المحاضرة 9: مِنَ الْعَاصِفَةِ

هَا قَدْ وَصَلْنَا إِلَى الْمُحَاضَرَةِ ٩ مِنْ دِرَاسَتِنَا لِسِفْرِ أَيُّوبَ، وَسَنَتَنَاوَلُ فِيهَا الْأَصْحَاحَيْنِ ٣٨ وَ٣٩ وَالْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنَ الْأَصْحَاحِ ٤٠. وَنَقْرَأُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنَ الْأَصْحَاحِ ٣٨: "فَأَجَابَ الرَّبُّ أَيُّوبَ مِنَ الْعَاصِفَةِ وَقَالَ: "مَنْ هَذَا الَّذِي يُظْلِمُ الْقَضَاءَ بِكَلَامٍ بِلَا مَعْرِفَةٍ؟" بِالطَبْعِ هَذِهِ هِيَ الْمَرَّةُ الْأُولَى الَتِي يُكَلِّمُ فِيهَا اللَّهُ أَيُّوبَ. لَقَدْ تَكَلَّمَ فِي مُقَدِّمَةِ السِفْرِ إِلَيْنَا، أَنَا وَأَنْتُمْ، لَكِنْ هَذِهِ هِيَ الْمَرَّةُ الْأُولَى الَتِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا اللَّهُ إِلَى أَيُّوبَ نَفْسِهِ. كُنَّا فِي مُحَاضَرَتِنَا السَابِقَةِ نَتَمَعَّنُ فِيمَا لِأَلِيهُو، وَإِنَّ أَحَدَ الأَسْبَابِ النَظَرِ إِلَى أَلِيهُو أحْيَانًا مِنْ قِبَلِ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ نَظْرَةً سَلْبِيَّةً هُوَ عَدَمُ قَبُولِ اللَّهِ لِكَلامِ أَلِيهُو. إِذْ أَدَانَ اللَّهُ الْأَصْدِقَاءَ الثَلَاثَةَ، إِنَّمَا لَزِمَ الصَمْتَ فِيمَا يَخْتَصُّ بِأَلْيَهُو. عَزَا الْبَعْضُ ذَلِكَ الصَمْتَ إِلَى نَوْعٍ مِنَ الْقَبُولِ، وَالْبَعْضُ الْآخَرُ أَعَادُوا ذَلِكَ الصَمْتَ إِلَى دَيْنُونَةٍ عَلَيْهِ هُوَ وأَصْدِقَائِهِ الثَلَاثَةِ. فَحُجَّةُ ذَلِكَ الصَمْتِ تَسِيرُ غَالِبًا في الاتِّجَاهَيْنِ. كَانَ الْغَرَضُ مِنْ حَدِيثِ أَلِيهُو زِيَادَةَ وَعْيِ أَيُّوبَ لِيُدْرِكَ سِيَادَةَ اللَّهِ وَخَاصَّةً عَظَمَتَهُ. إِذَا كُنْتُمْ تَقْرَؤُونَ مِنْ تَرْجَمَةِ (ESV)، عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، تَجِدُونَ أَنَّ عُنْوَانَ الْأَصْحَاحِ ٣٧ هُوَ "أَلَيهُو يُعْلِنُ عَظَمَةَ اللَّهِ"، وَذَلِكَ بِكُلِّ تَأْكِيدٍ مُقَدِّمَةٌ لِلْأَصْحَاحِ ٣٨ الَذِي بِعُنْوَانِ: "جَلَالُ اللَّهِ وَسِيَادَتُهُ". الْأَصْحَاحُ الَذِي فِيهِ يَتَكَلَّمُ اللَّهُ. فاللَّهُ بالمُجْمَلِ أَعْظَمُ وأَعْلَى مِنَّا.

أَتَذَكَّرُ وَأَنَا طَالِبٌ فِي كُلِّيَّةِ اللَّاهُوتِ فِي مُنْتَصَفِ السَبْعِينِيَّاتِ كَانَ مِنْ ضِمْنِ الْكُتُبِ الْمُقَرَّرَةِ لِي لأَقْرَأَهَا كِتَابُ هِرْمَانْ بَافِينْكْ (Herman Bavinck) عَنْ عَقِيدَةِ اللَّهِ. وَأَتَذَكَّرُ عِبَارَتَهُ الِافْتِتَاحِيَّةَ وَهِيَ: "الْغُمُوضُ هُوَ الْعُنْصُرُ الْجَوْهَرِيُّ فِي الْعَقَائِدِ". لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَصِفَ لَكُمْ مَدَى خَيْبَةِ أَمَلِي. لَقَدْ ظَنَنْتُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ سَوْفَ يُخْبِرُنِي بِكُلِّ مَا أَحْتَاجُ مَعْرِفَتَهُ بِشَأْنِ عَقِيدَةِ اللَّهِ، وإذا بِالْعِبَارَةِ الِافْتِتَاحِيَّةِ تَتَنَاوَلُ السِرَّانِيَّةِ؛ بِمَعْنَى أَنَّ هُنَاكَ أُمُورًا عَنِ اللَّهِ لَا يُمْكِنُنِي مَعْرِفَتُهَا أَوْ حَتَّى فَهْمُهَا. والحَقُّ يُقَالُ شَعَرْتُ بِأَنَّنِي خُدِعْتُ. وَمُنْذُ ذَلِكَ الْحِينِ وَأَنَا أُدْرِكُ، بِالطَبْعِ، مَدَى عُمْقِ هَذِهِ الْعِبَارَةِ. "السِرَّانِيَّةُ هِيَ عُنْصُرُ الْعَقَائِدِ الْجَوْهَرِيُّ". فَسِرَّانِيَّةُ اللَّهِ، المَذْكُورَةُ هُنَا لَا تَعْنِي الْغُمُوضَ كَمَا فِي رِوَايَاتِ الْغُمُوضِ، بَلْ السِرَّانِيَّةُ هُنَا بِمَعْنَى رَهْبَةِ اللَّهِ وَجَلَالِ اللَّهِ، وَهُوَ عَامِلٌ حَيَوِيٌّ فِيمَا تُعَلِّمُهُ لَنَا فِي الْوَاقِعِ التَجَارِبُ وَالْأَلَمُ.

فَيَتَكَلَّمُ اللَّهُ، وَيُذَكِّرُنَا مُسْتَهِلًّا حَدِيثَهُ الْمُبَاشِرَ عن مُبَارَزَةٍ بِاللِسَانِ مِنْ جَانِبِ أَيُّوبَ، وصِرَاعٍ مِنْ أَجْلِ الْفَهْمِ. إِنَّهَا مَعْرَكَةٌ مَعْرِفِيَّةٌ. فَأَيُّوبُ كَانَ يَتَكَلَّمُ كَثِيرًا، وَيَنْطِقُ بِكَلامٍ كَثِيرٍ، لَكِنَّ كَلامَهُ كانَ يَخْلُو مِنَ الْمَعْرِفَةِ وَيَخْلُو مِنَ الْفَهْمِ. مِنْ ثَمَّ نَجِدُ، فِي الْآيَةِ ٣، اللَّهَ يَضَعُ تَحَدِّيًا. كَمَا أَنَّهُ يَفْعَلُ هَذَا مَرَّةً أُخْرَى فِيمَا بَعْدُ. "اُشْدُدِ الْآنَ حَقْوَيْكَ كَرَجُلٍ". إِنَّ الْفِعْلَ الْعِبْرِيَّ الْمُتَرْجَمَ "اُشْدُدْ حَقْوَيْكَ"، فِعْلٌ يُسْتَخْدَمُ فِي عَالَمِ الْمُصَارَعَةِ. فَهَذِهِ مَبَارَزَةٌ وَمُصَارَعَةٌ؛ لَيْسَتْ مُصَارَعَةً بِالْأَيَادِي. بَلْ إِنَّهَا مُصَارَعَةٌ مَعْرِفِيَّةٌ. إِنَّهَا صِرَاعُ أَفْكَارٍ. إِنَّهَا مُصَارَعَةٌ مِنْ أَجْلِ الْحِكْمَةِ. إِنَّهَا مُصَارَعَةٌ مِنْ أَجْلِ الْفَهْمِ. وَإلَيْكُمْ قَوَاعِدَ الْمُبَارَاةِ: "فَإِنِّي أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي". أَنْتَ لَا تَكِلُّ عَنِ الِاحْتِجَاجِ أَبَدًا. فَأَيُّوبُ هُوَ الشَخْصُ الَذِي يَطْرَحُ الْأَسْئِلَةَ. وَاَللَّهُ هُوَ مَنْ يُفْتَرَضُ أَنْ يُجِيبَ عَنْ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ. لَكِنْ عِنْدَمَا بَدَأَ اللَّهُ حَدِيثَهُ إِلَى أَيُّوبَ، قَلَبَ نَمَطَ الْحِوَارِ وَقَالَ: "لَا، أَنَا مَنْ سَوْفَ يَطْرَحُ الْأَسْئِلَةَ، وَأَنْتَ مَنْ سَوْفَ يُقَدِّمُ الْأَجْوِبَةَ". شَعَرْتُمْ بِمَا شَعَرَ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ فَهُنَاكَ خَطْبٌ مَا فِي هَذِهِ الْمُبَارَزَةِ؛ إنَّهَا مُبَارَزَةٌ بَيْنَ خَصْمَيْنِ غَيْرِ مُتَكَافِئَيْنِ.

أَتَذَكَّرُ مُشَاهَدَةَ بَرْنَامَجِ "مَنْ سَيَرْبَحُ الْمِلْيُونَ" وَقَدْ عَلَّقَ هَذَا الْبَرْنَامَجُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ خَطَأٍ فِي مُجْتَمَعِنَا. أَنْتَ لَا تُرِيدُ أَنْ تَصِيرَ مِلْيُونِيرًا، إِلَّا إِذَا وَهَبَكَ اللَهُ الْمَوَاهِبَ الَتِي تَحْتَاجُهَا لِخَوْضِ هَذِهِ التَجْرِبَةِ، لأَنَّ الأَمْرَ قَدْ يُدَمِّرُكَ. فَمِنَ المُحْتَمَلِ أَنْ يُدَمِّرَ زَوَاجَكَ، وَمِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنْ يُدَمِّرَ أُسْرَتَكَ. فَسَوْفَ يَظْهَرُ فَجْأَةً مِنْ حَيْثُ لا تَعْلَمُ أَشْخَاصٌ يَعْرِفُونَكَ. وَسَوْفَ يَقِفُونَ عَلَى عَتَبَةِ بَابِ مَنْزِلِكَ. وَسَوْفَ تَزْدَادُ صُعُوبَةُ الْحَيَاةِ لِلْغَايَةِ. كَمَا أَتَذَكَّرُ أَنَّهُ فِي مُقَدِّمَةِ لُعْبَةِ هَذَا الْبَرْنَامَجِ كَانَتْ تُطْرَحُ بَعْضُ الْأَسْئِلَةِ التَمْهِيدِيَّةِ، والأَسْئِلَةِ السَهْلَةِ، أَسْئِلَةٍ مِنْ فِئَةِ ٥٠ دُولَارًا وَ١٠٠ دُولَارٍ وَحَتَّى إِلَى أَسْئِلَةٍ مِنْ فِئَةِ ١٠٠٠ دُولَارٍ. فَالْجَمِيعُ يُغَادِرُونَ لُعْبَةَ الْبَرْنَامَجِ وَمَعَهُمْ ١٠٠٠ دُولَارٍ بَعْدَ ٣ أَوْ ٤ أَسْئِلَةٍ. لَكِنْ كَانتْ هُنَاكَ تِلْكَ السَيِّدَةُ، إِنَّ ذَاكِرَتِي تَخُونُنِي هَذِهِ الْأَيَّامَ، عَلَى مَا أَذْكُرُ كَانَتْ هَذِهِ السَيِّدَةُ تَعْمَلُ فِي مَكْتَبِ الْبَرِيدِ فِي وِلَايَةِ آيْوَا. وَشَارَكَتْ فِي هَذَا الْبَرْنَامَجِ. كَانَتْ تَقْفِزُ فَرَحًا وَمُتَحَمِّسَةً وَتَغْمُرُهَا الْبَهْجَةُ لِظُهُورِهَا فِي هَذَا الْبَرْنَامَجِ. وَلَمْ تَسْتَطِعِ الْإِجَابَةَ عَنْ أَيٍّ مِنَ الْأَسْئِلَةِ التَمْهِيدِيَّةِ هَذِهِ. وَعَادَتْ إِلَى مَنْزِلِهَا خَالِيَةَ الْيَدَيْنِ. كَانَ لِلُعْبَةِ الْبَرْنَامَجِ قَوَاعِدُهَا وَكَانَ مُقَدِّمُ الْبَرْنَامَجِ مِمَّنْ يَلْتَمِسُونَ الْأَعْذَارَ وَمَا إِلَى ذَلِكَ، لَكِنَّهَا لَمْ تَسْتَطِعِ الْإِجَابَةَ وَلا حَتَّى عن الْأَسْئِلَةِ السَهْلَةِ. فَهِيَ فِي الْوَاقِعِ لَمْ تَنْجَحْ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْجُزْءِ الْحَقِيقِيِّ مِنَ اللُعْبَةِ. لِذَا كَثِيرًا مَا أَتَعَجَّبُ حِيَالَهَا. رُبَّمَا تَذْهَبُونَ لِشِرَاءِ بَعْضِ الطَوَابِعِ وَتَجِدُونَهَا فِي مَكْتَبِ الْبَرِيدِ، وَقَدْ تَقُولُونَ: "نَعَمْ، إِنَّهَا السَيِّدَةُ الَتِي لَمْ تَسْتَطِعِ الْإِجَابَةَ عَنِ الْأَسْئِلَةِ السَهْلَةِ".

مَا كَانَ السُؤَالُ الْأَوَّلُ لأَيُّوبَ؟ فِي الْآيَةِ ٤: "أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الْأَرْضَ؟" رُبَّمَا تَرْغَبُونَ فِي قَوْلِ: "هَذَا لَيْسَ مِنَ الْعَدْلِ! تَحْتَ أَيِّ نَوْعٍ يَنْدَرِجُ هَذَا السُؤَالُ؟!" هَذَا لَيْسَ عَدْلًا. فَأَيُّوبُ يُعَانِي. أَيُّوبُ يُرِيدُ تَفْسِيرًا لِتَجْرِبَتِهِ. أَيُّوبُ يُرِيدُ تَفْسِيرًا لِضِيقَتِهِ، وَاَللَّهُ يَقُولُ لَهُ وَيَسْأَلُهُ: "أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الْأَرْضَ؟ أَخْبِرْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ فَهْمٌ". لَطَالَمَا كَانَ أَيُّوبُ يَقُولُ، فِي سِيَاقِ هَذَا السِفْرِ، إِنَّهُ لَدَيْهِ الْحَقُّ فِي الْفَهْمِ، وَإِنَّهُ لَدَيْهِ الْحَقُّ فِي الْمَعْرِفَةِ. مَا مِقْدَارُ الْمَعْرِفَةِ الَتِي قَدْ يَمْتَلِكُهَا أَيُّوبُ؟ "هَلْ كُنْتَ مَوْجُودًا عِنْدَمَا خَلَقْتُ أَنَا الْأَرْضَ؟" وَطَبْعًا تَكُونُ الْإِجَابَةُ بِالنَفْيِ: "لَا".

مَنْ وَضَعَ قِيَاسَهَا؟ لِأَنَّكَ تَعْلَمُ! أَوْ مَنْ مَدَّ عَلَيْهَا مِطْمَارًا؟ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قَرَّتْ قَوَاعِدُهَا؟ أَوْ مَنْ وَضَعَ حَجَرَ زَاوِيَتِهَا، عِنْدَمَا تَرَنَّمَتْ كَوَاكِبُ الصُّبْحِ مَعًا، وَهَتَفَ جَمِيعُ بَنِي اللهِ؟ وَمَنْ حَجَزَ الْبَحْرَ بِمَصَارِيعَ؟

هُنَا نَجِدُ اللَّهَ يَطْرَحُ سُؤَالًا تِلْوَ الْآخَرِ. لَقَدْ طَرَحَ هُنَا مَا بَيْنَ ٥٠ وَ٦٠ سُؤَالًا أَوْ أَكْثَرَ. لَكِنَّ أَيُّوبَ لَمْ يَسْتَطِعِ الْإِجَابَةَ عَنْ أَيٍّ مِنْهَا. وَلَا حَتَّى عَنْ سُؤَالٍ وَاحِدٍ. مَاذَا يَقُولُ ذَلِكَ لَنَا؟ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ أَعْظَمُ جِدًّا مِمَّا قَدْ يتَخَيَّلُهُ عَقْلُكُمْ. فهَذَا الْمَقْطَعُ يُعَبِّرُ عَنْ أَمْرَيْنِ. الْأَوَّلُ هُوَ تَعْظِيمُ جَلَالِ اللَّهِ، وعَظَمَةُ اللَّهِ. هَلْ يُمْكِنُكَ أَنْ تَعُودَ إِلَى بَدْءِ الْخَلِيقَةِ؟ هَلْ كُنْتَ قَبْلًا فِي أَعْمَاقِ الْأَرْضِ؟ إِلَى أَيِّ مَدًى تَسْتَطِيعُ أَنْ تَبْلُغَ إِلَى لُبِّ الْأَرْضِ؟ فَالْإِنْسَانُ، حَتَّى سَنَةِ ٢٠١٦ لَمْ يَسْتَطِعِ الْوُصُولَ إِلَى مَرْكَزِ الْأَرْضِ. لَقَدْ أُنْتِجَتْ أَفْلَامٌ تَقُولُ إِنَّ الْإِنْسَانَ نَجَحَ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ. أَنْتُمْ تُدْرِكُونَ أَنَّ هَذِهِ خُرَافَةٌ. فهَذَا لَمْ يَحْدُثْ. إِلَى أَيِّ مَدًى يَسْتَطِيعُ الْإِنْسَانُ أَنْ يَذْهَبَ فِي الْفَضَاءِ؟ هَذِهِ هِيَ طَائِفَةُ الْأَسْئِلَةِ الَتِي تُطْرَحُ فِي هَذَا الْمَقْطَعِ.

أَنَا أُتَابِعُ عَمَلِيَّةَ "اسْتِكْشَافِ الْمِرِّيخِ". وَأَحْمِلُ تَطْبِيقَهُ عَلَى جَوَّالِي. وَلَا يَزَالُ يُرْسِلُ صُورَةً صَغِيرَةً. فَذَلِكَ الْآلِيُّ الْمُتَحَرِّكُ عَلَى عَجَلَاتٍ. أَتَعْلَمُونَ؟ إِنَّهُ لَا يَزَالُ مُسَافِرًا مُنْذُ الْعَامَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ، عَلَى مَا أَعْتَقِدُ. وَفِي كُلِّ يَوْمٍ يُرْسِلُ صُورَةً جَدِيدَةً. أَنَا أُصَدِّقُ هَذَا. فَأَنَا لَا أَعْتَقِدُ بِوُجُودِ شَخْصٍ مَا يَعِيشُ فِي هِيُوسْتِنْ وَهُوَ الَذِي يُرَكِّبُ هَذِهِ الصُوَرَ وَيُرْسِلُهَا إِلَى الْجَمِيعِ كُلَّ يَوْمٍ. أَجَلَ، رُبَّمَا قَدْ يَكُونُ هَذَا مُمْكِنًا، لَكِنْ فِي الْوَاقِعِ أَنَا أَصَدِّقُ أَنَّ هُنَاكَ عَلَى الْمِرِّيخِ هَذِهِ الْآلَةَ الَتِي تَحْبِسُ الْأَنْفَاسَ. فَالصُوَرُ تَحْبِسُ الْأَنْفَاسَ. فَالْمِرِّيخُ لَيْسَ فْلُورِيدَا. إِنَّهُ يُشْبِهُ أَكْثَرَ تُرْبَةَ وِلَايَةِ أَرِيزُونَا. لَكِنَّ هَذِهِ الصُوَرَ تُخْبِرُنَا بِشَيْءٍ لَمْ يَشْهَدْهُ لا إِنْسَانٌ أَوْ أَيُّ كَائِنٍ حَيٍّ مِنْ قَبْلُ. هَلْ رَأَيْتُمُ الصُورَةَ الْأُولَى؟ هَلْ سَهِرْتُمْ لِتَرَوْهَا؟ مِنْ أَيِّ طِينَةِ بَشَرٍ أَنْتُمْ؟ كَانَ هَذَا حَدَثًا غَيْرَ مَسْبُوقٍ فِي تَارِيخِ الْبَشَرِيَّةِ. إِذْ صِرْنَا أَوَّلَ جِيلٍ مِنَ الْجِنْسِ الْبَشَرِيِّ يَرَى وَاقِعِيًّا سَطْحَ كَوْكَبِ الْمِرِّيخِ. كَانَتْ لَحْظَةً غَيْرَ مَسْبُوقَةٍ وَتَارِيخِيَّةً، عِنْدَمَا وَصَلَتْ تِلْكَ الصُورَةُ إِلَى الْأَرْضِ. كَمَا كَانَتْ صُورَةً وَاضِحَةً. كَانَتْ صُورَةً لِصُخُورٍ، الْكَثِيرِ مِنَ الصُخُورِ؛ صُخُورٍ عَلَى مَدِّ النَظَرِ. لَمْ تَكُنْ بِهَا أَيَّةُ كَائِنَاتٍ مِرِّيخِيَّةٍ، ولا أَعْشَابُ، وَلَا أَيَّةُ بُحَيْرَةٍ، وَلَا تَمَاسِيحُ. لَا شَيْءَ الْبَتَّةَ. صُخُورٌ فَحَسْبُ. لَكِنَّهَا كَانَتْ جَمِيلَةً. كَانَتْ صُورَةً فِي غَايَةِ الْجَمَالِ.

لَكِنَّ هَذَا مَحْصُورٌ فَقَطْ في نِظَامِنَا الْكَوْكَبِيِّ الصَغِيرِ. بِالطَبْعِ لَقَدْ رَأَيْتُمْ صُوَرَ تِلِسْكُوبِ هَابِلْ. وَفِي تِلْكَ اللَحْظَةِ الَتِي يُصَوِّبُ مِنْظَارُ هَابِلْ إِلَى نُقْطَةٍ مَا فِي الْفَضَاءِ تَبْدُو فَارِغَةً لَيْسَ بِهَا شَيْءٌ، مُجَرَّدُ ظَلامٍ دَامِسٍ، وَظُلْمَةٍ حَالِكَةٍ. لَكِنَّهُ مُصَوَّبٌ بِاتِّجَاهِهَا بِتَرْكِيزٍ. إِذْ تَحْمِلُ تِلْكَ الْبُقْعَةُ مَلَايِينَ الْمَلَايِينِ مِنَ الْمَجَرَّاتِ. لَكِنَّ الْكَوْنَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا بِكَثِيرٍ، الْكَوْنَ أَعْظَمُ بِكَثِيرٍ وَمُعَقَّدٌ أَكْثَرَ مِمَّا يُمْكِنُكُمْ تَخَيُّلُهُ أَنْ يَكُونَ. فَاَللَّهُ هُوَ مَنْ خَلَقَ كُلَّ هَذَا. لَقَدْ قالَ فَكَانَتْ. نَعَمْ، هَذِهِ هِيَ فَلْسَفَتُنَا، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ هَذَا هُوَ مَنْظُورُنَا عَنِ الْعَالَمِ. هَكَذَا نَحْنُ نُدْرِكُ وَنَعْرِفُ أَصْلَ الْكَوْنِ. اللَّهُ هُوَ خَالِقُهُ. لَقَدْ قَالَ فَأَوْجَدَهُ. هُوَ الْمُتَسَبِّبُ فِي وُجُودِهِ. "أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الْأَرْضَ؟" فِي الآيَةِ ٢٢ -دَعُونَا نَنْتَقِلُ إِلَى بَعْضِ الأَسْئِلَةِ: "أَدَخَلْتَ إِلَى خَزَائِنِ الثَّلْجِ، أَمْ أَبْصَرْتَ مَخَازِنَ الْبَرَدِ؟" الْآنَ، سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ الِاسْتِعَانَةُ بِخَيَالِكُمْ هُنَا فِي فْلُورِيدَا. فَالثَلْجُ، ذَاتُ اللَوْنِ الْأبْيَضِ، الَذِي يُجْبِرُ سُكَّانَ الشَمَالِ الْمَسَاكِينَ عَلَى جَرْفِهِ لِعِدَّةِ أَشْهُرٍ حَتَّى نِهَايَةِ فَصْلِ الشِتَاءِ. تَنْطَوِي قِطْعَةُ الثَلْجِ عَلَى جَمَالٍ مُنْقَطِعِ النَظِيرِ، كَمَا أَنَّ كُلَّ قِطْعَةٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنْ نَظِيرَتِهَا، هَكَذَا يَقُولُونَ. وَهُنَاكَ مَخْزَنٌ لَهَا. إِنَّهَا تَشْبِيهٌ مُسْتَعَارٌ. فَهَذَا لَيْسَ الْمَقْصُودَ حَرْفِيًّا مِنَ النَاحِيَةِ الْعِلْمِيَّةِ. لَكِنْ، مِنْ أَيْنَ يَسْقُطُ كُلُّ هَذَا الثَلْجِ؟ هَلْ تَعْرِفُونَ مِنْ أَيْنَ؟ كَيْفَ يَعْمَلُ الْأَمْرُ بِرُمَّتِهِ؟ فَبِإِمْكَانِنَا نَحْنُ الْبَشَرَ تَقْدِيمُ تَفْسِيرٍ نَوْعًا مَا لِهَذَا، كَمَا أَنَّنَا نَتَحَسَّنُ وَنَتَطَوَّرُ فِي الْأَمْرِ؛ بِالتَنَبُّؤِ بِالطَقْسِ وَمَا إِلَى ذَلِكَ. لَكِنْ مَنْ هُوَ الْمُتَحَكِّمُ الْأَعْلَى؟ فِي الْآيَةِ ٢٨: "هَلْ لِلْمَطَرِ أَبٌ؟" وَفِي الآيَةِ ٣١: "هَلْ تَرْبِطُ أَنْتَ عُقْدَ الثُّرَيَّا، أَوْ تَفُكُّ رُبُطَ الْجَبَّارِ؟" إِلَى بَقِيَّةِ النَصِّ. النِظَامُ الشَمْسِيُّ، وَالنُجُومُ. والدُبُّ "وَتَهْدِي النَّعْشَ مَعَ بَنَاتِهِ؟ هَلْ عَرَفْتَ سُنَنَ السَّمَاوَاتِ، أَوْ جَعَلْتَ تَسَلُّطَهَا عَلَى الْأَرْضِ؟"

وَدَعُونَا نَتَقَدَّمُ إِلَى الْآيَةِ ١ الْأُولَى مِنَ الْأَصْحَاحِ ٣٩: "أَتَعْرِفُ وَقْتَ وِلَادَةِ وُعُولِ الصُّخُورِ؟" لَقَدْ أَضْحَتِ الْوُعُولُ مَشْهُورَةً. فَالْكَثِيرُ مِنْ أَعْضَاءِ الْكَنَائِسِ الْآنَ يَمْتَلِكُونَ وُعُولًا. وَقَعَ حَدَثٌ رَائِعٌ وَمُبْهِجٌ لِلْغَايَةِ فِي بَلْدَةِ كُولُومْبِيَا بِوِلَايَةِ كَارُولَيْنَا الْجَنُوبِيَّةِ مُنْذُ بِضْعَةِ أَشْهُرٍ. طُلَّابٌ فِي جَامِعَةِ كَارُولَيْنَا الْجَنُوبِيَّةِ، يُمْكِنُكُمْ تَخَيُّلُ ٤ طُلَّابٍ، طُلَّابٍ جَامِعِيِّينَ، يَعِيشُونَ مَعًا فِي مَنْزِلٍ وَاحِدٍ. فَبَدَلًا مِنْ أَنْ يَجُزُّوا الْحَشَائِشَ، فَكَّرُوا لِمَاذَا لَا يَشْتَرُونَ وَعْلًا. إِذْ سَيَكُونُ الْأَمْرُ أَيْسَرَ كَثِيرًا. بِاسْتِثْنَاءِ أَنَّ هَذَا الْوَعْلَ هَرَبَ فِي غُضُونِ ثَوَانٍ، مُمَزِّقًا السِيَاجَ، وَكَانَ مُنْطَلِقًا فِي الشَارِعِ وَخَلْفَهُ ٤ طُلَّابٍ يُحَاوِلُونَ الْإِمْسَاكَ بِهِ. وَكَانَ شَخْصٌ مَا وَاقِفًا حَامِلًا آلَةَ تَصْوِيرٍ، وَالْتَقَطَ صُوَرًا لِذَلِكَ. وَاحْتَلَّتِ الصَفْحَةَ الْأُولَى فِي الْجَرِيدَةِ الْمَحَلِّيَّةِ. إِذْ لَا يَحْدُثُ الْكَثِيرُ فِي كُولُومْبِيَا. فَهَذِهِ كَانَتْ قِصَّةَ الْوَعْلِ. كَانَتْ قِصَّةً رَائِعَةً لَكِنَّ هَذِهِ وُعُولٌ تَعِيشُ عَالِيًا في الْجِبَالِ الَتِي أَظُنُّ أَنَّكُمْ لَمْ تَرَوْهَا قَبْلًا، وَرُبَّمَا نَادِرًا مَا ستشَاهِدُونَهَا إِذَا خَرَجْتُمْ لِلْبَحْثِ عَنْهَا. وَهِيَ تَلِدُ.

فِي الآيَةِ ٥ مِنَ الأَصْحَاحِ ٣٩ نَقْرَأُ: "مَنْ سَرَّحَ الْفَرَاءَ حُرًّا، وَمَنْ فَكَّ رُبُطَ حِمَارِ الْوَحْشِ؟ الَّذِي جَعَلْتُ الْبَرِّيَّةَ بَيْتَهُ وَالسِّبَاخَ مَسْكَنَهُ".

ثُمَّ انْتَقِلُوا إِلَى نِهَايَةِ الأَصْحَاحِ. إِنَّهَا مُجَرَّدُ أَسْئِلَةٍ، أَسْئِلَةٍ عَنِ الطُيُورِ، فِي الآيَةِ ١٣: "جَنَاحُ النَّعَامَةِ يُرَفْرِفُ"؛ وَفِي الآيَةِ ١٩ عَنِ الْفَرَسِ؛ وَفِي الآيَةِ ٢٦: "أَمِنْ فَهْمِكَ يَسْتَقِلُّ الْعُقَابُ وَيَنْشُرُ جَنَاحَيْهِ نَحْوَ الْجَنُوبِ؟" وَهَلُمَّ جَرَّا. لَطَالَمَا أَدْهَشَتْنِي أَنْمَاطُ هِجْرَةِ الطُيُورِ وَالْإِوَزِّ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ. أَنَا أَعْلَمُ أَنَّها تُسَبِّبُ الضَجَّةَ وَالْكَثِيرَ مِنَ الْفَوْضَى؛ لَنْ نَتَطَرَّقَ إِلَى هَذَا. أَنَا أَعِيشُ فِي مَوْقِعٍ بِهِ بُحَيْرَةٌ صَغِيرَةٌ، فَهِيَ تُشْبِهُ الْحَمَامَ الزَاجِلَ. وَبِمُجَرَّدِ أَنْ تَرَى تِلْكَ الْبُحَيْرَةَ، تَنْقَضُّ عَلَيْهَا وَتُطْلِقُ ذَلِكَ الصَوْتَ الْمُمَيَّزَ الَذِي لِلْإِوَزِّ. مِنْ ثَمَّ يَبْدَأُ كَلْبِي فِي النُبَاحِ بِمُجَرَّدِ أَنْ يَسْمَعَ صَوْتَها. مِنْ حِينٍ لِآخَرَ، أَفْتَحُ لَهُ الْبَابَ الْأَمَامِيَّ لِلْمَنْزِلِ، وَأَقُولُ لَهُ: "انْطَلِقْ!" فَيَرْكُضُ خَلْفَهَا وَيَطْرُدُهَا بَعِيدًا إِلَى بُحَيْرَةِ شَخْصٍ آخَرَ. فَمِنْ أَيْنَ أَتَى هَذَا الْإِوَزُّ؟ إِنَّهُ يَأْتِي كُلَّ عَامٍ. يَصِلُ إِلَى كَنَدَا فِي وَقْتٍ مَا، ثُمَّ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا أَظُنُّ إِلَى الْمَكْسِيكِ، فَهُوَ يَذْهَبُ إِلَى جَنُوبِ فْلُورِيدَا. يَذْهَبُ إِلَى أَمَاكِنَ دَافِئَةٍ. لَكِنْ يُمْكِنُهُمْ الْعُثُورُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْدَةِ.

وَسَمَكُ السَلَمُونُ فِي الْبَحْرِ هُوَ مُدْهِشٌ. رُبَّمَا قَامَ بَعْضُكُمْ بِرِحْلَةٍ بَحْرِيَّةٍ إِلَى أَلَاسْكَا، وَزُرْتُمْ حَيْثُ تُفْرِخُ أَسْمَاكُ السَلَمُونَ. ثُمَّ تَخْتَفِي لِمُدَّةِ عَامٍ أَوْ عَامَيْنِ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ أَوْ ٥ أَعْوَامٍ؟ أَتَذَكَّرُ أَنَّ شَخْصًا مَا قَالَ لِي إِنَّهَا تَبْلُغُ ٥ أَعْوَامٍ، يَقْصِدُ دَوْرَةَ حَيَاةِ سَمَكِ السَلَمُونِ. لَكِنَّها تَعُودُ إِلَى حَيْثُ أُفْرِخَتْ. كَيف تَعْثُرُ عَلَيْهِ؟ كَيْفَ تَعْلَمُ هَذَا؟ مَا السَبَبُ الَذِي يَدْفَعُها إِلَى الْعَوْدَةِ إِلَى الْمَوْقِعِ ذَاتِهِ حَيْثُ فَرَخَتْها أُمَّهَاتُها.

كُلُّ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَهَذِهِ الْأَسْئِلَةِ. وَنَحْنُ نَبْحَثُ فِي هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ. لَقَدْ عُيِّنَ لَنَا أَنْ نَصِيرَ بَاحِثِينَ وَمُسْتَكْشِفِينَ. لَقَدْ خَلَقَنَا اللَّهُ هَكَذَا. فِي الْأَصْحَاحِ الْأَوَّلِ مِنْ سِفْرِ التَكْوِينِ، عَلَى صُورَةِ اللَّهِ قَدْ خُلِقْنَا، وَجَانِبٌ مِنْ هَذِهِ الصُورَةِ هُوَ أَنْ نَسْتَكْشِفَ الْأَرْضَ وَنُخْضِعَهَا مِنْ أَجْلِ أَنْ نَجِدَ الْمَعْرِفَةَ، مَعْرِفَةَ مَا بِدَاخِلِ الْأَرْضِ؛ مَعْرِفَةَ الْحَيَوَانَاتِ وَالطُيُورِ وَالْمَخْلُوقَاتِ نَشَارِكُهَا هَذَا الْكَوْكَبَ؛ مَعْرِفَةَ الْكَوْنِ؛ مَعْرِفَةَ النِظَامِ النَجْمِيِّ وَمَا إِلَى ذَلِكَ. مِنْ أَجْلِ الذَهَابِ إِلَى حَيْثُ لَمْ تَطَأْ قَدَمُ أَيِّ إِنْسَانٍ مِنْ قَبْلُ. لَكِنْ هُنَاكَ الْكَثِيرُ مِمَّا لَا نَعْرِفُهُ. والْكَثِيرُ الْكَثِيرُ مِمَّا لَا نَفْهَمُهُ. وَهُنَاكَ الْكَثِيرُ أَكْثَرُ مِمَّا لَا نُدْرِكُهُ.

فَلِمَاذَا يَطْرَحُ اللَّهُ هَذِهِ الْأَسْئِلَةَ؟ فَهُوَ يَأْتِي إِلَى أَيُّوبَ فِي خِضَمِّ آلَامِهِ، أَيُّوبُ الَذِي فَقَدَ أَبْنَاءَهُ ١٠، وَخَسِرَ كُلَّ ثَرْوَتِهِ، وَفَقَدَ احْتِرَامَ زَوْجَتِهِ، وَخَسِرَ صِحَّتَهُ، وَهُوَ الْآنَ يَحْتَضِرُ، فَهُوَ جِلْدٌ عَلَى عَظْمٍ، وكَادَ يَفْنَى. يَأْتِي اللَّهُ وَيَطْرَحُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ ٥٠ أَوْ٦٠ سُؤَالًا. انْظُرُوا إِلَى الْآيَةِ ٢ مِنَ الْأَصْحَاحِ ٤٠: "هَلْ يُخَاصِمُ الْقَدِيرَ مُوَبِّخُهُ، أَمِ الْمُحَاجُّ اللَّهَ يُجَاوِبُهُ؟" فَمَاذَا يَقُولُ اللَّهُ لِأَيُّوبَ؟ "أَنْتَ مُوبِّخٌ. لَقَدْ وَصَلْتَ إِلَى الِاسْتِنْتَاجِ. أَنْتَ تَجِدُ نَفْسَكَ فِي ضِيقَةٍ، أَنْتَ تَجِدُ نَفْسَكَ فِي تَجْرِبَةٍ، مِنْ ثَمَّ تُلْقِي بِاللَوْمِ عَلَى اللَّهِ. فَقَدِ الْتَفَتَّ إِلَى اللَهِ وَقُلْتَ: "هَذَا خَطَأُكَ أَنْتَ" هَلْ يُخَاصِمُ الْقَدِيرَ مُوَبِّخُهُ، أَمِ الْمُحَاجُّ اللَّهَ يُجَاوِبُهُ؟" اللَّهُ عَظِيمٌ. اللَّهُ كَبِيرٌ. كَيْفَ لَكَ أَنْ تُدْرِكَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ أَوْ فَهْمَ اللَّهِ أَوْ حِكْمَةَ اللَّهِ؟ كَيْفَ يُمْكِنُكَ إِدْرَاكُهَا؟ أَنْتَ تُرِيدُ مَعْرِفَةَ سِرِّ الْكَوْنِ. أَنْتَ تُرِيدُ مَعْرِفَةَ لِمَاذَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ عَلَيْكَ أَنْتَ تَحْدِيدًا. مَا الَذِي تَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ لِكَيْ تُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ السُؤَالِ؟ تَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ كُلِّ شَيْءٍ. فَهَذِهِ الْحَادِثَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِأَلْفِ حَادِثَةٍ أُخْرَى. وَتِلْكَ الْحَوَادِثُ الْأَلْفُ مُرْتَبِطَةٌ بِمِلْيُونِ حَادِثَةٍ أُخْرَى. فَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَتَمَكَّنَ مِنِ اسْتِيعَابِ كُلِّ هَذَا.

اللَّهُ هُوَ مَنْ يُنَظِّمُ الْكَوْنَ. اللَّهُ هُوَ مَنْ يُرَتِّبُ النِهَايَةَ مُنْذُ الْبِدَايَةِ. فَأَنْتَ لَسْتَ اللَّهَ. كَمَا تَعْلَمُونَ، رُبَّمَا هَذَا الدَرْسُ الْأَكْثَرُ أَهَمِّيَّةً الَذِي يُمْكِنُكُمْ تَعَلُّمُهُ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ سِوَى إِلَهٍ وَاحِدٍ فَحَسْبُ، وَأَنْتَ لَسْتَ هَذَا الْإِلَهَ. لَكِنَّ هَذِهِ هِيَ مُشْكِلَتُنَا، أَلَيْسَتْ كَذَلِكَ؟ أَيْ أَنَّنَا كَثِيرًا مَا نُخْفِقُ فِي إِدْرَاكِ هَذَا الدَرْسِ تَحْدِيدًا. فَكُلٌّ مِنَّا يَصْنَعُ مِنْ نَفْسِهِ إِلَهًا. فَنَحْنُ نَخْتَلِقُ أَوْثَانًا، وَفِي الْغَالِبِ هَذِهِ الْأَوْثَانُ تَكُونُ أَنْفُسَنَا. "أَنَا أُطَالِبُ اللَّهَ". "أَنَا أَعْرِفُ أَكْثَرَ مِنَ اللَّهِ". وَذَلِكَ الْفِكْرُ الْمُؤَرِّقُ فِي خِضَمِّ التَجْرِبَةِ، "لَوْ كُنْتُ أَنَا مَنْ رَتَّبَ الْكَوْنَ، لَأَحْسَنْتُ الْعَمَلَ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا. لَكُنْتُ قَدْ صَحَّحْتُ هَذَا الْأَمْرَ. وَلحَرَصْتُ عَلَى عَدَمِ وُقُوعِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ". هَلْ تُدْرِكُونَ مَا الَذِي تَفْعَلُونَهُ حِينَ تُفَكِّرُونَ هَكَذَا؟ رُبَّمَا هَذَا مُجَرَّدُ تَفْكِيرٍ. فَيَأْتِي اللَهُ إِلَى أَيُّوبَ وَيَتَحَدَّاهُ.

يَجْرِي هُنَا أَمْرَانِ فِي الْوَقْتِ عَيَّنَهُ. اللَّهُ عَظِيمٌ، إِنَّمَا الْإِنْسَانُ حَقِيرٌ. "أَيُّوبُ، أَنْتَ حَقِيرٌ" نَعَمْ، لَا تُسِيئُوا فَهْمَ مَا يَحْدُثُ هُنَا. فَاَللَّهُ لَا يَقُولُ إِنَّ التَجْرِبَةَ نَفْسَهَا يَسِيرَةٌ. اللَّهُ لَا يَقُولُ إِنَّ التَجْرِبَةَ تَافِهَةٌ. فَهُوَ لَا يَقُولُ ذَلِكَ. إِنَّمَا مِنْ حَيْثُ التَخْطِيطُ الْأَسْمَى لِلْأُمُورِ، أَيُّوبُ حَقِيرٌ. فَأَيُّوبُ مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابِ الْأَرْضِ. وَمُقَابِلَ الْكَوْنِ الشَاسِعِ، مَاذَا يَكُونُ أَيُّوبُ؟ إِنَّهُ مُجَرَّدُ كائِنٍ صَغِيرٍ. إِنَّهُ مُجَرَّدُ مَخْلُوقٍ، مَخْلُوقٍ قَدْ خَلَقَهُ اللَّهُ عَلَى صُورَتِهِ، مَخْلُوقٍ سَوْفَ يُرْسِلُ اللَّهُ ابْنَهُ لِكَيْ يَمُوتَ مِنْ أَجْلِهِ وَيَفْدِيَهُ، مَخْلُوقٍ سَوْفَ يَضُمُّهُ اللَّهُ إِلَى عَائِلَةٍ فِيهَا يَكُونُ الرَبُّ يَسُوعُ أَخَاهُ الْأَكْبَرَ. كَمَا أَنَّهُ سَيُعَدُّ هَذَا الْإِنْسَانُ ابْنًا لِلَّهِ، وَوَارِثًا لِلَّهِ، وَوارِثًا شَرِيكًا مَعَ الرَبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، لَكِنَّهُ لَا يَزَالُ مَخْلُوقًا، لَا يَزَالُ مَخْلُوقًا. هَذَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ. هَذِهِ كَيْنُونَتُنَا.

مَاذَا كَانَ جَوَابُ أَيُّوبَ؟ فِي الآيَةِ ٤ مِنَ الأَصْحَاحِ ٤٠: "فَأَجَابَ أَيُّوبُ الرَّبَّ وَقَالَ: هَا أَنَا حَقِيرٌ، فَمَاذَا أُجَاوِبُكَ؟ وَضَعْتُ يَدِي عَلَى فَمِي مَرَّةً تَكَلَّمْتُ فَلَا أُجِيبُ، وَمَرَّتَيْنِ فَلَا أَزِيدُ".

أَتُدْرِكُونَ مَا الَذِي حَدَثَ هُنَا؟ فَأَنَا أُرِيدُ صِيَاغَتَهُ بِدِقَّةٍ، لَقَدْ سَدَّ اللَّهُ فَمَهُ. كَلَامٌ كَثِيرٌ وَكَلَامٌ لَيْسَ بِصَوَابٍ خَرَجَ مِنْ فَمِ أَيُّوبَ، لَكِنَّ اللَّهَ سَدَّ فَمَ أَيُّوبَ. فِي الْوَاقِعِ، أَعْتَقِدُ أَنَّ بُولُسَ يَقْتَبِسُ هَذَا الْمَقْطَعَ فِي الْأَصْحَاحِ ٣ مِنْ رِسَالَةِ رُومِيَةَ فِي قَوْلِهِ "لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ، وَيَصِيرَ كُلُّ الْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ اللَّهِ". فَأَنَا أَعْتَقِدُ أَنَّهُ اقْتَبَسَ هَذَا الْمَقْطَعَ. لَقَدْ سَدَّ اللَّهُ فَمَ أَيُّوبَ. إِنَّهُ وَقْتُ الْإِنْصَاتِ الْآنَ. إِنَّهُ لَيْسَ وَقْتَ الشِكَايَةِ. إِنَّهُ لَيْسَ وَقْتَ الشُعُورِ بِالْأَسَفِ عَلَى الذَاتِ. إِنَّهُ وَقْتُ الْإِنْصَاتِ، إِنَّهُ وَقْتُ الْخُضُوعِ، إِنَّهُ وَقْتُ الْخُضُوعِ أَمَامَ سِيَادَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ. هَذَا مَا قَدْ حَدَثَ. لَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ يَتَوَاضَعُ. لَكِنْ لَا تَزَالُ حُجَّةُ بَرَاءَتِهِ قَائِمَةً. إِذْ لَمْ يَتَغَيَّرْ شَيْءٌ. فَسَبَبُ أَلَمِ أَيُّوبَ وَمُعَانَاتِهِ لَمْ يَكُنْ خَطِيَّةَ أَيُّوبَ فِي الْمَقَامِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا فِي أَثْنَاءِ مُرُورِهِ بِالْأَلَمِ كَانَتْ هُنَاكَ خَطِيَّةٌ. فِي أَثْنَاءِ الْأَلَمِ، تَفَوَّهَ أَيُّوبُ بِالْكَثِيرِ. وَحَانَ وَقْتُ الْخُضُوعِ للَّهِ، وَالصَمْتِ. لِيَكُونَ اللَّهُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ.

هُنَاكَ الْمَزِيدُ. لَقَدْ بَدَأَ أَيُّوبُ لِلتَوِّ تَعَلُّمَ هَذَا الدَرْسِ. وَفِي مُحَاضَرَتِنَا التَالِيَةِ، سَنَعْرِفُ كَيْفَ يُعَلِّمُ اللَّهُ أَيُّوبَ هَذَا الدَرْسَ بِاسْتِفَاضَةٍ أَكْثَرَ.