المحاضرة 8: سِفْرُ الرُؤْيَا

مِنَ الْمُؤَكَّدِ أَنَّنَا إِنْ أَرَدْنَا دِرَاسَةَ أُخْرَوِيَّاتِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، وَإِنْ أَبْدَيْنَا اهْتِمَامًا بِمَا يُعَلِّمُهُ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ بِشَأْنِ الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ سَيَقُودُنَا حَتْمًا إِلَى النَظَرِ فِي مُحْتَوَى وَأَهَمِّيَّةِ سِفْرِ الرُؤْيَا فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. لَا أَظُنُّ أَنَّهُ يُوجَدُ أَيُّ سِفْرٍ آخَرَ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ تَعَرَّضَ لِلْفَحْصِ وَالتَدْقِيقِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا السِفْرِ، وَتَعَدَّدَتْ وَاخْتَلَفَتْ تَفْسِيرَاتُهُ أَكْثَرَ مِنْ سِفْرِ الرُؤْيَا. وَجُزْءٌ كَبِيرٌ مِنْ سَبَبِ ذَلِكَ هُوَ طَبِيعَةُ الْقَوَالِبِ الْأَدَبِيَّةِ الَتِي نَجِدُهَا فِيهِ. فَهُوَ مَلِيءٌ بِالصُوَرِ الْمَجَازِيَّةِ وَالرُمُوزِ وَيَتَضَمَّنُ شَتَّى أَنْوَاعِ الصُوَرِ الْحَيَّةِ الَتِي تَبْدُو لَنَا غَرِيبَةً أَحْيَانًا. وَيَعْتَقِدُ الْبَعْضُ أَنَّهُ حَتَّى حِينَ تَمَّتْ كِتَابَتُهُ، تَمَّتْ صِيَاغَتُهُ فِي شَكْلِ رُمُوزٍ مُشَفَّرَةٍ لِحَجْبِ مَضْمُونِ رِسَالَتِهِ عَنِ السُلُطَاتِ الرُومَانِيَّةِ آنَذَاكَ. وَلَكِنْ بِالطَبْعِ يَبْقَى هَذَا الْأَمْرُ مَحَلَّ تَخْمِينٍ. وَأَيْضًا كَثُرَتِ الْمُنَاقَشَاتُ وَالْجِدَالَاتُ بِشَأْنِ مَعَانِي الرُمُوزِ وَمَا تُشِيرُ إِلَيْهِ.

لَكِنْ يُطْرَحُ سُؤَالٌ مُهِمٌّ جِدًّا بِشَأْنِ سِفْرِ الرُؤْيَا يَتِمُّ تَجَاهُلُهُ بِشَكْلٍ كَبِيرٍ بَيْنَ الْمَسِيحِيِّينَ، وَالسُؤَالُ هُوَ "مَتَى تَمَّتْ كِتَابَةُ السِفْرِ؟" لِأَنَّنَا عِنْدَمَا نَسْعَى إِلَى فَهْمِ أَيِّ سِفْرٍ مِنْ أَسْفَارِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ يَجِبُ أَنْ نَجْتَهِدَ وَنَبْحَثَ وَنَدْرُسَ خَلْفِيَّةَ كِتَابَةِ السِفْرِ، عِنْدَئِذٍ يُصْبِحُ تَارِيخُ كِتَابَةِ السِفْرِ مُهِمًّا جِدًّا. كَمَا أَنَّنَا نُرِيدُ أَنْ نَعْرِفَ مَنْ كَتَبَهُ وَلِمَنْ كَتَبَهُ. نَحْنُ نَعْلَمُ مَنْ كَتَبَ سِفْرَ الرُؤْيَا. فَهُوَ يُنْسَبُ إِلَى الرَسُولِ يُوحَنَّا، الَذِي يُخْبِرُنَا أَنَّهُ كَانَ مَنْفِيًّا فِي جَزِيرَةِ بَطْمُسَ، وَأَنَّهُ تَسَلَّمَ هَذِهِ الرُؤْيَا الْمُبَاشِرَةَ مِنَ الْمَسِيحِ، وَتَلَقَّى أَمْرًا بِكِتَابَةِ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ أَجْلِ تَعْلِيمِ الْكَنِيسَةِ وَمَنْفَعَتِهَا. فَنَطْرَحُ السُؤَالَ: "حَسَنًا، يَقُولُ يُوحَنَّا إِنَّهُ كَانَ فِي جَزِيرَةِ بَطْمُسَ، وَكَانَ مَنْفِيًّا، وَهُوَ كَاتِبُ السِفْرِ، وَإِنَّ مَصْدَرَ الْمَعْلُومَاتِ هُوَ يَسُوعُ. لَكِنْ مَتَى كُتِبَ السِفْرُ؟" مَا سَبَبُ أَهَمِّيَّةِ هَذَا السُؤَالِ؟

أَهَمِّيَّتُهُ فِي مُنَاقَشَاتِنَا لِمُحَاوَلَةِ فَهْمِ الْحَدِيثِ عَلَى جَبَلِ الزَيْتُونِ، وَإِشَارَةِ يَسُوعَ فِيهِ إِلَى حُدُوثِ أُمُورٍ ضِمْنَ الْإِطَارِ الزَمَنِيِّ لِذَلِكَ الْجِيلِ، حَيْثُ تَنَبَّأَ بِدَمَارِ الْهَيْكَلِ وَدَمَارِ أُورُشَلِيمَ وَبِمَجِيئِهِ فِي نِهَايَةِ الْجِيلِ، الْأُمُورِ الَتِي نُحَاوِلُ فَهْمَها. وَبِحَسْبِ التَحْقِيقِ الْمَاضَوِيِّ الْمُعْتَدِلِ، كَمَا رَأَيْنَا، فَإِنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأُمُورِ الَتِي تَنَبَّأَ يَسُوعُ بِتَحْقِيقِهَا فِي الْإِطَارِ الزَمَنِيِّ لِجِيلٍ وَاحِدٍ قَدْ تَمَّتْ فِعْلًا بِالتَزَامُنِ مَعَ دَمَارِ أُورُشَلِيمَ فِي عَامِ 70 مِيلَادِيًّا. وَالسُؤَالُ هُوَ: "مَا عَلَاقَةُ سِفْرِ الرُؤْيَا بِتِلْكَ النَظَرِيَّةِ؟" فَأَنَا أَعْتَبِرُهَا نَظَرِيَّةً وَلَيْسَتْ تَعْلِيمًا مُؤَكَّدًا جَازِمًا بِالنِسْبَةِ إلَيَّ. فَهَذِهِ إِحْدَى وُجُهَاتِ النَظَرِ لِفَهْمِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الصَعْبَةِ.

أَغْلَبِيَّةُ الدِرَاسَاتِ الْأَكَادِيمِيَّةِ لِلْعَهْدِ الْجَدِيدِ لَطَالَمَا أَفَادَتْ، وَلِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ، بِأَنَّهُ تَمَّتْ كِتَابَةُ سِفْرِ الرُؤْيَا فِي الْعَقْدِ التَاسِعِ، وَرُبَّمَا خِلَالَ حُكْمِ الْإِمْبِرَاطُورِ دُومِيتْيَانْ، أَيْ بَعْدَ فَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ مِنْ دَمَارِ أُورُشَلِيمَ. وَهَذَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَجْعَلَ مِنْ غَيْرِ الْمُحْتَمَلِ لِلْغَايَةِ أَنْ تَكُونَ النُبُوَّاتُ الْوَارِدَةُ فِي سِفْرِ الرُؤْيَا قَدْ أَشَارَتْ مُبَاشَرَةً إِلَى تِلْكَ الْأَحْدَاثِ الْكَارِثِيَّةِ الَتِي تَنَبَّأَ بِهَا يَسُوعُ عَلَى جَبَلِ الزَيْتُونِ. لَكِنْ هُنَا يُطْرَحُ السُؤَالُ الْآتِي: "مَاذَا لَوْ لَمْ يُكْتُبِ السِفْرُ فِي الْعَقْدِ التَاسِعِ؟ بَلْ كُتِبَ قَبْلَ سُقُوطِ أُورُشَلِيمَ؟" هَذَا يَطْرَحُ نَظْرَةً جَدِيدَةً حَوْلَ فَهْمِ التَطْبِيقِ الْفَوْرِيِّ لِمَضْمُونِ سِفْرِ الرُؤْيَا لَدَى مَعَاصِرِي يُوحَنَّا الَذِينَ تَسَلَّمُوا تِلْكَ الرُؤْيَا. فِي الْمَاضِي، حَاوَلَ عُلَمَاءُ مَشْهُورُونَ أَنْ يُثْبِتُوا أَنَّهُ تَمَّتْ كِتَابَةُ سِفْرِ الرُؤْيَا قَبْلَ ذَلِكَ، أَيْ فِي السِتِّينِيَّاتِ بَدَلًا مِنَ التِسْعِينِيَّاتِ أَوْ حَتَّى بَعْدَ عَامِ 100 كَمَا زَعَمَ بَعْضُ النُقَّادِ. أَيْ أَنَّهُ كُتِبَ قَبْلَ سُقُوطِ أُورُشَلِيمَ، مَعَ الْإِشَارَةِ تَحْدِيدًا إِلَى تِلْكَ الْأَحْدَاثِ الَتِي كَانَتْ سَتَتِمُّ خِلَالَ تِلْكَ اللَحَظَاتِ الْكَارِثِيَّةِ الَتِي تَمَّ التَنَبُّؤُ بِهَا فِي الْحَدِيثِ عَلَى جَبَلِ الزَيْتُونِ.

لِذَا أُرِيدُ أَنْ أُكَرِّسَ بَعْضَ الْوَقْتِ الْيَوْمَ لِلتَكَلُّمِ عَنْ مَسْأَلَةِ تَارِيخِ كِتَابَةِ سِفْرِ الرُؤْيَا. وَكُلَّمَا حَاوَلْنَا تَحْدِيدَ تَارِيخِ أَحَدِ أَسْفَارِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ يَجِبُ أَنْ نَنْتَبِهَ لِمَصْدَرَيْنِ أَسَاسِيَّيْنِ أَوْ لِأَمْرَيْنِ أَسَاسِيَّيْنِ. أَوَّلًا، يَجِبُ أَنْ نَنْظُرَ إِلَى الدَلَائِلِ الْخَارِجِيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ نَنْتَقِلَ إِلَى الدَلَائِلِ الدَاخِلِيَّةِ. فَعِنْدَمَا نَدْرُسُ رِسَالَةَ رُومِيَةَ مَثَلًا الَتِي يَسْتَهِلُّهَا الْكَاتِبُ بِالْقَوْلِ: "بُولُسُ الْمَدْعُوُّ رَسُولًا الْمُفْرَزُ لِإِنْجِيلِ اللَّهِ"، فَهُوَ يُعَرِّفُ نَفْسَهُ عَلَى أَنَّهُ الْكَاتِبُ، وَنَحْنُ نَعْرِفُ تَارِيخَ مَوْتِهِ. وَبِالتَالِي، يُمْكِنُنَا الْحُصُولُ عَلَى مَعْلُومَاتٍ بِشَأْنِ تَارِيخِ كِتَابَةِ رِسَالَةِ رُومِيَةَ مِنْ خِلَالِ الدَلَائِلِ الدَاخِلِيَّةِ التِي تَتَمَثَّلُ بِوَصْفِ بُولُسَ لِمَا كَانَ يَجْرِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. لُوقَا يَسْرُدُ أَحْدَاثًا مِنْ طُفُولَةِ يَسُوعَ، وَيَذْكُرُ أَنَّهَا تَمَّتْ أَثْنَاءَ حُكْمِ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ، حِينَ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيًا لسُورِيَةَ. إِذَنْ، هُنَاكَ أَسْفَارٌ مُتَعَدِّدَةٌ تَتَضَمَّنُ فِي دَاخِلِهَا تَصْرِيحَاتٍ تُعْطِينَا لَمْحَةً عَنْ تَارِيخِ كِتَابَةِ السِفْرِ.

لَكِنْ لَطَالَمَا بَحَثَتِ الْكَنِيسَةُ عَبْرَ التَارِيخِ عَنْ دَلَائِلَ خَارِجِيَّةٍ. وَمَا نَقْصِدُهُ بِالدَلَائِلِ الْخَارِجِيَّةِ هُوَ إِشَارَاتٌ إِلَى الْأَسْفَارِ الْكِتَابِيَّةِ مِنْ قِبَلِ كُتَّابٍ خَارِجَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. فَمَثَلًا، كَانَ آبَاءُ الْكَنِيسَةِ الْأَوَائِلُ يَسْتَشْهِدُونَ دَائِمًا بِآيَاتٍ مِنَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، مِمَّا يَعْنِي أَنَّهَا بِالتَأْكِيدِ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ ظُهُورِهِمْ. وَإِنْ كُنَّا نَعْرِفُ مَثَلًا مَتَى عَاشَ كْلِيمَنْدُسَ الرُومَانِيَّ، وَوَجَدْنَا كْلِيمَنْدُسَ يَسْتَشْهِدُ بِكَلَامِ الرَسُولِ بُولُسَ فِي رِسَالَةِ كُورِنْثُوسَ، فَسَنَعْلَمُ أَنَّ رِسَالَةَ كُورِنْثُوسَ كُتِبَتْ قَبْلَ وَفَاةِ كْلِيمَنْدُسَ. وَإِنْ كُنَّا نَعْرِفُ تَارِيخَ مَوْتِ كْلِيمَنْدُسَ، فَهَذَا سَيُسَاعِدُنَا عَلَى مَعْرِفَةِ تَارِيخِ كِتَابَةِ الرِسَالَةِ. وَأَحْيَانًا يَكُونُ الْكُتَّابُ خَارِجَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ أَكْثَرَ تَحْدِيدًا وَيُخْبِرُونَنَا بِسَنَةِ الْكِتَابَةِ بِحَسَبِ التَقْلِيدِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ..

وَأَحَدُ أَرْوَعِ الْحُجَجِ الَتِي تَدُلُّ عَلَى كِتَابَةِ سِفْرِ الرُؤْيَا بَعْدَ دَمَارِ الْهَيْكَلِ تَظْهَرُ مِنْ خِلَالِ شَهَادَةِ إِيرِينَاؤُسَ أَحَدِ آبَاءِ الْكَنِيسَةِ، الَذِي يُعَدُّ مِنْ آبَاءِ الْكَنِيسَةِ الْأَكْثَرِ احْتِرَامًا، حَيْثُ يُشِيرُ بِشَكْلٍ مُحَدَّدٍ إِلَى سِفْرِ الرُؤْيَا فِي كِتَابِهِ الشَهِيرِ، بِعُنْوَانِ "ضِدَّ الْهَرْطَقَاتِ"، وَتَحْدِيدًا فِي الْجُزْءِ الْخَامِسِ مِنْ كِتَابِ "ضِدَّ الْهَرْطَقَاتِ". قَبْلَ أَنْ أَسْتَشْهِدَ بِمَا قَالَهُ إِيرِينَاؤُسَ، دَعُونِي أُذَكِّرُكُمْ بِأَنَّ كِتَابَهُ الْأَصْلِيَّ صَدَرَ بِاللُغَةِ الْيُونَانِيَّةِ، لَكِنَّ النُسْخَةَ الْيُونَانِيَّةَ لِلْكِتَابِ فُقِدَتْ، لَكِنَّنَا لَا نَزَالُ نَمْلِكُ التَرْجَمَاتِ اللَاتِينِيَّةَ. أَمَّا الْآنَ فَسَأَقْرَأُ مِنْ نُسْخَةٍ إِنْجْلِيزِيَّةٍ تَمَّتْ تَرْجَمَتُهَا مِنَ النَصِّ اللَاتِينِيِّ الَذِي تَمَّتْ تَرْجَمَتُهُ مِنَ اللُغَةِ الْيُونَانِيَّةِ.

لَكِنْ عَلَى أَيِّ حَالٍ، دَعُونِي أَقْرَأُ لَكُمْ مَا يَقُولُهُ إِيرِينَاؤُسُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، وَهُوَ كَالتَالِي: "لَكِنَّنَا لَنْ نَجْلِبَ عَلَى أَنْفُسِنَا خَطَرَ إِعْلَانِ اسْمِ ضِدِّ الْمَسِيحِ بِوُضُوحٍ. لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مِنَ الضَرُورِيِّ إِعْلَانُ اسْمِهِ بِوُضُوحٍ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، لَكَانَ قَدْ أَعْلَنَهُ ذَاكَ الَذِي شَاهَدَ الرُؤْيَا". لَقَدْ وُلِدَ إِيرِينَاؤُسُ فِي عَامِ 130 وَمَاتَ فِي عَامِ 202. إِذَنْ، هُوَ وَاحِدٌ مِنْ آبَاءِ الْكَنِيسَةِ فِي الْقَرْنِ الثَانِي. وَهَا هُوَ يَتَكَلَّمُ الْآنَ عَنْ شَخْصِيَّةِ ضِدِّ الْمَسِيحِ الْغَامِضَةِ وَعَنِ الْإِشَارَاتِ إِلَيْهِ فِي سِفْرِ الرُؤْيَا، فَيَقُولُ: "لَوْ كَانَ مِنَ الضَرُورِيِّ لَنَا أَنْ نَعْرِفَ اسْمَهُ، وَأَنْ يُعْلَنَ اسْمُهُ لَنَا بِوُضُوحٍ فِي الْوَقْتِ الْحَاضِرِ، لَكَانَ قَدْ أَعْلَنَهُ لَنَا ذَاكَ الَذِي شَاهَدَ الرُؤْيَا". مَا الَذِي يَقُولُهُ هُنَا؟ لَوْ أَنَّهُ كَانَ عَلَيْنَا مَعْرِفَةُ اسْمِ ضِدِّ الْمَسِيحِ لَكَانَ يُوحَنَّا أَعْلَنَهُ لَنَا، لِأَنَّهُ هُوَ كَاتِبُ السِفْرِ، وَهُوَ شَاهَدَ الرُؤْيَا.

وَالْآنَ، إِلَيْكُمُ الْجُمْلَةَ الْمُهِمَّةَ: "لِأَنَّ ذَاكَ الَذِي تَمَّتْ رُؤْيَتُهُ قَبْلَ فَتْرَةٍ لَيْسَتْ بِطَوِيلَةٍ بَلْ فِي أَيَّامِنَا تَقْرِيبًا، قُبَيْلَ نِهَايَةِ حُكْمِ دُومِيتْيَانَ"، سَأُكَرِّرُ مَا قُلْتُ، "لِأَنَّ ذَاكَ الَذِي تَمَّتْ رُؤْيَتُهُ قَبْلَ فَتْرَةٍ لَيْسَتْ بِطَوِيلَةٍ بَلْ فِي أَيَّامِنَا تَقْرِيبًا، قُبَيْلَ نِهَايَةِ حُكْمِ دُومِيتْيَانَ". إِذَنْ، هَذَا هُوَ السَبَبُ الرَئِيسِيُّ فِي إِطَارِ الدَلَائِلِ الْخَارِجِيَّةِ، حَيْثُ إِنَّ مُعْظَمَ آبَاءِ الْكَنِيسَةِ الَذِينَ قَالُوا إِنَّ سِفْرَ الرُؤْيَا كُتِبَ بَعْدَ دَمَارِ الْهَيْكَلِ وَخِلَالَ حُكْمِ دُومِيتْيَانَ فَعَلُوا ذَلِكَ اسْتِنَادًا إِلَى شَهَادَةِ إِيرِينَاؤُسَ. وَلِلْوَهْلَةِ الْأُولَى، نَرَى أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ تُبَيِّنُ أَنَّ مَا يَقُولُهُ إِيرِينَاؤُسُ هُنَا هُوَ أَنَّ الرُؤْيَا الَتِي تَسَلَّمَهَا يُوحَنَّا تَمَّتْ خِلَالَ حُكْمِ دُومِيتْيَانَ. وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ هَذَا كَانَ بَعْدَ سُقُوطِ أُورُشَلِيمَ. لَكِنْ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى، يُمْكِنُ لِإِيرِينَاؤُسَ أَنْ يَكُونَ عَلَى خَطَأٍ. فَهُوَ لَيْسَ كَاتِبًا بِوَحْيٍ مِنَ الرُوحِ الْقُدُسِ، وَرُبَّمَا اخْتَلَطَتْ عَلَيْهِ الْأَوْقَاتُ وَالْأَزْمِنَةُ.

وَلَكِنْ يُوجَدُ سُؤَالٌ فِي التَرْكِيبَةِ النَحَوِيَّةِ وَالْأَدَبِيَّةِ لِهَذِهِ التَرْجَمَةِ. يَتَعَلَّقُ السُؤَالُ بِمَا سَبَقَ كَلِمَةَ "ذَاكَ". "ذَاكَ الَذِي تَمَّتْ رُؤْيَتُهُ فِي أَيَّامِنَا تَقْرِيبًا، قُبَيْلَ نِهَايَةِ حُكْمِ دُومِيتْيَانَ". هَلْ يَقْصِدُ بِكَلَامِهِ أَنَّ رُؤْيَا يُوحَنَّا هِيَ الَتِي تَمَّتْ مُشَاهَدَتُهَا أَثْنَاءَ حُكْمِ دُومِيتْيَانَ؟ أَمْ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّ يُوحَنَّا الَذِي تَسَلَّمَ الرُؤْيَا هُوَ الَذِي تَمَّتْ مُشَاهَدَتُهُ أَثْنَاءَ حُكْمِ دُومِيتْيَانَ؟ يُشِيرُ تَارِيخُ الْكَنِيسَةِ إِلَى أَنَّهُ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ تَلَامِيذِ يَسُوعَ يُوحَنَّا هُوَ مَنْ عَاشَ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ. بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، إِنْ قُمْنَا بِتَحْلِيلٍ فَنِّيٍّ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ، فَيُمْكِنُ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنْ تَعْنِيَ إِمَّا أَنَّ الرُؤْيَا الَتِي شَاهَدَهَا يُوحَنَّا تَمَّتْ أَثْنَاءَ حُكْمِ دُومِيتْيَانَ، أَوْ أَنَّ يُوحَنَّا ظَهَرَ أَثْنَاءَ حُكْمِ دُومِيتْيَانَ، وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَدِّدَ لَنَا هُوِيَّةَ ضِدِّ الْمَسِيحِ. لَكِنْ إِنْ أَمْعَنَّا النَظَرَ فِي كِتَابَاتِ إِيرِينَاؤُسَ، تَتَّضِحُ لَنَا بَعْضُ الْحَقَائِقِ اللَافِتَةِ الْأُخْرَى، وَمِنْهَا أَنَّ إِيرِينَاؤُسَ نَفْسَهُ يُشِيرُ إِلَى اقْتِبَاسِهِ "مِنْ نُسَخٍ قَدِيمَةٍ مِنْ سِفْرِ الرُؤْيَا". أَنْتَ لَا تَتَكَلَّمُ عَنْ عَمَلٍ كُتِبَ أَثْنَاءَ حَيَاتِكَ عَلَى أَنَّهُ مَخْطُوطَةٌ قَدِيمَةٌ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ أَنَّهُ كُتِبَ قَبْلَ مَائَةِ عَامٍ مِنْ كِتَابَاتِ إِيرِينَاؤُسَ نَفْسِهِ، لِذَا يَكُونُ مِنَ الصَوَابِ اسْتِخْدَامُ تِلْكَ التَسْمِيَةِ مِثْلَمَا فَعَلَ هُنَا. كَذَلِكَ يُشِيرُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فِي كِتَابَاتِهِ إِلَى نُسَخٍ قَدِيمَةٍ مِنْ سِفْرِ الرُؤْيَا.

كَمَا أَنَّ كْلِمَنْدُسَ، وَهُوَ أَبٌ آخَرُ مِنْ آبَاءِ الْكَنِيسَةِ الْأَوَائِلِ الْمُحْتَرَمِينَ، قَالَ إِنَّ كُلَّ الْإِعْلَانِ الرَسُولِيِّ كَمَا تَسَلَّمْنَاهُ فِي نُصُوصِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ تَوَقَّفَ أَثْنَاءَ حُكْمِ نِيرُونَ. وَبِالتَالِي، فَإِنَّ شَهَادَةَ كْلِيمَنْدُسَ الْخَارِجِيَّةَ تُبَيِّنُ أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ وَكُلَّ الْإِعْلَانِ الرَسُولِيِّ، وَمِنْ بَيْنِهِ سِفْرُ الرُؤْيَا، تَوَقَّفَ لَدَى مَوْتِ نِيرُونَ، مِمَّا يَعْنِي أَنَّ جَمِيعَ أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ الْقَانُونِيَّةِ اكْتَمَلَتْ بِحُلُولِ عَامِ 68 مِيلَادِيًّا أَيْ قَبْلَ سُقُوطِ أُورُشَلِيمَ.

هَذِهِ بَعْضُ الْأَفْكَارِ الرَئِيسِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالدَلَائِلِ الْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ أَبْحَاثٌ ثَانَوِيَّةٌ أُخْرَى لَنْ أَقْضِيَ وَقْتًا لِلدُخُولِ فِيهَا، فَلَقَدْ أَدْرَجْتُ هَذِهِ الْمَعْلُومَاتِ بِشَكْلٍ مُوَسَّعٍ فِي كِتَابِي. لَكِنْ لَيْسَ هَذَا فَحَسْبُ، فَالْكَاتِبُ كِينْ جِينْتْرِي (Ken Gentry) أَلّفَ كِتَابًا رَائِعًا عَنْ هَذَا الْمَوْضُوعِ، وَعُنْوَانُهُ "قَبْلَ سُقُوطِ أُورُشَلِيمَ" (Before Jerusalem Fell)، الَذِي فِيهِ، كَجُزْءٍ مِنْ أُطْرُوحَةِ الدُكْتُورَاه الْخَاصَّةِ بِهِ، أَجْرَى دِرَاسَةً عَنِ الْأَمْرِ وَحَاوَلَ تَقْدِيمَ الْبَرَاهِينِ، وَأَظُنُّ أَنَّهُ قَدَّمَ بُرْهَانًا قَاطِعًا عَلَى كِتَابَةِ سِفْرِ الرُؤْيَا قَبْلَ سُقُوطِ أُورُشَلِيمَ. وَالْآنَ فَلْنُحَوِّلِ انْتِبَاهَنَا لِلْوَقْتِ الْحَاضِرِ عَلَى الْأَقَلِّ عَنِ الدَلَائِلِ الْخَارِجِيَّةِ وَلْنُرَكِّزْ عَلَى الدَلَائِلِ الدَاخِلِيَّةِ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ مُهِمَّةً جِدًّا.

لَقَدْ رَكَّزْنَا خِلالَ هَذِهِ السِلْسِلَةِ كُلِّهَا عَلَى الأُطُرِ الزَمَنِيَّةِ الْوَارِدَةِ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. دَعُونِي أُذَكِّرُكُمْ بِكَيْفِيَّةِ بِدَايَةِ سِفْرِ الرُؤْيَا. جَاءَ فِي الآيَةِ الأُولَى مِنَ الأَصْحَاحِ الأَوَّلِ مَا يَلِي: "إِعْلاَنُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ اللهُ، لِيُرِيَ عَبِيدَهُ مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَرِيبٍ، وَبَيَّنَهُ مُرْسِلًا بِيَدِ مَلاَكِهِ لِعَبْدِهِ يُوحَنَّا، الَّذِي شَهِدَ بِكَلِمَةِ اللهِ وَبِشَهَادَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بِكُلِّ مَا رَآهُ. طُوبَى لِلَّذِي يَقْرَأُ وَلِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ أَقْوَالَ النُّبُوَّةِ، ويَحْفَظُونَ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهَا، لأَنَّ الْوَقْتَ قَرِيبٌ". وَنَجِدُ مِرَارًا وَتَكْرَارًا فِي صَفَحَاتِ سِفْرِ الرُؤْيَا إِشَارَاتٍ إِلَى أُطُرٍ زَمَنِيَّةٍ تَدُلُّ عَلَى اقْتِرَابِ الْوَقْتِ.

دَعُونِي أُعْطِيكُمْ تَلْخِيصًا سَرِيعًا، وَقَدْ سَبَقَ لِي أَنْ ذَكَرْتُ الأُمُورَ الَتِي سَتَتِمُّ قَرِيبًا. الأَصْحَاحُ الثَانِي: "فَتُبْ وَإِلَّا فَإِنِّي آتِيكَ سَرِيعًا". الأَصْحَاحُ الثَالِثُ: "هَا أَنَا آتِي سَرِيعًا". الأَصْحَاحُ 22 يَتَكَلَّمُ عَنْ: "مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَرِيبٍ". الأَصْحَاحُ 22: "نَعَمْ! أَنَا آتِي سَرِيعًا". الأَصْحَاحُ 1 والآيَةُ 3: "لأَنَّ الْوَقْتَ قَرِيبٌ". الأَصْحَاحُ 22 والآيَةُ 10 (الْعَاشِرَةُ): "لأَنَّ الْوَقْتَ قَرِيبٌ". الأَصْحَاحُ 1 والآيَةُ 19: "فَاكْتُبْ مَا هُوَ عَتِيدٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ هَذَا". الأَصْحَاحُ 3 والآيَةُ 10: "سَاعَةِ التَّجْرِبَةِ الْعَتِيدَةِ أَنْ تَأْتِيَ عَلَى الْعَالَمِ كُلِّهِ". وَجَمِيعُ الْمُصْطَلَحَاتِ الْيُونَانِيَّةِ الَّتِي تَمَّ اسْتِعْمَالُهَا هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى اقْتِرَابِ الْوَقْتِ هِيَ كُلُّهَا مُصْطَلَحَاتٌ زَمَنِيَّةٌ فِي اللُغَةِ تُشِيرُ إِلَى اقْتِرَابِ الْوَقْتِ جِدًّا جِدًّا. إِنَّهُ حَقًّا لَاحْتِمَالٌ بَعِيدٌ أَنْ نَقُولَ إِنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ يُشِيرُ إِلَى رُؤْيَا تَتَضَمَّنُ أُمُورًا سَتَحْدُثُ قَرِيبًا وَسَرِيعًا، فَنَتَوَقَّعُ أَنْ نَنْتَظِرَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ سَنَةٍ بَعْدَ إِعْلَانِ هَذِهِ الْأُطُرِ الزَمَنِيَّةِ. إِذَنْ، الْفِكْرَةُ هِيَ كَالْآتِي، إِنَّ الْمُعَاصِرِينَ الَذِينَ تَسَلَّمُوا النُسْخَةَ الْأُولَى مِنْ سِفْرِ الرُؤْيَا لَاحَظُوا أَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِشَارَاتٍ عَدِيدَةً تُبَيِّنُ اقْتِرَابَ تَتْمِيمِ الْأُمُورِ الْمُعْلَنَةِ فِي هَذِهِ النُبُوَّةِ. وَيَعْنِي ذَلِكَ أَنَّهُ يُوجَدُ سَبَبٌ وَرَاءَ إِلْحَاحِ الْجِيلِ الْأَوَّلِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى تَوَقُّعِ اقْتِرَابِ وُقُوعِ الْأَزْمَةِ، وَذَلِكَ نَظَرًا لِلْأُسْلُوبِ اللُغَوِيِّ فِي السِفْرِ الَذِي مَتَى تَكَلَّمَ عَنِ الْأُطُرِ الزَمَنِيَّةِ أَشَارَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ إِلَى اقْتِرَابِ الْوَقْتِ.

بِالْإِضَافَةِ إِلَى ذَلِكَ، تُوجَدُ إِشَارَاتٌ دَاخِلِيَّةٌ أُخْرَى يَجِبُ أَنْ نَنْتَبِهَ لَهَا، وَهِيَ أَنَّ جُزْءًا كَبِيرًا مِنْ رُمُوزِ سِفْرِ الرُؤْيَا تَمَّتِ اسْتِعَارَتُهُ مِنَ الْهَيْكَلِ نَفْسِهِ. فَالسِفْرُ مَلِيءٌ بِإِشَارَاتٍ ضِمْنِيَّةٍ إِلَى الْهَيْكَلِ، كَمَا أَنَّ سِفْرَ الرُؤْيَا لَا يَتَضَمَّنُ أَيَّ تَلْمِيحٍ إِلَى دَمَارِ الْهَيْكَلِ. هَذَا دَلِيلٌ صَامِتٌ، لَكِنَّهُ صَمْتٌ يَحْمِلُ الْكَثِيرَ فِي طَيَّاتِهِ. فَمِنَ الْمُؤَكَّدِ أَنَّ حَدَثًا كَارِثِيًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَارِيخِ الْيَهُودِيِّ الْمَسِيحِيِّ مِثْلَ دَمَارِ أُورُشَلِيمَ وَدَمَارِ الْهَيْكَلِ، كَانَ لِيَتِمَّ ذِكْرُهُ فِي الْكِتَابَاتِ الرَسُولِيَّةِ الَتِي تَمَّتْ كِتَابَتُهَا بَعْدَ هَذَا الْحَدَثِ. وَإِنْ كَانَ سِفْرُ الرُؤْيَا قَدْ كُتِبَ فِي التِسْعِينِيَّاتِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ السِفْرَ الْوَحِيدَ بَيْنَ أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ الَذِي تَمَّتْ كِتَابَتُهُ بَعْدَ عَامِ 70 مِيلَادِيًّا، فَإِنَّنَا كُنَّا لِنَتَوَقَّعَ حَتْمًا ذِكْرَ دَمَارِ أُورُشَلِيمَ بِمَا أَنَّهُ حَدَثٌ مِنَ الْمَاضِي، لَكِنَّنَا لَا نَجِدُ أَيَّةَ إِشَارَةٍ إِلَى ذَلِكَ. بَلْ إِنَّ الْخَلْفِيَّةَ التَوْضِيحِيَّةَ الَتِي تُحَدِّدُ أُسْلُوبَ السِفْرِ وَمَضْمُونَهُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْهَيْكَلِ الْقَائِمِ. إِذَنْ، فَالْهَيْكَلُ كَانَ مَا يَزَالُ مَوْجُودًا. لَكِنْ أُكَرِّرُ، هَذَا دَلِيلٌ صَامِتٌ وَلَيْسَ بُرْهَانًا قَاطِعًا تَمَامًا، لَكِنَّهُ بِالتَأْكِيدِ مُرْتَبِطٌ بِالنَظَرِيَّةِ الَتِي تُؤَيِّدُ التَارِيخَ الْمُبَكِّرَ لِلْكِتَابَةِ قَبْلَ دَمَارِ الْهَيْكَلِ.

فِي الْأَصْحَاحِ 17، وَرَدَ نَصٌّ مُهِمٌّ جِدًّا لِتَحْدِيدِ تَارِيخِ السِفْرِ وَتَوْقِيتِهِ، وَذَلِكَ فِي إِطَارِ الدَلَائِلِ الدَاخِلِيَّةِ. دَعُونِي أَلْفِتُ انْتِبَاهَكُمْ إِلَى الْأَصْحَاحِ 17 حَيْثُ نَقْرَأُ الْكَلِمَاتِ الْآتِيَةَ:

ثُمَّ قَالَ لِي الْمَلاَكُ: لِمَاذَا تَعَجَّبْتَ؟ أَنَا أَقُولُ لَكَ سِرَّ الْمَرْأَةِ وَالْوَحْشِ الْحَامِلِ لَهَا، الَّذِي لَهُ السَّبْعَةُ الرُّؤُوسُ وَالْعَشَرَةُ الْقُرُونُ: الْوَحْشُ الَّذِي رَأَيْتَ، كَانَ وَلَيْسَ الآنَ، وَهُوَ عَتِيدٌ أَنْ يَصْعَدَ مِنَ الْهَاوِيَةِ وَيَمْضِيَ إِلَى الْهَلاَكِ. وَسَيَتَعَجَّبُ السَّاكِنُونَ عَلَى الأَرْضِ، الَّذِينَ لَيْسَتْ أَسْمَاؤُهُمْ مَكْتُوبَةً فِي سِفْرِ الْحَيَاةِ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، حِينَمَا يَرَوْنَ الْوَحْشَ أَنَّهُ كَانَ وَلَيْسَ الآنَ، مَعَ أَنَّهُ كَائِنٌ. هُنَا الذِّهْنُ الَّذِي لَهُ حِكْمَةٌ!

هُنَا نَجِدُ تَرْجَمَةً أَوْ تَفْسِيرًا لِلرُمُوزِ: "السَّبْعَةُ الرُّؤُوسُ هِيَ سَبْعَةُ جِبَالٍ عَلَيْهَا الْمَرْأَةُ جَالِسَةٌ. وَسَبْعَةُ مُلُوكٍ: خَمْسَةٌ سَقَطُوا، وَوَاحِدٌ مَوْجُودٌ، وَالآخَرُ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ. وَمَتَى أَتَى يَنْبَغِي أَنْ يَبْقَى قَلِيلًا". ثُمَّ يُتَابِعُ وَيَصِفُ الْوَحْشَ إِلَى آخِرِهِ.

هُنَا نَطْرَحُ سُؤَالَيْنِ: أَوَّلًا، مَا هِيَ الْمَدِينَةُ ذَاتُ الْجِبَالِ السَبْعَةِ؟ رُبَّمَا هَذِهِ إِشَارَةٌ خَفِيَّةٌ إِلَى أُورُشَلِيمَ نَفْسِهَا. لَكِنْ فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ، كَانَ اللَقَبُ الشَهِيرُ الَذِي أُطْلِقَ عَلَى رُومَا هُوَ "الْمَدِينَةُ ذَاتُ الْجِبَالِ السَبْعَةِ". وَبِالتَالِي إِنْ كَانَ كَاتِبُ سِفْرِ الرُؤْيَا يَصِفُ رُومَا هُنَا، فَهُوَ يُتَابِعُ وَيَتَكَلَّمُ عَنْ مُلُوكِ رُومَا. لَكِنْ يَعْتَرِضُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ قَائِلِينَ إِنَّ الرُومَانَ لَمْ يُسَمُّوا أَبَاطِرَتَهُمْ مُلُوكًا، بَلْ كَانُوا يُسَمُّونَهُمْ أَبَاطِرَةً بَدَلًا مِنْ مُلُوكٍ. لَكِنْ عَلَى أَيِّ حَالٍ، نَحْنُ نَقْرَأُ فِي النَصِّ هُنَا عَنْ وُجُودِ سَبْعَةِ مُلُوكٍ، خَمْسَةٌ سَقَطُوا وَوَاحِدٌ مَوْجُودٌ وَآخَرُ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ. مَاذَا نَفْهَمُ بِذَلِكَ؟ نَفْهَمُ بِذَلِكَ أَنَّ السِفْرَ كُتِبَ فِي عَهْدِ الْمَلِكِ السَادِسِ، لِأَنَّ خَمْسَةً سَقَطُوا، وَآخَرَ سَيَأْتِي، أَمَّا السَادِسَ فَهُوَ يَحْكُمُ الْآنَ، أَيْ أَنَّهُ تَمَّتِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْمَلِكِ السَادِسِ، الْمَلِكِ السَادِسِ الَذِي يَحْكُمُ الْمَدِينَةَ ذَاتَ الْجِبَالِ السَبْعَةِ.

وَالسُؤَالُ هُوَ: "مَنْ هُوَ الْمَلِكُ السَادِسُ هَذَا؟" يُمْكِنُنَا طَرْحُ هَذَا السُؤَالِ فَنَقُولُ: "مَنْ هُوَ الْإِمْبِرَاطُورُ السَادِسُ فِي رُومَا؟" تُوَاجِهُنَا مُشْكِلَةٌ هُنَا، فِيُولْيُوسْ قِيصَرُ، الَذِي يُسَمَّى قَيْصَرَ، لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِ لَقَبُ إِمْبِرَاطُورُ، وَأَوَّلُ مَنْ نَالَ لَقَبَ إِمْبِرَاطُورٍ بِشَكْلٍ رَسْمِيٍّ كَانَ أُوغُسْطُسُ قَيْصَرُ. إِذَنْ، إِنْ بَدَأْنَا بِأُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ وَاعْتَبَرْنَاهُ الْأَوَّلَ، فَيَكُونُ تَيبِيرْيُوسُ (Tiberius) الثَانِي، وَكَالِيجُولَا (Caligula) الثالِثَ، وَكْلَاوْدِيُوسُ (Claudius) الرَابِعَ، وَنِيرُونُ الْخَامِسَ، وَجَالْبَا (Galba) السَادِسَ. تَذَكَّرُوا أَنَّ جَالْبَا حَكَمَ لِفَتْرَةٍ قَصِيرَةٍ وَتَمَّ اغْتِيَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. لَكِنَّ جَالْبَا مَاتَ قَبْلَ عَامِ 70 مِيلَادِيًّا. إِذَنْ، إِنْ كَانَ جَالْبَا الْمَلِكَ السَادِسَ الَذِي تَمَّتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ هُنَا، فَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ السِفْرَ كُتِبَ قَبْلَ عَامِ 70 مِيلَادِيًّا. يَقُولُ الْبَعْضُ إِنَّهُ بِسَبَبِ الْحَرْبِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْقَضَاءِ السَرِيعِ عَلَى جَالْبَا وَخَلِيفَيْهِ أُوثُو (Otho) وَفِيتِلِيُوسْ (Vitellius)، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الثَلَاثَةَ غَيْرُ مُدْرَجِينَ فِي الْقَائِمَةِ، فَهُمْ لَا يُحْسَبُونَ. لِذَا، الْآنَ، إِنْ بَدَأْنَا بِأُوغُسْطُسَ، وَاسْتَثْنَيْنَا جَالْبَا وَأُوثُو وَفِيتِلِيُوسْ، فَإِنَّ السَادِسَ يَكُونُ فِسْبَازْيَانَ (Vespatian)، لَكِنَّهُ أَتَى قَبْلَ ذَلِكَ، فَهُوَ لَمْ يَحْكُمْ فِي التِسْعِينِيَّاتِ بَلِ انْتَهَى حُكْمُهُ فِي السَبْعِينِيَّاتِ.

إِلَيْكُمْ الِاحْتِمَالَ الثَالِثَ، وَهُوَ أَلَّا تَبْدَؤُوا بِأُوغُسْطُسَ، بَلْ بِيُولْيُوسَ قِيصَرَ الَذِي كَانَ فِي قَائِمَةِ الْحُكَّامِ الرُومَانِ الْقُدَامَى بِمَثَابَةِ جُورْجْ وَاشِنْطُنْ، فَهُوَ حَقًّا الْأَوَّلُ. أَمَّا الْمُشْكِلَةُ الْأُخْرَى فَتَكْمُنُ فِي تَسْمِيَتِهِمْ مُلُوكًا. تَذَكَّرُوا أَنَّهُ عِنْدَمَا سُئِلَ الْيَهُودُ عَنْ يَسُوعَ بِشَأْنِ طُمُوحَاتِهِ السِيَاسِيَّةِ، مَاذَا كَانَتْ إِجَابَتُهُمْ؟ لَيْسَ لَدَيْنَا مَلِكٌ إِلَّا قَيْصَرُ، هَذَا دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الشَعْبَ الْيَهُودِيَّ كَانَ يُسَمِّي حُكَّامَ رُومَا مُلُوكًا. إِذَا بَدَأْنَا بِيُولْيُوسَ قَيْصَرَ وَاعْتَبَرْنَاهُ الْأَوَّلَ، فَيَكُونُ أُوغُسْطُسُ الثَانِي وَتَيْبِيرْيُوسُ الثَالِثَ وَكَالِيجُولَا الرَّابِعَ وَكِلَاوْدِيُوسُ الْخَامِسَ، وَمَنْ يَكُونُ السَادِسَ؟ نِيرُونُ. يُشِيرُ ذَلِكَ أَنَّ السِفْرَ كُتِبَ فِي عَهْدِ نِيرُونَ، وَهُوَ مَا يُفَسِّرُ عَدَدًا كَبِيرًا مِنَ الْأَسْئِلَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَهَمِّيَّةِ مُحْتَوَى هَذَا السِفْرِ. أَظُنُّ أَنَّ هَذَا دَلِيلٌ دَاخِلِيٌّ قَاطِعٌ عَلَى تَارِيخِ كِتَابَةِ السِفْرِ، الَذِي تَسْتَبْعِدُ الْخِيَارَاتُ الْأُخْرَى كِتَابَتَهُ عَلَى الْأَقَلِّ خِلَالَ حُكْمِ دُومِيتْيَانَ.

أَيْضًا، خِتَامًا، يُخْبِرُنَا الْكَاتِبُ كْلِيمَنْدُسُ حِكَايَةً مُثِيرَةً لِلِاهْتِمَامِ يَتَكَلَّمُ فِيهَا عَنِ الرَسُولِ يُوحَنَّا حِينَ كَانَ فِي الْمَنْفَى، طَارِدًا المُرْتَدَّ عَنِ الْإِيمَانِ. وَقَامَ بِمُطَارَدَةِ هَذَا الْمُرْتَدِّ عَلَى ظَهْرِ حِصَانٍ بَرِّيٍّ مِثْلِ مُطَارَدَةِ رُوِيْ رُودْجَرْزْ (Roy Rogers)، حَيْثُ نَرَى يُوحَنَّا يَجْتَازُ السُهُولَ عَلَى ظَهْرِ حِصَانِهِ وَهُوَ يُسْرِعُ لِيَقْبِضَ عَلَى ذَلِكَ الرَجُلِ الشِرِّيرِ. والآنَ لِنَفْرِضْ أَنَّهُ نُفِيَ خِلالَ حُكْمِ دُومِيتْيَانَ، مِمَّا يَعْنِي أَنَّ يُوحَنَّا كَانَ قَدْ طَارَدَ ذَلِكَ الْمُرْتَدَّ فِي مُطَارَدَةٍ عَلَى الأَحْصِنَةِ تَتَطَلَّبُ نَشَاطًا كَبِيرًا، وَهُوَ فِي الْعَقْدِ التَاسِعِ مِنَ الْعُمْرِ. هَذَا حَقًّا أَمْرٌ بَعِيدُ الْمَنَالِ، إِذْ إِنَّهُ يَتَطَلَّبُ مَجْهُودًا كَبِيرًا. أَظُنُّ أَنَّهُ يُمْكِنُ لِرَجُلٍ عَجُوزٍ فِي الْعَقْدِ التَاسِعِ مِنَ الْعُمْرِ أَنْ يَقُومَ بِهَذَا الْعَمَلِ الَذِي يَتَطَلَّبُ مَجْهُودًا كَبِيرًا، لَكِنَّهُ أَمْرٌ بَعِيدُ الاحْتِمَالِ. وَهَذِهِ مُجَرَّدُ إِشَارَةٍ أُخْرَى مِنْ آبَاءِ الْكَنِيسَةِ الَتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَضَعَ تَارِيخَ كِتَابَةِ هَذَا السِفْرِ قَبْلَ عَهْدِ دُومِيتْيَانَ وَقَبْلَ دَمَارِ أُورُشَلِيمَ. فِي مُحَاضَرَتِنَا الْمُقْبِلَةِ، سَنَتَكَلَّمُ عَمَّا جَاءَ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِضِدِّ الْمَسِيحِ.