المحاضرة 5: الْوَحْيُ، وَالْعِصْمَةُ، وَالْخُلُوُّ مِنَ الْخَطَأِ
كُلَّمَا أُثِيرَ مَوْضُوعُ سُلْطَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَخَاضَ النَاسُ فِي مُنَاقَشَاتٍ حَوْلَهُ، يَدُورُ الْحَدِيثُ حَوْلَ ثَلَاثَةِ مَفَاهِيمَ مِحْوَرِيَّةٍ. هَذِهِ الْمَفَاهِيمُ، سَأَكْتُبُهَا عَلَى السَبُّورَةِ، ثُمَّ سَنَصْرُفُ بَعْضَ الْوَقْتِ فِي تَعْرِيفِهَا. وَهِيَ تَشْمَلُ مَفْهُومَ الْوَحْيِ، وَمَفْهُومَ الْعِصْمَةِ، وَمَفْهُومَ الْخُلُوِّ مِنَ الْخَطَأِ.
قَبْلَ الِاسْتِفَاضَةِ فِي هَذِهِ الْمَفَاهِيمِ، أَوَدُّ أَنْ تُفَكِّرُوا فِي أَعْمَاقِكُمْ. مَا رُدُودُ فِعْلِكُمُ الشَخْصِيَّةُ تُجَاهَ هَذِهِ الْمَفَاهِيمِ؟ فِيمَ تُفَكِّرُونَ حِينَ تَسْمَعُونَ كَلِمَةَ "وَحْيٍ"؟ وَمَا الَذِي يَخْطُرُ بِبَالِكُمْ حِينَ تُفَكِّرُونَ فِي مُصْطَلَحِ "مَعْصُومٍ"؟ وَرُبَّمَا الْأَهَمُّ مِنْ ذَلِكَ، كَيْفَ تَتَفَاعَلُونَ فِي أَعْمَاقِكُمْ مَعَ مُصْطَلَحِ "خَالٍ مِنَ الْخَطَأِ" أَوِ "الْخُلُوِّ مِنَ الْخَطَأِ"؟ أَطْرَحُ هَذِهِ الْأَسْئِلَةَ لِسَبَبٍ. فَهُنَاكَ قَدْرٌ هَائِلٌ مِنَ الْمَشَاعِرِ الَتِي تُفْسِدُ هَذِهِ الْمُصْطَلَحَاتِ جَمِيعَهَا. وَفِي عِلْمِ اللَاهُوتِ، أَجِدُ صُعُوبَةً أَحْيَانًا أَنْ يَتَجَاوَزَ النَاسُ مَشَاعِرَهُمْ لِيَفْحَصُوا بِعِنَايَةٍ مَضْمُونَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ.
فَمَثَلًا، فِي كُلِّيَّةِ اللَاهُوتِ، حِينَ كَانَ أَحَدُهُمْ يَسْتَخْدِمُ مُصْطَلَحَ "الْخُلُوِّ مِنَ الْخَطَأِ" عَنِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، كَانَ هَذَا يَجْعَلُهُ فِي الْحَالِ أُصُولِيًّا، وَرَجْعِيًّا، وَجَاهِلًا تَمَامًا. فَيَكُونُ رَدُّ الْفِعْلِ الْمُعْتَادِ هُوَ: "كَيْفَ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِخُلُوِّ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مِنَ الْخَطَأِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، بَعْدَ التَحْلِيلِ الْأَكَادِيمِيِّ الْعَمِيقِ وَالنَقْدِ الْعِلْمِيِّ بِمِئَتَيْ سَنَةٍ؟" إِذًا، يُشْبِهُ مُصْطَلَحُ "الْخُلُوِّ مِنَ الْخَطَأِ" كَلِمَةَ شِبُّولَتْ، أَيْ إِنَّهُ صَارَ كَلِمَةً تُمَيِّزُ بَيْنَ الْفِكْرِ الْمُحَافِظِ وَعَكْسِهِ.
تَفَاقَمَ هَذَا الْوَضْعُ لِدَرَجَةِ أَنَّهُ فِي أَوَاخِرِ السَبْعِينِيَّاتِ، تَكَوَّنَتْ مُنَظَّمَةٌ فِي أَمْرِيكَا ضَمَّتْ عُلَمَاءَ مِنْ كُلِّ أَنْحَاءِ الْعَالَمِ، الْمِئَاتِ فِي الْحَقِيقَةِ، تَحْتَ رِئَاسَةِ لَجْنَةٍ تَنْفِيذِيَّةٍ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ عُضْوًا مِنْهُمْ، لِدِرَاسَةِ مَسْأَلَةِ سُلْطَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَوَحْيِهِ، وَعِصْمَتِهِ، وَخُلُوِّهِ مِنَ الْخَطَأِ. وَدُعِيَتْ هَذِهِ الْمُنَظَّمَةُ "الْمَجْلِسَ الدَوْلِيَّ لِلْعِصْمَةِ الْكِتَابِيَّةِ". وَكَرَّسَتْ نَفْسَهَا لَيْسَ فَقَطْ لِعَشْرِ سَنَوَاتٍ مِنَ الدِرَاسَةِ، بَلْ أَيْضًا لِإِصْدَارِ مَنْشُورَاتٍ مِنْ مُخْتَلِفِ الْأَنْوَاعِ وَإِقَامَةِ عِدَّةِ مُؤْتَمَرَاتٍ. وَعُقِدَ أَوَّلُ اجْتِمَاعِ قِمَّةٍ لِهَذِهِ الْمُنَظَّمَةِ فِي شِيكَاغُو فِي عَامِ 1978، حَيْثُ اجْتَمَعَ الْمِئَاتُ، وَبَحَثُوا وَنَاقَشُوا عِدَّةَ قَضَايَا مُتَعَلِّقَةٍ بِصِحَّةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. وَنَتَجَتْ عَنْ ذَلِكَ الْحَدَثِ وَثِيقَةٌ تَحْوِي بَيَانًا مُوَحَّدًا عَنِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، ثُمَّ وَثِيقَةٌ أَطْوَلُ تَحْوِي نَحْوَ عِشْرِينَ تَصْرِيحًا بِالْإِيجَابِ وَالسَلْبِ عَنِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. أَيْ تَعْرِيفَاتٍ دَقِيقَةً تَقُولُ: "نُؤَكِّدُ أَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ كَذَا، وَكَذَا"، "وَنُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ كَذَا، وَكَذَا". حَتَّى يَتَّضِحَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ مَوْقِفُهُمْ تُجَاهَ الْمَوْضُوعِ.
طُلِبَ مِنِّي كِتَابَةُ تَعْلِيقٍ عَلَى هَذَا الْحَدَثِ، وَعَنْ تِلْكَ الْوَثِيقَةِ مِنْ تَصْرِيحَاتٍ إِيجَابِيَّةٍ وَسَلْبِيَّةٍ، يَكُونُ وَجِيزًا، وَفِي مُتَنَاوَلِ الشَخْصِ الْعَادِيِّ، حَتَّى يَقْرَأَهُ، وَيَتَعَلَّمَ عَنْ بَعْضِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ الدَقِيقَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. وَهَذِهِ الْمَوَارِدُ مُتَاحَةٌ دَائِمًا، بِعُنْوَانِ Explaining Inerrancy, a Commentary، بِقَلَمْ أَرْ. سِي. سْبْرُولْ، مَعَ مُقَدِّمَةٍ بِقَلَمِ د. رُودْجِيرْ نِيكُولْ. وَأُوصِي بِهَا لِمَنْ يُحَاوِلُونَ التَعَمُّقَ فِي تَعْقِيدَاتِ هَذَا الْجَدَلِ. فَمُجَدَّدًا، حِينَ نَدْرُسُ مُصْطَلَحَ "الْخُلُوِّ مِنَ الْخَطَأِ"، وَكَيْفَ كَانَ يُسْتَخْدَمُ فِي تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ، نَجِدُهُ بَعِيدًا كُلَّ الْبُعْدِ عَنْ ذَلِكَ الْمُصْطَلَحِ السَلْبِيِّ الَذِي سَمِعْتُهُ يُرَدَّدُ فِي اسْتِخْفَافٍ وَسُخْرِيَةٍ حِينَ كُنْتُ فِي كُلِّيَّةِ اللَاهُوتِ. وَسَأَتَطَرَّقُ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ قَلِيلٍ.
لِنَتَنَاوَلْ إِذًا هَذِهِ الْمَفَاهِيمَ الثَلَاثَةَ: الْوَحْيَ، وَالْعِصْمَةَ، وَالْخُلُوَّ مِنَ الْخَطَأِ. كَمَا ذَكَرْتُ سَابِقًا، حِينَ قَالَ بُولُسُ فِي رِسَالَةِ تِيمُوثَاوِسَ الثَانِيَةِ إِنَّ كُلَّ الْكِتَابِ مُوحًى بِهِ مِنَ اللَّهِ -بِحَسْبِ تَرْجَمَةِ الْآيَةِ- ذَكَرْتُ أَنَّهُ يَجِبُ تَرْجَمَةُ الْكَلِمَةِ الَتِي اسْتَخْدَمَهَا هُنَا إِلَى "زَفِيرٍ" وَلَيْسَ إِلَى "وَحْيٍ"، لِأَنَّهُ يَلْفِتُ الِانْتِبَاهَ إِلَى مَصْدَرِ مُحْتَوَى الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، لَا إِلَى الْوَسِيلَةِ أَوِ الطَرِيقَةِ الَتِي أَعْطَى بِهَا اللَّهُ، أَوْ قَادَ، أَوْ مَكَّنَ الْكُتَّابَ الْبَشَرِيِّينَ أَنْ يُصْبِحُوا أَدَوَاتٍ أَوْ وَسَائِطَ إِعْلَانِهِ الْإِلَهِيِّ. لَكِنَّ هَذَا مَا تَعْنِيهِ كَلِمَةُ "وَحْيٍ". فِي عِلْمِ اللَاهُوتِ، لَا يُشِيرُ مُصْطَلَحُ "وَحْيٍ" إِلَى شَخْصٍ مَوْهُوبٍ بِشَكْلٍ اسْتِثْنَائِيٍّ، أَوْ حَكِيمٍ، أَوْ يَتَمَتَّعُ بِجَاذِبِيَّةٍ سَاحِرَةٍ. كَمَا حِينَ نَسْمَعُ عَازِفًا يَعْزِفُ مُوسِيقَى خَلَّابَةً، وَحِينَ يَنْتَهِي نَقُولُ: "يَا لَلرَوْعَةِ! كَانَ الْوَحْيُ نَازِلًا عَلَيْهِ". لَسْنَا نَقْصِدُ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ الْقَدِيرَ مَكَّنَهُ بِطَرِيقَةٍ فَائِقَةٍ لِلطَبِيعَةِ مِنَ الْعَزْفِ عَلَى آلَتِهِ. مَعَ أَنَّنَا رُبَّمَا نَرْغَبُ فِي قَوْلِ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ عَبَاقِرَةِ الْعَزْفِ. لَكِنْ لَيْسَ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ عِنْدَ اسْتِخْدَامِ الْكَلِمَةِ لِوَصْفِ مُمَثِّلٍ، أَوْ لَاعِبٍ، أَوْ شَخْصٍ يُقَدِّمُ أَدَاءً بَارِعًا. فَعِنْدَمَا نَتَحَدَّثُ عَنِ الْوَحْيِ فِي عِلْمِ اللَاهُوتِ، نَقْصِدُ عَمَلًا يَجْرِي بِمَعُونَةٍ إِلَهِيَّةٍ فَائِقَةٍ لِلطَبِيعَةِ. أَوْ نَقْصِدُ مُصْطَلَحَ "الْإِشْرَافِ"، حَيْثُ يُمَكَّنُ الْكَاتِبُ الْبَشَرِيُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَدَاةً لِإِعْلَانِ كَلِمَةِ اللَّهِ. هَذَا مَا نَقْصِدُهُ بِالْوَحْيِ.
فِي اللَاهُوتِ الْمَسِيحِيِّ التَقْلِيدِيِّ، لَمْ تُحَدِّدِ الْكَنِيسَةُ بِدِقَّةٍ كَيْفِيَّةَ حُدُوثِ ذَلِكَ الْوَحْيِ، أَوْ طَرِيقَةَ الْوَحْيِ. وَمَا أَكْثَرَ سُوءَ الْفَهْمَ لِهَذَا الْأَمْرِ. الْبَعْضُ، حِينَ يَسْمَعُونَ كَلِمَةَ وَحْيٍ، أَوْ الْوَحْيِ اللَفْظِيِّ لِلْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، تَخْطُرُ بِبَالِهِمْ فِي الْحَالِ فِكْرَةُ أَنَّ الْكُتَّابَ الْبَشَرِيِّينَ، عِنْدَمَا شَرَعُوا فِي كِتَابَةِ إِنْجِيلِ لُوقَا أَوْ إِنْجِيلِ يُوحَنَّا أَوْ غَيْرِهِمَا، كَانُوا فِعْلِيًّا آلَاتٍ. بِمَعْنَى أَنَّ الرُوحَ الْقُدُسَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى أَقْلَامِهِمْ بِطَرِيقَةٍ مُعْجِزِيَّةٍ، بِحَيْثُ تَجَاهَلَ، وَأَخْمَدَ، وَأَلْغَى بَشَرِيَّةَ الْكَاتِبِ تَمَامًا. فَصَارَ قَلَمُهُ شَبِيهًا بِلَوْحِ وِيجَا. وَهَذَا مَا قَدْ نُسَمِّيهِ بِالْكِتَابَةِ الْآلِيَّةِ، حَيْثُ سُلِبَ الْكَاتِبُ الْبَشَرِيُّ مِنْ بَشَرِيَّتِهِ فِي هَذِهِ الْعَمَلِيَّةِ، وَأَصْبَحَ آلَةً بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ. هَذِهِ النَظْرَةُ عَنِ الْوَحْيِ تُسَمَّى، إِذًا، الْوَحْيَ الْآلِيُّ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْكَاتِبَ الْبَشَرِيَّ اخْتُزِلَ إِلَى آلَةٍ. لَا أَعْلَمُ كَمْ مَرَّةً سَمِعْتُ أُنَاسًا يَقُولُونَ لِي: "لَا أُؤْمِنُ بِالْوَحْيِ اللَفْظِيِّ، أَيْ بِالرَأْيِ الْمُحَافِظِ، لِأَنَّنِي لَا أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ اخْتَزَلَ الْبَشَرَ إِلَى دُمًى، وَجَعَلَهُمْ آلَاتٍ". وَأَحْيَانًا يَنْفَدُ صَبْرِي، وَأَرْغَبُ فِي أَنْ أَقُولَ: "هَلْ قَرَأْتُمْ شَيْئًا عَنْ ذَلِكَ فِي تَارِيخِ الْأَدَبِ الْمَسِيحِيِّ؟ فَطَوَالَ قُرُونٍ، هَؤُلَاءِ اللَاهُوتِيُّونَ الْمَسِيحِيُّونَ، الَذِينَ قَدَّمُوا رَأْيَ الْوَحْيِ اللَفْظِيِّ، حَرَصُوا بِشِدَّةٍ عَلَى تَوْضِيحِ أَنَّ مَا لَمْ يَقْصِدُوهُ قَطْعًا بِالْإِشْرَافِ الْإِلَهِيِّ هُوَ الْوَحْيُ الْآلِيُّ".
هُنَاكَ نَظَرِيَّةٌ أُخْرَى يَرْفُضُهَا الْفِكْرُ الْمُحَافِظُ، فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَحْيِ اللَفْظِيِّ، وَتُسَمَّى نَظَرِيَّةَ الْإِمْلَاءِ. مُجَدَّدًا، إِنْ سَمِعْتُمْ مُصْطَلَحَ "الْوَحْيِ"، فَرُبَّمَا تَظُنُّونَ أَنَّ مَا يَعْنِيهِ الْوَحْيُ، أَوْ مَا يُوحِي بِهِ لَكُمْ، هُوَ أَنَّهُ بَيْنَمَا كَانَ لُوقَا جَالِسًا يَكْتُبُ الْمَخْطُوطَةَ، وَيُجَهِّزُ لَفِيفَةَ إِنْجِيلِهِ، كَانَ اللَّهُ يُمْلِي فِي أُذُنِهِ مَا يَجِبُ أَنْ يُدَوِّنَهُ، كَمَا حِينَ أَرْفَعُ سَمَّاعَةَ الْهَاتِفِ وَأَتَّصِلُ بِمَكْتَبِي، وَبِسِكْرِتِيرَتِي، لِأَقُولَ: "هَلْ يُمْكِنُكِ أَنْ تَدُوِّنِي مَا سَأَقُولُ وَتَبْعَثِي بِهَذِهِ الرِسَالَةِ؟" فَأُمْلِي عَلَيْهَا مَا يَجِبُ أَنْ تَكْتُبَهُ، كَلِمَةً بِكَلِمَةٍ، فَتَكْتُبُهُ وَتُرْسِلُ الْخِطَابَ حَامِلًا تَوْقِيعِي، وَأَحْرُفَ اسْمِهَا الْأُولَى. فَهِيَ فِعْلِيًّا الْكَاتِبَةُ، لَكِنَّهَا لَيْسَتِ الْمُؤَلِّفَةَ، لِأَنَّ كُلَّ مَا فَعَلَتْهُ هُوَ تَدْوِينُ مَا أَمْلَيْتُهُ عَلَيْهَا. فَهِيَ كَلِمَاتِي بِقَلَمِهَا.
عِنْدَمَا أَقُولُ إِنَّ الْفِكْرَ الْمُحَافِظَ لَا يُؤَيِّدُ الْوَحْيَ الْإِمْلَائِيَّ، فَإِنَّنِي أَقُولُ ذَلِكَ بِحَذَرٍ، لِأَنَّهُ فِي مَجْمَعِ تَرْنْتْ، مَثَلًا، فِي الْجَلْسَةِ الرَابِعَةِ الَتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا قَبْلًا، اسْتَخْدَمَتِ الْكَنِيسَةُ الْكَاثُولِيكِيَّةُ هَذَا الْمُصْطَلَحَ عَنِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ "دِيكْتَانْتِي" (dictante). فِي وَصْفِهَا لِلْأَصْلِ الْإِلَهِيِّ لِلْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. قَالَتِ الْكَنِيسَةُ الْكَاثُولِيكِيَّةُ إِنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ جَاءَ نَتِيجَةَ "دِيكْتَانْتِي" الرُوحِ الْقُدُسِ، أَيْ "إِمْلَاءِ" الرُوحِ الْقُدُسِ. هَا هِيَ الْكَلِمَةُ. وَإِنْ أَرَادَ أَحَدٌ إِلْقَاءَ اللَوْمِ عَلَى نَظَرِيَّةِ الْوَحْيِ الْإِمْلَائِيِّ، فَهَذَا دَلِيلٌ تَارِيخِيٌّ عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمْ، بِشَكْلٍ مَا، كَانَ يَشْغَلُ مَنْصِبًا بَارِزًا فِي مَجْمَعٍ مِنْ أَهَمِّ مَجَامِعِ الْكَنِيسَةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ، اسْتَخْدَمَ الْمُصْطَلَحَ. لَكِنْ مَعَ أَنَّ مُصْطَلَحَ "إِمْلَاءٍ" اسْتُخْدِمَ فِي تْرَنْتْ، لَمْ يَكُنْ هَمْسُ اللَّهِ بِالْكَلِمَاتِ لِكَاتِبٍ بَشَرِيٍّ، أَوْ إِمْلَاؤُهَا بِصَوْتٍ عَالٍ، هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْمُصْطَلَحِ، حَتَّى فِي تْرَنْتْ. بَلِ الْمَقْصُودُ هُوَ: "أَجَل، هُنَاكَ تَشَابُهٌ بَيْنَ الْكُتَّابِ الْبَشَرِيِّينَ وَالسِكْرِتِيرِ الْبَشَرِيِّ". كَالْفِنْ، مَثَلًا، قَالَ إِنَّ كُتَّابَ الْأَسْفَارِ كَانُوا أَشْبَهَ بِالنَاسِخِينَ، وَهِيَ كَلِمَةٌ عَتِيقَةُ الطِرَازِ تَعْنِي سِكْرِتِيرًا. فَقَدْ كَانُوا أَشْبَهَ بِسِكْرِتِيرِي اللَّهِ، لَكِنْ دُونَ تَجَاهُلِ أُسْلُوبِهِمْ الْفَرِيدِ، وَمُفْرَدَاتِهِمْ. وَلَمْ تَسْتَكْمِلِ الْكَنِيسَةُ تَوْضِيحَهَا لِطَرِيقَةِ الْوَحْيِ بِدِقَّةٍ.
الْمَفْهُومُ الثَانِي، وَهُوَ الْعِصْمَةُ، شَغَلَ بَالِي كَثِيرًا. مُجَدَّدًا، أَتَذَكَّرُ أَيَّامَ كُلِّيَّةِ اللَاهُوتِ، حَيْثُ كَانَ يُبْدَى رَدُّ فِعْلٍ عَدَائِيٍّ تُجَاهَ كَلِمَةِ "الْخُلُوِّ مِنَ الْخَطَأِ"، فِي حِينِ لَمْ يَنْشَأْ هَذَا النَوْعُ نَفْسُهُ مِنَ الِاحْتِجَاجِ الْعَنِيفِ ضِدَّ كَلِمَةِ "الْعِصْمَةِ". فِي الْوَاقِعِ، سَمِعْتُ عَنْ مُؤَسَّسَةٍ مَا أَرَادَتْ تَلْطِيفَ عَقِيدَتِهَا عَنِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ لِتَتَوَافَقَ مَعَ أَشْكَالٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ النَقْدِ، وَكَانَ بَيَانُهَا الْقَدِيمُ عَنِ الْعَقِيدَةِ يَقُولُ إِنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِخُلُوِّ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مِنَ الْخَطَأِ. فَغَيَّرُوا ذَلِكَ قَائِلِينَ إِنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِعِصْمَةِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. فَكِّرُوا فِي ذَلِكَ. فَقَدْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ خَالٍ مِنَ الْخَطَأِ، أَيْ بِلَا أَخْطَاءٍ، وَالْآنَ، لَمْ يَعُودُوا يُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ، بَلْ صَارُوا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ مَعْصُومٌ. فَقَدْ حَاوَلُوا عَمْدًا تَقْدِيمَ بَيَانٍ أَقَلَّ حِدَّةٍ. لَكِنْ مِنْ حَيْثُ مَعْنَى الْكَلِمَاتِ، أَيُّهَا السَيِّدَاتُ وَالسَادَةُ، هُمْ جَعَلُوهُ أَكْثَرَ تَشَدُّدًا، لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعْصُومٍ تَعْنِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُخْفِقَ، أَيْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَرْتَكِبَ خَطَأً، فِي حِينِ "الْخُلُوُّ مِنَ الْخَطَأِ" يَعْنِي فَقَطْ أَنَّهُ لَا يَرْتَكِبُ خَطَأً.
هَلْ يُمْكِنُ لِلْبَشَرِ، دُونَ مُسَاعَدَةِ الْإِشْرَافِ الْإِلَهِيِّ، وَدُونَ مُسَاعَدَةِ اللَّهِ الرُوحِ الْقُدُسِ، أَنْ يَفْعَلُوا شَيْئًا دُونَ أَنْ يُخْطِئُوا؟ دَعُونِي أُكَرِّرُ كَلَامِي: "هَلْ يُمْكِنُ لِإِنْسَانٍ، دُونَ أَيَّةِ مُسَاعَدَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ اللَّهِ، أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا بِلَا أَخْطَاءٍ؟" رُبَّمَا يَكُونُ أَوَّلُ رَدٍّ غَرِيزِيٍّ هُوَ: "كَلَّا، فَنَحْنُ مُمْتَلِئُونَ بِالْأَخْطَاءِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ". لَكِنْ حَاوِلُوا أَنْ تَتَذَكَّرُوا. هَلْ خَضَعْتُمْ قَبْلًا لِاخْتِبَارِ إِمْلَاءٍ فِي الْمَدْرَسَةِ الِابْتِدَائِيَّةِ وَحَصَلْتُمْ عَلَى الدَرَجَةِ النِهَائِيَّةِ؟ هَلْ خَضَعْتُمْ قَبْلًا لِاخْتِبَارِ رِيَاضِيَّاتٍ حَيْثُ كَانَ عَلَيْكُمْ حَلُّ عَشْرِ مَسَائِلَ فَكَانَتْ جَمِيعُهَا صَحِيحَةً؟ وَحَصَلْتُمْ عَلَى الدَرَجَةِ النِهَائِيَّةِ؟ لَدَيَّ طَالِبٌ فِي فَصْلِ اللَاهُوتِ يَحْصُلُ عَلَى الدَرَجَةِ النِهَائِيَّةِ مَهْمَا صَعَّبْتُ مِنَ الْأَسْئِلَةِ. حَتَّى إِنَّنِي أَكُونُ ظَالِمًا إِذَا حَذَفْتُ لَهُ دَرَجَةً. وَلَنْ أَكُونَ مُنْصِفًا. فَهُوَ يَحْصُلُ عَلَى الدَرَجَةِ النِهَائِيَّةِ، أَيْ إِنَّهُ خَالٍ مِنَ الْخَطَأِ. لَكِنَّنِي أَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مَعْصُومًا. فَخُلُوُّهُ مِنَ الْخَطَأِ مُؤَقَّتٌ. فَبِوُسْعِيِ كِتَابَةُ قَائِمَةٍ بِالْمُشْتَرَيَاتِ خَالِيَةٌ مِنَ الْأَخْطَاءِ. فَإِنْ أَرَدْتُمْ مَعْرِفَةَ السِلَعِ الثَلَاثِ الَتِي نَحْتَاجُ إِلَى شِرَائِهَا مِنَ الْمَتْجَرِ، فَقُلْتُمْ: "نَحْتَاجُ إِلَى خُبْزٍ وَجُبْنٍ وَمِلْحٍ"، فَكَتَبْتُ: "خُبْزًا، وَجُبْنًا، وَمِلْحًا". أَكُونُ قَدْ أَصَبْتُ، بِلَا أَخْطَاءٍ، أَيْ أَكُونُ خَالِيًا مِنَ الْخَطَأِ. لَا يَتَطَلَّبُ فِعْلُ ذَلِكَ مَعُونَةً خَاصَّةً مِنَ اللَّهِ. لَكِنْ حِينَ قَالَ كَارْلْ بَارْتْ إِنَّ الْخَطَأَ مِنْ شِيَمِ الْبَشَرِ، كَانَ يُدْرِكُ أَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ لَيْسَ قَائِمَةً بِالْمُشْتَرَيَاتِ تَحْوِي ثَلَاثَ سِلَعٍ، أَوْ اخْتِبَارَ تَهْجِئَةٍ مِنْ عَشَرَةِ أَسْئِلَةٍ، لَكِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِسِتَّةٍ وَسِتِّينَ سِفْرًا مَكْتُوبِينَ عَبْرَ مِئَاتِ السَنَوَاتِ، عَنْ شَتَّى الْمَوْضُوعَاتِ التَارِيخِيَّةِ، وَالْأَخْلَاقِيَّةِ، وَاللَاهُوتِيَّةِ. وَفِي ضَوْءِ اتِّسَاعِ نِطَاقِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، إِذَا تُرِكَ الْبَشَرُ لِأَنْفُسِهِمْ دُونَ مُسَاعَدَةٍ خَاصَّةٍ مِنَ اللَّهِ، فَسَأَكُونُ آخِرَ إِنْسَانٍ فِي الْعَالَمِ يَفْتَرِضُ أَنَّنَا سَنَحْصُلُ عَلَى عَمَلٍ خَالٍ مِنَ الْخَطَأِ.
لَكِنَّنِي أَقُولُ إِنَّ الْخُلُوَّ مِنَ الْخَطَأِ أَخَفُّ مِنَ الْعِصْمَةِ. فَالْخَالِي مِنَ الْخَطَأِ هُوَ شَخْصٌ لَا يُخْطِئُ، أَمَّا الْمَعْصُومُ فَهُوَ شَخْصٌ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخْطِئَ. يُمْكِنُ أَنْ أَكُونَ خَالِيًا مِنَ الْخَطَأِ مُؤَقَّتًا، لَكِنَّنِي لَمْ أَكُنْ مَعْصُومًا قَطُّ، وَلَوْ لِخَمْسِ ثَوَانٍ. لَكِنْ لِمَاذَا إِذْ يُحَاوِلُ الْبَعْضُ التَخْفِيفَ مِنَ "الْخُلُوِّ مِنَ الْخَطَأِ" يَسْتَخْدِمُونَ كَلِمَةَ مَعْصُومٍ؟ هُنَاكَ سَبَبَانِ: أَوَّلًا، لَا يَحْمِلُ الْمُصْطَلَحُ "مَعْصُومُ" كُلَّ الدَلَالَاتِ السَلْبِيَّةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِمُصْطَلَحِ "الْخُلُوِّ مِنَ الْخَطَأِ".
أَتَذَكَّرُ حِينَ اجْتَمَعَ الْمَجْلِسُ الدَوْلِيُّ لِلْعِصْمَةِ الْكِتَابِيَّةِ لِلْمَرَّةِ الْأُولَى، نَاقَشَ الْمَجْلِسُ التَنْفِيذِيُّ هَذَا السُؤَالَ: "كَيْفَ يَجِبُ أَنْ نُعَرِّفَ هَذِهِ الْمُنَظَّمَةَ؟ هَلْ نُعَرِّفُ أَنْفُسَنَا بِأَنَّنَا لَاهُوتِيُّونَ مُهْتَمُّونَ بِنَشْرِ مَفْهُومِ الْخُلُوِّ مِنَ الْخَطَأِ؟" وَأَتَذَكَّرُ أَنَّنِي عَبَّرْتُ آنَذَاكَ عَنِ اعْتِقَادِي بِأَنَّ "الْخُلُوَّ مِنَ الْخَطَأِ" مُصْطَلَحٌ غَيْرُ اسْتِرَاتِيجِيٍّ. فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَحَرَّى الدِقَّةَ فِي تَعْرِيفِهِ لِتَجَنُّبِ كُلِّ الْمَفَاهِيمِ الْمَغْلُوطَةِ عَنْهُ. وَهُنَاكَ عَدَاءٌ وَاسِعُ النِطَاقِ لِلْمُصْطَلَحِ. أَلَا يُمْكِنُنَا الْبَحْثُ عَنْ كَلِمَةٍ أَفْضَلَ غَيْرِ مُزْعِجَةٍ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، يُمْكِنُنَا فَهْمُهَا بِوُضُوحٍ؟ فَلَا تَهُمُّنَا الْمُصْطَلَحَاتُ كَالْخُلُوِّ مِنَ الْخَطَأِ، أَوْ الْعِصْمَةِ، بَلْ يَهُمُّنَا صِدْقُ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. وَأَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ صَادِقَةٌ وَجَدِيرَةٌ بِالثِقَةِ، هَذَا مِحْوَرُ اهْتِمَامِنَا. وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ صَادِقَةً وَجَدِيرَةً بِالثِقَةِ إِذَا لَمْ تَكُنْ خَالِيَةً مِنَ الْخَطَأِ؟ فَلَوْ كَانَتْ بِهَا أَخْطَاءٌ، فَهِيَ لَيْسَتْ صَادِقَةً تَمَامًا. وَلَوْ كَانَتْ بِهَا أَخْطَاءٌ، فَهِيَ غَيْرُ جَدِيرَةٍ بِالثِقَةِ تَمَامًا. لَكِنْ أَقُولُ إِنَّنَا بِحَاجَةٍ إِلَى كَلِمَةٍ أَكْثَرَ حِيَادِيَّةً. وَذَكَرَتُ أَنَّهَا أَشْبَهُ بِكَلِمَةِ شِبُّولَتْ. قَالَ جَيْ. أَيْ. بَاكِرْ (J. I Packer)، بِأُسْلُوبِهِ الْفَرِيدِ، وَبِكُلِّ تَأَنٍّ وَهُدُوءٍ، فِي لَهْجَتِهِ الْبَرِيطَانِيَّةِ: "أُفَضِّلُ مُصْطَلَحَ الْخُلُوِّ مِنَ الْخَطَأِ تَحْدِيدًا لِأَنَّهُ مِثْلُ شِبُّولَتْ". سَأَلْتُهُ: "مَاذَا تَقْصِدُ؟" أَجَابَ: "فِي زَمَنِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، أَصْبَحَتْ كَلِمَةُ شِبُّولَتْ مِثْلَ كَلِمَةِ مُرُورٍ. فَفِي الْحَرْبِ، إِذَا حَاوَلَ جَاسُوسٌ التَسَلُّلَ إِلَى الْمُعَسْكَرِ الْيَهُودِيِّ مُتَظَاهِرًا بِأَنَّهُ يَهُودِيٌّ، كُلُّ مَا كَانَ عَلَى الْحَارِسِ فِعْلُهُ هُوَ أَنْ يَقُولَ: "أَعْطِنِي كَلِمَةَ الْمُرُورِ، قُلْ شِبُّولَتْ"، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا كَانَ يَعْجِزُ عَنْ نُطْقِ شِبُّولَتْ، وَيَتَلَعْثَمُ فِي الْكَلِمَةِ. وَفَقَطِ الْيَهُودِيُّ الْحَقِيقِيُّ أَمْكَنَهُ لَفْظُهَا".
أَتَذَكَّرُ حِينَ كُنْتُ أَعِيشُ فِي هُولَنْدَا، كَانَ لَدَى الْهُولَنْدِيِّينَ اخْتِبَارُ "شِبُّولَتْ" الْخَاصُّ بِهِمْ، خِلَالَ الْحَرْبِ الْعَالَمِيَّةِ الثَانِيَةِ، لِمَنْعِ الْأَلْمَانِ مِنَ التَسَلُّلِ إِلَى أَمَاكِنَ لَمْ يَكُنْ مَسْمُوحًا لَهُمْ بِدُخُولِهَا. كَانَتْ لَدَيْهِمْ مَدِينَةٌ سَاحِلِيَّةٌ صَغِيرَةٌ تُدْعَى "شَخَافِينِيجِنْ" (Schaveningen). وَلِتَقُولَ "شَخَافِينِيجِنْ"، عَلَيْكَ إِمَّا أَنْ تَكُونَ هُولَنْدِيًّا، أَوْ أَنْ تُعَانِيَ مِنِ احْتِقَانٍ بِالْأَنْفِ. وَلَمْ يَتَمَكَّنِ الْأَلْمَانُ قَطُّ مِنْ نُطْقِ كَلِمَةِ "شَخَافِينِيجِنْ". أَتَسْمَعُونَ هَذَا؟ "شَخَافِينِيجِنْ". فَقَدْ عَجَزُوا عَنْ نُطْقِهَا. وَهَكَذَا كَانُوا يَكْشِفُونَ هُوِيَّتَهُمْ.
وَقَالَ بَاكِرٌ: "جَمِيعُ إِقْرَارَاتِ الْإِيمَانِ الْمَكْتُوبَةِ، اسْتَطَاعَ أَحَدُهُمْ فِي عَدَمِ أَمَانَةٍ إِعَادَةَ تَعْرِيفِ مُصْطَلَحَاتِهَا كَيْ تُنَاسِبَهُ، مُسْتَخْدِمًا مُصْطَلَحَاتٍ كَمَا لَمْ تُسْتَخْدَمْ مِنْ قَبْلُ". هَذِهِ عَدَمُ أَمَانَةٍ بَحْتَةٌ، وَيُؤْسِفُنِي أَنْ أَقُولَ إِنَّ هَذَا يَحْدُثُ يَوْمِيًّا فِي مَجَالِ اللَاهُوتِ. ثُمَّ قَالَ: "لَكِنْ يَقِفُ النَاسُ عَاجِزِينَ أَمَامَ مُصْطَلَحِ الْخُلُوِّ مِنَ الْخَطَأِ". فَلَنْ يَقُولَ أَحَدٌ إِنَّهُ يُؤْمِنُ بِالْخُلُوِّ مِنَ الْخَطَأِ مَا لَمْ يَكُنْ يُؤْمِنُ بِهِ بِالْفِعْلِ. فَلِمَ نُتِيحُ لَهُمْ فُرْصَةً سَهْلَةً لِلْغِشِّ؟ فَكُلُّ لَاهُوتِيٍّ يَعْرِفُ مَا يَعْنِيهِ الْخُلُوُّ مِنَ الْخَطَأِ وَمَا لَا يَعْنِيهِ، وَهِيَ كَلِمَةٌ مُعَبِّرَةٌ، وَمُهِمَّةٌ جِدًّا، وَصَالِحَةٌ تَارِيخِيًّا، فَدَعُونَا نَتَمَسَّكُ بِهَا". أَقْنَعَنِي ذَلِكَ. فَقُلْتُ: "أُحَيِّيكَ عَلَى شَجَاعَتِكَ". لَكِنَّنِي سَأَكُونُ مَرِنًا، لَا لِرَغْبَتِي فِي التَخْفِيفِ مِنْ حِدَّةِ الرَأْيِ، بَلْ لِلْحِفَاظِ عَلَى الْعَلَاقَاتِ. فَاللَاهُوتِيُّونَ قَدْ يُغَيِّرُونَ رَأْيَهُمْ أَحْيَانًا بِشَأْنِ مَسَائِلَ مُعَيَّنَةٍ، لَا لِاقْتِنَاعِهِمْ بِخَطَئِهَا، وَإِنَّمَا لِأَنَّهَا أَصْبَحَتْ عَائِقًا أَكَادِيمِيًّا.
يُبْغِضُ اللِيبْرَالِيُّونَ مُصْطَلَحَ "الْخُلُوِّ مِنَ الْخَطَأِ". وَسَيَقُولُونَ إِنَّكَ لَسْتَ أَكَادِيمِيًّا، أَوْ فَطِنًا، أَوْ عِلْمِيًّا، إِنْ قَبِلْتَ بِمُصْطَلَحٍ كَهَذَا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رَاسِخًا فِي مَعْرِفَتِكَ أَوْ فَهْمِكَ، فَرُبَّمَا تَخْشَى خَوْضَ مُنَاقَشَةٍ. أَظُنُّ أَنَّ هَذَا أَحَدُ أَسْبَابِ تَغْيِيرِ الْبَعْضِ لِلْمُصْطَلَحِ مِنَ الْخُلُوِّ مِنَ الْخَطَأِ إِلَى الْعِصْمَةِ، لِمَاذَا؟ لِأَنَّهُ مَعَ أَنَّ مُصْطَلَحَ الْعِصْمَةِ أَقْوَى فِعْلِيًّا مِنَ الْخُلُوِّ مِنَ الْخَطَأِ، لَكِنَّهُ غَيْرُ مُقْتَرِنٍ بِكُلِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْمُسْبَقَةِ. لِمَاذَا؟ أَيْنَ نَسْمَعُ عَادَةً كَلِمَةَ "مَعْصُومٍ" أَوْ "عِصْمَةٍ"؟ لَيْسَ لِوَصْفِ الْمَحْفَلِ الْعَامِّ لِلْكَنِيسَةِ الْمَشْيخِيَّةِ فِي أَمْرِيكَا، أَوْ لِوَصْفِ وَعْظِ الرَاعِي الْمَعْمَدَانِيِّ الْمَحَلِّيِّ. فَلَا أَحَدَ يَدَّعِي أَنَّهُ مَعْصُومٌ. بَلْ مَفْهُومُ "الْعِصْمَةِ" مُقْتَرِنٌ تَارِيخِيًّا بِمَاذَا؟ بِمُؤَسَّسَةِ الْكَنِيسَةِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ. نَسْمَعُ عَنْ عِصْمَةِ الْكَنِيسَةِ، وَعِصْمَةِ الْبَابَوِيَّةِ، الَتِي عَرَّفَهَا الْبَابَا بِيُوسْ التَاسِعُ فِي عَامِ 1870. وَهِيَ عَقِيدَةٌ دَافَعَ عَنْهَا، مَثَلًا، اللَاهُوتِيُّونَ الْيَسُوعِيُّونَ. وَبِغَضِّ النَظَرِ عَنْ رَأْيِكُمْ فِي اللَاهُوتِيِّينَ الْيَسُوعِيِّينَ وَالْكَاثُولِيكِيِّينَ، قَلَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ إِنَّهُمْ أَغْبِيَاءُ. لَمْ يَتَّهِمْ أَحَدٌ الْيَسُوعِيِّينَ بِالْغَبَاءِ أَوْ بِالدُونِيَّةِ الْفِكْرِيَّةِ. يَرْتَعِدُ اللِيبْرَالِيُّونَ الْبُرُوتِسْتَانْتِيُّونَ حِينَ يُضْطَرُّونَ لِمُنَاظَرَةِ يَسُوعِيٍّ. إِذًا، يَتَمَتَّعُ مُصْطَلَحُ "الْعِصْمَةِ" بِالدَعْمِ الثَقَافِيِّ مِنَ الْمِصْدَاقِيَّةِ الْفِكْرِيَّةِ لِلْعَالَمِ الْأَكَادِيمِيِّ الْكَاثُولِيكِيِّ. أَتَفْهَمُونَ مَا أَقْصِدُهُ؟ لَكِنْ مِنْ جِهَةِ مَعْنَاهُ الْفِعْلِيِّ، فَهُوَ مُصْطَلَحٌ أَقْوَى دَلَالَةً مِنْ "الْخُلُوِّ مِنَ الْخَطَأِ".
أَخِيرًا، وَقَبْلَ أَنْ أَخْتَتِمَ جُزْءَ التَعْرِيفَاتِ هَذَا، أَقُولُ إِنَّ مُشْكِلَةَ "الْخُلُوِّ مِنَ الْخَطَأِ" الْأُخْرَى هِيَ أَنَّهُ يَجِبُ تَعْرِيفُ الْمُصْطَلَحِ بِدِقَّةٍ. فَهُوَ لَا يَعْنِي عَدَمَ وُجُودِ أَخْطَاءٍ لُغَوِيَّةٍ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. وَلَا يَعْنِي أَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ دَقِيقٌ عِلْمِيًّا بِصُورَةٍ مُطْلَقَةٍ. يَعْنِي "الْخُلُوُّ مِنَ الْخَطَأِ" عَدَمَ وُجُودِ أَخْطَاءٍ فِي الْحَقِّ – وَلَا خِدَاعٍ، وَلَا تَزْيِيفٍ، وَلَا كَذِبٍ. لَكِنْ مِنَ الْمَسْمُوحِ، مَثَلًا، اسْتِخْدَامُ أَعْدَادٍ تَقْرِيبِيَّةٍ. يَقُولُ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ إِنَّ يَسُوعَ أَشْبَعَ خَمْسَةَ آلَافِ شَخْصٍ، لَكِنْ رُبَّمَا كَانَ الْعَدَدُ 4978 فَقَطْ. لَكِنَّنَا لَنْ نَعْتَبِرَ تَقْرِيرًا عَنْ حَدَثٍ تَارِيخِيٍّ، بِهِ تَقْرِيبٌ لِلْأَعْدَادِ هَكَذَا، عَلَى أَنَّهُ خَطَأٌ.
اعْتَرَضَ أَحَدُهُمْ عَلَى "الْخُلُوِّ مِنَ الْخَطَأِ" لِأَنَّ يَسُوعَ قَالَ إِنَّهُ إِنْ كَانَ لَدَيْكَ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ، سَتَقْدِرُ أَنْ تَقُولَ لِهَذَا الْجَبَلِ انْتَقِلْ، إِلَى آخِرِهِ. قَالَ يَسُوعُ إِنَّ حَبَّةَ الْخَرْدَلِ هِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبِذَارِ. وَيَقُولُ الْبَعْضُ: "مَهْلًا، هُنَاكَ بِذَارٌ أَصْغَرُ مِنْ حَبَّةِ الْخَرْدَلِ". هَلْ هُنَاكَ مَجَالٌ فِي الْحَقِّ لِلِاسْتِخْدَامِ الْأَدَبِيِّ الْمَشْرُوعِ، مَثَلًا، لِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ؟ فَحِينَ دَخَلَ يَسُوعُ مَدِينَةً مَا، قَالَ كَاتِبُ الْإِنْجِيلِ إِنَّ كَفْرَنَاحُومَ كُلَّهَا خَرَجَتْ لِلِاسْتِمَاعِ إِلَيْهِ. هَلْ هَذَا اسْتِخْدَامٌ مَشْرُوعٌ لِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ؟ أَمْ يَجِبُ أَنْ نُصِرَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَطِفْلٍ، وَكُلَّ شَخْصٍ مَرِيضٍ أَوْ بِصِحَّةٍ جَيِّدَةٍ، خَرَجَ حَقًّا مِنْ مَنْزِلِهِ وَذَهَبَ لِلِاسْتِمَاعِ إِلَى يَسُوعَ؟ مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْكَاتِبَ لَمْ يَقْصِدْ بِهَذَا أَنَّ جَمِيعَ مَنْ بِالْمَدِينَةِ خَرَجُوا. لَكِنَّهُ اسْتَخْدَمَ الصِيَغَ الْأَدَبِيَّةَ الْمُعْتَادَةَ لِنَقْلِ الْحَقِّ.
هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ الْكِتَابِيُّ عَنِ الْحَقِّ. وَكُلُّ مَا أَصَرَّ عَلَيْهِ الْفِكْرُ الْمُحَافِظُ هُوَ أَنَّ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ، فِي كُلِّ صَفْحَةٍ وَكَلِمَةٍ مِنْهُ، مُتَوَافِقٌ تَمَامًا وَبِالْكَامِلِ مَعَ تَعْرِيفِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ نَفْسِهِ لِلْحَقِّ.
فَالْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ مُوحًى بِهِ، وَمَعْصُومٌ. دَعُونِي أُصِيغُ ذَلِكَ بِشَكْلٍ آخَرَ. هُوَ مُوحًى بِهِ، إِذًا، هُوَ مَعْصُومٌ. وَهُوَ مَعْصُومٌ، إِذًا، هُوَ خَالٍ مِنَ الْخَطَأِ. وَهُوَ خَالٍ مِنَ الْخَطَأِ، إِذًا، هُوَ صَادِقٌ وَجَدِيرٌ بِالثِقَةِ تَمَامًا.