المحاضرة 1: أهمية القداسة

أبانا وإلهَنا، فيما نتناوَلُ موضوعَ قداسَتِكَ، نعلَمُ أنَّنا أمامَ مُهِمَّةٍ مستحيلةٍ، وأنَّنا في هذه اللَّحظةِ نَقِفُ على أرضٍ مقدَّسةٍ، لولا رحمتُكَ الثَّابتَةُ ونعمتُكَ، لَفتَحَتْ فَاهَا وابتلَعَتْنا الهاوِيَةُ. لذا نطلبُ منكَ الليلةَ، بَلْ نتوسَّلُ إليْكَ، لأجْلِ ضِعْفَيْنِ من نعمتِكَ ورحمتِكَ، ونحنُ نحاولُ فهْمَ هذه الأمورِ اللَّازمَةِ حتَّى نفهمَكَ؛ كما نطلبُ حضورَ روحِ الْحَقِّ، الذي هو الرُّوحُ القدُسُ، كيْ يُعِينَنا على هذه المُهِمَّةِ. ونطلبُ هذا في اسْمِ الْمَسِيحِ، آمِين.

في عامِي الأَخيرِ في كُلِّيَّةِ لاهوتِ بيتِسْبُرْغ، وفي عَصْرِ يومٍ خَرِيفِيٍّ، أتذكَّرُ جيِّدًا أنِّي كنتُ أدرُسُ بمُفْرَدِي في المكتَبَةِ، وكانَتْ أمامِي كومَةٌ مِنَ الكُتُبِ؛ وتعْلَمُونَ مدى هدوءِ مكْتَبَةِ كُلِّيَّةِ لاهوتٍ الذي يشبِهُ الْقُبور. لا يُسمَحُ لأحدٍ بالتحدُّثِ أوِ الثرْثَرَةِ. صَمْتٌ إِجْبارِيٌّ. وفجْأَةً شتَّتَتِ انْتباهِي هَمْهَمَةٌ بدأَتْ في الانتشارِ تِلْقائِيًّا عَبْرَ أكوامِ الْكُتُبِ وطاولاِت المكتبةِ، وبدأَ الناسُ في إفسادِ المُناخِ العامِّ للمَكانِ، ثُمَّ تَرَكُوا مقاعِدَهُمْ وَطاوِلاتِهِمْ ورَكَضوا إلى طُرُقاتِ الكُلِّيَّةِ؛ لمْ أَكُنْ أعلمُ ما يحدُثُ حتَّى قالَ أحدُهُمْ بصوتٍ عالٍ وواضِحٍ: "أَطْلَقَ أحدُهُمْ النارَ على الرَّئيسِ".

يمكنُكُمْ أنْ تتصوَّرُوا تأثيرَ خبرٍ كهذا على الروتينِ الْيَوْمِيِّ الطبيعيِّ للناس. أسْرَعْتُ إِلَى الْخارِجِ، وكأيِّ مُواطِنٍ أمْرِيكيٍّ آخرَ، تَسَمَّرْتُ أمامَ المِذْياعِ، واسْتَمَعْتُ لحظةً بلحظةٍ إلى الأخبارِ، بينما كانَ الرئيسُ كينيدي يُصارِعُ المَوْتَ لحظةً بلحْظَةٍ. ثمَّ بالطَّبعِ جاءَ خبرُ وفاتِهِ. وعلى مدارِ اليومِ التَّالِي، بلِ الأسابيعِ أو الأشهُرِ التَّالِيَةِ، كانَ ما شَغَلَ الشَّعْبَ الأمْرِيكيَّ هي هذه اللَّحْظَةُ البائِسَةُ في تاريخِنا، لحظةُ الْمَوْتِ الْفُجائِيِّ لرئيسٍ لهُ شعْبِيَّةٌ. ولاحِقًا، صَدَرَ كتابٌ بعنوانِ "جوني، بالكادِ عَرَفْناك"، ولَفَتَ الانتباهَ إلى قِصَرِ مُدَّةِ رِئاسَتِهِ؛ ولَكِنْ، أيُّها السادَةُ، كلَّما ماتَ رئيسٌ، أو زعيمٌ، أو مَلِكٌ، أو رَئِيسُ وزراءِ دوْلَةٍ ما، تمرُّ الدولَةُ بفترَةٍ مِنَ الصَّدْمَةِ الشَّدِيدَةِ والْجادَّةِ.

سنةُ وفاةِ عُزِّيَّا الْمَلِك:

حسنًا، حَدَثَ هذا فِي إِسْرائيلَ أيضًا، فَفِي القرْنِ الثامِنِ جلسَ مَلِكٌ على عَرْشِ أورُشليمَ، ابتدَأَ يمْلِكُ في سنِّ السادسةَ عَشَرَ، ومَلَكَ في أورشليمَ لأكْثرِ منْ خمسينَ عامًا. تخيَّلُوا! أكثرَ من نِصْفِ قرْنٍ. لَمْ يكُنْ هذا أَشْهَرَ أَوْ أهَمَّ ملِكٍ في التاريخِ اليهوديِّ، لكنَّهُ بالتأكيدِ يُصنَّفُ ضِمْنَ الْخمسةِ الأهمّ. وكان اسمُهُ عُزِّيَّا، وقد صَنَعَ في فَتْرَةِ حكمِهِ آخرَ نهضةِ إصلاحٍ روحيَّةٍ كُبْرَى لشعبِ الأرضِ.

ولكنَّهُ ماتَ فجأةً في عارٍ لأنَّهُ كانَ يشبِهُ بطَلًا شِكْسْبِيرِيًّا تْراجيدِيًّا خرقَ المبادئَ الأخلاقيَّةَ والروحيَّةَ الَّتي وضعَها هو نفسُهُ في السنةِ الأخيرةِ مِنْ حياتِهِ. لكنْ حينَ ماتَ، كانَتْ هذه نقطَةَ تحوُّلٍ، وحَدًّا فاصِلًا في التاريخِ اليهودي، إذْ من ذلكَ اليومِ فصاعِدًا تدَهْوَرَتْ حياةُ الأمَّةِ اليهوديَّةِ وصِحَّتُها الروحيَّةُ بحِدَّةٍ، ولمْ تتعافَ قطُّ. وأظنُّ إنَّهُ لحدَثٍ مهمٍّ بعنايةِ اللهِ وتدبيرِه، فعَقِبَ أربعِ سنواتٍ من موتِ عزِّيَّا، تأسَّسَتْ مدينةُ روما، وحدثَ تغييرٌ ثقافيٌّ شكَّلَ التاريخَ المستقبليَّ ككلٍّ.

لكنْ في خِضَمِّ معاناةِ تلكَ الأمَّةِ، دُعِيَ رجلٌ من اللهِ للعملِ النبويِّ المُقدَّسِ، ولقَّبَهُ البعْضُ بعدَ هذا بأنَّهُ أعظمُ نبيٍّ في تاريخِ العهدِ القديمِ. فهْوَ لم يكنْ رجلًا تقيًّا فحسْب، بل أيضًا رجلَ دولَةٍ مُحَنَّكًا، إذْ خاطبَ عدَّةَ ملوكٍ في أثناءِ خِدْمَتِهِ. وكانَ هوَ النبيَّ الذي قالَ إنَّ يومًا ما ستحبَلُ عذراءُ وتَلِدُ ابنًا، ويُدْعَى اسمُهُ عِمَّانوئِيل. والَّذِي قالَ إِنَّ عَبْدَ الربِّ سيأتي ويحمِلُ آثامَ شعْبِهِ. واسمُهُ، بالطبعِ، إِشَعْيَاءُ. ونجِدُ قصَّةَ دَعْوَتِهِ لوظيفةِ النبيِّ في الأَصحاحِ السادِسِ من السِّفرِ الَّذي يحمِلُ اسمَهُ، وأوَدُّ أنْ أقرأَ لكُمُ الآنَ الجزءَ الأوَّلَ من هذه القِصَّةِ.

يقولُ الأَصحاحُ السادِسُ من سِفْرِ إِشعياءَ، والآيةِ الأولىِ:

فِي سَنَةِ وَفَاةِ عُزِّيَّا الْمَلِكِ، رَأَيْتُ السَّيِّدَ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ عَال وَمُرْتَفِعٍ، وَأَذْيَالُهُ تَمْلأُ الْهَيْكَلَ. السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ، بِاثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ، وَبِاثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ، وَبَاثْنَيْنِ يَطِيرُ. وَهذَا نَادَى ذَاكَ وَقَالَ قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ فَاهْتَزَّتْ أَسَاسَاتُ الْعَتَبِ مِنْ صَوْتِ الصَّارِخِ، وَامْتَلأَ الْبَيْتُ دُخَانًا. (إشعياء 6: 1-4)

لاحِظُوا معي في هذا النصِّ القصيرِ أنَّ إشعياءَ يحدِّدُ تاريخَ هذا الاختبارِ الَّذي اجتازَهُ أنَّهُ في سنةِ وفاةِ عزِّيَّا الملِك. لا نعرِفُ إِن كانَ ما رآهُ إشعياءُ هيَ رؤيا وجدانِيَّةٌ وقَعَتْ في هيكلِ أُورُشليم، أمْ أنَّ ما رآهُ كانَ في الحقيقةِ لمحةً داخلَ قُدْسِ أقداسِ السَّماءِ عيْنِها.  أُفَضِّلُ التفسيرَ الأخِيرَ. وأنَا على قناعةٍ، لأسبابٍ لنْ أخوضَ فيها الآنَ، أنَّ ما حدثَ كانَ أنَّ اللهَ فتحَ السِّتارَ. أيْ أنَّهُ أزالَ الْبُرْقُعَ عَنِ السماءِ عيْنِها. وكَمَا رَأَى يوحَنَّا، بَعْدَ بِضْعَةِ قُرونٍ فوقَ جَزِيرَةِ بَطْمُسَ، لمْحَةً داخلَ السَّماءِ، رأَى إِشعْيَاءُ النبيُّ السيِّدَ متوَّجًا في السماءِ عَيْنِها.

رأَيْتُ السَّيِّدَ:

والآنَ إنْ نظَرْتُمْ إلى كتابِكُمْ المقدَّسِ، ستقْرَأُونَ: فِي سَنَةِ وَفَاةِ عُزِّيَّا الْمَلِكِ رَأَيْتُ السَّيِّدَ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ، وَأَذْيَالُهُ تَمْلأُ الْهَيْكَلَ". إنْ نظَرْتُمْ إلى التَّرجمَةِ الإنجليزيَّةِ، سترَوْنَ كلمةَ "lord" بالأحْرُفِ الصغيرةِ. هَلْ هذا صحيحٌ؟ وإنْ تقدَّمْتُمْ بِضْعَةَ أعدادٍ أخْرَى إلى تَسْبِحَةِ السَّرافيمِ، ستقرأُونَ: "قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ". أتَرَوْنَ هذا؟ أتَرَوْنَ أنَّ كلِمَةَ "رَبٍّ" في الترجمَةِ الإِنْجْليزِيَّةِ جاءَتْ "LORD" بالأَحْرُفِ الكبيرةِ؟ كمْ منكُمْ لاحظَ هذا في النَّصِّ؟ هذا شائِعٌ في الترجماتِ الإنجليزيَّةِ للكتابِ الْمُقدَّسِ، وهو ليسَ نتاجَ خطأٍ مطْبَعِيٍّ، بلْ كانَ المترجِمونَ يُحاوِلونَ تنْبِيهَنا إلى شيءٍ غيرِ معتادٍ هُنا – وهْوَ أنَّهُ مَعَ أنَّ الكلمتَيْنِ واحِدٌ، لكنَّ الاختلافَ في نَوْعِ الأحْرُفِ يبيِّنُ أنَّهُما تأتِيانِ منْ كَلِمَتَيْنِ مُختلفتَيْنِ في اللُّغةِ الْعِبْرِيَّةِ.

كُلَّما رأيْتُ كلمةَ LORD بالأحرُفِ الكبيرَةِ أو "ربّ"، تأكَّدْ مِنْ أنَّ اللفْظَ العِبْرِيَّ هو الاسْمُ يَهْوَه، الاسمُ الَّذي أعلنَهُ اللهُ لمُوسى في برِّيَّةِ مِدْيانَ حينَ قالَ لهُ: "أَهْيَهِ ٱلَّذِي أَهْيَهْ" (خروج 3: 14). يَهْوَه هو الاسمُ المقدَّسُ للهِ. قبلَ هذا، حينَ رأيْنا كلمةَ lord بالأحرُفِ الصغيرةِ أوِ "السيِّد"، نجِدُ أنَّها مترجَمَةٌ عن كلمةٍ مختلِفَةٍ، وهْيَ اللفظُ العبْرِيُّ أَدُونَايْ، وهْوَ على الأرجحِ أسْمَى لقَبٍ يستخدِمُهُ العهدُ القديمُ عنِ اللهِ. فقدْ أخذَ اللهُ ألقابًا كثيرةً في العهْدِ القديمِ. لكنَّ هذا هُوَ اللَّقَبُ الأسْمَى.

على سبيلِ المِثالِ، نقْرَأُ في المزمورِ الثَّامِنِ والآيةِ الأُولى: "أَيُّهَا الرَّبُّ [LORD] سَيِّدُنَا [lord]، مَا أَمْجَدَ اسْمَكَ فِي كُلِّ الأَرْضِ". وَهْيَ تعْني: "يهوَه، أدونايْ. مَا أَمْجَدَ اسْمَكَ فِي كُلِّ الأَرْضِ". وأيضًا في مَزْمُورِ 110 نقرَأُ: "قَالَ الرَّبُّ [LORD] لِرَبِّي [lord]: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي" – وهْيَ جملةٌ عجيبَةٌ تَرِدُ في العهدِ القديمِ، فِيها يَصِفُ داوُدُ يهوَه وهْوَ يتحدَّثُ معَ شخصٍ آخرَ، وينْسِبُ لَهُ لقبَ أدُونايْ، اللَّقَبَ الَّذِي لطالَما كانَ خاصًّا باللهِ نفسِهِ. ليسَ صدفَةً إذنْ، أيُّها السادَةُ، أنْ تصيرَ الآيةُ الأكثرُ اقتباسًا في العهدِ الجديدِ من العهْدِ القديمِ هُوَ مزمورُ 110، حيثُ يخبرُنا بولسُ أنَّ الربَّ يسوعَ قدْ أُعْطِيَ اسمًا هو فوقَ كُلِّ اسمٍ، أيْ أدونايْ، الاسمَ الَّذي ينتمِي في الأصلِ إلى اللهِ وحدِهِ (فيلِبِّي 2: 9-11).

ومَعْنَى لفظِ "أَدُونايْ" ببساطَةٍ هُوَ: المُتَسَيِّدُ. أتَرَوْنَ ما حدثَ هنا؟ ماتَ الْمَلِكُ. وسادَ وقتٌ مِنَ الْحَيْرَةِ والْحُزْنِ فِي الأَرْضِ، ولَدى الشعبِ اليهوديِّ، فيأتي إِشَعْياءُ، باسْمِ شَعْبِهِ، ويتطلَّعُ داخلَ السماءِ عيْنِها، فلا يَرى عُزِّيَّا، أوْ حَزَقِيَّا، أَوْ دَاوُد. بلْ أَدُونايْ، الملكُ الأعْلَى، المتوَّجُ في السَّماءِ. أنا على قناعةٍ شخصيّةٍ بأنَّ ما رآهُ هنا كانَ لمحةً قبْلَ التجسُّدِ من تتويجِ المسيحِ نفسِهِ في جلالِهِ التامِّ.

أذيالُهُ تمْلأُ الْهَيْكَلَ:

قالَ: "رأيتُ السَّيِّدَ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيٍّ عَالٍ وَمُرْتَفِعٍ. وَأَذْيَالُهُ تَمْلأُ الْهَيْكَلَ" (إشعياء 6: 1). كمْ أُحِبُّ تلكَ الْعِبارَةَ: "وَأَذْيَالُهُ تَمْلأُ الْهَيْكَل". في العصورِ القَدِيمَةِ، كانَتْ ثيابُ الملوكِ مِقياسًا لِمَكانَتِهِمْ. وكانَ هناكَ بروتوكولٌ دَوْلِيٌّ مختصٌّ بالمُسْتوياتِ المُختلفَةِ لبهاءِ ثيابِهِمْ. فإنِ ارتدَى ملكٌ فَرْوَ القاقُمِ، كانَ هذا مُذْهِلًا. وإنْ لبِسَ فَرْوَ السَّمُّورِ، كانَ هذا أفضلَ. أمَّا فَرْوُ المِنْكِ فكانَ مِنَ الدَّرَجَةِ الثانِيةِ أوِ الثالِثَةِ. ومَنِ ارَتَدَوْا الكَتَّانَ كانوا يُجبَرونَ على الجلوسِ في الخَلْفِ في اجتماعاتِ المُلُوكِ.

أتَذَكَّرُ أنِّي شاهَدْتُ أُولَى برامِجِ الْبَثِّ الْمُباشِرِ الدَّوْلِيَّةِ في أمْرِيكَا، وكانَ حفلُ تتويجِ الملكةِ إليزابيث. ظلَّ المُعَلِّقونَ يتحدَّثُونَ عنِ الأُبَّهَةِ الَّتِي لا يستطيعُ سوى البَرِيطانيِّينَ أنْ يظْهِرُوها، وعن فخامَةِ رداءِ الْمَلِكَةِ. وحينَ اقترَبَتِ الملكةُ منَ العرشِ في وِسْتْمِنِسْتَر، وقبلَ ذهابِها إلى قصرِ باكِينْجْهام، كانتْ هناكَ العديدُ من الوصيفاتِ ترْفعْنَ أذيالَ ردائِها في أثناءِ دخولِها إلى الْبَهْوِ، لأنَّ الرِّداءَ امتدَّ لعِدَّةِ أقدامٍ وراءَها حينَ كانَتْ في المَوْكِبِ.

لكنْ أتَسْمَعونَ ما يقولُهُ إشعياءُ هنا، إنَّهُ حينَ رأى هذه الرؤيا للملكِ السماويِّ، رأى ملكًا كانتْ ثيابُهُ المُبهِرَةُ تخرُجُ من جانبَيْ الْعرشِ، ثمَّ تمْتَدُّ في ثَنْياتٍ في أركانِ الْهَيْكَلِ، ثم تدورُ حولَ المدخلِ الخلفيِّ، حتَّى خرجَتْ وملأَتِ البناءَ كُلَّهُ. وما رآهُ هنا هو اختبارٌ بصرِيٌّ للجَلالِ، متمثِّلٌ في بهاءِ الثيابِ المَلَكِيَّةِ.

فوقَهُ السَّرَافِيمُ:

ثُمَّ قالَ وَقَفَ فَوْقَ العرشِ، وفوْقَ يهوه وأدونايْ، الرَّبِّ، السَّرافيمُ، لكلِّ واحِدٍ ستَّةُ أجْنِحَةٍ (إشعياء 6: 2). هذه هي الإشارةُ الوحيدةُ في الكتابِ المقدَّسِ إِلى هذهِ الْمَخْلوقاتِ الَّتِي تُسمَّى سَرافِيم. حاولَ البعضُ مساواتَها بالكَرُوبيمِ، لكنِّي أعتقدُ أنَّهُ بما أنَّ الكتابَ المقدَّسَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُما، علينا نحنُ أيْضًا أنْ نفعلَ هذا. نعلَمُ الْقليلَ جِدًّا عنْ هذهِ عدَا أنَّها جزءٌ من الْجُنْدِ السَّماوِيِّ، تلكَ الْكائِناتُ الَّتي خلقَها اللهُ فقطْ كيْ تَخْدِمَهُ نهارًا وليلًا في مَحْضَرِهِ. وإنْ قرَأْنا وصْفَ إِشعياءَ لَها، يبدو وكأنَّها تظهرُ في شكلٍ عجيبٍ، إذْ نقرأُ أنَّ لها سِتَّةَ أجْنِحَةٍ.

دَعُونِي أتوقَّفُ هُنا للحظةٍ وأُعَلِّقُ. حينَ يخلُقُ اللهُ مَخلوقاتٍ، فَهْوَ يخلُقُها بتصميمٍ محدَّدٍ. فَهْوَ لا يَهْدِرُ المَوادَّ، بَلْ لديهِ قدرةٌ مذهلةٌ وخارقةٌ على خَلْقِ أيِّ شيءٍ بحيثُ يلائِمُ بيئَتَهُ. فهو يخلُقُ الأسماكَ بِخَياشيمِ وزَعانِفَ لأنَّ مكانَها الطَّبيعيَّ هو الماءُ. ويخلِقُ الطيورَ بأجنحةٍ وريشٍ لأنَّ بيئتَها هيَ الهواءُ. وهكذا، حينَ يخلُقُ كائناتٍ ملائكيَّةً، مهمَّتُها ووظيفتُها الخاصَّةُ في الخليقةِ هي خِدْمتُهُ في مَحْضرِهِ، فهْوَ يُصمِّمُها كيْ تُلائِمَ بيئتَها. ولهذا، نجِدُ أنَّها وُهِبَتْ زوجيْنِ إضافيَّيْنِ مِنَ الأجْنِحَة.

يُغَطُّونَ وُجوهَهُمْ:

"بِاثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ" (إِشَعْياءُ 6: 2). فكِّرُوا معي في أنَّ هذه الكائناتِ الملائِكِيَّةَ كانَتْ تَخْدِمُ يومِيًّا فِي الْمَحْضَرِ المباشرِ ربَّ الجنودِ غيرَ المُحتَجِبِ، الَّذِي مجدُهُ لامِعٌ وثاقِبٌ بِشِدَّةٍ حتَّى أنَّ المَلائِكَةَ نَفْسَها لَزَمَ أَنْ تَحْمِيَ نَفْسَها مِنَ النَّظرِ إلى وَجْهِهِ مُباشَرَةً.

تذكَّروا معي القصَّةَ الموجودةَ في سِفْرِ الْخروجِ، حينَ اسْتَدْعَى يهوه موسى، كمُمَثِّلٍ لشعبِ اللهِ، إِلى جبلِ سِيناءَ، لِيَسْتَلِمَ شَرِيعَةَ الله. كما تتذكَّرونَ، صَعِدَ مُوسَى في السَّحابِ، وابْتُلِعَ بِشَكْلٍ ما فوقَ ذلكَ الْجَبلِ. وانْتظرَهُ الشَّعْبُ أَيَّامًا كثيرةً، وانتابَهُمُ الْقَلَقُ، مُتسائِلينَ ماذا حدثَ لِقائِدِهِمْ. هَلِ ابْتَلعَهُ غضبُ اللهِ فَوْقَ ذلك الجبلِ مثلما حدثَ مَعَ قورَحَ وعشيرتِهِ في تمرُّدِهِمْ؟ هل سيعودُ حيًّا؟ وماذا قد تكونُ رسالةُ اللهِ إِنْ عادَ؟ وهكذا انْتَظرُوا في خوفٍ ورِعْدةٍ عودَةَ موسى. وبينَما كانَ موسى فوقَ الْجبلِ، تكلَّمَ معَ اللهِ. أتَذْكرونَ الْحدِيثَ؟ إنْ جازَ لي الارتجالُ قليلًا، سأقولُ إنَّهُ كانَ شيئًا من هذا القبيلِ.

قالَ مُوسى: "يا رَبُّ، قد رأيْتُ بعضَ الأمورِ المُذهِلَةِ في أثناءِ حياتِي. فقدْ أرَيْتَنِي العُلَّيْقَةَ المُشتعِلَةَ، والضَّرَباتِ التي أهلكْتَ بها المِصْرِيِّينَ. ورأيتُكَ تَشُقُّ الْبَحْرَ، وتعبُرُ بأمَّةٍ كامِلَةٍ فوقَ اليابِسةِ. ورأيتُكَ تعطينا، نَحْنُ الْجَوْعَى، طعامًا بشكلٍ مُعجِزِيٍّ منَ السَّماءِ، لكنِ الآنَ هَبْنِي الْعَطِيَّةَ الْكُبْرَى. يا رَبُّ، أَرِنِي وَجْهَكَ".

أجابَهُ اللهُ: "يا موسى، تعلَمُ جيِّدًا أَنَّ كلِمَتِي تقولُ لا أحدَ يراني ويعيشُ. لا تقْدِرُ أنْ ترى وجهي يا موسى. إليكَ ما سأفعلُهُ. سأحفِرُ نُقْرَةً صَغيرَةً في تلكَ الصَّخْرَةِ هناكَ، وأضَعُكَ في نُقْرَةِ الصَّخرةِ، ثُمَّ أستُرُكَ، وأجتازُ، وأدَعُكَ تنظرُ ورائِي" – (أيْ) "مؤَخَّرَ يَهْوَه" في اللُّغةِ العبريَّةِ - وَأَمَّا وَجْهِي فَلاَ يُرَى.

وهكذا وضعَ اللهُ عَبْدَهُ في نُقْرَةِ الصَّخْرةِ، واجْتازَ بمجدِهِ. وأيُّها السادَةُ، لجُزءٍ منَ الثَّانِيَةِ، رأى موسى لمحَةً خَلْفِيَّةً من مجدِ اللهِ المنعكسِ، وماذا حَدَثَ؟ حينَ نزلَ مِنَ الجَبَلِ، ورآهُ الشَّعْبُ من بعيدٍ، تملَّكَهُمُ الحماسُ بِسبَبِ عوْدَةِ قائدِهِمْ، وتزاحَمُوا ليُحَيُّوهُ. وفجأةً، انْكَمَشُوا إلى الوراءِ في رُعْبٍ، وسَقَطُوا على وجوهِهِمْ، ثم بدأُوا في التَّوَسُّلِ إلى موسى قائلينَ: "يا موسى! غَطِّ وجهَكَ!" لمْ يحْتَمِلُوا النظرَ إِلَيْهِ. لماذا؟ لأنَّ وجْهَ موسى كانَ يَلْمَعُ بِشِدَّةٍ حتَّى أنَّهُ كانَ يُعْمِي بَصَرَ الشَّعْبِ، ولمْ يَكُنْ ما رآهُ هؤلاء، أيُّها السَّادةُ، سِوى انعكاسٍ ظهرَ على وجْهِ إنسانٍ نتيجةَ لمْحَةٍ سريعةٍ لمجْدِ اللهِ مِنَ الْخَلْفِ.

ولذا كانَ على الملائكةِ أنْ يُغَطُّوا وجوهَهُمْ في مَحْضَرِهِ.

يُغطُّونَ أَرْجُلَهُمْ:

وبِجنَاحَيْنِ، كَما نقرأُ، يغطُّون أَرْجُلَهُمْ (إِشَعْياءُ 6: 2). لا يُفسِّرُ لنا الكتابُ المقدَّسُ لِمَ كانَ يجبُ أنْ يُغَطِّيَ السَّرافيمُ أرجلَهُمْ. لا يمكنُنِي سِوى التخمينِ، وسأُجازِفُ بالتَّخْمِينِ هنا بأنَّ الأَرْجُلَ، لِلمَلائِكَةِ وَالْبَشَرِ أَيْضًا، هِيَ رَمْزُ الطَّبِيعَةِ الْمَخْلُوقَةِ فِي الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ.

فإِنَّنَا نَعْرِفُ أنَّنا مِنَ الأرضِ، ترابِيُّونَ، وأقدامُنا من طينٍ. فحين الْتَقى موسى باللهِ في بَرِّيَّةِ مِدْيانَ، ماذا كانَ أوَّلُ شيْءٍ قالَهُ الله؟ "مُوسَى، مُوسَى! اخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ، لأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ" (خروج 3: 5). فقدْ طلبَ مِنْهُ أنْ يكشِفَ رِجليْهِ، رَمْزَ طَبِيعَتِهِ الْمَخْلُوقَةِ، وخُضوعِهِ أمامَ الْقُدُّوسِ. وهكذا، في السَّماءِ نفسِها يُغطِّي الْملائِكَةُ رَمْزَ طَبِيعَتِهِمِ الْمَخْلُوقَةِ.

قدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ:

لكِنْ بِقَدْرِ انبهاري، أيُّها السادَةُ، بتكوينِ جسدِ السَّرافيمِ، هذا أمْرٌ ثانَوِيٌّ في نَصِّنا هذا. ما يشكِّلُ أهمِّيَّةً حقِيقِيَّةً في هذا النَّصِّ، ليسَ هو تكوينَ جَسدِ المَلائِكَةِ، بَلْ رِسالَتُهُمْ. استَمِعُوا إلى ما يقولُهُ الكتابُ المقدَّسُ: "بَاثْنَيْنِ يَطِيرُ. وَهذَا نَادَى ذَاكَ وَقَالَ قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ، مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ" (إشعياء 6: 3).

كُنْتُ أقِفُ هناكَ قبْلَ أنْ نبدَأَ هذه السِّلْسِلَةَ، ومَنْ يشاهِدونَها مُسجَّلَةً سَتَفوتُهُمْ بعضُ الأَشياءِ الَّتي فعلناها كَمُقَدِّمَةٍ. وأَحَدُ الأشياءِ الَّتِي استمتَعَتْ بِهَا هذه الْمَجْمُوعَةُ هُوَ إنْشادُ التَّرنيمةِ الْكَنَسِيَّةِ الكلاسيكيَّةِ بِعُنوان: "قدُّوسٌ، قدُّوسٌ، قدُّوسٌ". كُنْتُ أَسْتَمِعُ إليكُمْ وأنتمْ تُرنِّمونَ. وكلَّما استمعتُ لهذهِ الترنيمةِ، لا تترُكُني القُشْعَريرةُ في كلِّ جسدي. أليسَتْ رائعةً؟ وهنا أفكِّرُ في الملائِكَةِ وفي جميعِ مَنْ طرَحُوا أكاليلَهُمْ الذَّهَبِيَّةَ بِجوارِ البَحْرِ الزُّجاجي، لأنَّ كلَّ ما لَهُ أيَّةُ قِيمَةٍ ممَّا نَمْلِكُهُ هو شيءٌ نوَدُّ أنْ نضعَهُ بسرورٍ عِنْدَ قدَمَيِ الْقُدُّوسِ. وأُفَكِّرُ كيفَ تَتَهلَّلُ هذه الكنيسةُ أوْ هذه التَّرنِيمَةُ في مجدٍ بِجلالِ الله.ِ لكنْ بيْنما كنتُ أُصْغِي إلَيْكُمْ، فكَّرْتُ هكذا: "بقدرِ ما يبْدو وقْعُها جَمِيلًا، تخيَّلُوا كيف سيكونُ وقْعُهَا إنْ رنَّمَها خورسٌ مِنَ المَلائِكَةِ". هذا هو ما رآهُ إِشَعياءُ: الجُنْدُ السَّماوِيُّ فوقَ عَرْشِ اللهِ، يرنِّمونَ بالتَّبادُلِ كلمَةً واحِدَةً، تتكرَّرُ مِرارًا: "قدُّوسٌ قدُّوسٌ قدُّوسٌ ربُّ الْجُنُودِ. السَّماءُ والأَرْضُ مملوءتانِ مِنْ مَجْدِهِ".

يا أحبَّاءُ، هناكَ شيءٌ فِي هذا النصِّ يمكنُنا أنْ نقرَأَهُ آلافَ المرَّاتِ ولا ننتبِهُ إليْهِ. يوجَدُ شيءٌ لَهُ طابِعٌ يهودِيٌّ أصيلٌ. في اللُّغةِ الإنجليزيَّةِ، حينَ نُريدُ لفْتَ الانتباهِ إلى شيْءٍ ما له أهمِّيَّةٌ خاصَّةٌ، والتَّشْدِيدَ عَلَيْهِ، نَسْتَخْدِمُ وسائِلَ مُخْتلفَةً من خلالِ الطِّباعَةِ. يُمْكِنُ أنْ نضعَ خَطًّا تحْتَ الْكلماتِ، أوْ نجعلَ حُروفَها مائِلَةً، أو غَلِيظَةً، أو نضعَ علاماتِ تنصيصٍ أو أقواسٍ حولَها، أو نملأَ الصَّفحَةَ بعلاماتِ التعجُّبِ -كمْ أُبْغِضُ علاماتِ التَّعجُّبِ حينَ لا يوجَدُ تعجُّبٌ. حَتَّى مُحرِّرِي كُتُبِي يفْعلُونَ هذا. وأَكْتَشِفُهُ في الْمِسْوَدَّةِ النِّهائِيَّةِ. إذْ أَجِدُهُمْ يضعونَ علاماتِ تعجُّبٍ في جُمَلٍ ليْسَتْ تَعجُّبِيَّةً، وأرجوكُمْ لا تنْظُرُوا إليَّ وكأنِّي أجْهَلُ استخداماتِ علاماتِ التَّعجُّبِ. فهُمْ يفْعَلونَ هذا، وهذا يدفعُني للْجُنونِ. لكن هذا هو ما نفعلُهُ للتَّوْكيدِ.

فعلَ الْيَهُودُ الشَّيْءَ ذاتَهُ. فقدْ فعلوا كلَّ هذا – وَضْعَ خَطٍّ، والْخَطِّ الْغليظِ، والْمَائِلِ. لكنْ كانَ لدَيهِمْ أسلوبٌ آخرُ للَفْتِ الانتباهِ إلى شيءٍ لهُ أهمِّيَّةٌ خاصَّةٌ، وهْوَ الأُسلوبُ الْبَسِيطُ للتَّكرارِ اللَّفْظِي.

على سَبيلِ المِثالِ، أتذكَّرُ حينَ كتبَ الرَّسولُ بولسُ لأهْلِ غلاطِيَة، مُحذِّرًا إيَّاهُم مِنْ مخاطرِ الانحرافِ عن الإنجيلِ الَّذي استلموهُ منْهُ. فقالَ: "إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ، فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا" -أيْ ليَكُنْ ملعونًا. هذا تصريحٌ قوِيٌّ منَ الرسولِ بولسَ، لكنَّهُ لمْ يتوقَّفْ عندَ هذا الحَدِّ؛ بلْ على الفورِ تابعَ قائلًا: "أَقُول الآنَ أَيْضًا: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُبَشِّرُكُمْ بِغَيْرِ مَا قَبِلْتُمْ، فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا" (غلاطِيَة 1: 8-9).

أيضًا كانَ يسوعُ يهْوَى استخدامَ أسلوبِ التكرارِ لتوضيحِ قصدِهِ. تذكَّروا أنَّ يسوعَ كانَ معلِّمًا يهوديًّا. أيْ أنَّهُ كانَ عالِمًا للَّاهوتِ. كانتْ لهُ مدرسةٌ، ولديهِ طلبَةٌ يُدْعَوْنَ تلاميذَ، أوْ مُتَعَلِّمِينَ، انْضَمُّوا إلى مدرسَتِهِ. وهْوَ كانَ معلِّمًا مُتَجَوِّلًا. أيْ أنَّهُ كانَ يتجوَّلُ، وبينَما كانَ يسيرُ، كانَ التلاميذُ يتبعونَهُ بشكلٍ حرْفِيٍّ. حينَ كانَ يقولُ: "اتبعْني"، كانَ يقْصِدُ تَبَعِيَّةً حَرْفِيَّةً، أيْ: "سِيرُوا وَرائي". وكانَتْ طريقَةُ التَّبَعِيَّةِ هيَ: أنْ يقدِّمَ المعلِّمُ تعليمَهُ شفَهِيًّا، أيْ محاضَرتَهُ، في أثناءِ سيرِهِ معَهُمْ، مثلًا، في طريقِ عِمْوَاسَ، أو أيِّ طريقٍ آخرَ، وكانَ على التلاميذِ أنْ يسيروا وراءَهُ، ويحْفَظُوا عن ظهْرِ قلْبٍ الأشياءَ الَّتي يعلِّمُهُمْ إيَّاها.

أيُّها السادةُ، كُلُّ تعليمٍ خرجَ مِنْ شَفَتَيْ يسوعَ الْمَسِيحِ كانَ مُهِمًّا، لَكِنْ صَرَفَ رَبُّنا نَفْسُهُ وقتًا لِيَلْفِتَ الانتباهَ إلى أشياءَ اعتبرَها فائِقَةَ الأهمِّيَّةِ. وكُلَّما كانَ يَصِلُ إلى فكرةٍ كهذِهِ، أرادَ التأكُّدَ مِنْ ألَّا تغيبَ عن بالِ تلاميذِهِ، وكانَ يُمَهِّدُ لتعليمِهِ بكلمتَيْنِ، قائِلًا: "الْحَقَّ الْحَقَّ أَقولُ لَكُمْ". فِي حقيقَةِ الأَمْرِ كانَ يقولُ: "آمين آمين أقولُ لَكُمْ". تعرفونَ هذه الكلمةَ. فهْيَ تُلْفظُ هكذا في كلِّ اللغاتِ، إذْ نقولُ: وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ. آمِينَ.

لكنَّنا نقولُ "آمين" بعدَ تعليمٍ أو وعظٍ. وهْيَ تعنِي: "هَذا حَقٌّ، نؤمِنُ بِهذا"، وغيرَ ذلِك. لمْ ينتظرْ يَسوعُ منْ تلاميذهِ أنْ يؤَكِّدُوا صحَّةَ ما يقولُهُ، لكنَّهُ بدأَ عِظَتَهُ بقوْلِهِ: "آمين، آمين". يُشْبِهُ هذا سماعَ صوْتِ رُبّانِ سفينةٍ في جهازِ الاتِّصالِ، قائِلًا: "انتبِهُوا جميعًا، معَكُمْ رُبَّانُ السَّفينةِ". حين كرَّرَ يسوعُ تلك الكلمةَ مرَّتَيْنِ، كانَ يُؤَكِّدُ أهمِّيَّتَها.

أيُّها السَّادَةُ، صِفَةٌ واحِدَةٌ فقَطْ مِنْ صِفاتِ اللهِ وصَلَتْ إِلَى درجَةِ التَّكرارِ الثُّلاثِي في الكتابِ الْمُقدَّسِ. وصِفَةٌ واحدةٌ فقَطْ هي التي شدَّدَ عليها الْملائكَةُ. يقولُ الكتابُ المقدَّسُ ليسَ فقط إنَّ اللهَ قدُّوسٌ، أَوْ حتَّى إِنَّهُ قدُّوسٌ قدُّوسٌ، بَلْ "قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ قُدُّوسٌ".

لا يقولُ الكتابُ المقدَّسُ إنَّ اللهَ رحمَةٌ، رَحْمَةٌ، رَحْمَةٌ؛ أو محبَّةٌ، محبَّةٌ، محبَّةٌ؛ أو عدلٌ، عدلٌ، عدلٌ؛ أو غضبٌ، غضبٌ، غضبٌ؛ بل إنَّه قدُّوسٌ قدُّوسٌ، قدُّوسٌ. هذا جانِبٌ منَ اللهِ يشْغَلُ جَوْهَرَهُ. وحينَ استُعلِنَ لإشعياء، نقرَأُ أنَّهُ عند سماعِ صوْتِ السَّرافيمِ "اهْتَزَّتْ أَسَاسَاتُ الْعَتَبِ" (إِشَعْياءُ 6: 4). أتَسْمَعُونَ هَذَا؟ أشياءُ جامدةٌ، وبلا حياةٍ، وغيرُ عاقِلَةٍ من الخليقةِ، في وجودِ استعلانٍ لقداسةِ اللهِ، قرَّرْتِ التحرُّكَ. كيف لنا نحنُ الَّذينَ خُلقْنا على صورتِهِ أن نكونَ غيرَ مبالين أو متبلِّدينَ أمامَ جلالِهِ؟

اللهُ وحْدَهُ قدُّوسٌ، وما أريدُ أنْ أفعلَهُ في هذه السِّلسلةِ هوَ أنْ أُحاوِلَ وَصْفَ مَعْنَى هذا، ورَدَّ فِعْلِ إِشَعْياءَ وآخرينَ عبرَ التاريخِ حين يظْهَرُ القدُّوسُ.

دعونا نُصَلِّي.

يا أبانا نحنُ نفرحُ لأنَّ شيئًا أو شخصًا ما في هذا الكونِ النَّجسِ قدُّوسٌ ليسَ إلى حدٍّ ما، بل قدُّوسٌ قدُّوسٌ قدُّوسٌ إلى أقْصَى حدٍّ. هَبْ قلوبَنا فَرَحَ السَّرافيمِ بِهذا الْحَقِّ. آمِين.

تم نشر هذه المحاضرة في الأصل في موقع ليجونير.