلِكَ رَفَّعَهُ اللهُ أَيْضًا وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ". في سِلْسِلَةٍ أُخْرَى قَدَّمْنَاهَا سَابِقًا، تَطَرَّقْنَا بِدِقَّةٍ إِلَى الأَسْمَاءِ وَالأَلْقَابِ الَّتِي تَمَّ نَسْبُهَا إِلَى يَسُوعَ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَهْيَ فِعْلًا غَنِيَّةٌ وَمُلْهِمَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا. لَكِنْ فِي غَالِبِ الأَحْيانِ، حِينَ يَقْرَأُ الْمُؤْمِنُونَ هَذَا الْمَقْطَعَ إِنَّهُمْ يَفْتَرِضُونَ أَنَّ مَا قِيلَ هُنَا هُوَ أَنَّ الاسْمَ الَّذِي فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ هُوَ اسْمُ يَسُوعَ. لَكِنْ لَيْسَ هَذَا مَا جَاءَ فِي النَّصِّ. مَا جَاءَ فِي النَّصِّ هُوَ أنَّ اللهَ رَفَّعَهُ لِدَرَجَةِ أَنَّهُ لَدَى ذِكْرِ اسْمِ يَسُوعَ، حِينَ تَسْمَعُ اسْمَ يَسُوعَ، تَجْثُو كُلُّ رُكْبَةٍ وَيَعْتَرِفُ كُلُّ لِسانٍ بِمَاذَا؟ بِأَنَّهُ "رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ". الاسْمُ الَّذِي فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ هُوَ ذَلِكَ اللَّقَبُ الَّذِي يَعُودُ إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، ذَلِكَ اللَّقَبُ "أَدُونَاي"، الَّذِي يُشِيرُ إِلَى أَنَّ اللهَ إِلَهٌ سَيِّدٌ. هَذَا هُوَ اللَّقَبُ الْمُعْلَنُ، وَالَّذِي يَعُودُ إِلَى الْمَسِيحِ. بِسَبَبِ إِذْلالِهِ، نَظَرًا لِطَاعَتِهِ التَّامَّةِ حِينَ أَخَذَ صُورَةَ عَبْدٍ، حَرَّكَ اللهُ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ لِيَرْفَعَ ابْنَهُ، وَأَعْطَاهُ اسْمًا فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ، بِحَيْثُ إِنَّكَ حِينَ تَسْمَعُ اسْمَ يَسُوعَ سُرْعانَ مَا تَجْثُو عَلَى رُكْبَتَيْكَ وَتَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ رَبٌّ لِمَجْدِ اللهِ الآبِ. فِي هَذِهِ الْمَرْحَلَةِ، وَلَدَى تَمْجِيدِكَ الْمَسِيحِ، أَنْتَ تُمَجِّدُ الآبَ أَيْضًا.

وَهَكَذا تَرْجِعُ الأُمُورُ إِلَى حَالَتِهَا الأَسَاسِيَّةِ، إِذْلالٌ، أَوَّلًا تَمْجِيدٌ، ثُمَّ إِذْلالٌ، ثُمَّ عَوْدَةٌ إِلَى التَّمْجِيدِ. لَكِنْ هُنَا يَبْدَأُ الأَمْرُ وَقَدْ أُوْكِلَ الْمَسِيحُ بِمُهِمَّتِهِ، لا لِيَنْزِلَ وَيَمُوتَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ الْعَظِيمَةِ ثُمَّ يَرْجِعَ إِلَى السَّماءِ، لَكِنْ خِلالَ حَياتِهِ كُلِّها، إِنَّهُ مُنْشَغِلٌ بِالْمُهِمَّةِ الَّتِي وَافَقَ عَلَى أَنْ يُتَمِّمَها مَعَ الآبِ وَالرُّوحِ مُنْذُ الأَزَلِ.