المحاضرة 6: وَاحِدٌ فِي الجَوْهَرِ، ثَلاثَةُ أَقَانِيمَ

فِي مُحَاضَرَتِنَا الأَخِيرَةِ فِي إِطَارِ دِرَاسَتِنَا لِلثَالُوثِ، تَكَلَّمْنَا عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ التَنَاقُضِ وَالْمُعْضِلَةِ. مَعَ الإِشَارَةِ خِصِّيصًا إِلَى صِيغَةِ الثَالُوثِ الَتِي نَشَأَتْ فِي تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ، رَأَيْنَا أَهَمِّيَّةَ الدِقَّةِ فِي اللُغَةِ وَفَهْمِ مَضْمُونِ الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ بِحَدِّ ذَاتِهِ. وَفِي هَذِهِ الْمُحَاضَرَةِ الأَخِيرَةِ، أُرِيدُ التَطَرُّقَ إِلَى بَعْضِ الْمُصْطَلَحاتِ الَتِي تَمَّ اسْتِعْمَالُهَا تَارِيخِيًّا لِتَوْضِيحِ عَقِيدَتِنَا الْمُتَعَلِّقَةِ بِالثَالُوثِ.

قَبْلَ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ، دَعُونِي أَلْفِتُ انْتِبَاهَكُمْ بِاخْتِصَارٍ إِلَى الأَصْحَاحِ الأَوَّلِ مِنْ رِسَالَةِ الْعِبْرَانِيِّينَ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، حَيْثُ نَقْرَأُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ فِي الآيَةِ الأُولَى "اللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الْآبَاءَ بِالْأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ" – هُنَا تَمَّتِ الإِشَارَةُ إِلَى الْمَسِيحِ مُجَدَّدًا عَلَى أَنَّهُ ابْنُ اللهِ – "الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ" – هُوَ مَنْ بِوَاسِطَتِهِ تَمَّ الخَلْقُ – "الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الْأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الْأَعَالِي، صَائِرًا أَعْظَمَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِمِقْدَارِ مَا وَرِثَ اسْمًا أَفْضَلَ مِنْهُمْ".

مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْكْرِيسْتُولُوجْيَا الَتِي نَجِدُهَا فِي رِسَالَةِ الْعِبْرَانِيِّينَ سَامِيَةٌ جِدًّا، وَشَكَّلَتْ وَاحِدًا مِنَ الأَسْبَابِ الَتِي دَفَعَتِ الْكَنِيسَةَ الأُولَى إِلَى الاعْتِرَافِ بِأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ. لَكِنْ هُنَا، نَجِدُ هَذَا الْمَفْهُومَ اللَافِتَ حَيْثُ تَتِمُّ رُؤْيَةُ ابْنِ اللهِ عَلَى أَنَّهُ بَهَاءُ مَجْدِ اللهِ – وَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى أُلُوهِيَّتِهِ – وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، أَيِ جَوْهَرِ الآبِ. إِذًا، أُرِيدُ أَنْ نَرَى هُنَا أَنَّ ابْنَ اللهِ تَمَّ تَمْيِيزُهُ عَنِ الآبِ مِنْ حَيْثُ فِكْرَةُ الأُقْنُومِ. شَخْصُ الآبِ هُوَ الَذِي تَمَّ التَعْبِيرُ عَنْهُ فِي شَخْصِ الابْنِ. إِذًا، عَلَى الرُغْمِ مِنَ التَمْيِيزِ بَيْنَ الآبِ وَالابْنِ، نُصَادِفُ هُنَا أَيْضًا فِكْرَةَ التَمْيِيزِ بَيْنَ الأَقَانِيمِ ضِمْنَ شَخْصِ اللهِ.

إِحْدَى الْمَشَاكِلِ الَتِي نُصَادِفُهَا بِاعْتِرَافِ الْجَمِيعِ فِي لُغَةِ تَعْبِيرِنَا عَنِ الثَالُوثِ هِيَ أَنَّهُ حِينَ اِسْتَخْدَمَتْ الْكَنِيسَةُ الأُولَى مُصْطَلَحَ "أُقْنُومٍ" (أَوْ "شَخْصٍ") لِلتَمْيِيزِ بَيْنَ الآبِ وَالابْنِ وَالرُوحِ الْقُدُسِ، كَانَ يَتِمُّ اسْتِعْمَالُ مُصْطَلَحِ "شَخْصٍ" فِي سِيَاقٍ مُخْتَلِفٍ تَمَامًا عَنْ سِيَاقِ اسْتِعْمَالِ كَلِمَةِ "شَخْصٍ" فِي ثَقَافَتِنَا الْيَوْمَ. تَكْمُنُ هَذِهِ الْمُشْكِلَةُ دَائِمًا فِي اللُغَةِ، لأَنَّ اللُغَةَ تَمِيلُ إِلَى التَغَيُّرِ، تَتَغَيَّرُ فُرُوقُهَا الدَقِيقَةُ مِنْ جِيلٍ إِلَى آخَرَ. فِي اللُغَةِ الإنْجْلِيزِيَّةِ الْقَدِيمَةِ، إِنْ دَعَوْتَ فَتَاةً مَا "كْيُوتْ" أَيْ فَاتِنَةً فَإِنَّكَ تُهِينُهَا، لأَنَّ كَلِمَةَ "كْيُوت" كَانَتْ تَعْنِي مُتَقَوِّسَةَ السَاقَيْنِ، أَمَّا الْيَوْمَ فَهِيَ تَحْمِلُ مَعْنًى مُخْتلِفًا تَمامًا. وَهَكَذَا، تَمِيلُ اللُغَةُ إِلَى التَغَيُّرِ مَعَ مُرُورِ الْوَقْتِ.

وَكَانَ أحدُ آبَاءِ الْكَنِيسَةِ، تَرْتُلْيَانُ الَذِي كَانَ مُلِمًّا، لَيْسَ فِي اللَاهُوتِ فَحَسْبُ بَلْ فِي الْقَانُونِ أَيْضًا، وَفِي الدِرَاسَاتِ الْقَانُونِيَّةِ وَفِي الْمَيْدَانِ الْقَانُونِيِّ، هُوَ مَنْ أَدْخَلَ الْمُصْطَلَحَ اللاتِينِيَّ "بِرْسُونَايْ"، فِي مُحَاوَلَةٍ لِلتَعْبِيرِ عَنْ كْرِسْتُولُوجْيَا اللُوجُوسْ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. أَسَاسًا، تُوجَدُ إِشَارَتَانِ إِلَى مَفْهُومِ الْـ"بِيرْسُونَايْ" فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ، فِي اللُغَةِ اللَاتِينِيَّةِ. كَانَ يُشَارُ بِهَا أَوَّلًا مِنَ النَاحِيَةِ الْقَانُونِيَّةِ إِلَى مُمْتَلَكاتِ أَحَدِهِمْ، وَكَانَتْ مُمْتَلَكاتُ أَحَدِهِمْ وَمُقْتَنَياتُهُ جُزْءًا مِنْ "بِرْسُونَايْ" الْفَرْدِ. إِذًا، فِي هَذَا الإِطَارِ، كَانَتْ كَلِمَةُ "بِرْسُونَايْ" تَحْمِلُ مَعْنًى قَانُونِيًّا، عَلَى الأَقَلِّ بِالنِسْبَةِ إِلَى تَرْتِلْيَانَ.

أَيْضًا، فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ تَمَّتْ تَرْجَمَةُ كَلِمَةِ "بِرْسُونَايْ" إِلَى اللُغَةِ اللَاتِينِيَّةِ، مِنَ الْمَفْهُومِ الْيُونَانِيِّ لِلدْرَامَا فِي تِلْكَ الْحِقْبَةِ. كَانَ يَتِمُّ تَنْفِيذُ الدْرَامَا عَبْرَ تَأْدِيَةِ الْمُمَثِّلِينَ عَلَى الْمَسْرَحِ أَحْيانًا أَدْوَارًا عِدَّةً أو أَجْزَاءً عِدَّةً فِي الْمَسْرَحِيَّةِ، كَانَ الْمُمَثِّلُ نَفْسُهُ يُؤَدِّي أَكْثَرَ مِنْ دَوْرٍ وَاحِدٍ. وَحِينَ أَرَادَ الْمُمَثِّلُ تَغْيِيرَ دَوْرِهِ خِلالَ الْمَسْرَحِيَّةِ كَانَ يَضَعُ قِناعًا مُخْتَلِفًا عَلَى وَجْهِهِ، وَكَانَ يَتَكَلَّمُ مِنْ خِلالِ ذَلِكَ الْقِنَاعِ، لأَنَّ الْقِناعَ كَانَ يُشِيرُ إِلَى الدَوْرِ الَذِي يُؤَدِّيهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. لَقَدْ رَأَيْتُمْ رَمْزِيَّةَ الدْرَامَا الْيُونَانِيَّةِ الَتِي تَتَضَمَّنُ أَقْنِعَةً مُزْدَوِجَةً، أَحَدُ وَجْهَيْهَا عَابِسٌ، لِلإِشَارَةِ إِلَى الْمَأْسَاةِ الدْرَامِيَّةِ، وَالْوَجْهُ الآخَرُ تَعْلُوهُ ابْتِسَامَةٌ عَرِيضَةٌ، مَا يُمَثِّلُ الْكُومِيدْيَا. تِلْكَ الأَقْنِعَةُ الَتِي كَانَ يَسْتَعْمِلُها عَلَى الْمَسْرَحِ مُمَثِّلونَ يُؤَدُّونَ أَدْوارًا عِدَّةً، كَانَتْ تُدْعَى "بِرْسُونَايْ".

ذَاتَ مَرَّةٍ، شَهِدْتُ حُدُوثَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِي. مُنْذُ سَنَوَاتٍ عِدَّةٍ كَانَتْ إِحْدَى أَكْبَرِ الْمَسْرَحِيَّاتِ الَتِي لاقَتْ نَجَاحًا فِي "بْرُودْوَايْ"، نُسْخَةً حَدِيثَةً لِسِفْرِ أَيُّوبَ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَكَانَ عُنْوَانُهَا بِبَسَاطَةٍ "ج. ب.". وَبَازِيل رَاثْبُون الَذِي اشْتَهَرَ فِي فِيلْمِ "شِيرْلُوكْ هُولْمْز"، وَاشْتَهَرَ فِي فِيلْمِ "شِريفْ أُوفْ نُوتِينْجْهَام" فِي سِلْسِلَةِ "رُوبِين هُودْ" الْقَدِيمَةِ؛ لَعِبَ بَازِيل رَاثْبُون دَوْرَ اللهِ وَدَوْرَ الشَيْطَانِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءَ فِي مَسْرَحِيَّةِ "بْرُودْوَايْ". فِي الْوَاقِعِ، عِنْدَمَا شَاهَدْتُهُ، كُنْتُ مَحْظُوظًا بِمَا يَكْفِي لأَجْلِسَ حَرْفِيًّا فِي الصَفِّ الأَمَامِيِّ فِي الْوَسَطِ، وَكَانَ رَاثْبُون يَقِفُ تَمامًا عِنْدَ حَافَّةِ الْمَسْرَحِ. لَمْ تَكُنْ تَفْصِلُهُ خَمْسَةُ أَقْدَامٍ عَنِّي أَثْنَاءَ تَأْدِيَةِ تِلْكَ الْمَسْرَحِيَّةِ، وَكانَ لَدَيْهِ قِنَاعَانِ. وَأَثْنَاءَ تَأْدِيَةِ دَوْرِ اللهِ كَانَ يَضَعُ قِنَاعًا عَلَى وَجْهِهِ وَيَتَكَلَّمُ مِنْ خِلالِهِ، وَأَثْنَاءَ تَأْدِيَةِ دَوْرِ الشَيْطَانِ، كَانَ يَضَعُ الْقِنَاعَ الآخَرَ وَيَتَكَلَّمُ مِنْ خِلالِهِ. وَهَذَا أَمْرٌ قَائِمٌ مُنْذُ الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ، حِينَ يَتِمُّ وَضْعُ تِلْكَ الأَقْنِعَةِ لِلإِشَارَةِ إِلَى أَدْوَارٍ مُخْتَلِفَةٍ أَوْ أَشْخَاصٍ مُخْتَلِفِينَ. لِذَا تَمَّتْ تَسْمِيَتُهُمْ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ "بِرْسُونَايْ".

هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ الأَصْلِيُّ الَذِي أَدْخَلَهُ تِرْتُلْيانْ إِلَى تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ. لَكِنْ مَعَ نُمُوِّ الْكَنِيسَةِ خِلالَ الْقُرُونِ الأَرْبَعَةِ أَوْ الْخَمْسَةِ الأُولَى، أَصْبَحَ مَفْهُومُ الشَخْصِ أَكْثَرَ تَحْدِيدًا مِنْ ذَلِكَ. وَالْكَلِمَةُ الْيُونَانِيَّةُ الَتِي تَمَّ اسْتِعْمَالُهَا هِيَ كَلِمَةُ "هُوبُوسْتَاسِيس"، أَوْ نُسَمِّيهَا فِي اللُغَةِ الإِنْجْلِيزِيَّةِ "هَايْبُوسْتَاتِيكْ" أَيْ أُقْنُومِيًّا، الِاتِّحادُ الأُقْنُومِيُّ. وَلِكَلِمَةِ "هُوبُوسْتَاسِيس"، أَيْ أُقْنُومٍ، أَهَمِّيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ فِي اللُغَةِ الْيُونَانِيَّةِ، كَمَا أَنَّهَا تَلْعَبُ دَوْرًا فِي الْعِلْمِ الْحَدِيثِ، بِالنِسْبَةِ إِلَى الْبَعْضِ مِنْكُمْ مِمَّنْ يَمِيلُونَ إِلَى فَهْمِ كَيْفِيَّةِ اسْتِعْمَالِهَا هُنَا.

لَكِنْ لِفَهْمِ الِاتِّحادِ الأُقْنُومِيِّ، أُرِيدُ أَنْ نُعِيدَ النَظَرَ فِي مَفْهُومَيْنِ أَسَاسِيَّيْنِ نَجِدُهُمَا فِي لُغَتِنَا وَفِي مُفْرَدَاتِنا. عَلَى وَجْهِ التَحْدِيدِ، ثَلاثُ كَلِمَاتٍ مَعْرُوفَةٌ لَدَيْنَا جَمِيعًا، لَكِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الثَلاثَ مُهِمَّةٌ جِدًّا عِنْدَمَا يَتَعَلَّقُ الأَمْرُ بِفَهْمِ عَقِيدَةِ الثَالُوثِ الْمَسِيحِيَّةِ. تِلْكَ الْكَلِمَاتُ الثَلاثُ هِيَ أَوَّلًا، "إِسِينْسْ"، (أَيْ الجَوْهَرُ)؛ ثَانِيًا، "إِكْسِيسْتَانْس"، (أَيْ الوُجُودُ)؛ وَثَالِثًا، "سَابْسِيسْتَانْسْ"، (أَيْ البَقَاءُ). سَمِعْتُمْ جَمِيعًا تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الثَلاثَ فِي مَرْحَلَةٍ مَا فِي حَيَاتِكُمْ: "الجَوْهَرُ"، وَ"الوُجُودُ"، وَ"البَقَاءُ". لِكَيْ نَفْهَمَ مَعْنَى تِلْكَ الْمَفاهِيمِ عَلَيْنَا الْعَوْدَةُ قَلِيلًا إِلَى الْفِكْرِ الْيُونَانِيِّ وَالْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ. وَقَدْ سَبَقَ لَنَا أَنْ رَأَيْنَا ذَلِكَ فِي مَا يَتَعَلَّقُ بِمُصْطَلَحِ "هُومُو أُوسِيُوس" وَ"هُومُويْ أُوسِيُوس" فِي نِيقِيَّةَ وَمَا إِلَى ذَلِكَ.

وَكَلِمَةُ "أُوسِيُوس" هِيَ الْمَصْدَرُ الْمُشْتَقُّ مِنْ فِعْلِ "كَانَ"، إِذًا، يُمْكِنُنَا تَرْجَمَةُ كَلِمَةِ "أُوسِيُوس" بِكَلِمَةِ "كَيْنُونَةٍ" (أَوْ "كِيان"). وَمُفْرَدَاتُ مَفْهُومِ الْكَيْنُونَةِ الْيُونَانِيِّ تَتَضَمَّنُ كَلِمَاتٍ مِثْلَ: "سَابْسْتَانْس"، (أَيْ المُحْتَوَى)؛ "إِسِينْسْ"، (أَيْ الجَوْهَرُ)؛ وَالتَعْرِيفُ الأُبْسَطُ لِكَلِمَةِ "أُوسِيُوس" هُوَ "المَادَّةُ". وَإِنْ رَجِعْتُمْ إِلَى الْفَلاسِفَةِ الْقُدَامَى الَذِينَ بَحَثُوا عَنِ الْوَاقِعِ الْمُطْلَقِ، وَالَذِين اطَّلَعُوا بِمُهِمَّةِ مَا نُسَمِّيهِ الْمِيتَافِيزِيقْيَا أَوْ "الفِيُوسِيس"، أَيِ الْفِيزْيَاءَ الَتِي تَتَجَاوَزُ إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ مَا نَراهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ، كَانُوا يَبْحَثُونَ عَنِ الْوَاقِعِ الْمُطْلَقِ أَيْ الَذِي لا يَتَغَيَّرُ أَبَدًا، كَانُوا يَبْحَثُونَ عَنْ مُحْتَوَى الأَشْيَاءِ أَوْ جَوْهَرِهَا. وَهَذَا مَا كَانَ يُعْرَفُ بِـ"أُوسِيُوس"، أَوْ كَمَا قُلْتُ، الْجَوْهَرِ أَوِ المُحْتَوَى.

قَامَ أَفْلاطُونُ بِتَمْيِيزٍ مُهِمٍّ جِدًّا بَيْنَ الْكَيْنُونَةِ وَالتَحَوُّلِ. أُكَرِّرُ، تَعُودُ جُذُورُ هَذَا التَمْيِيزِ إِلَى مَا نُسَمِّيهِ "فَلْسَفَةَ مَا قَبْلَ سُقْرَاطَ"، إِلَى الْفَلاسِفَةِ الَّذِينَ جَاءُوا قَبْلَ سُقْرَاطَ. الأَشْخَاصُ بَيْنَكُمْ مِمَّنْ أَلْقَوْا نَظْرَةً عَلَى سِلْسِلَةِ "عَواقِبُ الأَفْكَارِ"، الَتِي تُعْطِينَا لَمْحَةً عَنْ تَارِيخِ الْفَلْسَفَةِ، يَعْرِفُونَ هَذَا الأَمْرَ. سَبَقَ أَنْ ذَكَرْتُ أَنَّ اثْنَيْنِ مِنَ الْفَلاسِفَةِ الَذِينَ سَبَقُوا أَفْلاطُونَ كَانَا فِي صِراعٍ بِشَأْنِ دَوْرِ الْكَيْنُونَةِ وَالتَحَوُّلِ فِي الْوَاقِعِ. بَارْمِنِيدْس، الَذِي كَانَ يُعْتَبَرُ الْفَيْلَسُوفَ الأَكْثَرَ ذَكاءً قَبْلَ سُقْرَاطَ وَالَذِي لَمْ يَبْقَ لَنَا أَيُّ شَيْءٍ مِنْ أَثَرِهِ الْيَوْمَ، اشْتَهَرَ بِجُمْلَةٍ قَالَهَا فِي إِحْدَى الْمُنَاسَبَاتِ "كُلُّ مَا هُوَ كَائِنٌ، هُوَ كَائِنٌ الآنَ" لأَنَّهُ إِنْ كَانَ أَمْرٌ مَا يَتَغَيَّرُ بِاسْتِمْرَارٍ، أَيُمْكِنُنَا أَنْ نَصِفَ مَا هُوَ عَلَيْهِ الآنَ؟ لأَنَّكَ مَا إِنْ تَظُنَّ أَنَّكَ وَصَفْتَ حَالَتَهُ الآنَ، حَتَّى لا يَبْقَى عَلَى حَالِهِ وَيَتَغَيَّرَ. وَهُوَ يَقُولُ "لِكَيْ يَكُونَ أَمْرٌ مَا حَقِيقِيًّا أَسَاسًا، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالَةِ كَيْنُونَةٍ، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ لَدَيْهِ مَادةٌ أَوْ جَوْهَرٌ حَقِيقِيَّانِ، وَإِلَّا فَهُوَ يَكُونُ مِنْ نَسْجِ خَيَالِنا". إِذًا، قَامَ أَفْلاطُونُ بِالتَمْيِيزِ بَيْنَ الْكَيْنُونَةِ وَالتَحَوُّلِ، لأَنَّ بَارْمِنِيدْس قَالَ: "كُلُّ مَا هُوَ كَائِنٌ هُوَ كَائِنٌ الآنَ" وَعَكْسُهُ هِيرَاقْلِيطِس، الذِي يُسَمِّيهِ الْبَعْضُ أَبَا الْوُجُودِيَّةِ الْحَدِيثَةِ. قَالَ هِيرَاقْلِيطِس: "لا، كُلُّ مَا هُوَ كَائِنٌ الآنَ يَتَغَيَّرُ"، كُلُّ الأَشْيَاءِ فِي تَغَيُّرٍ مُتَوَاصِلٍ، الأَمْرُ الْوَحِيدُ الثَابِتُ هُوَ التَغْيِيرُ بِحَدِّ ذَاتِهِ. قَالَ: "لا يُمْكِنُكَ الْغَوْصُ فِي النَهْرِ نَفْسِهِ مَرَّتَيْنِ، لأَنَّكَ عِنْدَمَا تَقُومُ بِالْخُطْوَةِ الثَانِيَةِ يَكُونُ النَهْرُ قَدْ جَرَى"، وَلا تَعُودُ هَذِهِ الْمِيَاهُ نَفْسَها الَتِي غُصْتَ فِيهَا فِي الْمَرَّةِ الأُولَى. فِي الْوَاقِعِ، أَنْتَ لَسْتَ الشَخْصَ نَفْسَهُ لأَنَّكَ تَغَيَّرْتَ لِمُجَرَّدِ أَنَّكَ كَبِرْتَ بِضْعَ ثَوَانٍ. وَقَالَ إِنَّ أَبْسَطَ أَمْرٍ فِي الْوَاقِعِ الَذِي نَشْهَدُهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ، أَيَّ شَيْءٍ نَراهُ، حَتَّى إِنْ كَانَ حَجَرًا، هُوَ قَيْدُ التَغَيُّرِ، وَهُوَ قَيْدُ التَحَوُّلِ.

لَكِنَّ أَفْلاطُونَ يَقُولُ إِنَّهُ لا يُمْكِنُ لأَيِّ شَيْءٍ أَنْ يَتَحَوَّلَ إِلَّا إِذَا كَانَ مُشَارِكًا فِي الْكَيْنُونَةِ بِطَرِيقَةٍ أَوْ بِأُخْرَى، لأَنَّهُ إِنْ كَانَ مُتَحَوِّلًا تَمَامًا وَكُلِّيًّا – وَهَذَا مَا قَالَهُ أَرِسْطَو – إِنْ كَانَ مُتَحَوِّلًا تَمَامًا وَكُلِّيًّا، فَإِنَّ كَيْنُونَتَهُ تَكُونُ مُجَرَّدَ احْتِمالٍ. وَالشَيْءُ الَذِي هُوَ قَيْدُ التَحَوُّلِ الْبَحْتِ، مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يَكُونَ أَيَّ شَيْءٍ، لَكِنَّهُ فِعْلِيًّا لا شَيْءُ. لِهَذَا السَبَبِ حَاوَلَ أَرِسْطُو وَأَفْلَاطُونُ أَنْ يُثْبِتَا إِنَّهُ لِكَيْ يَكُونَ لِلتَحَوُّلِ مَعْنًى، فَلا بُدَّ أَنْ تَكُونَ لَهُ كَيْنُونَةٌ سَابِقَةٌ. وَلا يُوجَدُ احْتِمَالٌ فِي الْكَيْنُونَةِ. اللهُ كَائِنٌ صِرْفٌ، إِنَّهُ حَقِيقَةٌ بَحْتَةٌ، وَلا احْتِمَالَ فِيهِ.

لَكِنْ بِأَيِّ حَالٍ، حِينَ كَانَا يُنَاقِشَانِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْكَيْنُونَةِ وَالتَحَوُّلِ، كَانَا يَتَكَلَّمَانِ عَنِ الْفَرْقِ بَيْنَ "إِسِينْس" أَيِ الْجَوْهَرِ، وَهُوَ عُنْصُرُ كَيْنُونَةِ شَيْءٍ مَا وَمَادَّتُهُ. وَإِنْ أَرَدْنَا الْكَلامَ عَنْ بُعْدِ التَحَوُّلِ بِمُصْطَلَحاتٍ فَلْسَفِيَّةٍ، فَالْكَلِمَةُ الأَسَاسِيَّةُ الَتِي تَمَّ اسْتِعْمَالُهَا تَارِيخِيًّا هِيَ الْكَلِمَةُ الثَانِيَةُ، "إِكْسِيسْتَانْس" (أَيْ الوُجُودُ). ذَاتَ مَرَّةٍ، قَدَّمْتُ مُحَاضَرةً فِي أَحَدِ مُؤْتَمَرَاتِنا حَيْثُ أَنْكَرْتُ عَلانِيَةً "أَكْسِيسْتَانْس" اللهِ، (أَيْ وُجُودِ اللهِ). قُلْتُ: "أُرِيدُ أَنْ أُؤَكِّدَ الْيَوْمَ بِشَكْلٍ قَاطِعٍ عَلَى أَنَّ اللهَ غَيْرُ مَوْجُودٍ. فِي الْوَاقِعِ، إِنْ كَانَ مَوْجُودًا فَإِنِّي أَتَوَقَّفُ عَنِ الإِيمَانِ بِهِ". إِنْ بَدَتْ أَيُّ جُمْلَةٍ تَافِهَةً فَإِنَّهَا هَذِهِ الْجُمْلَةُ، لَكِنْ مَا قَصَدْتُهُ بِذَلِكَ عِنْدَمَا قُلْتُ إِنَّ اللهَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُوَ الْقَوْلُ إِنَّ اللهَ لَيْسَ فِي حَالَةِ تَحَوُّلٍ، إِنَّهُ فِي حَالَةِ الْكَيْنُونَةِ الصِرْفِ. لَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي حَالَةِ وُجُودٍ، لَكَانَ يَمُرُّ فِي تَحَوُّلاتٍ، وَلَكَانَ قَيْدَ التَغَيُّرِ، وَلَمَا كَانَ غَيْرَ قَابِلٍ لِلتَحَوُّلِ، لَمَا كَانَ الإِلَهَ الَذِي نُؤْمِنُ بِهِ.

عِنْدَمَا كَانَ أَفْلاطُونُ مَثَلًا يَتَنَاوَلُ تِلْكَ الْمَفاهِيمَ كَانَتْ تُوجَدُ ثَلاثُ فِئَاتٍ أَسَاسًا، هِيَ الْكَيْنُونَةُ، وَالتَحَوُّلُ، وَاللا كَيْنُونَةُ. وَبِالطَّبْعِ، اللا كَيْنُونَةُ مُرَادِفَةٌ لِلَّا شَيْءِ. وَمَا هُوَ اللَا شَيْءُ؟ طَرْحُ هَذَا السُؤَالِ هُوَ بِمَثَابَةِ الإِجَابَةِ عَلَيْهِ، لأَنِّي إِنْ قُلْتُ إِنَّ اللا شَيْءَ هُوَ شَيْءٌ فَإِنِّي أَنْسِبُ الشَيْءَ إِلَى اللا شَيْءِ، وَأَقُولُ إِنَّ للَا شَيْءِ مَضْمُونًا، لِلا شَيْءِ كَيْنُونَةً. وَإِنْ كَانَ لَدَيْهِ كَيْنُونَةٌ فَهُوَ لَيْسَ لا شَيْءَ، بَلْ إِنَّهُ شَيْءٌ. إِذًا، أَحَدُ أَصْعَبِ الْمَفَاهِيمِ الَتِي عَلَيْنَا تَناوُلَها فِي الْفَلْسَفَةِ هُوَ مَفْهُومُ اللَا شَيْءِ، أَوِ اللا شَيْءِ الْمَحْضِ. حَاوِلْ أَنْ تُفَكِّرَ فِي اللا شَيْءِ الْمَحْضِ، لا يُمْكِنُكَ ذَلِكَ. أَعْنِي أَنَّ جُونَاثانْ إِدْوَارْدْز حَدَّدَ اللا شَيْءَ عَلَى أَنَّهُ مَا تَحْلُمُ بِهِ الصُخُورُ النَائِمَةُ. أَقْرَبُ تَعْرِيفٍ تَوَصَّلْتُ إِلَيْهِ لِكَلِمَةِ لا شَيْءٍ هُوَ حِينَ كَانَ ابْنِي فِي الْمَدْرَسَةِ الإِعْدادِيَّةِ، كَانَ يَأْتِي إِلَى الْبَيْتِ مِنَ الْمَدْرَسَةِ كُلَّ يَوْمٍ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ "مَاذَا فَعَلْتَ فِي الْمَدْرَسَةِ الْيَوْمَ؟" كَانَ يُجِيبُ "لا شَيْءَ". إِذًا، كُنْتُ أَعَرِّفُ اللا شَيْءَ عَلَى أَنَّهُ مَا يَفْعَلُهُ ابْنِي فِي الْمَدْرَسَةِ كُلَّ يَوْمٍ. مِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَلَّا يَفْعَلَ شَيْئًا. إِنْ كُنْتَ تَفْعَلُ، فَأَنْتَ تَفْعَلُ شَيْئًا.

إِذًا، مَا أَدْرَكَهُ أَفْلاطُونُ هُوَ أَنَّ الْوُجُودَ الْبَشَرِيَّ، أَوْ عَالَمَ التَحَوُّلِ، مَوْجُودٌ أَوْ كَائِنٌ فِي مَكَانٍ مَا بَيْنَ الْكَيْنُونَةِ وَاللا كَيْنُونَةِ. لاحِظُوا أَنِّي بَدَأْتُ بِالْقَوْلِ إِنَّهُ مَوْجُودٌ ثُمَّ انْتَقَلْتُ إِلَى الْقَوْلِ إِنَّهُ كَائِنٌ، لا مَفَرَّ مِنْ ذَلِكَ. الأَشْخَاصُ الَذِينَ يَعْتَرِضُونَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الأَقْوَالِ الْيُونَانِيَّةِ فِي الْفِكْرِ الْمَسِيحِيِّ، أَنَا أَتَحَدَّاهُمْ أَنْ يُحَاوِلُوا أَنْ يَتَكَلَّمُوا لِدَقِيقَتَيْنِ مِنْ دُونِ أَنْ يَسْتَعْمِلُوا شَكْلًا مِنْ أَشْكَالِ الْفِعْلِ "كَانَ". إِلَى أَيِّ مَدًى تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتَكَلَّمَ وَأَنْ تَقُولَ شَيْئًا مِنْ دُونِ أَنْ تَلْجَأَ إِلَى الْكَلامِ عَنْ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكِيَانِ أَوِ الْوُجُودِ. هَذَا أَمْرٌ أَسَاسِيٌّ فِي لُغَتِنَا وَفِي أَيِّ تَوَاصُلٍ.

إِذًا، بِأَيِّ حَالٍ، الاشْتِقَاقُ الإِتِيمُولُوجِيُّ لِكَلِمَةِ "إِكْسِيسْتَانْس" أَوْ "وُجُودِ"، هُوَ أَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبَادِئَةِ اللَاتِينِيَّةِ "إِكْسْ"، وَمَعْنَاهَا "خَارِجَ أَمْرٍ مَا"؛ وَالْجَذْرِ "سِيسْتِيرِي" وَهُوَ فِعْلٌ يَعْنِي "يَقِفُ". إِذًا، حَرْفِيًّا، "أَنْ تُوجَدَ" تَعْنِي "أَنْ تَقِفَ خَارِجَ أَمْرٍ مَا". هَذَا لا يَعْنِي أَنَّكَ إِنْ كُنْتَ مَوْجُودًا، فَأَنْتَ "أَوْتْسَتانْدِينْج"، (أَيْ رَائِعٌ). لا تَتَوَصَّلْ إِلَى هَذَا الاسْتِنْتَاجِ. مَا يَعْنِيهِ ذَلِكَ هُوَ وَصْفُ وَضْعِيَّةٍ أَوْ وَقْفَةٍ. سَأُحَاوِلُ تَفْسِيرَ الأَمْرِ مِنْ خِلالِ عَمَلٍ فَنِّيٍّ. فَلْنَقُلْ إِنَّ هَذَا الإِنْسَانَ رَسْمٌ مُؤَلَّفٌ مِنْ خُطُوطٍ وَنِقَاطٍ، وَلِهَذَا الرَسْمِ قَدَمٌ فِي الْكَيْنُونَةِ وَأُخْرَى فِي اللا كَيْنُونَةِ. وَبِالتَالِي، هُوَ وَاقِفٌ خَارِجَ الْكَيْنُونَةِ، لَكِنَّهُ وَاقِفٌ أَيْضًا خَارِجَ اللا كَيْنُونَةِ. إِذًا، هُوَ فِي وَضْعِيَّةٍ مَا، بَيْنَ الْكَيْنُونِيَّةِ الصِرْفَ. هُوَ لَيْسَ كَائِنًا صِرْفًا، لَكِنْ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ نَحْنُ لَسْنَا لا شَيْءَ. لَدَيْنَا شَيْءٌ مِنَ الْوَاقِعِ. إِذًا، نَحْنُ وَاقِفُونَ خَارِجَ الْكَيْنُونَةِ كَمَا أَنَّنَا وَاقِفُونَ خَارِجَ اللا كَيْنُونَةِ، وَبِالتَالِي نَحْنُ مَوْجُودُونَ.

لِذَا، عِنْدَمَا وَضَعَتِ الْكَنِيسَةُ عَبْرَ التَارِيخِ عَقِيدَةَ الثَالُوثِ، لَمْ تَقُلْ "وَاحِدًا فِي الْجَوْهَرِ، وَثَلاثَةً مِنْ حَيْثُ الْوُجُودِ". لَمْ تَقُلْ "وَاحِدًا فِي الْجَوْهَرِ"، قَالَتْ: "ثَلاثَةَ أَقَانِيمَ". لَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَمْيِيزِ الأُقْنُومِيِّ دَاخِلَ الثَالُوثِ لا يَعْنِي وُجُودَ ثَلاثَةِ كِيَانَاتٍ، وَإِنَّمَا الْمُصْطَلَحُ الْمُسْتَعْمَلُ هُوَ "سَابْسِيسْتَانْس"، أَيِ الْبَقَاءُ. وَكَلِمَةُ "سَابْسِيسْتَانْس" هِيَ الْمُرَادِفُ اللَاتِينِيُّ لِلْمَفْهُومِ الْيُونَانِيِّ لِلْـ"هِيبُوسْتَاسِيس"، أَيِ الأُقْنُومِ، لأَنّ الْكَلِمَتَيْنِ تَحْمِلانِ الْمَعْنَى نَفْسَهُ لُغَوِيًّا وَاشْتِقَاقِيًّا.

كَثِيرًا مَا تَسْمَعُونَ كَلِمَةَ "سَابْسِيسْتَانْس"، (أَيْ "بَقَاءَ")، فِي ثَقَافَتِنَا وَلُغَتِنَا فِي إِطَارِ الْكَلامِ عَنِ الأَشْخَاصِ الْمُصَابِينَ بِالْفَقْرِ الْمُدْقِعِ، الْوَاقِعِينَ فِي الاحْتِياجِ الشَدِيدِ، وَالَذِينَ بِالْكَادِ يَبْقَوْنَ عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ، وَيُجَاهِدُونَ لِلْخُرُوجِ مِمَّا نُسَمِّيهِ مُسْتَوَى الْبَقَاءِ فِي الْحَيَاةِ، وَهُمْ تَقْرِيبًا عَلَى مُسْتَوًى أَدْنَى مِنَ الْوُجُودِ. سَبَبُ اسْتِعْمَالِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ هُوَ أَنَّهُ بَدَلًا مِنَ الْبَادِئَةِ "إِكْسْ"، كَمَا فِي كَلِمَةِ "إِكْسِيسْتَانْس" أَوْ وُجُودٍ، نُصَادِفُ الْبَادِئَةَ "سَابْ"، مَعَ الْجَذْرِ نَفْسِهِ. وَالْبَادِئَةُ "سَابْ" تَعْنِي "أَدْنَى" أَوْ "تَحْتَ". وَبِالتَالِي، إِنَّ تَطَرُّقَنَا إِلَى مَفْهُومِ وَحْدَةِ الأُقْنُومِ الْيُونَانِيِّ، فَإِنَّ وَحْدَةَ الأُقْنُومِ، أَوْ "هُوبُوسْتَاسِيس"، تَعْنِي فِي الْيُونَانِيَّةِ الْوُقُوفَ دُونَ أَوِ الْوُقُوفَ تَحْتَ. إِذًا الْكَلِمَتَانِ "هُوبُوسْتَاسِيس"، أَيْ الِاتِّحادُ الأُقْنُومِيُّ، وَ"سَابْسِيسْتَانْس"، (أَيِ الْبَقَاءُ)، تَحْمِلانِ الْمَعْنَى نَفْسَهُ لُغَوِيًّا، وَكِلاهُمَا يَتَضَمَّنُ الْجَذْرَ نَفْسَهُ الَذِي نَجِدُهُ فِي كَلِمَةِ "إِيكْسِيسْتَانْس" أَيِ، وُجُودٍ، وَالْجَذْرُ هُوَ "يَقِفُ".

إِذًا، فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، مَا قَالَتْهُ الْكَنِيسَةُ هُوَ أَنَّهُ لَدَى اللهِ "إِسِينْس" وَاحِدٌ (أَيْ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ)، لَكِنْ ثَلاثَةُ "سَابِسِيسْتَانْس". تُوجَدُ ثَلاثَةُ "بِرْسُونَايْ"، (أَيْ أَقَانِيمَ)، أَيْ مَنْ يَقِفُ تَحْتَ الْجَوْهَرِ. إِنَّها جُزْءٌ مِنَ الْجَوْهَرِ، إِنَّهَا تَمْلِكُ كُلُّهَا الْجَوْهَرَ نَفْسَهُ، لَكِنْ، كَمَا ذَكَرْتُ، نَحْنُ لا نَقُومُ بِتَمْيِيزٍ مِنْ حَيْثُ الْجَوْهَرُ. لا يُوجَدُ فَرْقٌ جَوْهَرِيٌّ بَيْنَ الآبِ وَالابْنِ وَالرُوحِ الْقُدُسِ، لأَنَّ الثَلاثَةَ يَمْلِكُونَ جَوْهَرَ الأُلُوهِيَّةِ. لَكِنْ تُوجَدُ صِفَاتٌ مُمَيَّزَةٌ لِكُلِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ شَخْصِ اللهِ نَسْتَطِيعُ مِنْ خِلالِهَا أَنْ نُمَيِّزَ بَيْنَ الْعُضْوِ وَالآخَرِ. نَحْنُ نَقُولُ إِنَّ الآبَ هُوَ اللهُ، وَالابْنَ هُوَ اللهُ، وَالرُوحَ الْقُدُسَ هُوَ اللهُ، لَكِنَّنَا لا نَقُولُ إِنَّ الآبَ هُوَ الابْنُ، وَالابْنَ هُوَ الرُوحُ الْقُدُسُ، أَوْ إِنَّ الرُوحَ الْقُدُسَ هُوَ الآبُ. نَحْنُ لا نَفْعَلُ ذَلِكَ، لأَنَّنَا نَقُومُ بِهَذَا التَمْيِيزِ الْحَقِيقِيِّ. إِنَّهَا حَقِيقَيَّةٌ، لَكِنَّهَا لا تَخِلُّ بِجَوْهَرِ الأُلُوهِيَّةِ. إِذًا، التَمْيِيزُ دَاخِلَ شَخْصِ اللهِ، إِذَا جَازَ التَعْبِيرُ، هُوَ تَمْيِيزٌ فَرْعِيٌّ دَاخِلَ الْجَوْهَرِ، وَنِقَاطٌ فَرْعِيَّةٌ ضِمْنَ جَوْهَرِ اللهِ الْمُفْرَدِ. وَاحِدٌ فِي الْجَوْهَرِ، وَثَلاثَةُ أَقَانِيمَ؛ هَذَا هُوَ التَعْبِيرُ الأَقْرَبُ مَا يُمْكِنُ لِتَحْدِيدِ عَقِيدَةِ الثَالُوثِ.