المحاضرة 2: شَهادَةُ الكِتابِ المُقَدَّسِ
بَيْنَمَا نُتَابِعُ الآنَ دِرَاسَتَنَا لِعَقِيدَةِ الثَالُوثِ، نُذَكِّرُ بِأَنَّهُ فِي مُحَاضَرَتِنَا الأُولَى تَكَلَّمْنَا بِإِيجَازٍ عَنْ مَفْهُومِ تَوْحِيدِ اللهِ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، أَيِ التَأْكِيدِ عَلَى أنَّ اللهَ واحدٌ، وَأَشَرْنَا إِلَى قِيَامِ جِدَالٍ بِشَأْنِ الْفَتْرَةِ فِي تَارِيخِ الْفِدَاءِ الَتِي ظَهَرَ فِيهَا الإِيمَانُ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ. هَلْ كَانَ قَائِمًا فِي بِدَايَةِ الْخَلْقِ، كَمَا يُؤَكِّدُ الْمُعْتَقَدُ الْقَوِيمُ، أَمْ أَنَّهُ نَشَأَ لاحِقًا؟
أَمَّا الْيَوْمَ، فَنُرِيدُ أَنْ نَتَكَلَّمَ عَنِ الرَابِطِ بَيْنَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ وَالْعَهْدِ الْجَدِيدِ. وَدَعُونِي أَبْدَأُ بِالْقَوْلِ إِنَّهُ عَلَى الرُّغْمِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ لَدَيْنَا أَيُّ تَحْدِيدٍ وَاضِحٍ لِلثَالُوثِ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، إِلَّا أَنَّنَا نَجِدُ إِشَارَةً مِنْ وَقْتٍ لآخَرَ إِلَى الثَالُوثِ فِي صَفَحَاتِ تَارِيخِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ. إِحْدَى الإِشَارَاتِ الْمُهِمَّةِ، هِيَ تِلْكَ الَتِي تَكَلَّمْنَا عَنْهَا مِنْ مِنْظَارٍ مُخْتَلِفٍ، وَمِنْهَا اسْتِعْمَالُ الْجَمْعِ لِتَسْمِيَةِ اللهِ، إِلُوهِيم. يَعْتَبِرُ النُقَّادُ اسْتِعْمَالَ هَذَا الاسْمِ شَكْلًا وَاضِحًا مِنْ أَشْكَالِ الإِيمَانِ بِعِدَّةِ آلِهَةٍ، إِلَّا أَنَّ الآخَرِينَ رَأَوْا فِي هَذَا الاسْمِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، لا سِيَّمَا وَقَدْ تَبِعَهُ فِعْلٌ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ، نَوْعًا مِنَ الإِشَارَةِ الضِمْنِيَّةِ إِلَى شَخْصِيَّةِ اللهِ الْمُتَعَدِّدَةِ الأَوْجُهِ.
وَالآنَ، دَعُونِي أُطْلِعْكُمْ عَلَى بَعْضِ الأُمُورِ فِي هَذَا الصَدَدِ. أَوَّلًا، لا أَظُنُّ أَنَّ الأَمْرَ يُشِيرُ بِالضَرُورَةِ إِلَى الثَالُوثِ، لأَنَّ هَذِهِ قَدْ تَكُونُ بِبَسَاطَةٍ صِيغَةً أَدَبِيَّةً، مُشَابِهَةً لِمَا نُسَمِّيهِ الْجَمْعَ الافْتِتَاحِيَّ أَوْ الـ"نَحْنُ" الافْتِتَاحِيَّةَ، عِنْدَمَا يَسْتَعْمِلُ الْكَاتِبُ صِيغَةَ الْجَمْعِ لإِيصَالِ فِكْرَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ إِنَّنَا نَرَى جَمْعَ الْعَظَمَةِ حَيْثُ يَقُومُ مُلُوكٌ، أَوْ بَابَاوَاتٌ، أَوْ أَصْحَابُ مَرَاكِزَ عُلْيَا بِاسْتِهْلالِ تَعْلِيقَاتِهِمْ بِالْقَوْلِ "نَحْنُ نَقْضِي"، أَوْ "نَحْنُ نُعْلِنُ"، إِلَى آخِرِهِ. وَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْحَالَ. لَكِنَّ التَفْسِيرَ الأَكْثَرَ احْتِمَالًا هُوَ اعْتِبَارُ هَذِهِ وَسِيلَةً أَدَبِيَّةً عِبْرِيَّةً تُعْرَفُ بِجَمْعِ الْقُوَّةِ. وَجَمْعُ الْقُوَّةِ هَذَا يُوَجِّهُ الانْتِبَاهَ إِلَى عُمْقِ شَخْصِيَّةِ اللهِ الَذِي تَكْمُنُ فِيهِ كَافَّةُ عَنَاصِرِ الأُلُوهِيَّةِ وَالْجَلالَةِ.
إِذًا، أَنَا أَقُولُ عَلَى الأَقَلِّ إِنَّ تَسْمِيَةَ إِلُوهِيمَ مُتَنَاغِمَةٌ مَعَ عَقِيدَةِ الثَالُوثِ، وَقَدْ تُشِيرُ فِي الْوَاقِعِ إِلَى هَذا الاتِّجَاهِ، لَكِنَّ الْكَلِمَةَ نَفْسَهَا لا تَقْتَضِي أَنْ نَسْتَنْتِجَ مِنْهَا عَقِيدَةَ الثَالُوثِ. عَلاوَةً عَلَى ذَلِكَ، بَيْنَ هِلالَيْنِ لِلأَشْخَاصِ بَيْنَكُمْ الَذِينَ يُبْدُونَ بَعْضَ الاهْتِمَامِ بِالتَخْمِينِ الْفَلْسَفِيِّ، لا سِيَّمَا بِالْجُزْءِ مِنَ الْفَلْسَفَةِ الَذِي يُعْنَى بِالْمَاوَرَائِيَّاتِ وَبِمَسَائِلِ الْوُجُودِ، رُبَّمَا تَذْكُرُونَ أَنَّهُ فِي الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ الْقَدِيمَةِ، إِحْدَى الْمَسَائِلِ الأَسَاسِيَّةِ الَتِي كَانَ الْفَلاسِفَةُ الْيُونَانِيُّونَ يُحَاوِلُونَ حَلَّهَا هِيَ مُشْكِلَةُ مَا يُعْرَفُ بِـ"الوَاحِدِ وَالْكَثِيرِ". جُزْءٌ كَبِيرٌ مِنَ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ الأُولَى مُكَرَّسٌ لِهَذِهِ الصُعُوبَةِ.
كَيْفَ نَفْهَمُ أُمُورًا عِدَّةً بَعِيدًا عَنِ اخْتِبَارِنَا؟ هَلْ نَعِيشُ فِي كَوْنٍ مُتَرَابِطٍ مَنْطَقِيًّا أَسَاسًا، أَمْ أَنَّنَا نَعِيشُ فِي كَوْنٍ فَوْضَوِيٍّ أَسَاسًا؟ وَافْتِرَاضَاتُ الْعِلْمِ مَثَلًا، تُفِيدُ بِأَنَّنَا لِكَيْ نَكْتَسِبَ الْمَعْرِفَةَ لا بُدَّ مِنْ وُجُودِ تَرَابُطٍ مَنْطِقِيٍّ، وَلا بُدَّ مِنْ وُجُودِ نَوْعٍ مِنْ تَرْتِيبٍ لِلأُمُورِ، وَإِلَّا تَكُونُ الْمَعْرِفَةُ مُسْتَحِيلَةً. إِذًا، عَمَلُنا كُلُّهُ فِي مَجَالِ التَحْقِيقِ الْعِلْمِيِّ يَقْتَضِي ضِمْنًا مَا يَعْتَبِرُهُ كَارْل سَاجَان نِظامًا كَامِلًا مُتَنَاغِمًا، وَلَيْسَ فَوْضَى. إِذًا، هَذَا لا يَعْنِي أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ وُجُودِ شَيْءٍ يُضْفِي وَحْدَةً عَلَى كُلِّ التَنَوُّعِ الَذِي نَخْتَبِرُهُ فِي الْعَالَمِ.
وَفِي الْفِكْرِ الْيُونَانِيِّ، بَرَزَتْ مُحَاوَلَةٌ لإِيجَادِ وَحْدَةٍ وَتَنَوُّعٍ بِطَرِيقَةٍ مُتَرَابِطَةٍ مَنْطِقِيًّا. فِي الْوَاقِعِ، تَأْتِي كَلِمَةُ "كَوْنُ" مِنْ مَفْهُومِ الْوَحْدَةِ وَالتَنَوُّعِ مَعًا، أَيْ أَنَّنَا نَعِيشُ فِي مَكَانٍ يَضُمُّ تَنَوُّعًا كَبِيرًا لَكِنَّهُ مُوَحَّدٌ؛ وَقَدْ سَعَى الْفَلاسِفَةُ الْيُونَانِيُّونَ (وَأَقُولُ إِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ سُدًى) إِلَى إِيجَادِ مَصْدَرِ الْوَحْدَةِ وَالتَنَوُّعِ مَعًا.
لَكِنْ فِي الإِيمَانِ الْمَسِيحِيِّ، وَفِي النَظْرَةِ الْمَسِيحِيَّةِ إِلَى الْعَالَمِ يَجِدُ التَنَوُّعُ كُلُّهُ وَحْدَتَهُ الْمُطْلَقَةَ فِي اللهِ نَفْسِهِ. وَمِنَ اللافِتِ أَنَّنَا حَتَّى فِي كِيَانِ اللهِ نَجِدُ الْوَحْدَةَ وَالتَنَوُّعَ مَعًا، بِالأَحْرَى، الأَسَاسُ الْمُطْلَقُ لِلْوَحْدَةِ وَالتَنَوُّعِ. لَكِنْ، كَمَا قُلْتُ، تَمَّ التَلْمِيحُ إِلَى ذَلِكَ بِأَفْضَلِ طَرِيقَةٍ مُمْكِنَةٍ فِي الْكَلِمَاتِ الافْتِتَاحِيَّةِ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ مَعَ مَفْهُومِ اسْمِ إِلُوهِيمَ. لَكِنْ، بِالإِضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ، أَيْضًا فِي قِصَّةِ الْخَلْقِ نَرَى رُوحَ اللهِ فَاعِلًا فِي الْخَلْقِ، صَانِعًا شَيْئًا مِنْ لا شَيْءَ، وَيُلائِمُ مَعَايِيرَ الأُلُوهِيَّةِ الظَاهِرَةِ مَثَلًا فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. إِذًا، هَذَا تَلْمِيحٌ آخَرُ لِشَخْصِيَّةِ اللهِ الْمُتَعَدِّدَةِ الأَقَانِيمِ فِي وَقْتٍ سَابِقٍ فِي ذَلِكَ العَمَلِ.
وَمُجَدَّدًا، فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ كُلِّهِ، وَفِي نَظْرَتِهِ لِمَجِيءِ عَبْدِ الرَبِّ وَمَا إِلَى ذَلِكَ، تُوجَدُ مَرَاجِعُ أُخْرَى تُبَيِّنُ شَخْصِيَّةَ اللهِ الثَالُوثِيَّةَ. الْمَرْجَعُ الَذِي سَأَذْكُرُهُ بَيْنَ هِلالَيْنِ، بَدَلًا مِنَ الْغَوْصِ فِي الْمَوْضُوعِ وَالْعَجْزِ عَنِ التَقَدُّمِ، هُوَ نَصٌّ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ تَمَّ الاقْتِبَاسُ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. وَنَصُّ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ الَذِي غَالِبًا مَا تَمَّ الاقْتِبَاسُ مِنْهُ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ نَصٍّ آخَرَ هُوَ الْمَزْمُورُ 110، الَذِي يَبْدَأُ بِدَايَةً غَرِيبَةً جِدًّا حِينَ يَقُولُ كَاتِبُ الْمَزْمُورِ "أَيُّهَا الرَّبُّ سَيِّدُنَا، مَا أَمْجَدَ اسْمَكَ..." عَفْوًا، إِنَّهُ الْمَزْمُورُ 8. جَاءَ فِي الْمَزْمُورِ 110ِ "قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي".
عَلَى نَحْوٍ مُمَيَّزٍ، عِنْدَمَا تَرَى رَبْطَ اسْمِ اللهِ "يَهْوَه" بِاللَقَبِ "أَدُونَايْ" فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، فَإِنَّكَ تَرَى اسْمَ اللهِ الشَخْصِيِّ، يَهْوَه، وَلَقَبَهُ الأَعْلَى أَوِ الأَسْمَى "أَدونَايْ" مُرْتَبِطًا بِهِ. عِنْدَمَا خَلَطْتُ بَيْنَ الْمَرَاجِعِ مُنْذُ قَلِيلٍ وَتَكَلَّمْتُ عَنِ الْمَزْمُورِ 8، بِمَ يَبْدَأُ الْمَزْمُورُ الثَامِنُ؟ "أَيُّهَا الرَّبُّ سَيِّدُنَا"، يَا يَهْوَه، أَدُونَاي، "مَا أَمْجَدَ اسْمَكَ فِي كُلِّ الْأَرْضِ!" حَيْثُ يُوجَدُ تَطَابُقٌ وَاضِحٌ بَيْنَ أَدُونَايْ وَيَهْوَه. لَكِنَّ مَا تَجِدُهُ فِي هَذَا النَصِّ الرَائِعِ، فِي الْمَزْمُورِ 110، هُوَ إِجْرَاءُ اللهِ حَدِيثًا مَعَ رَبِّ دَاوُدَ "قَالَ الرَّبُّ (يَهْوَه) لِرَبِّي (أَدُونَايْ): اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي". بِالطَبْعِ، هَذَا مَا يُوَضِّحُهُ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ، وَيَتَكَلَّمُ عَنْ كَوْنِ يَسُوعَ ابْنَ دَاوُدَ، وَرَبَّهُ. إِذًا، نَحْنُ نَرَى إِشَارَةً أُخْرَى إِلَى الْبُعْدِ الْمُتَعَدِّدِ لِكِيَانِ اللهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْمَزْمُورِ 110. وَالْمَزْمُورُ نَفْسُهُ هُوَ الَذِي يُعْلِنُ أَنَّ ابْنَ اللهِ سَيَكُونُ كَاهِنًا إِلَى الأَبَدِ، كَاهِنًا أَبَدِيًّا عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِي صَادِقَ.
عِنْدَمَا نَتَنَاوَلُ الْعَهْدَ الْجَدِيدَ، لا يَبْدُو كَمَا لَوْ أَنَّ الْعَهْدَ الْجَدِيدَ يُنْكِرُ تَأْكِيدَ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ عَلَى الإِيمَانِ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ. إِنَّ مَفَاهِيمَ الإِيمانِ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ الرَّاسِخَةَ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ لَيْسَتْ مُفْتَرَضَةً فَحَسْبُ، بَلْ مُكَرَّرَةً مِرَارًا فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. سَأُعْطِيكُمْ مَثَلًا تَوْضِيحِيًّا أَوْ أَمْثِلَةً تَوْضِيحِيَّةً عِدَّةً عَلَى الأَمْرِ. فَلْنَنْظُرْ أَوَّلًا إِلَى مَقْطَعٍ مَشْهُورٍ جِدًّا فِي سِفْرِ أَعْمَالِ الرُسُلِ. فِي سِفْرِ أَعْمَالِ الرُسُلِ، الأَصْحاحُ 17 وَابْتِدَاءً مِنَ الآيَةِ 22، حِينَ يَصِلُ بُولُسُ إِلَى مَرْكَزِ الثَقَافَةِ الْيُونَانِيَّةِ فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ، نَقْرَأُ "فَوَقَفَ بُولُسُ فِي وَسْطِ أَرِيُوسَ بَاغُوسَ (أو مَارْسْ هِيل) وَقَالَ: أَيُّهَا الرِّجَالُ الْأَثِينِوِيُّونَ! أَرَاكُمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَأَنَّكُمْ مُتَدَيِّنُونَ كَثِيرًا، لِأَنَّنِي بَيْنَمَا كُنْتُ أَجْتَازُ وَأَنْظُرُ إِلَى مَعْبُودَاتِكُمْ، وَجَدْتُ أَيْضًا مَذْبَحًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ: "لِإِلَهٍ مَجْهُولٍ"".
وَالآنَ، دَعُونِي أَقُومُ بِمُدَاخَلَةٍ بَسِيطَةٍ لَوْ سَمَحْتُمْ. يُلاحِظُ بُولُسُ فِي بِدَايَةِ وُصُولِهِ إِلَى أَثِينَا أَنَّ رُوحَهُ انْزَعَجَتْ فِي دَاخِلِهِ، وَشَعَرَ بِالإِحْبَاطِ لأَنَّهُ رَأَى الْمَدِينَةَ مُنْدَفِعَةً وَرَاءَ عِبَادَةِ الْوَثَنِ، وَأَيْنَمَا ذَهَبَ كَانَ يَرَى دِيَانَةً مُزَيَّفَةً. وَلَمَّا ذَهَبَ إِلَى أَرِيُوسَ بَاغُوسَ، حَيْثُ يُوجَدُ مَعْبَدُ مَارْسْ فِي أَثِينَا، مَرَّ بِجَمِيعِ الْمَعَابِدِ الأُخْرَى، وَعَايَنَ هَذِهِ الْمُمَارَسَةَ الدِينِيَّةَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَلاحَظَ كَمَا لَوْ أَنَّ الْيُونَانِيِّينَ كَانُوا خَائِفِينَ أَنْ يَنْسَوْا إِلَهًا، فَكَتَبُوا عَلَى الْمَذْبَحِ "لِإِلَهٍ مَجْهُولٍ".
سَنَتَطَرَّقُ بَعْدَ قَلِيلٍ إِلَى مَا قَالَهُ بُولُسُ عَنِ الأَمْرِ، لَكِنْ دَعُونِي لِلَحْظَةٍ أُعِلِّقُ عَلَى الأَمْرِ بَيْنَ هِلالَيْنِ. أَحَدُ الأُمُورِ الأَكْثَرِ إِدْهَاشًا الَتِي رَأَيْتُها فِي دِرَاسَاتِي الْعُلْيَا فِي السِتِّينيَّاتِ، أَيْ فِي الْعَامِ 1960 وَلَيْسَ الْعَامَ 1860، هُوَ الدَلِيلُ الْمُنْبَثِقُ مِنَ الأَنْتْرُوبُولُوجْيَا اللَاهُوتِيَّةِ وَعُلَمَاءِ الاجْتِمَاعِ، الَذِينَ كَانُوا يَدْرُسُونَ الآراءَ الدِينِيَّةَ التَابِعَةَ لِقَبَائِلَ بِدَائِيَّةٍ عِدَّةٍ فِي الْعَالَمِ، وَالَتِي تُفِيدُ بِأَنَّهُ عَلَى الرُّغْمِ مِنْ ظُهُورِ مَذْهَبِ حَيَوِيَّةِ الْمَادَّةِ الَذِي كَانَ سَائِدًا فِي ثَقَافَتِهِمْ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الثَقَافَاتِ الْبِدَائِيَّةِ، إِنْ تَمَّ سَبْرُ غَوْرِهَا مَعَ الْجِيلِ الْقَدِيمِ الْحَكِيمِ فَإِنَّهَا تَتَكَلَّمُ عَنِ الإِلَهِ الْمَوْجُودِ مِنَ النَاحِيَةِ الأُخْرَى، أَوِ الإِلَهِ الَذِي تَمَّ إِبْعَادُهُ عَنْهُمْ، وَالَذِي عَلَى الرُغْمِ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِحْوَرَ مُمَارَسَتِهِمْ الدِينِيَّةِ الْيَوْمِيَّةِ، كَانَ رَاسِخًا فِي إِدْرَاكِهِمْ الْقَبَلِيِّ لِوُجُودِ إِلَهٍ عَلِيٍّ عَظِيمٍ.
إِذًا، بَدَلًا مِنْ أَنْ تُثْبِتَ تِلْكَ الْقَبَائِلُ الْبِدَائِيَّةُ فَرَضِيَّةَ مَذْهَبِ حَيَوِيَّةِ الْمَادَّةِ، عَلَى الْعَكْسِ، إِنَّ أَشْخَاصًا مِثْلَ مِيسُورِيس إِيلِيَادَايْ وَهَايِنْدْريك كْرَامِر وَغَيْرِهِمْ، اكْتَشَفُوا هَذَا الْعُنْصُرَ التَقْلِيدِيَّ لَدَى تِلْكَ الْقَبَائِلِ الْمُؤْمِنَةِ بِحَيَوِيَّةِ الْمَادَّةِ الْمُتَعَلِّقِ بِإِلَهٍ، أَشْبَهَ بِإِلَهٍ مَجْهُولٍ، لَمْ يَكُونُوا عَلَى تُوَاصُلٍ مَعَهُ لَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى دِرَايةٍ بِوُجُودِهِ؛ مَا يَتَطَابَقُ طَبْعًا مَعَ إِعْلانِ بُولُسَ فِي الأَصْحَاحِ الأَوَّلِ مِنْ رِسَالَةِ رُومِيَةَ، بِأَنَّ إِلَهَ الْكَوْنِ كُلِّهِ أَعْلَنَ عَنْ نَفْسِهِ لِلْجَمِيعِ، وَبِأَنَّ الْجَمِيعَ تَسَلَّمَ تِلْكَ الرِسَالَةَ، وَبِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ عَلَى دِرَايَةٍ بِوُجُودِ اللهِ الْعَلِيِّ. لَكِنْ مَا الَذِي تَفْعَلُهُ طَبِيعَةُ الإِنْسَانِ الآثِمَةُ؟ فِي جَمِيعِ الْحَالاتِ عَلَى الإِطْلاقِ وَمِنْ دُونِ اسْتِثْناءٍ، نَحْنُ نَحْجِزُ تِلْكَ الْمَعْرِفَةَ وَنَكْبِتُهَا، وَنَسْتَبْدِلُ تِلْكَ الْمَعْرِفَةَ الَتِي تَسَلَّمْنَاهَا مِنَ اللهِ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. وَهَذَا مَا يَجْعَلُنَا مُذْنِبِينَ أَمَامَ اللهِ، لَكِنْ هَذِهِ قِصَّةٌ أُخْرَى.
لَكِنْ فِي هَذَا الْوَقْتِ، وَبِالْعَوْدَةِ إِلَى سِفْرِ أَعْمَالِ الرُسُلِ وَأَثِينَا، يَذْكُرُ بُولُسُ أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ الْمَذْبَحَ التَابِعَ لإِلَهٍ مَجْهُولٍ، وَيَقُولُ "فَالَّذِي تَتَّقُونَهُ وَأَنْتُمْ تَجْهَلُونَهُ (أَوْ مِنْ دُونِ أَنْ تَعْرِفُوهُ أَوْ بِشَكْلٍ لا أَدْرِيٍّ) هَذَا أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ. الْإِلَهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، هَذَا، إِذْ هُوَ رَبُّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، لَا يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِالْأَيَادِي، وَلَا يُخْدَمُ بِأَيَادِي النَّاسِ كَأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى شَيْءٍ، إِذْ هُوَ يُعْطِي الْجَمِيعَ حَيَاةً وَنَفْسًا وَكُلَّ شَيْءٍ. وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَحَتَمَ بِالْأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ، لِكَيْ يَطْلُبُوا اللهَ لَعَلَّهُمْ يَتَلَمَّسُونَهُ فَيَجِدُوهُ، مَعَ أَنَّهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا لَيْسَ بَعِيدًا. لِأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ، كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ أَيْضًا: لِأَنَّنَا أَيْضًا ذُرِّيَّتُهُ. فَإِذْ نَحْنُ ذُرِّيَّةُ اللهِ، لَا يَنْبَغِي أَنْ نَظُنَّ أَنَّ اللَّاهُوتَ شَبِيهٌ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَرِ نَقْشِ صِنَاعَةِ وَاخْتِرَاعِ إِنْسَانٍ. فَاللهُ الْآنَ يَأْمُرُ جَمِيعَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَتُوبُوا، مُتَغَاضِيًا عَنْ أَزْمِنَةِ الْجَهْلِ. لِأَنَّهُ أَقَامَ يَوْمًا هُوَ فِيهِ مُزْمِعٌ أَنْ يَدِينَ الْمَسْكُونَةَ بِالْعَدْلِ، بِرَجُلٍ قَدْ عَيَّنَهُ، مُقَدِّمًا لِلْجَمِيعِ إِيمَانًا إِذْ أَقَامَهُ مِنَ الْأَمْوَاتِ". إذًا، هُنَا أَيْضًا، يُؤَكِّدُ بُولُسُ مُجَدَّدًا وَبِوُضُوحٍ عَلَى الْمَفْهُومِ الْيَهُودِيِّ الْكْلاسِيكِيِّ لِلإِيمانِ بِإِلَهٍ وَاحِدٍ؛ إِلَهٍ وَاحِدٍ صَنَعَ كُلَّ الأَشْيَاءِ وَمِنْهُ تَنْبَثِقُ كُلُّ الأَشْيَاءِ.
فَلْنَتَطَرَّقْ إِلَى نَصٍّ آخَرَ. فِي رِسَالَةِ كُورِنْثُوسَ الأُولَى الأَصْحَاحِ الثَامِنِ، والآيَةِ الرَابِعَةِ، إِذَا أَمْكَنَ. كَانَ بُولُسُ يَتَحَدَّثُ عَنْ أَكْلِ الطَعَامِ الْمَذْبُوحِ لِلأَوْثانِ، عَنْ مُشْكِلَةٍ عَمَلِيَّةٍ وَرَعَوِيَّةٍ ظَهَرَتْ فِي كَنِيسَةِ كُورِنْثُوسَ. قَالَ فِي الآيَةِ الأُولَى مِنَ الأَصْحَاحِ الثامِنِ "وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ مَا ذُبِحَ لِلْأَوْثَانِ: فَنَعْلَمُ أَنَّ لِجَمِيعِنَا عِلْمًا. الْعِلْمُ يَنْفُخُ، وَلَكِنَّ الْمَحَبَّةَ تَبْنِي. فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَظُنُّ أَنَّهُ يَعْرِفُ شَيْئًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ شَيْئًا بَعْدُ كَمَا يَجِبُ أَنْ يَعْرِفَ! وَلَكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُحِبُّ اللهَ، فَهَذَا مَعْرُوفٌ عِنْدَهُ. فَمِنْ جِهَةِ أَكْلِ مَا ذُبِحَ لِلْأَوْثَانِ: نَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ وَثَنٌ فِي الْعَالَمِ". نَعْلَمُ أَنَّهُ لا يُوجَدُ جَوْهَرٌ وَلا مَعْنًى وَلا أَهَمِّيَّةٌ وَلا قُوَّةٌ وَلا كِيَانٌ لأَيِّ وَثَنٍ، "وَأَنْ لَيْسَ إِلَهٌ آخَرُ إِلَّا وَاحِدًا. لِأَنَّهُ وَإِنْ وُجِدَ مَا يُسَمَّى آلِهَةً، سِوَاءٌ كَانَ فِي السَّمَاءِ أَوْ عَلَى الْأَرْضِ، كَمَا يُوجَدُ آلِهَةٌ كَثِيرُونَ وَأَرْبَابٌ كَثِيرُونَ. لَكِنْ لَنَا إِلَهٌ وَاحِدٌ: الْآبُ الَّذِي مِنْهُ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ لَهُ. وَرَبٌّ وَاحِدٌ: يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي بِهِ جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ، وَنَحْنُ بِهِ". إِذًا، فِي الْجُمْلَةِ نَفْسِهَا الَتِي يَنْسِبُ فِيهَا بُولُسُ الأُلُوهِيَّةَ إِلَى الْمَسِيحِ، إِنَّهُ يُعَاوِدُ التَأْكِيدَ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ عَلَى وَحْدَةِ اللهِ أَيْ كَوْنِهِ وَاحِدًا.
حَسَنًا إِذًا، لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ عَنْ إِلَهٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ يُؤَكِّدُ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ عَلَى أُلُوهِيَّةِ الرُوحِ الْقُدُسِ وَأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ؟ إِنَّ السَبَبَ الَذِي دَفَعَ الْكَنِيسَةَ إِلَى الْقِيَامِ بذلك، كَمَا ذَكَرْتُ سَابِقًا، هُوَ قِيَامُ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ بِذَلِكَ. وَنَحْنُ نَرَى ذَلِكَ فِي صَفَحَاتِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. يَجِبُ تَخْصِيصُ سِلْسِلَةٍ مُنْفَصِلَةٍ مِنَ الْمُحَاضَرَاتِ لِلتَأَمُّلِ فِي كُلِّ مَقْطَعٍ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ يَنْسُبُ الأُلُوهِيَّةَ إِلَى الْمَسِيحِ، وَأَيْضًا سِلْسِلَةٍ مُنْفَصِلَةٍ أُخْرَى مِنَ الْمُحَاضَرَاتِ لِلتَأَمُّلِ فِي كُلِّ مَقْطَعٍ، أَوْ لانْتِقَاءِ الْمَقَاطِعِ الَتِي تَمَّ فِيهَا نَسْبُ الأُلُوهِيَّةِ إِلَى الرُوحِ الْقُدُسِ.
فَلْنَنْظُرْ إِلَى بَعْضِ تِلْكَ الْمَقَاطِعِ الَتِي تَتَجَلَّى فِيهَا أُلُوهِيَّةُ الْمَسِيحِ بِوُضُوحٍ. نَحْنُ نَرَى ذَلِكَ بِشَكْلٍ خَاصٍّ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، وَسَأَرْجِعُ إِلَى إِنْجِيلِ يُوحَنَّا الأَصْحَاحِ الأَوَّلِ بَعْدَ قَلِيلٍ لأَنَّهُ الْمَقْطَعُ الأَهَمُّ عَلَى الإِطْلاقِ. لَكِنْ تَذَكَّرُوا أَنَّهُ فِي قَوْلِ يَسُوعَ "أَنَا هُوَ"، حِينَ قَالَ "أَنَا هُوَ الْبَابُ" و"أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ"، وَهَذَا النَوْعَ مِنَ الأُمُورِ، فِي هَذَا السِيَاقِ، لا سِيَّمَا فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا وَالأَصْحَاحِ الثَامِنِ، يَقُولُ رَبُّنَا "قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ". وَفِي كُلِّ مَكَانٍ وَرَدَتْ فِيهِ هَذِهِ الْعِبَارَةُ يَسْتَعْمِلُ يَسُوعُ هَذِهِ الصِيغَةَ اللُغَوِيَّةَ الَتِي تَمَّ اسْتِعْمَالُهَا لِتَرْجَمَةِ اسْمِ اللهِ الأَسَاسِيِّ "يَهْوَه". وَصِيغَةُ "إِيجُو إِيمِي"، أَيْ "أَنَا هُوَ، أَنَا هُوَ"، هِيَ الصِيغَةُ الَتِي تَمَّتْ بِمُوجَبِهَا تَرْجَمَةُ اسْمِ اللهِ مِنَ الْعِبْرِيَّةِ إِلَى الْيُونَانِيَّةِ. وَفِي أَحْيَانٍ عِدَّةٍ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا يَسْتَعْمِلُ هَذِهِ الصِيغَةَ لِلإِشَارَةِ إِلَى نَفْسِهِ. وَرُبَّما نَرَى ذَلِكَ يَتَجَلَّى بِشَكْلٍ أَوْضَحَ فِي الإِشَارَةِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، الَذِي هُوَ مِن الآبَاءِ، وأَبُو الْمُؤْمِنِينَ والَذِي وَقَّرَهُ الْمُجْتَمَعُ فِي أَيَّامِ يَسُوعَ، هُوَ قَالَ: "أَتُرِيدُونَ اسْتِعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ ضِدِّي؟ الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ (أَنَا كُنْتُ)"، لا، بَلْ قَالَ: "قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ". وَيتَضَمَّنُ هَذا إِعْلانًا عَنِ الأَزَلِيَّةِ، وَإِعْلانًا عَنِ الأُلُوهِيَّةِ. مَا يَفُوتُ أُنَاسًا كُثُرًا فِي أَيَّامِنَا، فَهِمَهُ مُعَاصِرُو يَسُوعَ فِي الْقَرْنِ الأَوَّلِ سَرِيعًا، وَثَارَتْ ثَائِرَةُ خُصُومِهِ عَلَيْهِ لأَنَّهُمْ اتَّهَمُوهُ بِأَنَّهُ حَتَّى وَهْوَ إِنْسَانٌ جَعَلَ نَفْسَهُ مُسَاوِيًا للهِ، حَتَّى إِنَّ ادِّعَاءَ الْبُنُوَّةِ كَانَ يُعْتَبَرُ تَجْدِيفًا لَدَى مُعَاصِرِيهِ. إِذًا، جَمِيعُ تِلْكَ النُصُوصِ الَتِي يُعْلِنُ فِيهَا يَسُوعُ أَنَّهُ الابْنُ الَذِي أَرْسَلَهُ الآبُ، وَالَذِي كانَ مَعَ الآبِ فِي السَمَاءِ وَمَا شَابَهَ، تَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ.
أَيْضًا فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا، نَجِدُ السَرْدَ اللَافِتَ لِظُهُورِ يَسُوعَ بَعْدَ الْقِيَامَةِ، حِينَ كَانَ بَعْضُ التَلامِيذِ قَدْ رَأَوْهُ فِي غِيَابِ تُومَا. أَتَذْكُرُونَ تُومَا الْمُشَكِّكَ هُوَ قَالَ: "إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لَا أُومِنْ". فِي وَسَطِ هَذَا التَشْكِيكِ، ظَهَرَ لَهُ يَسُوعُ وَأَرَاهُ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ. لَمْ نَقْرَأْ مَا إِذَا كَانَ تُومَا قَدْ حَقَّقَ مَعَهُ تَكْتِيكِيًّا، لَكِنْ مَاذَا كَانَ رَدُّ فِعْلِهِ؟ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَقَالَ لِيَسُوعَ: "رَبِّي وَإِلَهِي!". لاحِظُوا أَنَّهُ فِي سِفْرِ أَعْمَالِ الرُسُلِ حِينَ كَانَ النَاسُ مُنْدَهِشِينَ جِدًّا بِبُولُسَ وَسِيلا حَتَّى إِنَّهُمْ سَجَدُوا لَهُمَا وَعَبَدُوهُمَا، انْتَهَرَهُمْ هَذَانِ الاثْنَانِ عَلَى الْفَوْرِ. حَتَّى عِنْدَمَا عَايَنَ النَاسُ ظُهُورَ الْمَلائِكَةِ وَبَدَؤُوا يَعْبُدُونَ الْمَلائِكَةَ، انْتَهَرَهُمُ الْمَلائِكَةُ قَائِلِينَ إِنَّهُ لا تَجُوزُ عِبَادَتُهُمْ لأَنَّهُمْ مُجَرَّدُ خَلائِقَ. وَهَا إِنَّ يَسُوعَ يَقْبَلُ أَنْ يَعْبُدَهُ تُومَا، مِنْ دُونِ أَنْ يَنْتَهِرَهُ، مُعْتَبِرًا اعْتِرَافَ تُومَا صَحِيحًا؛ "رَبِّي وَإِلَهِي!"
كَمَا أَنَّنَا نَرَى مَرَاجِعَ كَثِيرَةً فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ تُشِيرُ إِلَى بَرَكَةِ الثَالُوثِ، وَصِيغَةِ الثَالُوثِ لِلْمَعْمُودِيَّةِ، وَأَمْرِ الْمَسِيحِ بِأَنْ يَتَعَمَّدَ النَاسُ بِاسْمِ الآبِ وَالابْنِ وَالرُوحِ الْقُدُسِ. مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ النَصَّ الأَكْثَرَ غِنًى فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ هُوَ الآيَةُ الافْتِتَاحِيَّةُ لإِنْجِيلِ يُوحَنَّا، حَيْثُ نَقْرَأُ فِي الأَصْحَاحِ الأَوَّلِ مِنْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ (أَيِ اللُوجُوسْ)، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ". فِي تِلْكَ الآيَةِ الأُولَى تَرَوْنَ مُعْضِلَةَ الثَالُوثِ، لأَنَّهُ فِي الْجُزْءِ الأَوَّلِ مِنَ الْجُمْلَةِ، اللُوجُوسْ، الَذِي كَانَ مَعَ اللهِ مُنْذُ الْبَدْءِ، هُوَ أَزَلِيٌّ، لَكِنَّهُ مُتَمَيِّزٌ عَنِ اللهِ، إِذْ تَمَّ وَصْفُهُ عَلَى أَنَّهُ مَعَ اللهِ. يُمْكِنُنِي أَنْ أُضِيفَ أَنَّ الْكَلِمَةَ الْوَارِدَةَ هُنَا هِيَ الْكَلِمَةُ الَتِي تَصِفُ الْمَعِيَّةَ الأَقْرَبَ والأَلْصَقَ. تُوجَدُ كَلِمَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي اللُغَةِ الْيُونَانِيَّةِ يُمْكِنُ تَرْجَمَتُهَا بِكَلِمَةِ "مَعَ"، لَكِنَّ الْكَلِمَةَ الَتِي تَمَّ اسْتِعْمَالُهَا هُنَا تَعْنِي الأَقْرَبَ، وَتَعْنِي عَمَلِيًّا وُجُودَ عَلاقَةٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ.
وَلَكِنْ تَمَّ التَمَيُّزُ فِي الْجُزْءِ الأَوَّلِ مِنَ النَصِّ بَيْنَ اللُوجُوسْ وَاللهِ، ثُمَّ مَاذَا جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ؟ وَالْكَلِمَةُ لَمْ يَكُنْ مَعَ اللهِ فَحَسْبُ، بَلْ كانَ اللهَ. إِذًا، تَرَى مِنْ نَاحِيَةٍ أَنَّهُ يَجِبُ التَفْرِقَةُ بَيْنَ الْكَلِمَةِ وَاللهِ، وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، يَجِبُ اعْتِبَارُ الْكَلِمَةِ وَاللهِ وَاحِدًا، لِذَا سادَ مَفْهُومُ اللُوجُوسْ عَلَى الْفِكْرِ الْفَلْسَفِيِّ وَاللَاهُوتِيِّ الْمَسِيحِيِّ خِلالَ السَنَوَاتِ الثَلاثِمَائَةٍ الأُولَى مِنْ تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ. هَذَا الْمَفْهُومُ الَذِي عَرَضَهُ يُوحَنَّا فِي إِنْجِيلِهِ غَنِيٌّ وَمُهِمٌّ جِدًّا، لأَنَّهُ يُتَابِعُ قَائِلًا بِشَأْنِ اللُوجُوسْ إِنَّهُ كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ هُوَ لَيْسَ مَخْلُوقًا. فِي الْوَاقِعِ "كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ". وَهَكَذَا إِذًا، تَمَّ نَسْبُ الصِفَاتِ وَالمُمَيِّزَاتِ الإِلَهِيَّةِ إِلَى اللُوجُوسْ الأَبَدِيِّ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا. وَهَذَا وَاحِدٌ مِنَ الأَسْبَابِ الرَئِيسِيَّةِ الَتِي دَفَعَتِ الْكَنِيسَةَ إِلَى وَضْعِ عَقِيدَةِ الثَالُوثِ.