المحاضرة 7: محبة الله الميالة إلى الخير
فِي مُحاضَرَتِنا السَّابِقَةِ أَلْقَيْنا نَظْرَةً وَجِيزَةً عَلَى الفِكْرَةِ الشَّائِعَةِ، وَهْيَ مَحَبَّةُ اللهِ غَيْرُ الْمَشْرُوطَةِ. وَأَطْلَقْتُ تَحْذِيرًا جِدِّيًّا بِشَأْنِ إِمْكانِيَّةِ إِساءَةِ فَهْمِ تِلْكَ الْفِكْرَةِ بِكُلِّ سُهُولَةٍ مِنْ قِبَلِ الَّذِينَ يَسْمَعُونَها. وَوَعَدْتُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالتَّكَلُّمِ عَنْ إِطارٍ مُعَيَّنٍ تَكُونُ فِيهِ مَحَبَّةُ اللهِ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ، وَعَنْ إِطَارٍ لا تَكُونُ فِيهِ كَذَلِكَ، فِي هَذِهِ الْمُحاضَرَةِ الْيَوْمَ.
نَحْنُ نُدْرِكُ جَمِيعًا أَنَّ اخْتِصاصَ الْمَرْأَةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ هُوَ أَنْ تُغَيِّرَ رَأْيَهَا، وَكَذَلِكَ أَيْضًا، مِنَ الْبَدِيهِي أَنَّ اخْتِصاصَ اللَّاهُوتِي هُوَ تَمْيِيزُ الْفُرُوقِ الدَّقِيقَةِ. إِذًا، مَا أُرِيدُ فِعْلَهُ الْيَوْمَ هُوَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ ثَلاثَةِ أَنْوَاعٍ مُحَدَّدَةٍ مِنَ الْمَحَبَّةِ مِنْ حَيْثُ ارْتِبَاطُهَا بِشَخْصِ اللهِ. وَأَنْوَاعُ الْمَحَبَّةِ الثَّلاثَةُ الَّتِي نُمَيِّزُهَا يُمْكِنُ تَعْرِيفُها عَلَى أَنَّهَا: أَوَّلًا، الْمَحَبَّةُ الْمَيَّالَةُ إِلَى الْخَيْرِ، ثَانِيًا، الْمَحَبَّةُ الْمُحْسِنَةُ، وثَالِثًا، الْمَحَبَّةُ الرَّاضِيَةُ. اكْتَشَفْتُ خِلالَ مَسِيرَةِ حَيَاتِي أَنَّ عَدَدًا قَلِيلًا جِدًّا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَعِي هَذا التَّمْيِيزَ التَّارِيخِيَّ لأَنْواعِ أَوْ فِئاتِ الْمَحَبَّةِ الثَّلاثِ هَذِهِ. إِذًا، أُرِيدُ أَنْ أُكَرِّسَ بَعْضَ الْوَقْتِ الْيَوْمَ لِتَعْرِيفِها. وَلِأَرَى إِنْ كانَ بِإِمْكانِنا إِيجادُ بَعْضِ الأَمْثِلَةِ الْكِتابِيَّةِ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا.
لَكِنْ فَلْنَبْدَأْ أَوَّلًا بِمَحَبَّةِ اللهِ الْمَيَّالَةِ إِلَى الْخَيْرِ. أَوَّلًا، سَنُدَوِّنُ ذَلِكَ عَلَى اللَّوْحِ. بِالطَّبْعِ، سَبَقَ أَنْ سَمِعْنَا هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنْ حِينٍ لآخَرَ، وَيُمْكِنُنا تَقْسِيمُها مِنْ حَيْثُ جُذُورُها اللُّغَوِيَّةِ، لَدَيْنَا بَادِئَةٌ وَجَذْرٌ. الْبَادِئَةُ "بِينِي" تَعْنِي خَيْرًا، أَوْ صَلاحًا. نُفَكِّرُ فِي الْـ"بِينِيدِيكْشِنْ" أَوْ مَنَحِ الْبَرَكَةِ فِي آخِرِ الاجْتِماعِ، وَهْوَ عِبارَةٌ عَنْ كَلامٍ صَالِحٍ، حَيْثُ نَطْلُبُ أَنْ يَصْنَعَ اللهُ خَيْرًا لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ التَّصْرِيحِ الأَخِيرِ. وَكَلِمَةُ "فُولَنْس" مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْكَلِمَةِ اللَّاتِينِيَّةِ "فُولِنْز"، وَهْيَ تَعْنِي مَشِيئَةً أَوْ نِيَّةً. إِذًا، حَرْفِيًّا، مَا نَقْصُدُهُ حِينَ نَتَكَلَّمُ عَنْ "بِينِيفُولَنْس" هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْمَشِيئَةِ الصَّالِحَةِ. وَالْكَلِمَةُ الْمُناقِضَةُ لَها أَوْ نَقِيضُها الْمُباشِرُ هُوَ "مَالْفُولَنْس" أَيِ الضَّغِينَةُ، أَيْ مَشِيئَةٌ شِرِّيرَةٌ أَوْ مَيْلٌ شِرِّيرٌ لا نَنْسِبُهُ أَبَدًا إِلَى اللهِ. إذًا، مَيْلُ اللهِ إِلَى الْخَيْرِ مُرْتَبِطٌ بِمَشِيئَتِهِ الصَّالِحَةِ تُجاهَ النَّاسِ.
سَأُذَكِّرُكُمْ بِالإِعْلانِ السَّماوِيِّ الَّذِي أَعْلَنَهُ لُوقَا فِي سَرْدِ قِصَّةِ الْمِيلادِ، حَيْثُ إنَّنَا مَعَ ظُهُورِ الْمَلائِكَةِ نَقْرَأُ فِي الأَصْحاحِ 2 مِنْ إِنْجِيلِ لُوقَا وَالآيَةِ 8: "وَكَانَ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ اللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ، وَإِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَهُمْ، فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا. فَقَالَ لَهُمُ الْمَلاَكُ: «لاَ تَخَافُوا! فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ. وَهَذِهِ لَكُمُ الْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلًا مُقَمَّطًا مُضْجَعًا فِي مِذْوَدٍ". نَجِدُ هُنَا الإِعْلانَ الْمَلائِكِيَّ، التَّبْشِيرَ الْمَلائِكِيَّ فِي هَذِهِ الْحالَةِ بِوِلادَةِ يَسُوعَ الْمُخَلِّصِ.
ثُمَّ نَقْرَأُ "وَظَهَرَ بَغْتَةً مَعَ الْمَلاَكِ جُمْهُورٌ مِنَ الْجُنْدِ السَّمَاوِيِّ مُسَبِّحِينَ اللهَ وَقَائِلِينَ: «الْمَجْدُ لِلَّهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ»". نَعْرِفُ جَمِيعًا تِلْكَ الآيَةَ: "عَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ". ثَمَّةَ تَرْجَماتٌ أُخْرَى مُخْتَلِفَةٌ لِهَذِهِ الآيَةِ، وَهْيَ "عَلَى الأَرْضِ السَّلامُ لأَصْحَابِ الْمَشِيئَةِ الصَّالِحَةِ". لأَنَّهُ يُوجَدُ الْتِباسٌ لُغَوِيٌّ هُنَا يَجْعَلُنا نَتَساءَلُ عمَّا إِذا كانَتْ تِلْكَ الْمَشِيئَةُ الصَّالِحَةُ تَعْبِيرًا عَنْ مَشِيئَةِ اللهِ الصَّالِحَةِ تُجاهَنا، أَوْ عَنْ وَعْدِ اللهِ للنَّاسِ الَّذِين يُبْدُونَ مَشِيئَةً صَالِحَةً الْوَاحِدُ تُجاهَ الآخَرِ. أَنَا أُفَضِّلُ التَّفْسِيرَ الْكْلاسِيكِيَّ للأَمْرِ، وَهْوَ الإِشَارَةُ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ الصَّالِحَةِ.
بِالطَّبْعِ حِينَ نَتَكَلَّمُ عَنْ مَشِيئَةِ اللهِ الصَّالِحَةِ فَإِنَّنَا نُكَرِّرُ تَقْرِيبًا، فِي الْوَاقِعِ، نَحْنُ نُكَرِّرُ فِعْلًا، لأَنَّهُ لَيْسَ لَدَى اللهِ أَيَّةُ مَشِيئَةٍ أُخْرَى سِوَى الْمَشِيئَةِ الصَّالِحَةِ. يُمْكِنُنَا أَنْ نَفْتَرِضَ أَنَّ مَشِيئَتَهُ تُظْهِرُ دَائِمًا صِفاتِهِ وَشَخْصَهُ، وَهْيَ صَالِحَةٌ. أَحَدُ الأُمُورِ الَّتِي كُنَّا نُحاوِلُ فِعْلَها طَوالَ هَذِهِ السِّلْسِلَةِ حَوْلَ مَحَبَّةِ اللهِ، هُوَ الْمُلَاحَظَةُ كَيْفَ أَنَّ صِفَةَ الْمَحَبَّةِ الإِلَهِيَّةِ مُرْتَبِطَةٌ بِصِفاتِ اللهِ الأُخْرَى؛ رَأَيْنا كَيْفَ أَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ هِيَ مَحَبَّةٌ إِلَهِيَّةٌ، وَهْيَ مَحَبَّةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَمَحَبَّةٌ سِيادِيَّةٌ، إِلَى آخِرِهِ. وَالآنَ نَرَى أَنَّ مَحَبَّتَهُ مُرْتَبِطَةٌ ارْتِباطًا وَثِيقًا بِصَلاحِهِ. فِي يُوحَنَّا 3: 16 نَجِدُ تِلْكَ الآيَةَ الشَّهِيرَةَ: "لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ"، ما يَصِفُ مَشِيئَةَ اللهِ بِأَنْ يُرْسِلَ ابْنَهُ إِلَى الْعالَمِ. وَحِينَ أَرْسَلَ اللهُ الابْنَ إِلَى الْعَالَمِ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُجَرَّدَ تَعْبِيرٍ عَنْ مَشِيئَتِهِ بَلْ مِنَ الْواضِحِ أَنَّهُ كانَ تَعْبِيرًا عَنْ مَشِيئَتِهِ الصَّالِحَةِ، وَعَنْ كَوْنِهِ قَدْ سُرَّ بِإِرْسالِ ابْنِهِ الْوَحِيدِ إِلَى الْعَالَمِ.
نَحْنُ نَسْمَعُ أَحْيَانًا، وَضِمْنَ إِطارِ وَصْفِ الْحُكَّامِ تَارِيخِيًّا، بِمَا يُعْرَفُ بِالدِّكْتاتورِ الْمُحِبِّ لِلْخَيْرِ. اعْتَبَرَ الْبَعْضُ فِكْرَةَ الدِّكْتاتورِ الْمُحِبِّ لِلْخَيْرِ بِمَثابَةِ إِرْدافٍ خَلْفِيٍّ لأَنَّنا نَرْبُطُ مَفْهُومَ الدِّكْتاتورِ عادَةً لَيْسَ بِالْمَشِيئَةِ الصَّالِحَةِ بَلْ بِالنِّيَّةِ الشِّرِّيرَةِ، بِشَخْصٍ شِرٍّيرٍ أَوْ ظَالِمٍ وَمُسْتَبِدٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. لَكِنَّنَا نُدْرِكُ نَظَرِيًّا، وَحَتَّى فِي التَّارِيخِ، أَنَّ ثَمَّةَ أَشْخاصًا تَسَلَّمُوا مَراكِزَ سُلْطَةٍ، وَكانُوا مُلُوكًا مَثَلًا أَوْ أَبَاطِرَةً، أَبْدَوْا مَشِيئَةً صَالِحَةً تُجاهَ أَتْبَاعِهِمْ. وَنَحْنُ نَجِدُ أَنَّ اللهَ أَسَاسًا، وَهْوَ الْحَاكِمُ الأَعْلَى لِلسَّماءِ وَالأَرْضِ، يَتَمَتَّعُ بِسُلْطانٍ أَعْلَى مِنْ سُلْطَانِ أَيِّ دِكْتاتورٍ أَرْضِيٍّ، ورَغْمَ ذَلِكَ يَحْكُمُ وَيَمْلِكُ بِمَشِيئَةٍ خَيِّرَةٍ، بِمَشِيئَةٍ صَالِحَةٍ. يُمْكِنُني أَيْضًا أَنْ أُضِيفَ إِلَى ذَلِكَ، فِكْرَةَ أَنَّنا حِينَ نَتَكَلَّمُ عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الْمَيَّالَةِ إِلَى الْخَيْرِ فَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ مُجَدَّدًا عَنْ مَشِيئَتِهِ، وَذَلِكَ الْبُعْدِ لِمَشِيئَتِهِ الَّذِي نُسَمِّيهِ "مَيْلَ الْمَشِيئَةِ"، وهَذَا يَصِفُ وَضْعَ اللهِ أَوْ مَوْقِفَهُ الأَساسِيَّ تُجاهَ خَلِيقَتِهِ.
سَأُخَصِّصُ بَعْضَ الْوَقْتِ هُنا لِلرُّجوعِ إلى صَفَحاتِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، إِلَى نَصٍّ أَعْتَبِرُهُ مُهِمًّا فِي مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. لَقَدْ أَضَعْتُهُ، لَكِنِّي سَأَجِدُهُ سَرِيعًا. سِفْرُ النَّبِيِّ حِزْقِيالَ والأصْحاحُ 33. في حِزْقِيالَ 33 وَابْتِداءً مِنَ الآيَةِ 10 نَقْرَأُ ما يَلِي: "وَأَنْتَ يَا ابْنَ آدَمَ قُلْ لِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ: إِنَّ مَعَاصِيَنَا وَخَطَايَانَا عَلَيْنَا، وَبِهَا نَحْنُ فَانُونَ، فَكَيْفَ نَحْيَا؟ قُلْ لَهُمْ: حَيٌّ أَنَا، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، إِنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ الشِّرِّيرِ، بَلْ بِأَنْ يَرْجِعَ الشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا. اِرْجِعُوا، ارْجِعُوا عَنْ طُرُقِكُمُ الرَّدِيئَةِ! فَلِمَاذَا تَمُوتُونَ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ؟" أَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِنْ هذَا النَّصِّ اقْتَبَسَ فْرانْسِيس شَايْفِر عُنْوانًا لِمَا قَدْ يَكُونُ كِتابَهُ الأَكْثَرَ شُهْرَةً "فَكَيْفَ نَحْيَا؟" لأَنَّ حِزْقِيالَ يَذْكُرُ هَذَا السُّؤالَ الأَساسِيَّ هُنا.
لَكِنْ لاحِظُوا أَنَّهُ يَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ بالذَّاتِ إِنَّ اللهَ لا يُسَرُّ بِمَوْتِ الشِّرِّيرِ لأَنَّ مَوْقِفَهُ الَأساسِيَّ حَتَّى تُجاهَ الْبَشَرِيَّةِ السَّاقِطَةِ، حَتَّى هَؤُلاءِ الْمُعرَّضِينَ لِغَضَبِهِ هُوَ مَوْقِفٌ مَيَّالٌ إِلَى اللُّطْفِ والْخَيْرِ. الآنَ، يَجِبُ أَنْ نَرَى أَنَّ هَذَا الإِعْلانَ بِالذَّاتِ، الَّذِي يُبَيِّنُ أَنَّ اللهَ لا يُسَرُّ بِمَوْتِ الشِّرِّيرِ، يَتْبَعُ كَلامًا سَابِقًا سَأَلْفِتُ النَّظَرَ إِلَيْهِ. فِي الآيَةِ 7 يَقُولُ حِزْقِيالُ: "وَأَنْتَ يَا ابْنَ آدَمَ، فَقَدْ جَعَلْتُكَ رَقِيبًا لِبَيْتِ إِسْرَائِيلَ، فَتَسْمَعُ الْكَلاَمَ مِنْ فَمِي، وَتُحَذِّرُهُمْ مِنْ قِبَلِي. إِذَا قُلْتُ لِلشِّرِّيرِ: يَا شِرِّيرُ مَوْتًا تَمُوتُ! فَإِنْ لَمْ تَتَكَلَّمْ لِتُحَذِّرَ الشِّرِّيرَ مِنْ طَرِيقِهِ، فَذَلِكَ الشِّرِّيرُ يَمُوتُ بِذَنْبِهِ، أَمَّا دَمُهُ فَمِنْ يَدِكَ أَطْلُبُهُ. وَإِنْ حَذَّرْتَ الشِّرِّيرَ مِنْ طَرِيقِهِ لِيَرْجِعَ عَنْهُ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَنْ طَرِيقِهِ، فَهُوَ يَمُوتُ بِذَنْبِهِ. أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ خَلَّصْتَ نَفْسَكَ".
مِنَ الْمُهِمِّ جِدًّا أَنْ نَفْهَمَ ذَلِكَ، لأَنَّ بَعْضَ الأَشْخاصِ، وَاسْتِنادًا إِلَى مَبْدَأِ مَحَبَّةِ اللهِ الْمَيَّالَةِ إِلَى الْخَيْرِ، اسْتَوْحَوْا مِنْ هَذِهِ الْفِكْرَةِ مَفْهُومَ الْخَلاصِ الْكَوْنِيِّ، أَيْ أَنَّهُ إِنْ كانَ اللهُ خَيّرًا فِي مَوْقِفِهِ تُجاهَ جَمِيعِ الْبَشَرِ، وَكانَ يُحِبُّ جَمِيعَ النَّاسِ مَحَبَّةً خَيِّرَةً، فَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّهُ فِي نِهايَةِ الْمَطَافِ لَنْ يَهْلِكَ أَحَدٌ وَلَنْ يَذْهَبَ أَحَدٌ إِلَى الْجَحِيمِ، لأَنَّ إِرْسالَ اللهِ أَحَدَهُمْ إِلَى الْجَحِيمِ هُوَ انْتِهاكٌ لِصِفَتِهِ وَكِيانِهِ، أَيْ مَيْلِهِ إِلَى الْخَيْرِ. لَكِنْ هُنَا فِي الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ نَرَى الْعَكْسَ تَمامًا، أَيْ أَنَّهُ فِي هَذَا الاقْتِرانِ الْوَثِيقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ؛ مِنْ نَاحِيَةٍ، إِنَّهُ يُحَذِّرُ النَّاسَ مِنَ الْعَواقِبِ إِنْ لَمْ يُحَذِّرُوا الأَشْرارَ غَيْرَ النَّادِمِينَ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ عَنْ خَطِيَّتِهِمْ، ثُمَّ قالَ إِنَّهُمْ إِنْ سَمِعُوا التَّحْذِيرَ وَلَمْ يَرْجِعُوا عَنْ خَطاياهُمْ، فَسَيَهْلِكُونَ بِإِثْمِهِمْ، هَذَا بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الصِّفَةِ الإِضافِيَّةِ الَّتِي نَسْتَمِدُّها مِنْ سِفْرِ حِزْقِيالَ بِأَنَّ اللهَ لا يُسَرُّ بِمَوْتِ الشِّرِّيرِ. إِلَّا أَنَّهُ وَرَغْمَ أَنَّهُ لا يُسَرُّ بِذَلِكَ، إِذَا جازَ التَّعْبِيرُ، إِلَّا أَنَّهُ يَأْمُرُ بِهِ، وَهَذا هُوَ الأَمْرُ الَّذِي يَجِبُ أَنْ نَتَذَكَّرَهُ، وَهْوَ أَنَّهُ حَتَّى فِي نَزْعَتِهِ إِلَى الْخَيْرِ، لَنْ يُساوِمَ اللهُ أَبَدًا عَلَى بِرِّهِ أَوْ قَداسَتِهِ، وَهْوَ سَيُعاقِبُ الأَشْرارَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ مَيْلِهِ إِلَى صُنْعِ الْخَيْرِ مَعَهُمْ.
أُحِبُّ أَنْ أُشَبِّهَ الأَمْرَ بِقَاضٍ مَثَلًا تَمَّ إِحْضارُ ابْنِهِ إِلَيْهِ بِتُهْمَةِ السَّرِقَةِ، وَتَمَّ الاسْتِماعُ إِلَى الْقَضِيَّةِ فِي الْمَحْكَمَةِ، وَالْقَاضِي يَعْلَمُ أَنَّ ابْنَهُ مُذْنِبٌ، وَأَصْدَرَتْ هَيْئَةُ الْمُحَلَّفِينَ الْحُكْمَ بِإِدَانَتِهِ، وَبَقِيَ لِلْقاضِي أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْفَرِيقِ الْمُذْنِبِ وَفقًا لِمَا يَقْتَضِيهِ الْقَانُونُ. الْقَاضِي الْعَادِلُ، فِي ظَرْفٍ مُمَاثِلٍ، يَفْرِضُ عُقُوبَةً عَادِلَةً حَتَّى عَلَى ابْنِهِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ قَلَقِهِ الشَّخْصِي، وَعَلَى الرَّغْمِ مِنَ الْمَحَبَّةِ الْخَاصَّةِ الَّتِي يُكِنُّها لابْنِهِ. بِدَافِعِ مَحَبَّتِهِ لِلْقانُونِ وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، سَيَحْكُمُ عَلَى ابْنِهِ بِالسَّجْنِ. قَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِدُمُوعٍ، وَلَكِنْ نَظَرًا لالْتِزامِهِ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ سَيَقْضِي الْقَاضِي بِالْحَقِّ. نَرَى ذَلِكَ فِي الْكِتابِ الْمُقَدَّسِ، فِي الْحِوارِ الَّذِي كانَ للهِ مَعَ إِبْراهِيمَ، حِينَ طَلَبَ إِبْراهِيمُ الإِعْفاءَ عَنْ سَدُومَ وَعَمُورَةٍ، وَاحْتَجَّ عَلَى إِمْكانِيَّةِ مُعاقَبَةِ اللهِ الأَبْرارَ مَعَ الأَشْرارِ. فِي النِّهايَةِ، عَادَ إِبْراهِيمُ إِلَى رُشْدِهِ وَقَالَ: "أدَيَّانُ كُلِّ الأرْضِ لا يَصْنَعُ عَدْلًا؟"
مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ اللهَ بِحُكْمِهِ يُجْرِي الْعَدْلَ، إِنَّهُ يَحْكُمُ بِالْعَدْلِ، وَهَذَا الْحُكْمُ صَادِرٌ حَتَّى فِي رُوحِهِ الْمَيَّالَةِ إِلَى الْخَيْرِ بِحَقِّ جِنْسٍ بَشَرِيٍّ مُتَمَرِّدٍ. إِذًا، مَيْلُهُ إِلَى الْخَيْرِ لا يُلْغِي الْتِزامَهُ بِالْعَدْلِ وَالْحَقِّ، كَمَا رَأَيْنَا هُنَا فِي هَذَا النَّصِّ فِي حِزْقِيال. مُجَدَّدًا، الْفِكْرَةُ هِيَ أَنَّ اللهَ قَدْ يُعاقِبُ الشِّرِّيرَ، لَكِنَّهُ لا يَفْرَحُ بِذَلِكَ، أَوْ أَنَّهُ لا يُعَاقِبُ وَهْوَ يَشْعُرُ بِالْغِبْطَةِ، فَهْوَ لَيْسَ "مَارْكِيز دِي ساد"، إِنَّهُ الرَّبُّ الإِلَهُ الْكُلِّيُّ الْقُدْرَةِ الَّذِي تُحْزِنُهُ نَوْعًا مَا عَواقِبُ الْخَطِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ عِنْدَما يُعاقِبُهُمْ. إِذًا، لا يُصْدِرُ حُكْمَهُ أبدًا بِدافِعِ الضَّغِينَةِ، عَلَى عَكْسِ حُكْمِنا، فَنَحْنُ قَدْ نَطْلُبُ الْحُكْمَ عَلَى أَسَاسِ حِقْدٍ لا يُمْكِنُ تَبْرِيرُهُ أَوْ ثَأْرٍ شَخْصِيٍ. لا يَعْمَلُ اللهُ عَلَى هَذَا الأَساسِ، لَكِنَّهُ يَعْمَلُ وَفْقَ مَشِيئَتِهِ الصَّالِحَةِ الأَسَاسِيَّةِ.
النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْمَحَبَّةِ الَّذِي نَتَكَلَّمُ عَنْهُ هُنَا، هُوَ الْمَحَبَّةُ الْمُحْسِنَةُ. وَالْفَرْقُ الْوَحِيدُ بَيْنَ الْمَيْلِ إِلَى الْخَيْرِ وَالإِحْسانِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الإِرَادَةِ وَالْعَمَلِ. مَحَبَّةُ اللهِ الْمُحْسِنَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِعَمَلِهِ تُجاهَ الْخَلِيقَةِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، أَيْ أَنَّ أَعْمَالَهُ الصَّالِحَةَ تَنْبُعُ مِنْ مَشِيئَتِهِ الصَّالِحَةِ. وَمَا يَفْعَلُهُ هُوَ أَنَّهُ يَفِيضُ بِبَرَكَاتِهِ حَتَّى عَلَى غَيْرِ التَّائِبِينَ، وَحَتَّى عَلَى الآثِمِينَ بِطُرُقٍ عِدَّةٍ. سَنَتَناوَلُ هَذَا الْمَوْضُوعَ بِوُضوحٍ فِي تَعْلِيمِ يَسُوعَ خِلالَ الْمَوْعِظَةِ عَلَى الْجَبَلِ.
أَوَّلًا، فَلْنَتَنَاوَلْ مَتَّى الأصْحاحَ 5 وَالآياتِ 43 حتَّى 48. آخِرُ الأصْحَاحِ 5 فِي الْمَوْعِظَةِ عَلَى الْجَبَلِ حَيْثُ يُقَدِّمُ لَنَا يَسُوعُ هَذَا التَّعْلِيمَ، حَيْثُ يَقُولُ «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ. لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هَكَذَا؟ فكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ".
هُنَا يُعْطِي يَسُوعُ عِلْمَ أَخْلاقٍ فَائِقًا لِلْكَنِيسَةِ، حِينَ يَتَّخِذُ مَوْقِفًا مُعَارِضًا تَمامًا لِلْـ "حَلَقَةِ"، أَيْ أًعْرَافِ مُعَلِّمِي الشَّرِيعَةِ الشّفَهِيَّةِ. حَيْثُ فَسَّرَ مُعَلِّمُو الشَّرِيعَةِ الْوَصِيَّةَ الْعُظْمَى فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ، الَّتِي تَدْعُونَا إِلَى أَنْ نُحِبَّ قَرِيبَنا، وَأَضَافُوا فِكْرَةً إِلَى ذَلِكَ، وَهْيَ أَنَّهُ صَحِيحٌ أَنَّهُ يَجْدُرُ بِكَ أَنْ تُحِبَّ قَرِيبَكَ، لَكِنْ يُمْكِنُكَ أَنْ تُبْغِضَ عَدُوَّكَ. فَقَالَ يَسُوعُ: "لا، هَذَا مَا سَمِعْتُمُوهُ عَلَى لِسانِهِمْ، لَكِنِّي أُعْطِيكُمْ مَنْظورًا مُخْتَلِفًا لِلشَّرِيعَةِ، وَهْوَ أَنَّكَ لَسْتَ مَدْعُوًّا لِتُحِبَّ قَرِيبَكَ فَحَسْب، بَلْ إِنَّكَ مَدْعُوٌّ لِتُحِبَّ عَدُوَّكَ. رُبَّما هَذِهِ وَاحِدَةٌ مِنْ أَصْعَبِ التَّوْصِياتِ الَّتِي نَجِدُها أَوْ نَسْمَعُها عَلَى لِسانِ يَسُوعَ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُنا أَنْ نُحِبَّ أَحَدَهُمْ وَأَنْ نَحْتَقِرَهُ فِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ؟ كَيْفَ يُمْكِنُنَا أَنْ نُحِبَّ شَخْصًا وَنَحْنُ بَعِيدُونَ عَنْهُ أَوْ عَلَى عَدَاوَةٍ مَعَهُ؟
فِي الْمَقامِ الأَوَّلِ، حِينَ يَتَكَلَّمُ يَسُوعُ عَنِ الْمَحَبَّةِ فَهْوَ لا يَتَكَلَّمُ عَنْ مَشاعِر مَوَدَّةٍ. إِنْ دَرَسْتَ مَفْهُومَ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ لِلْمَحَبَّةِ فَسَتَرَى أَنَّها غَالِبًا ما وَرَدَتْ بِصِيغَةِ فِعْلٍ بَدَلًا مِنَ الاسْمِ. فِي ثَقافَتِنا، يَتِمُّ التَّعْبِيرُ عَنِ الْمَحَبَّةِ دَائِمًا تَقْرِيبًا عَلَى أَنَّها اسْمٌ، وَأَنَّهَا مُرْتَبِطَةٌ بِشُعورٍ؛ شُعُورٍ بِالرُّومَانْسِيَّةِ، أَوْ شُعُورٍ بِالانْجِذابِ، أَوْ شُعُورٍ بِالْمَوَدَّةِ، فِي حينِ أَنَّهُ فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ، مَا يَتَكَلَّمُ عَنْهُ يَسُوعُ هُنَا هُوَ الْمَحَبَّةُ الْمُحْسِنَةُ، أَيْ أَنَّنَا مَدْعُوُّونَ إِلَى أَنْ نُحِبَّ حَتَّى أَعْداءَنا بِهَذَا النَّوْعِ مِنَ الْمَحَبَّةِ. وَالأَمْرُ مُرْتَبِطٌ بِأَعْمالِنا، إِنَّهُ مُرْتَبِطٌ بِمَا نَفْعَلُهُ. اسْمَعُوا مَا يَقُولُهُ: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ أي بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ" لِماذَا؟ "لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ".
يَدْعُونَا يَسُوعُ إِلَى الاقْتِداءِ بِمَحَبَّةِ اللهِ، لأَنَّ هَذَا مَا يَفْعَلُهُ اللهُ، فَلَدَيْهِ عَالَمٌ بِأَسْرِهِ ثَائِرٌ ضِدَّهُ حِقْدًا، عَالَمٌ يَلْعَنُهُ. وَبَيْنَمَا يَلْعَنُ الْعالَمُ اللهَ، اللهُ يُبَارِكُهُ. وَبَيْنَما يُعامِلُونَهُ بِحِقْدٍ، اللهُ يَفِيضُ بِبَرَكاتِهِ وَصَلاحِهِ عَلَى الأَشْرارِ، بَيْنَما يَفْعَلُونَ الشَّرَّ أَحَدُهُمْ بِالآخَرِ وَبِاللهِ، اللهُ يُحْسِنُ إِلَيْهِمْ. إِذًا، يَقُولُ لَنَا يَسُوعُ إِنَّهُ يَجْدُرُ بِنَا أَنْ نَتَصَرَّفَ بِالطَّرِيقَةِ نَفْسِها، لِمَاذَا؟ لِكَيْ نَكُونَ أَبْناءَ أَبِينَا الَّذِي فِي السَّماءِ، لأَنَّ هَذَا مَا يَفْعَلُهُ اللهُ. ثُمَّ يُتابِعُ وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ عَبْرَ الإِشارَةِ إِلَى عِنايَةِ اللهِ، حَيْثُ إنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الأَشْرارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرارِ وَالظَّالِمِينَ، وَمَحاصِيلُ الظَّالِمِ تُرْوِيهَا الأَمْطارُ مِثْلَما تُرْوِي الأَمْطارُ مَحاصِيلَ الإِنْسانِ الْبارِّ، هَذَا مَا نُسَمِّيهِ فِي اللَّاهُوتِ: نِعْمَةَ اللهِ الْعَامَّة،ُ لِتَمْيِيزِهَا عَنْ نِعْمَتِهِ الْمُخَلِّصَةِ، الَّتِي نُسَمِّيها: نِعْمَتَهُ الْخَاصَّةَ، وَهْيَ اسْتِثْنائِيَّةٌ. لَكِنَّ النِّعْمَةَ الْعَامَّةَ هِيَ تِلْكَ الرَّحْمَةُ الَّتِي يُبْدِيهَا اللهُ نَحْوَ الْجَمِيعِ بِدُونِ تَمْيِيزٍ؛ الأَمْطارُ، وَالْهَواءُ، وَالطَّعامُ، وَالْمَلْجَأُ، وَجَمِيعُ تِلْكَ الأُمورِ الَّتِي تُظْهِرُ إِحْسانَهُ.
يَجِبُ أَنْ أَقُولَ أَمْرًا لأُحَدِّدَ ذَلِكَ، وَهْوَ أَنَّهُ فِي نِهايَةِ الْمَطافِ إِحْسانُ اللهِ كُلُّهُ، كلُّ إِحْسَانِهِ، يَقُودُ فِي نِهايَةِ الْمَطافِ إِلَى دَيْنُونَةٍ أَعْظَمَ لِلأَشْرارِ، فَإِحْدَى الطُّرُقِ الَّتِي نُعَبِّرُ بِهَا عَنْ إِثْمِنا هِيَ رَفْضُنا أَنْ نَكُونَ مُمْتَنِّينَ. وَكُلَّمَا أَعْطَى اللهُ إِنْسانًا مَا بَرَكَةً، نَابِعَةً مِنْ رَحْمَتِهِ وَنِعْمَتِهِ، وَلَمْ يَشْكُرْهُ هَذَا الإِنْسانُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ هَذَا الإِنْسانَ يُضَاعِفُ ذَنْبَهُ وَإِثْمَهُ أمامَ اللهِ. كُلَّمَا نِلْنَا بَركاتٍ مِنْ يَدهِ بِدُونِ أَنْ نَشْكُرَهُ عَلَيْها، فَعَلْنا مَا يُحَذِّرُنَا مِنْهُ الرَّسُولُ بُولُسُ، أَلَا وَهْوَ جَمْعُ أو ادِّخارُ غَضَبٍ لِيَوْمِ الْغَضَبِ. وهَكَذا فَإِنَّ الْمَنافِعَ وَالْبَركاتِ الَّتِي يَمْنَحُها اللهُ لِلإِنْسانِ الشرِّير، وغَيْرِ التَّائِبِ، تَتَحَوَّلُ فِي نِهايَةِ الْمَطافِ إِلَى مآسٍ، بِسَبَبِ رَدِّ فِعْلِ الإِنْسَانِ تُجاهَ أَعْمالِ اللهِ الصَّالِحَةِ وَمَحَبَّتِهِ. الآن، فِي مُحَاضَرَتِنا الْمُقْبِلَةِ، سَأَتَناوَلُ الْجَانِبَ الثَّالِثَ لِمَحَبَّةِ اللهِ، وَهْوَ مَحَبَّتُهُ الرَّاضِيَةُ، وَهْوَ رُبَّمَا الْجَانِبُ الأَهَمُّ لِتِلْكَ الْمَحَبَّةِ.