المحاضرة 8: أَهْيَه: ذاتيَّةُ وُجودِ اللهِ

نُتَابِعُ الآنَ دِرَاسَتَنا لِمَعْنَى اسْمِ اللهِ، الَذِي أَعْلَنَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ لِمُوسَى وَجَعَلَهُ اسْمَهُ التَذْكَارِيَّ لِجَمِيعِ الأَجْيَالِ؛ إِنَّهُ الاسْمُ "يَهْوَه"، وَتَرْجَمَتُهُ هِيَ "أَنَا هُو الَذِي هُوَ".

فِي الْعَصْرِ الَذِي نَعِيشُ فِيهِ نَرَى أَنَّ الإِيمَانَ الْمَسِيحِيَّ يَتَعَرَّضُ بِاسْتِمْرَارٍ لِهُجُومٍ مِنْ جَانِبِ الْعَالَمِ الْعِلْمَانِيِّ، وَأَنَّ أَسْلِحَةَ النَقْدِ مُوَجَّهَةٌ بِشَكْلٍ أَسَاسِيٍّ نَحْوَ هَدَفٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ الْهَدَفُ هُوَ مَفْهُومُ الْخَلْقِ. لأَنَّ كُلَّ عِلْمَانِيٍّ يُدْرِكُ مَا يَلِي، وَهْوَ أَنَّكُمْ إِذَا اسْتَطَعْتُمْ دَحَضَ وَرَفَضَ مَفْهُومِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ لِلْخَلْقِ فَبِذَلِكَ تَكُونُونَ قَدْ وَجَّهْتُمْ ضَرْبَةً قَاضِيَةً لِلْمَسِيحِيَّةِ وَلِلدِينِ بِحَدِّ ذَاتِهِ.

وَنَسْمَعُ فِي الانْتِقَادَاتِ عِبَارَةً سَاخِرَةً تُفِيدُ بِأَنَّ الْفِكْرَةَ الَتِي تَعْتَبِرُ الْكَوْنَ مَخْلُوقًا عَلَى يَدِ اللهِ، ذَلِكَ الْكَائِنِ الشَخْصِيِّ الْمُتَعَالِي غَيْرِ الْقَابِلِ لِلتَغْيِيرِ، هِيَ غَيْرُ عِلْمِيَّةٍ وَغَيْرُ مَنْطِقِيَّةٍ، وَهِيَ أُسْطُورَةٌ بِشَكْلٍ أَسَاسِيٍّ. وَهَذَا هُوَ النَقْدُ الَذِي نَسْمَعُهُ كُلَّ الْوَقْتِ.

بِالطَبْعِ، فِي السَنَواتِ الأَخِيرَةِ شَهِدْنَا التَحَوُّلَ الْهَائِلَ لأَنْتُونِي فْلُو مِنَ الإِلْحَادِ إِلَى الإِيمَانِ فِي بَرِيطَانْيَا، ذَلِكَ الرَجُلِ الَذِي أَلَّفَ يَوْمًا مَثَلًا حَمَلَ اسْمَهُ، وَهْوَ مَثَلُ فْلُو. وَقَدْ حَاوَلَ فِيهِ إِسْقاطَ أَيِّ دَلِيلٍ حَقِيقِيٍّ عَلَى وُجُودِ اللهِ. وَفِي السَنَوَاتِ الأَخِيرَةِ مِنْ حَيَاتِهِ، آمَنَ بِاللهِ لِلسَبَبِ الآتِي: فَهُوَ أَدْرَكَ أَنَّهُ بِدُونِ فَرَضِيَّةِ وُجُودِ اللهِ، الْعِلْمُ بِحَدِّ ذَاتِهِ مُسْتَحِيلٌ.

وَالآنَ، نَرْجِعُ إِلَى عَصْرِ التَنْوِيرِ فِي الْقَرْنِ الثَامِنَ عَشَرَ لِنَفْهَمَ جُذُورَ مَذْهَبِ الشُكُوكِيَّةِ الَذِي نُصَادِفُهُ كُلَّ يَوْمٍ. الْفَرَضِيَّةُ الرَئِيسِيَّةُ لِلْـ"أُوفْكْلُورُونْجْ" أَوِ التَنْوِيرِ هِيَ تِلْكَ الْفَرَضِيَّةُ الَتِي تُفِيدُ بِأَنَّ فَرَضِيَّةَ وُجُودِ اللهِ لَمْ تَعُدْ ضَرُورِيَّةً لِكَيْ يُفَسِّرَ الْعِلْمُ الْحَدِيثُ نَشْأَةَ الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ أَوْ نَشْأَةَ الْكَوْنِ. وَقَبْلَ التَنْوِيرِ، كَانَتْ فَلْسَفَةُ الْقُرُونِ الْوُسْطَى تَفْرِضُ عَلَى الْفَلاسِفَةِ –حَتَّى إِنْ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ– أَنْ يُقَدِّمُوا تَحِيَّةَ إِكْبَارٍ وَسُجُودٍ لِلْفَلْسَفَةِ الْمَسِيحِيَّةِ، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِإِمْكَانِهِمْ تَفْسِيرُ وُجُودِ هَذَا الْكَوْنِ بِدُونِ الاحْتِكَامِ إِلَى فِكْرَةِ وُجُودِ كَائِنٍ مُتَعَالٍ.

وَمَعَ ظُهُورِ ثَقَافَةِ التَنْوِيرِ سَقَطَتْ هَذِهِ كُلُّهَا، لأَنَّ الْعُلَمَاءَ جَاؤُوا وَقَالُوا "يُمْكِنُنَا تَفْسِيرُ وُجُودِ الْكَوْنِ، يُمْكِنُنَا تَفْسِيرُ نَشْأَةِ الْحَيَاةِ، بِدُونِ الاحْتِكامِ إِلَى فِكْرَةِ وُجُودِ إِلَهٍ مُتَعَالٍ". وَالْبَعْضُ مِنْ هَؤُلاءِ –وَضِمْنَ الْمَوْسُوعَاتِ الْفَرَنْسِيَّةِ– أَعْلَنُوا صَرَاحَةً أَنَّهُمُ الأَعْدَاءُ الشَخْصِيُّونَ للهِ. وَقَالُوا: "نَحْنُ نَعْرِفُ الآنَ كَيْفَ خَرَجَ الْكَوْنُ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ وَكَيْفَ نَشَأَتِ الْحَيَاةُ". فَهُوَ نَشَأَ مِنْ خِلالِ مَا أَسْمَوْهُ "التَوَلُّدَ التِلْقَائِيَّ".

كَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَى بِرَكِ الطِينِ، فَلا يَرَوْنَ فِيها الضَفادِعَ تِلْكَ، وَفَجْأَةً، كَانُوا يَرَوْنَ ضَفَادِعَ صَغِيرَةً تَسْبَحُ فِي بِرَكِ الطِينِ فَيَقُولُونَ: "آهٍ! مِنْ أَيْنَ جَاءَتْ هَذِهِ؟" لَمْ يُفَكِّرُوا فِي احْتِمَالِيَّةِ أَنْ تَكُونَ الطُيُورُ حَلَّقَتْ وَوَضَعَتْ بُيُوضًا فِي الْمَاءِ. بَلِ اعْتَبَرُوا أَنَّ تِلْكَ الْكَائِنَاتِ، وَبِشَكْلٍ مُفَاجِئٍ، خَرَجَتْ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ بِفَضْلِ قُوَّتِهَا الْخَاصَّةِ، أَيْ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ ذَاتِيًّا. هَذَا هُوَ مَعْنَى مَفْهُومِ التَوَلُّدِ التِلْقَائِيِّ.

دَعُونِي أَدْعَمُ كَلامِي بِدَلائِلَ عَبْرَ قَوْلِ مَا يَلِي: "إِذَا كَانَ لأَيِّ شَيْءٍ وُجُودٌ الآنَ، تُوجَدُ ثَلاثَةُ تَفْسِيرَاتٍ عَامَّةٍ مُمْكِنَةٍ فَحَسْبُ لِوُجُودِ شَيْءٍ مَا بَدَلًا مِنْ لَا شَيْءَ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْجِسْمُ الْمَوجُودُ أَزَلِيًّا، أَوْ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا ذَاتِيًّا، أَوْ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ أَزَلِيٌّ قَدْ خَلَقَهُ". لاحِظُوا أَنَّهُ فِي هَذِهِ الاحْتِمَالاتِ الثَلاثَةِ –وَلا وَقْتَ لَدَيَّ لِلتَطَرُّقِ إِلَى كُلِّ مَوْضُوعٍ فَرْعِيٍّ عَلَى حِدَة– لَكِنْ يُمْكِنُنِي أَنْ أَقُولَ لَكُمْ بِكُلِّ صَرَاحَةٍ: قَدَّمْتُ هَذَا الْعَرْضَ فِي "يِيل" مُنْذُ سَنَوَاتٍ عِدَّةٍ، وَأَتَحْتُ لِلْفَلاسِفَةِ هُنَاكَ فُرْصَةً لِلتَفَاعُلِ، لَكِنَّهُمْ لَزِمُوا الصَمْتَ فِي مُعْظَمِ الْوَقْتِ. كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُوَافِقُوا عَلَى أَنَّهُ لا بُدَّ أَنْ يَصِحَّ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الاحْتِمالاتِ الثَلاثَةِ. وَقُلْتُ: "أَنْتُمْ تُلاحِظُونَ أَنَّ احْتِمَالَيْنِ مِنْ أَصْلِ ثَلاثَةٍ يُفِيدَانِ بِوُجُودِ شَيْءٍ أَزَلِيٍّ. إِذًا، إِذَا اسْتَطَعْنَا حَذْفَ الاحْتِمالِ الثَالِثِ فَإِنَّنَا نَكُونُ قَدْ أَثْبَتْنَا الْفَرَضِيَّةَ الَتِي تُفِيدُ بِأَنَّ شَيْئًا مَا كَانَ مَوْجُودًا مُنْذُ الأَزَلِ". بِالطَبْعِ، يَجِبُ أَلَّا تَدْخُلُوا فِي جِدَالٍ فِي هَذَا الشَأْنِ. فَكَمَا ذَكَرْتُ سَابِقًا، إِذَا كَانَ أَيُّ شَيْءٍ مَوْجُودًا الآنَ، فَلا بُدَّ أَنَّ شَيْئًا مَا كَانَ مَوْجُودًا دَائِمًا، وَإِلَّا، لَمَا أَمْكَنَ أيُّ شَيْءٍ أَنْ يُوجَدَ، إِلَّا بِمُوجِبِ احْتِمَالِ التَوَلُّدِ التِلْقَائِيِّ، وَهْوَ مُرَادِفٌ لِلْخَلْقِ الذَاتِيِّ.

أَوَدُّ أَنْ أَقُولَ لَكُمْ إِنَّ مَفْهُومَ الْخَلْقِ الذَاتِيِّ هَذَا يَحْظَى بِكَثِيرٍ مِنَ الْمِصْدَاقِيَّةِ وَالْمَوْثُوقِيَّةِ فِي مُجْتَمَعِنَا الْحَدِيثِ. لَكِنَّ خَمْسَ دَقَائِقَ مِنَ الدِرَاسَةِ الْمُتَأَنِّيَةِ لِهَذَا الْمَفْهُومِ كَفِيلَةٌ بِأَنْ تُبَيِّنَ لأَيِّ مَخْلُوقٍ وَاعٍ أَنَّ الْفِكْرَةَ بِحَدِّ ذَاتِهَا هِيَ سَخَافَةٌ مَنْطِقِيَّةٌ وَاسْتِحَالَةٌ مَنْطِقِيَّةٌ. لِمَاذَا؟ لِكَيْ يَخْلُقَ شَيْءٌ ما ذَاتَهُ، عَلَيْهِ وَبِكُلِّ بَسَاطَةٍ، أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ. سَأُكَرِّرُ مَا قُلْتُ. لِكَيْ يَخْلُقَ شَيْءٌ مَا ذَاتَهُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ وَلا يَكُونَ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ. وَضِمْنَ الْعَلاقَةِ نَفْسِهَا، ما يُشَكِّلُ انْتِهاكًا لِلْمَبْدَأِ الأَسَاسِيِّ الْمُتَعَلِّقِ بِالْحَقِيقَةِ وَالْعِلْمِ، مَبْدَأِ عَدَمِ التَنَاقُضِ الأَسَاسِيِّ. لَكِنَّنَا نُصَادِفُ هَذَا الأَمْرَ مِرارًا وَتَكْرارًا عَلَى لِسَانِ عُلَمَاءَ حَسَنِي السُمْعَةِ يَعْكِسُونَهُ فِي أَحَادِيثِهِمْ.

حِينَ تَمَّ إِطْلاقُ تِلِسْكُوبِ هَابِل فِي الْفَضَاءِ لإِعْطَائِنَا الْمَزِيدَ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ حَوْلَ الْكَوْنِ المُتَمَدِّدِ، تَمَّ التَحَدُّثُ مَعَ وَاحِدٍ مِنْ أَشْهَرِ عُلَمَاءِ الْفِيزْيَاءِ الْفَلَكِيَّةِ فِي أَمْرِيكَا ضِمْنَ مُقَابَلَةٍ إِذَاعِيَّةٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمُ. وَفِيمَا كُنْتُ أَقُودُ سَيَّارَتِي مَاضِيًا فِي طَرِيقِي، كَادَ الرَجُلُ يَتَسَبَّبُ لِي بِحَادِثِ سَيْرٍ، لأَنَّهُ قَالَ: "مُنْذُ مَا بَيْنَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسَبْعَةَ عَشَرَ مِلْيَارِ سَنَةٍ انْفَجَرَ الْكَوْنُ وَدَخَلَ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ". هَذَا كَلامٌ عَمِيقٌ! فمَا الَذِي كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَنْفَجِرَ وَيَدْخُلَ حَيِّزَ الْوُجُودِ؟ الاحْتِمَالُ الْوَحِيدُ هُوَ عَدَمُ الْكَيْنُونَةِ. لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ أَيُّ شَيْءٍ لِكَيْ يَنْفَجِرَ وَيَتَحَوَّلَ إِلَى شَيْءٍ مَا. وَتَمَّ انْتِهَاكُ الْمَبْدَأِ الْعِلْمِيِّ الأَسَاسِيِّ "إِكْس نِيهِيلُو نِيهِيلُو فِيت"، أَيْ لا شَيْءَ يَأْتِي مِنَ الْعَدَمِ. عِنْدَمَا يُعْلِنُ عَالِمُ فِيزْيَاءَ فَلَكِيَّةٍ بَارِزٌ أَنَّهُ يُمْكِنُ الْحُصُولُ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعَدَمِ، فَفِي هَذِهِ اللَحْظَةِ، يَكُفُّ عَنْ كَوْنِهِ عَالِمَ فِيزْيَاءَ فَلَكِيَّةٍ حَسَنَ السُمْعَةِ.

أَشَرْتُ فِي الْمَاضِي إِلَى مَقَالَةٍ قَرَأْتُهَا، وَقَدْ كَتَبَهَا عَالِمُ فِيزْيَاءَ حَائِزٌ عَلَى جَائِزَةِ نُوبِل، وَهْوَ مِنَ السَاحِلِ الْغَرْبِيِّ لِلْوِلايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ. وَهْوَ كَتَبَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ قَائِلًا: "جاءَ الْوَقْتُ الَذِي يَنْبَغِي فِيهِ نَبْذُ مَفْهُومِ التَوَلُّدِ التِلْقَائِيِّ لأَنَّهُ غَيْرُ مُنْطِقِيٍّ وَغَيْرُ عِلْمِيٍّ". يَجِبُ أَنْ أَقُولَ لَكُمْ يَا أَصْدِقَائِي الأَحِبَّاءَ إِنِّي أَعْتَقِدُ أَنَّ تِلْكَ كَانَتِ الْمَرَّةَ الأُولَى الَتِي يُعلَنُ فِيهَا هَذَا الأَمْرُ صَرَاحَةً. كَانَ ذَلِكَ فِي الْقَرْنِ الثَامِنَ عَشَرَ.

لَكِنْ بِأَيِّ حَالٍ، قَالَ ذَلِكَ الْعَالِمُ الْحَائِزُ عَلَى جَائِزَةِ نُوبِل "لَمْ يَعُدْ بِإِمْكَانِنَا التَحَدُّثُ بِشَكْلٍ عِلْمِيٍّ عَنِ التَوَلُّدِ التِلْقَائِيِّ. الآنَ، يَجِبُ أَنْ نَتَحَدَّثَ عَنْ تَوَلُّدٍ تِلْقَائِيٍّ تَدْرِيجِيٍّ". أَنَا لَمْ أَبْتَكِرْ هَذَا الْكَلامَ، أُؤَكِّدُ لَكُمْ ذَلِكَ. أَنَا قَرَأْتُ ذَلِكَ وَقُلْتُ "تَوَلُّدٌ تِلْقَائِيٌّ تَدْرِيجِيٌّ! هَذِهِ نُكْتَةٌ مُضْحِكَةٌ" لا يُمْكِنُنا الْحُصُولُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ اللا شَيْءِ بِسُرْعَةٍ، يَجِبُ أَنْ نَتَحَلَّى بِالصَبْرِ وَأَنْ نَنْتَظِرَ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ لِكَيْ يَخْرُجَ شَيْءٌ مِنْ اللا شَيْءِ. هَذَا هُوَ التَطَرُّفُ الَذِي يَقَعُ فِيهِ النَاسُ لِيَدْحَضُوا فَرَضِيَّةَ وُجُودِ اللهِ.

أَعْتَقِدُ أَنَّ أَحَدَ أَبْرَعِ الْفَلاسِفَةِ فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، وَسَبَقَ أَنْ ذَكَرْتُ اسْمَهُ مَرَّةً فِي هَذِهِ السِلْسِلَةِ التَعْلِيمِيَّةِ وَهْوَ جَانْ بُول سَارْتْر، الْفَيْلَسُوفُ الْوُجُودِيُّ الْفَرَنْسِيُّ، وَفِي كِتَابِهِ الضَخْمِ حَوْلَ الْكَيْنُونَةِ وَالْعَدَمِ، فِي هَذَا الْكِتَابِ، هُوَ يَقُولُ إِنَّهُ إِذَا كَانَ اللهُ مَوْجُودًا فَالأَخْلاقِيَّةُ مُسْتَحِيلَةٌ، فَلِكَيْ يَكُونَ لِلأَخْلَاقِيَّةِ مَعْنًى يَجِبُ ألَّا يَكُونَ النَاسُ أَحْرارًا فَحَسْبُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا مُسْتَقِلِّينَ بِذَاتِهِمْ أَيْضًا. وَإِذَا كَانَ اللهُ مَوْجُودًا، لا يُمْكِنُنَا أَنْ نَكُونَ مُسْتَقِلِّينَ. وَبِمَا أَنَّهُ لا يُمْكِنُنَا أَنْ نَكُونَ مُسْتَقِلِّينَ، لا يُمْكِنُ أَنْ نَكُونَ أَخْلَاقِيِّينَ فِعْلًا. إِذًا، إِنَّ وُجُودَ الأَخْلَاقِيَّةِ يَجْعَلُ فَرَضِيَّةَ وُجُودِ اللهِ مُسْتَحِيلَةً.

ثُمَّ قَامَ فَيْلَسُوفٌ دَانْمَارْكِيٌّ يُدْعَى لَيْبِن بِالرَدِّ عَلَى تِلْكَ الْحُجَّةِ الَتِي قَدَّمَها جَانْ بُولْ سَارْتْر، وَقَالَ: "لَيْسَ وُجُودُ اللهِ هُوَ الَذِي يَجْعَلُ الأَخْلاقِيَّةَ مُسْتَحِيلَةً، بَلْ أَخْلاقِيَّةُ سَارْتْر هِيَ الَتِي تَجْعَلُ إِنْكَارَ وُجُودِ اللهِ أَمْرًا ضَرُورِيًّا". هَذَا مَا يُمْكِنُ أَنْ نَخْتَصِرَ بِهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ. لَيْسَتْ هَذِهِ مَسْأَلَةً فِكْرِيَّةً فِعْلًا. فِي نِهَايَةِ الْمَطَافِ، إِنَّهَا مَسْأَلَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالأَخْلاقِ. وَالْبَشَرُ السَاقِطُونَ يَبْذُلُونَ قُصَارَى جُهْدِهِمْ لِإلْغَاءِ فِكْرَةِ كَوْنِ اللهِ دَيَّانًا لَهُمْ مِنَ الْوُجُودِ. وَالضَرْبَةُ الْكَبِيرَةُ الآنَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالتَصْمِيمِ الذَكِيِّ يَنْطَبِقُ عَلَيْهَا الأَمْرُ نَفْسُهُ. التَصْمِيمُ الذَكِيُّ هُوَ إِرْدَافٌ خَلْفِيٌّ. إِذَا كَانَ الشَيْءُ مُصَمَّمًا فَلا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَكِيًّا. لَكِنَّنَا نُرِيدُ أَنْ يَكُونَ لَدَيْنَا تَصْمِيمٌ غَيْرُ ذَكِيٍّ، وقَصْدٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ. وَتَتَصَاعَدُ السَخَافَاتُ إِلَى أَقْصَى حُدُودٍ.

حَقًّا، إِنَّ مَفْهُومَ الْخَلْقِ الذَاتِيِّ هُوَ مَحَاوَلَةٌ لِتَفْسِيرِ وُجُودِ الْكَوْنِ عَبْرَ تَشْبِيهِهِ بِالأَرْنَبِ الَذِي يَخْرُجُ مِنَ الْقُبَّعَةِ، حَيْثُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ أَرْنَبٌ فِي الْقُبَّعَةِ إِلَى أَنْ لَوَّحَ السَاحِرُ بِعَصَاهِ السِحْرِيَّةِ، وَفَجْأَةً، خَرَجَ الأَرْنَبُ مِنَ الْقُبَّعَةِ. أَنَا أَعْرِفُ كَيْفَ يَتِمُّ فِعْلُ ذَلِكَ لَكِنَّنِي لَنْ أُفْسِدَ الأَمْرَ الآنَ. لَكِنْ بِأَيِّ حَالٍ، هُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجَ أَرْنَبٌ مِنَ الْقُبَّعَةِ بِدُونِ أَرْنَبٍ وَلا قُبَّعَةٍ وَلا سَاحِرٍ. إِنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَحْدُثَ الأَمْرُ فَجْأَةً، فَيَخْلُقَ الأَرْنَبُ نَفْسَهُ. أَقْصِدُ، لِمَاذَا لا يَضْحَكُ النَاسُ مِنْ هَذَا الأَمْرِ؟ الأَمْرُ سَخِيفٌ. إِنَّهُ سَخِيفٌ فِعْلًا. بَدَلًا مِنَ الدِفَاعِ عَنْ هَذِهِ الْفِكْرَةِ يَجِبُ أَنْ نَبْدَأَ بِالضَحِكِ مِنَ الأَشْخَاصِ الَذِينَ يُنَادُونَ بِهَا، لأَنَّ كَلامَهُمْ غَيْرُ مَنْطِقِيٍّ عَلَى الإِطْلاقِ.

عَلَى النَقِيضِ مِنَ الْخَلْقِ الذَاتِيِّ –وَهْوَ اسْتِحَالَةٌ مَنْطِقِيَّةٌ– تَظْهَرُ فِكْرَةُ الْوُجُودِ الذَاتِيِّ، أَوْ مَا نُسَمِّيهِ فِي اللَاهُوتِ مَفْهُومَ "الكَيْنُونَةِ الْمُسْتَقِلَّةِ". حِينَ أَرَى هَذِهِ الْعِبَارَةَ مَكْتُوبَةً عَلَى اللَوْحِ، أَوْ أَرَاهَا مُدَوَّنَةً فِي كِتَابِ تَدْرِيسٍ، أَعْلَمُ أَنَّ الْغَالِبِيَّةَ السَاحِقَةَ مِنَ الْجَالِسِينَ عَلَى الْمَقَاعِدِ لَمْ يَسْمَعُوا بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ قَطُّ. إِنَّهَا غَامِضَةٌ جِدًّا، وَمَقْصُورَةٌ عَلَى فِئَةٍ مُعَيَّنَةٍ، لِدَرَجَةِ أَنَّهُمْ لا يَهْتَمُّونَ لِفَهْمِ مَعْنَاها. لَكِنْ يَجِبُ أَنْ أَقُولَ لَكُمْ بِصَرَاحَةٍ وَبِشَكْلٍ شَخْصِيٍّ، إِنِّي حِينَ أَرَى هَذِهِ الْعِبَارَةَ يَقْشَعِرُّ بَدَنِي. فَفِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ الْوَاحِدَةِ الْبَسِيطَةِ، يَكْمُنُ كُلُّ مَجْدِ كَمَالِ كَيْنُونَةِ اللهِ.

إِنَّ مَا يَجْعَلُ اللهَ مُخْتَلِفًا عَنْكُمْ وَعَنِّي وَمُخْتَلِفًا عَنِ النُجُومِ وَالزَلازِلِ وَأَيِّ مَخْلُوقَاتٍ أُخْرَى، هُوَ أَنَّ اللهَ، وَاللهَ وَحْدَهُ، يَتَمَتَّعُ بِالْكَيْنُونَةِ الْمُسْتَقِلَّةِ. اللهُ، وَاللهُ وَحْدَهُ، مَوْجُودٌ بِقُوَّتِهِ الْخَاصَّةِ. لَمْ يَخْلُقْهُ أَحَدٌ، وَلَمْ يَتَسَبَّبْ أَحَدٌ بِوُجُودِهِ، هُوَ مَوْجُودٌ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، الأَمْرُ الَذِي يَجْعَلُهُ مُخْتَلِفًا عَنْ بَاقِي الْمَخْلُوقَاتِ. لَدَيْكُمْ أُمَّهَاتٌ وَآباءُ، إِذًا، أَنْتُمْ لَسْتُمْ مَوْجُودِينَ ذَاتِيًّا. أَنَا لَسْتُ مَوْجُودًا ذَاتِيًّا. لَيْسَتِ السَيَّارَاتُ مَوْجُودَةً ذَاتِيًّا. لَيْسَتِ النُجُومُ مَوْجُودَةً ذَاتِيًّا. اللهُ وَحْدَهُ يَتَمَتَّعُ بِمَفْهُومِ الْوُجُودِ الذَاتِيِّ.

لَكِنَّكُمْ تَقُولُونَ: "مَهْلًا" هَذَا هُوَ الأَمْرُ الَذِي يُسَبِّبُ مَعْثِرَةً لِلنَاسِ. حَتَّى لِشَخْصٍ مِثْلِ بِرْتْرَانْد رَاسِيل، حِينَ أَلَّفَ كِتَابَهُ الَذِي يُفَسِّرُ فِيهِ سَبَبَ عَدَمِ اعْتِنَاقِهِ الْمَسِيحِيَّةِ، قَالَ إِنَّهُ حِينَ كَانَ فِي سِنِّ الـثَامِنَةَ عَشْرَةَ كَانَ يَقْرَأُ مَقَالَةً لِلْفَيْلَسُوفِ جُون سْتِوَارْت مِيل. وَقَبْلَ ذَلِكَ، كَانَ بِرْتْرَانْد رَاسِيل يَعْتَرِفُ بِوُجُودِ اللهِ. لَكِنَّهُ قَالَ: "لَكِنْ حِينَ صِرْتُ شَابًّا قَرَأْتُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ الَتِي قَالَ فِيهَا مِيلُ: "إِذَا كَانَ قَانُونُ السَبَبِيَّةِ صَحِيحًا، إِذًا، لا يُمْكِنُ لإِلَهِ الْمَسِيحِيَّةِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا. لأَنَّهُ إِذَا كَانَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبٌ، إِذًا، لا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مُسَبِّبٍ للهِ. وَأَيًّا كَانَ الشَخْصُ أَوِ الشَيْءُ الَذِي تَسَبَّبَ بِوُجُودِ اللهِ، لا بُدَّ أَنَّهُ مُتَفَوِّقٌ عَلَيْهِ. إِذًا قَانُونُ السَبَبِيَّةِ بِرُمَّتِهِ يَقْضِي عَلَى فِكْرَةِ وُجُودِ اللهِ". هَذَا مَا قَالَهُ بِرْتْرانْد رَاسِيل، واحِدٌ مِنْ أَلْمَعِ الأَدْمِغَةِ فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، بَعْدَ تَأَثُّرِهِ بِفَيْلَسُوفٍ لامِعٍ آخَرَ جُون سِتِوَارْت مِيل مُرْتَكِبًا خَطَأً أَوَّلِيًّا وَأَسَاسِيًّا وَرَئِيسِيًّا.

لا يَقُولُ قَانُونُ السَبَبِيَّةِ إِنَّهُ لا بُدَّ مِنْ وُجُودِ سَبَبٍ لِكُلِّ شَيْءٍ، يَقُولُ قَانُونُ السَبَبِيَّةِ إِنَّه يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لكُلِّ نَتِيجَةٍ سَبَبٌ سَابِقٌ، هَذَا مَا نُسَمِّيهِ "الصِحَّةَ الصُورِيَّةَ"، أَيْ أَنَّهَا صَحِيحَةٌ بِحُكْمِ تَعْرِيفِها. يُشْبِهُ الأَمْرُ الْقَوْلَ إِنَّ لَدَى الْمُثَلَّثِ ثَلاثَةَ جَوانِبَ. لأَنَّ النَتِيجَةَ، وَبِحُكْمِ تَعْرِيفِ الْكَلِمَةِ، هِيَ مَا تَسَبَّبَ بِهِ أَمْرٌ آخَرُ، وَلا يُمْكِنُ لِلسَبَبِ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا إِلَّا إِذَا أَنْتَجَ نَتِيجَةً. لَكِنَّنَا لا نَقُولُ إِنَّ اللهَ هُوَ نَتِيجَةٌ تَسَبَّبَ بِها أَمْرٌ سَبَقَهُ، إِنَّهُ مَوْجُودٌ ذَاتِيًّا، وَهُوَ لا يَدِينُ بِكَيْنُونَتِهِ لأَيِّ شَيْءٍ سِوَى نَفْسِهِ. إِنَّهُ يَتَمَتَّعُ بِقُوَّةِ الْكَيْنُونَةِ فِي دَاخِلِهِ. فَكِّرُوا فِي الأَمْرِ، وَأَعْتَقِدُ أَنَّ حَمَاسَتَكُمْ لِعِبَادَتِهِ سَتَزْدَادُ.

أَنْتُمْ تَسْأَلُونَ: "مَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْخَلْقِ الذَاتِيِّ وَالْوُجُودِ الذَاتِيِّ؟ أَلَيْسَ الاثْنَانِ تَحَدِّيًا لِلْمَنْطِقِ؟" لا، فَالْخَلْقُ الذَاتِيُّ غَيْرُ مَنْطِقِيٍّ وَسَخِيفٌ كَمَا سَبَقَ أَنْ رَأَيْنَا. فَكِّرُوا فِي كَوْنِ أَمْرٍ مَا مَوْجُودًا مُنْذُ الأَزَلِ بِفَضْلِ قُوَّتِهِ الْخَاصَّةِ، وَيَتَمَتَّعُ بِقُوَّةِ الْكَيْنُونَةِ فِي نَفْسِهِ. أَيُّ مَبْدَّإٍ مِنْ مَبَادِئِ الْمَنْطِقِ تَنْتَهِكُ هَذِهِ الْفِكْرَةُ؟ هَلْ يُوجَدُ أَيُّ جَانِبٍ غَيْرِ مَنْطِقِيٍّ فِي الأَمْرِ؟ أَنَا أُدْرِكُ –أَنَا لَسْتُ مِنْ مُعْتَنِقِي الْمَذْهَبِ التَصَوُّرِيِّ لأَقُولَ إِنَّهُ إِذَا كَانَ لَدَيَّ مَفْهُومٌ قَادِرٌ أَنْ يَنْجَحَ فِي اخْتِبَارِ الْمَنْطِقِيَّةِ فَلا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا، لَيْسَ هَذَا مَا أَقُولُهُ– أَنَا أَقُولُ بِبَسَاطَةٍ إِنَّ مَفْهُومَ الْوُجُودِ الذَاتِيِّ لا يَنْتَهِكُ قَانُونَ الْمَنْطِقِ. هَذَا مَفْهُومٌ مَنْطِقِيٌّ بِشَكْلٍ كَامِلٍ وَبَارِزٍ.

أَوَدُّ التَوَسُّعَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ هَذَا الْمَوْضُوعِ. لَيْسَتْ فِكْرَةُ وُجُودِ كَائِنٍ مَوْجُودٍ ذَاتِيًّا مُمْكِنَةً فَحَسْبُ، لَكِنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّ تُومَا الأَكْوِينِيَّ أَحْسَنَ فَهْمَ الأَمْرِ مُنْذُ قُرُونٍ. هُوَ قَالَ: "إِنَّ كَيْنُونَةَ اللهِ، وَخِلافًا لأَيِّ شَيْءٍ آخَرَ مَوْجُودٍ، هِيَ، وَكَمَا أَسْمَاهَا تُوما الأَكْوِينِيَّ، كَيْنُونَةً ضَرُورِيَّةً". هَذِهِ فِكْرَةٌ عَمِيقَةٌ سَأُسَاعِدُكُمْ عَلَى فَهْمِهَا وَاسْتِيعَابِها. مَا قَصَدَهُ الأَكْوِينِيُّ بِعِبَارَةِ "كَائِنٍ ضَرُورِيٍّ" يُخْتَصَرُ بِأَمْرَيْنِ: أَوَّلًا، الْكَائِنُ الضَرُورِيُّ هُوَ كَائِنٌ لا يُمْكِنُ أَلَّا يَكُونَ، إِنَّهُ كَائِنٌ بِحُكْمِ ضَرُورَةِ كَيْنُونَتِهِ الأَزَلِيَّةِ وَكَيْنُونَتِهِ الْمُسْتَقِلَّةِ. الْكَائِنُ الْمَوْجُودُ ذَاتِيًّا هُوَ ذَلِكَ الْكَائِنُ غَيْرُ الْقَائِمِ عَلَى افْتِرَاضٍ، أَوْ غَيْرُ الْمُعْتَمِدِ عَلَى مَفْهُومٍ آخَرَ، لَكِنَّهُ ضَرُورِيٌّ، لا يُمْكِنُ لِكَيْنُونَتِهِ أَلَّا تَكُونَ، لا يُمْكِنُ للهِ أَلَّا يَكُونَ، إِنَّهُ "أَهْيَه" مُنْذُ الأَزَلِ وَإِلَى الأَبَدِ.

وَلَيْسَتْ كَيْنُونَةُ اللهِ ضَرُورِيَّةً فَحَسْبُ، أَيْ أَنَّهُ ذَلِكَ الْكَائِنُ الَذِي لا يُمْكِنُ أَلَّا يَكُونَ، وَبِالتَالِي هُوَ ضُرورِيٌّ وُجُودِيًّا، وَإِنَّمَا هُوَ ضَرُورِيٌّ مَنْطِقِيًّا أَيْضًا. أَعُودُ إِلَى مَا كُنْتُ أَقُولُهُ سَابِقًا، وَهْوَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَيُّ شَيْءٍ مَوْجُودًا الآنَ فَلا بُدَّ أَنَّ شَيْئًا مَا، فِي مَكَانٍ مَا وَبِطَرِيقَةٍ مَا يَتَمَتَّعُ بِكَيْنُونَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، لا بُدَّ أَنَّهُ يَتَمَتَّعُ بِقُوَّةِ الْكَيْنُونَةِ فِي ذَاتِهِ، وَهْوَ غَيْرُ مُشْتَقٍّ مِنْ شَيْءٍ خَارِجَ ذَاتِهِ. وَبِالتَالِي، هَذَا الْكَائِنُ هُوَ الْكَائِنُ الأَسْمَى، إِنَّهُ الْكَائِنُ الْمُتَعَالِي.

دَعُونِي أَتَحَدَّثُ بِسُرْعَةٍ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الأَخِيرَةِ "التَعَالِي". حِينَ نَتَحَدَّثُ عَنْ تَعَالِي اللهِ فَنَحْنُ نَقْصِدُ بِذَلِكَ كَوْنَ اللهِ أَعْظَمَ وَأَعْلَى مِنْ أَيِّ شَيْءٍ فِي عَالَمِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَحْدُودِ، إِنَّهُ أَعْلَى وَأَسْمَى مِنْهُ. حَتَّى الْفَلاسِفَةِ الَذِينَ لا يُوَافِقُونَ عَلَى مَا كُنْتُ أَقُولُهُ اللَيْلَةَ يُوَافِقُونَ عَلَى هَذِهِ الْفِكْرَةِ قَائِلِينَ: "نَعَمْ فِي مَكَانٍ مَا، وَبِطَرِيقَةٍ مَا لا بُدَّ لِشَيْءٍ مَا أَنْ يَتَمَتَّعَ بِقُوَّةِ الْكَيْنُونَةِ، وَإِلَّا، لَمَا أَمْكَنَ أَيُّ شَيْءٍ أَنْ يَكُونَ". لا بُدَّ لِشَيْءٍ مَا أَنْ يَكُونَ أَزَلِيًّا، وَإِذَا كَانَ أَزَلِيًّا فَهُوَ أَزَلِيٌّ لأَنَّهُ لا يُمْكِنُ وَضْعُ حَدٍّ لِكَيْنُونَتِهِ. لَكِنْ لِمَاذَا، وَنَظَرًا لِوُجُودِ كُلِّ تِلْكَ الأَشْيَاءِ فِي الْكَوْنِ الْمَخْلُوقَةِ وَالخاضِعَةِ لِلتَغْيِيرِ وَالتَحَوُّلِ، لِمَاذا لا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ جَوْهَرٌ نَابِضٌ دَاخِلَ الْكَوْنِ تَشْتَقُّ مِنْهُ كُلُّ الأَشْيَاءِ الأُخْرَى؟ لِمَاذَا يَجِبُ أَنْ نَقُولَ إِنَّنَا نَحْتَاجُ إِلَى كَائِنٍ مُتَعَالٍ؟" هَذَا مَا أُرِيدُ أَنْ تُمْعِنُوا التَفْكِيرَ فِيهِ.

حِينَ نَسْتَعْمِلُ كَلِمَةَ "مُتَعَالٍ" وَنَنْسِبُهَا إِلَى اللهِ، فَنَحْنُ لا نَتَحَدَّثُ عَنِ التَعَالِي الْجُغْرَافِيِّ، نَحْنُ لا نَتَحَدَّثُ عَنِ الْمَكَانِ الَذِي يَسْكُنُ فِيهِ اللهُ. وَحِينَ يُدْرِكُ النَاسُ أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ وُجُودِ كَائِنٍ أَزَلِيٍّ مَوْجُودٍ ذَاتِيًّا لَكِنَّهُمْ لا يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونَ مُتَعَالِيًا، أَلا تُلاحِظُونَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا ذَاتِيًّا، وَإِذَا كَانَ أَزَلِيًّا، وَإِذَا كَانَ كَائِنًا خَالِصًا، فَهُوَ مُتَعَالٍ بِحُكْمِ تَعْرِيفِهِ؟ إِنَّهُ عَلَى مُسْتَوًى أَعْلَى مِنَ الْكَيْنُونَةِ. لَكِنَّ هَذَا لا يَعْنِي أَنَّهُ يَعِيشُ فِي جُزْءٍ أَعْلَى مِنَ الْكَوْنِ. لا آبَهُ مَا إِذَا كَانَ فِي كَالِيفُورْنْيَا أَوْ شَرْقِ الشَمْسِ أَوْ غَرْبِ الْقَمَرِ. لأنَّهُ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا ذَاتِيًّا وَأَزَلِيًّا وَكَانَ يَتَمَتَّعُ بِقُوَّةِ الْكَيْنُونَةِ فِي ذَاتِهِ، فَهُوَ، بِحُكْمِ تَعْرِيفِهِ، يَسْمُو فَوْقَ كُلِّ الأَشْيَاءِ الأُخْرَى فِي الْكَوْنِ. وَلِهَذَا السَبَبِ يَدْعُو اللهُ نَفْسَهُ "أَنَا هُوَ".