المحاضرة 8: اللغةُ التشابُهيَّةُ (الجُزْءُ الأَوَّلُ)
في دراسة علم الدفاعيات، يوضح لنا د. سبرول الجانب الرابع من الشروط الأساسية الضرورية للمعرفة - مبدأ الاستخدام التشابهي القياسي للغة. ربما هذا الشرط يبدو أنه الأكثر غموضًا للشخص العادي الذي ينخرط في قضايا تتعلق بالدفاعيات في عصرنا. يشرح د. سبرول مفهوم هذا الأمر.
بَيْنَمَا نُتَابِعُ دِرَاسَتَنَا لِعِلْمِ الدِفَاعِيَّاتِ، يُوجَدُ وَاحِدٌ مِنَ الشُرُوطِ الْأَسَاسِيَّةِ لِلْمَعْرِفَةِ لَمْ نَتَنَاوَلْهُ بَعْدُ. سَبَقَ أَنْ ذَكَرَتُ أَرْبَعَةَ مَبَادِئَ، وَهِيَ: قَانُونُ عَدَمِ التَنَاقُضِ، وَقَانُونُ السَبَبِيَّةِ، وَالْمَوْثُوقِيَّةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِلْإِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ. تَنَاوَلْنَا هَذِهِ الثَلَاثَةَ بِالْفِعْلِ. الْمَبْدَأُ الرَابِعُ، كَمَا تَذْكُرُونَ، هُوَ مَبْدَأُ الِاسْتِخْدَامِ التَشَابُهِيِّ لِلُغَةِ. رُبَّمَا هَذَا هُوَ الْمَبْدَأُ الْأَكْثَرُ غُمُوضًا بِالنِسْبَةِ لِلشَخْصِ الْعَادِيِّ الَذِي يَتَعَامَلُ مَعَ الدِفَاعِيَّاتِ فِي يَوْمِنَا هَذَا. وَلِذَا، سَأُحَاوِلُ الْيَوْمَ تَوْضِيحَ مَاهِيَّةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِرُمَّتِهَا.
تَذْكُرُونَ أَنَّ هَذِهِ اَلْعَنَاصِرَ أَوْ اَلْمَبَادِئَ هِيَ نِتَاجُ دِرَاسَتِنَا الِاسْتِقْرَائِيَّةِ لِلْإِلْحَادِ، وَفَحْصِنَا لِمَنْ رَفَضُوا الْإِيمَانَ التَّقْلِيدِيَّ بِوُجُودٍ بِاللَّهِ، وَإِصْغَائِنَا بِعِنَايَةٍ إِلَى الْحُجَجِ الَّتِي قُدِّمَتْ ضِدَّ الْإِيمَانِ الْيَهُودِيِّ-الْمَسِيحِيِّ. فَقَدْ أَشَرْتُ إِلَى وُجُودِ عَنَاصِرَ فِكْرِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لَدَى نُقَّادِ الْإِيمَانِ التَّقْلِيدِيِّ بِوُجُودِ اللَّهِ، مِثْلِ إِنْكَارِ قَانُونِ عَدَمِ التَنَاقُضِ، أَوْ إِنْكَارِ السَبَبِيَّةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْآنَ سَنَنْتَقِلُ إِلَى مَسْأَلَةِ اللُغَةِ.
فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، وَفِي الْفَلْسَفَةِ الْمُعَاصِرَةِ لِتِلْكَ الْفَتْرَةِ، شَهِدْنَا نَقْلَةً فِي الْفَلْسَفَةِ، مُتَّصِلَةً بِاللُغَةِ الْبَشَرِيَّةِ. وَمَعَ تِلْكَ النَقْلَةِ فِي بُؤْرَةِ التَرْكِيزِ الْفَلْسَفِيَّةِ، أُثِيرَ جَدَلٌ يُعْرَفُ بِاسْمِ "جَدَلِ الْكَلَامِ عَنِ اللَّهِ". رُبَّمَا لَيْسَ هَذَا الْمُصْطَلَحُ مَأْلُوفًا لَدَيْكُمْ، لَكِنْ مِنَ الْأُمُورِ الَتِي نَتَجَتْ عَنْ جَدَلِ الْكَلَامِ عَنِ اللَّهِ هُوَ حَرَكَةٌ لَاهُوتِيَّةٌ تُسَمَّى "ثِيُوثَانْتُولُوجِي". هَذِهِ كَلِمَةٌ جَدِيدَةٌ عَلَيْكُمْ. رُبَّمَا لَمْ تَسْمَعُوا بِهَذَا الْمُصْطَلَحِ قَبْلًا. مَنْ مِنْكُمْ لَمْ يَسْمَعْ قَطُّ بِمُصْطَلَحِ "ثِيُوثَانْتُولُوجِي"؟ حَسَنًا، لَمْ يَسْمَعْ بِهِ أَحَدٌ. هَذِهِ كَلِمَةٌ مُنَمَّقَةٌ تُعَبِّرُ عَنْ مَوْتِ اللَّهِ.
مَنْ مِنْكُمْ سَمِعَ بِحَرَكَةِ "مَوْتِ اللَّهِ"؟ الْآنَ أَصْبَحَ ذَلِكَ مَأْلُوفًا بَعْضَ الشَيْءِ. سَمِعْنَا فَلَاسِفَةً وَلَاهُوتِيِّينَ يُعْلِنُونَ مَوْتَ اللَّهِ فِي السِتِّينِيَّاتِ. وَوَرَاءَ حَرَكَةِ مَوْتِ اللَّهِ كَانَتْ تَكْمُنُ أَزْمَةٌ فِي فَلْسَفَةِ اللُغَةِ تَعُودُ جُذُورُهَا فِي الْأَسَاسِ إِلَى مَدْرَسَةٍ فَلْسَفِيَّةٍ ظَهَرَتْ فِي الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، مَصْدَرُهَا بْرِيطَانْيَا الْعُظْمَى، تُدْعَى الْوَضْعِيَّةَ الْمَنْطِقِيَّةَ. وَفِي الْوَضْعِيَّةِ الْمَنْطِقِيَّةِ، إِحْدَى الْفَرْضِيَّاتِ الْأَسَاسِيَّةِ هِيَ مَبْدَأٌ دُعِي قَانُونَ التَحَقُّقِ، أَوْ مَبْدَأَ التَحَقُّقِ. نَعْلَمُ مَعْنَى التَحَقُّقِ مِنَ الْأُمُورِ. فالفِعْلُ "يَتَحَقَّقُ" (to verify)، الَذِي يَأْتِي مِنْ كَلِمَةِ "veritas" الَتِي مَعْنَاهَا "حَقٌّ"، مَعْنَاهُ التَأَكُّدُ مِنْ صِحَّةِ الشَيْءِ، أَوْ إِثْبَاتُ صِحَّةِ الشَيْءِ. فَإِذَا قَدَّمْتُ ادِّعَاءً دُونَ أَنْ أَدْعَمَهُ بِالْبَرَاهِينِ، يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ صِحَّةَ ادِّعَائي لَمْ تُثْبَتْ بَعْدُ. وَإِذَا أَمْكَنَنِي إِظْهَارُ صِحَّةِ ادِّعَائِي، أَكُونُ قَدْ أَثْبَتُّهُ.
وَمَبْدَأُ التَحَقُّقِ الْمُتَضَمَّنُ فِي الْوَضْعِيَّةِ الْمَنْطِقِيَّةِ هُوَ كَالتَالِي: "التَصْرِيحَاتُ الْوَحِيدَةُ الَتِي تُحْسَبُ صَحِيحَةً هِيَ الَتِي يُمْكِنُ التَحَقُّقُ مِنْهَا تَجْرِيبِيًّا". بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، التَصْرِيحَاتُ الَتِي يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا تَجْرِيبِيًّا هِيَ وَحْدَهَا التَصْرِيحَاتُ الصَحِيحَةُ. وَالتَحَقُّقُ مِنْ تَصْرِيحٍ مَا تَجْرِيبِيًّا يَعْنِي إِثْبَاتَ صِحَّتِهِ بِالْإِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ، أَيْ بِالنَظَرِ وَالسَمْعِ، إِلَى آخِرِهِ. إِذَا قُلْتُ لَكُمْ: "يُوجَدُ ذَهَبٌ فِي أَلَاسْكَا"، فَالْوَسِيلَةُ الْوَحِيدَةُ التِي يُمْكِنُ أَنْ أَثْبِتَ بِهَا صِحَّةَ ذَلِكَ الِادِّعَاءِ هِيَ الذَهَابُ إِلَى أَلَاسْكَا وَالْبَحْثُ عَنِ الذَهَبِ. وَسَأُثْبِتُ عِلْمِيًّا، وَأُبَرْهِنُ تَجْرِيبِيًّا، أَنَّهُ يُوجَدُ ذَهَبٌ هُنَاكَ، عِنْدَمَا أُعْثُرُ عَلَيْهِ وَأُرِيكُمْ إِيَّاهُ، لِتَرَوْهُ بِأَعْيُنِكُمْ، وَتَلْمِسُوهُ بِأَصَابِعِكُمْ، إِلَى آخِرِهِ. هَذَا مَا نَعْنِيهِ بِالتَحَقُّقِ التَجْرِيبِيِّ، أَيْ إِثْبَاتِ صِحَّةِ الشَيْءِ عَنْ طَرِيقِ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ.
هَذَا الْمَبْدَأُ أَحْدَثَ تَأْثِيرًا كَبِيرًا فِي الْمُجْتَمَعِ الْفَلْسَفِيِّ لِبَعْضِ الْوَقْتِ، إِلَى أَنْ لَاحَظَ أَحَدُهُمْ مَا كَانَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ وَاضِحًا مُنْذُ الْبِدَايَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَتِ التَصْرِيحَاتُ الصَحِيحَةُ هِيَ فَقَطْ الَتِي يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا تَجْرِيبِيًّا، فَهَذَا يَعْنِي أَنَّ قَانُونَ التَحَقُّقِ نَفْسَهُ لَيْسَ صَحِيحًا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَحَقُّقُ مِنْ قَانُونِ التَحَقُّقِ تَجْرِيبِيًّا. فَهُوَ مُجَرَّدُ فَرْضِيَّةٍ لَيْسَ لَهَا مُبَرِّرٌ. وَبِذَلِكَ، انْسَحَبَتْ هَذِهِ الْمَدْرَسَةُ الْفِكْرِيَّةُ وَهِيَ تَجُرُّ أَذْيَالَ الْخَيْبَةِ. لَكِنْ رَغْمَ هَذِهِ الْعَقَبَةِ، وَهَذَا الْخَطَأِ الْوَاضِحِ فِي مَبْدَأِ التَحَقُّقِ، ظَلَّتْ أَسْلِحَةُ النَقْدِ مُصَوَّبَةً نَحْوَ الْإِيمَانِ التَقْلِيدِيِّ بِوُجُودِ اللَّهِ، مِنْ حَيْثُ لُغَةِ الْكَلَامِ عَنِ اللَّهِ. وَقَالَ النُقَّادُ إِنَّ التَصْرِيحَاتِ عَنِ اللَّهِ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُهَا عِلْمِيًّا بِأَيِّ حَالٍ، لِأَنْ لَا أَحَدَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى اللَّهَ، وَلَا يُمْكِنُ إِخْضَاعُ اللَّهِ لِلتَّجَارِبِ، أَوْ لِلتَحْلِيلِ الْمِخْبَرِيِّ. وَبِالتَالِي، تَظَلُّ فِكْرَةُ اَللَّهِ غَيْرَ قَابِلَةٍ لِلْإِثْبَاتِ أَوِ التَحَقُّقِ. لَيْسَ هَذَا فَحَسْبُ، لَكِنَّهَا أَيْضًا غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلتَكْذِيبِ. هَذَا أَمْرٌ خَطِيرٌ.
يَشْعُرُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِالرَاحَةِ لِأَنَّ الْأُمُورَ الَتِي يَقُولُونَ إِنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهَا لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ خَطَأِهَا. لَكِنَّ مُجَرَّدَ عَدَمِ التَمَكُّنِ مِنْ إثْبَاتِ خَطَأِ شَيْءٍ مَا لَا يَعْنِي أَنَّهُ صَحِيحٌ. فَمَثَلًا، إذَا قُلْتُ إنَّنِي أُؤْمِنُ بِالْأَشْبَاحِ، فَسَأَلَنِي أَحَدُهُمْ: "هَلْ رَأَيْتَ شَبَحًا مِنْ قَبْلُ؟" سَأُجِيبُ: "كَلًّا، لَكِنَّنِي أُؤْمِنُ بِوُجُودِهَا". "وَهَلْ لَدَيْنَا أَيُّ دَلِيلٍ عِلْمِيٍّ عَلَى وُجُودِ الْأَشْبَاحِ؟" سَأُجِيبُ: "كَلَّا، لَكِنْ ثَمَّةَ سَبَبٌ لِذَلِكَ. فَالْأَشْبَاحُ لَا تُحِبُّ الْعُلَمَاءَ. وَكُلَّمَا ظَهَرَ الْعُلَمَاءُ وَمَعَهُمْ أَيُّ نَوْعٍ مِنْ أَجْهِزَةِ الْقِيَاسِ الْقَادِرَةِ عَلَى رَصْدِ وُجُودِ الْأَشْبَاحِ، يَرْحَلُ الْأَشْبَاحُ، لِأَنَّ جُزْءًا مِنْ طَبِيعَتِهِمْ كَأَشْبَاحٍ هُوَ الْهُرُوبُ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَلِهَذَا لَمْ يَتَمَكَّنِ الْعُلَمَاءُ قَطُّ مِنْ إِثْبَاتِ وُجُودِهَا". أَوْ الْأَمْرُ أَشْبَهَ بِقَوْلِنَا إِنَّهُ يُوجَدُ بَشَرٌ مَصْنُوعُونَ مِنْ الْجُبْنِ الْأَخْضَرِ، يَعِيشُونَ عَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مِنَ الْقَمَرِ، وَلَدَيْهِمْ النَوْعُ ذَاتُهُ مِنْ الْحَسَاسِيَةِ تُجَاهَ التِلِسْكُوبِ. فَكُلَّمَا صُوِّبَ تِلِسْكُوبٌ نَحْوَهُمْ، يَهْرُبُونَ. وَلِهَذَا لَا نَرَاهُمْ أَبَدًا.
فَإِنِ افْتَرَضَ أَحَدُهُمْ مُعْتَقَدًا كَهَذَا، لَنْ يَسْتَطِيعَ إِثْبَاتَ صِحَّةِ فَرْضِيَّتِهِ، لَكِنْ أَيْضًا لَنْ يَسْتَطِيعَ أَحَدٌ إِثْبَاتَ خَطَئِهِ، لِأَنَّ اسْتِحَالَةَ تَكْذِيبِ هَذَا التَصْرِيحِ مُدْمَجَةٌ دَاخِلَ الْفَرْضِيَّةِ. أَتَفْهَمُونَ ذَلِكَ؟ هَذَا مَا نُسَمِّيهِ بِالْغِشِّ فِي الْمَجَالِ النَظَرِيِّ لِلْفِكْرِ. إِذَنْ، نُدْرِكُ فِي الْفَلْسَفَةِ أَنَّ تَكْذِيبَ تَصْرِيحٍ مَا كَثِيرًا مَا يَكُونُ أَصْعَبَ جِدًا مِنْ إِثْبَاتِ صِحَّتِهِ. لِنَرْجِعْ مَثَلًا إِلَى مِثَالِنَا عَنْ وُجُودِ الذَهَبِ فِي أَلَاسْكَا. إِذَا قُلْتُ لَكُمْ: "يُوجَدُ ذَهَبٌ فِي أَلَاسْكَا، وَأَسْتَطِيعُ إثْبَاتَ ذَلِكَ"، فَكُلُّ مَا عَلَيَّ فِعْلُهُ لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ هُوَ الذَهَابُ إلَى أَلَاسْكَا، وَالْعُثُورُ عَلَى بَعْضِ الذَهَبِ هُنَاكَ. وَعِنْدَئِذٍ، أَكُونُ قَدْ أَثْبَتُّ صِحَّةَ تَصْرِيحِي. لَكِنْ لِنَفْتَرِضْ أَنَّ أَحَدَهُمْ قَالَ: "لَا يُوجَدُ ذَهَبٌ فِي أَلَاسْكَا"، أَوْ عَلَى الْعَكْسِ، إِذَا حَاوَلَ أَحَدُهُمْ إِثْبَاتَ عَدَمِ وُجُودِ ذَهَبٍ فِي أَلَاسْكَا، أَيْ أَرَادَ بِتَعْبِيرٍ آخَرَ تَكْذِيبَ ادِّعَائِيٍّ وُجُودَ ذَهَبٍ فِي أَلَاسْكَا، فَذَهَبَ إِلَى أَلَاسْكَا وَدَخَلَ أَوَّلَ مَدِينَةٍ هُنَاكَ، وَبَحَثَ حَوْلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ أَيَّ ذَهَبٍ. فَهَلْ يُثْبِتُ ذَلِكَ عَدَمَ وُجُودِ ذَهَبٍ فِي أَلَاسْكَا؟ فَمَا الْمِسَاحَةُ الَتِي عَلَيْهِ التَنْقِيبُ فِيهَا فِي أَلَاسْكَا لِيَثْبُتَ عَدَمُ وُجُودِ ذَهَبٍ هُنَاكَ؟ أَلَاسْكَا كُلُّهَا! أَيْ كُلُّ مِتْرٍ مُرَبَّعٍ مِنْ أَلَاسْكَا. وَمَا مَدَى عُمْقِ أَرْضِ أَلَاسْكَا؟ وَإِلَى أَيِّ عُمْقٍ عَلَيْكَ أَنْ تَحْفِرَ حَتَّى تَتَمَكَّنَ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّكَ نَقَّبْتَ فِي أَلَاسْكَا كُلِّهَا؟ وَلْنَفْتَرِضْ أَنَّك فَعَلْتَ ذَلِكَ، ثُمَّ بَعْدَمَا فَعَلْتَ كُلَّ مَا يَلْزَمُ، قُلْتَ: "لَقَدْ حَفَرْنَا كُلَّ مِتْرٍ مُرَبَّعٍ فِي أَلَاسْكَا، وَلَمْ نَسْتَطِعِ الْعُثُورَ عَلَى جْرَامِ ذَهَبٍ وَاحِدٍ. وَبِذَلِكَ، نَكُونُ قَدْ نَجَحْنَا فِي تَكْذِيبِ ادِّعَاءِ وُجُودِ ذَهَبٍ فِي أَلَاسْكَا". سَأُجِيبُكَ: "مَهْلًا، كَيْفَ تَأَكَّدْتَ أَنَّكَ حِينَ هَزَزْتَ الْغِرْبَالَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَدِينَةِ أَنْكُورِيجْ، لِتَصْفِيَةِ التُرَابِ الَذِي تَفْحَصُهُ، لَمْ تَغْفَلْ عَنْ ذَرَّةِ ذَهَبٍ سَقَطَتْ مِنَ الْغِرْبَالِ؟ مِنْ الْأَفْضَلِ أَنْ تَعُودَ لِفَحْصِهِ ثَانِيَةً". وَيُمْكِنُ الِاسْتِمْرَارُ فِي فِعْلِ ذَلِكَ إِلَى الْأَبَدِ. بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، التَكْذِيبُ تَجْرِيبِيًّا أَصْعَبُ كَثِيرًا مِنْ إِثْبَاتِ صِحَّةِ الشَيْءِ.
لَكِنَّ اَلْأَمْرَ يَخْتَلِفُ فِي الْمَنْطِقِ. فَإِذَا انْتَهَكَ تَصْرِيحٌ مَا قَانُونَ التَنَاقُضِ، يَكُونُ التَصْرِيحُ أَوْ الْحُجَّةُ خَاطِئَةً دُونَ صُعُوبَةٍ كَبِيرَةٍ. لَكِنْ بِسَبَبِ الْمُشْكِلَةِ الَتِي تُوَاجِهُنَا مَعَ اللَّهِ، وَهِيَ أَنْ لَا أَحَدَ رَأَى اَللَّهَ قَطُّ، وَأَنَّنَا لَا نَسْمَعُ صَوْتَهُ، وَلَيْسَ لَدَيْنَا أَيُّ دَلِيلٍ عِلْمِيٍّ، إِنْ جَازَ التَعْبِيرُ، عَلَى وُجُودِهِ، يَكُونُ إِيمَانُنَا بِاللَّهِ مَبْنِيًّا إِذَنْ عَلَى حُجَّةٍ مَنْطِقِيَّةٍ دُونَ أَدِلَّةٍ مَادِّيَّةٍ، أَوْ عَلَى اسْتِنْتَاجَاتٍ نَسْتَخْلِصُهَا مِمَّا نَرَاهُ، كَالْكَوْنِ الْمَخْلُوقِ. فَإِنَّنَا نَنْظُرُ إِلَى الْكَوْنِ، وَنَسْتَنْتِجُ مِنْهُ وُجُودَ خَالِقٍ أَعْلَى وَأَسْمَى مِنَ الْكَوْنِ، هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْكَوْنَ. وَالسُؤَالُ هُنَا هُوَ هَلْ هَذَا النَوْعُ مِنَ التَفْكِيرِ سَلِيمٌ؟ سَنَتَطَرَّقُ إِلَى ذَلِكَ فِي جُزْءٍ لَاحِقٍ مِنْ هَذِهِ السِلْسِلَةِ.
لَكِنْ، قَالَ النُقَّادُ وَالشُكُوكِيُّونَ فِي مُنْتَصَفِ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ إِنَّهُ بِسَبَبِ عَدَمِ وُجُودِ أَيِّ دَلِيلٍ مَادِّيٍّ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ، وَبِاتِّبَاعِ الْمَبَادِئِ الْأَسَاسِيَّةِ لِلتَحَقُّقِ، تَكُونُ التَصْرِيحَاتُ عَنِ اللَّهِ عَاطِفِيَّةً فِي أَحْسَنِ أَحْوَالِهَا. أَيْ إِنَّ اللُّغَةَ عَنْ اللَّهِ مُجَرَّدُ لُغَةٍ عَاطِفِيَّةٍ. فَحِينَ أَقُولُ إِنَّنِي أُؤْمِنُ بِاللَّهِ، لَسْتُ أَقُولُ بِهَذَا كَلَامًا لَهُ مَعْنًى عَمَّا يَقَعُ خَارِجَ نَفْسِي. لَكِنَّنِي فَقَطْ أُخْبِرُكُمْ بِشَيْءٍ عَنْ نَفْسِي، وَهُوَ أَنَّنِي مُؤْمِنٌ، وَأَنَّ لَدَيَّ عَاطِفَةً أَوْ مَشَاعِرَ مُرْتَبِطَةً بِفِكْرَةِ وُجُودِ اللَّهِ. أَخْبَرْتُكُمْ قَبْلًا عَنِ الْحَدِيثِ الَذِي دَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ إِحْدَى الطَالِبَاتِ بِالْجَامِعَةِ مُنْذُ عِدَّةِ سَنَوَاتٍ، حِينَ سَأَلَتْنِي مَا إِذَا كُنْتُ أُؤْمِنُ بِاللَّهِ، فَأَجَبْتُهَا: "نَعَمْ". فَسَأَلَتْنِي: "حَسَنًا، إِذَا كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ، فَهَلْ تُصَلِّي إلَى اللَّهِ؟" أَجَبْتُهَا: "أَجَلْ". "وَهَلْ تُرَنِّمُ عَنْهُ؟" "أَجَلْ". "وَهَلْ تَذْهَبُ إلَى الْكَنِيسَةِ؟" "أَجَلْ، أَفْعَلُ كُلَّ ذَلِكَ". "وَهَلْ تَقْرَأُ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ؟" "أَجَلْ". "وَهَلْ يَعْنِي لَكَ ذَلِكَ شَيْئًا؟" "أَجَلْ، هَذَا يَعْنِي لِي الْكَثِيرَ". فَقَالَتِ الطَالِبَةُ: "إِذَنْ، بِالنِسْبَةِ إلَيْكَ، اللَّهُ مَوْجُودٌ". ثُمَّ قَالَتْ: "لَكِنَّنِي لَا أُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَلَا أُنْشِدُ التَرَانِيمَ، وَلَا أُصَلِّي، وَلَا أَقْرَأُ الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ، وَلَا أَجِدُ لِهَذِهِ الْفِكْرَةِ أَيَّ مَعْنًى أَوْ أَهَمِّيَّةً شَخْصِيَّةً بِالنِسْبَةِ إلَيَّ. إِذَنْ، بِالنِّسْبَةِ إلَيَّ، اللَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ". قَطْعًا، هَذِهِ فَلْسَفَةٌ نِسْبِيَّةٌ بِلَا مُنَازِعٍ. فَأَجَبْتُهَا: "لَكِنَّنَا لَا نَتَحَدَّثُ عَنِ الشَيْءِ ذَاتِهِ". فَسَأَلَتْنِي: "مَاذَا تَقْصِدُ؟" أَجَبْتُهَا: "حِينَ أُؤَكِّدُ وُجُودَ اللَّهِ، أُؤَكِّدُ وُجُودَ كَائِنٍ مَوْجُودٍ بِاسْتِقْلَالٍ عَنِّي، وَخَارِجَ نَفْسِي. فَهُوَ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ ذَاتِيَّتِي، أَوْ تَكْوِينِي الْعَاطِفِيِّ. وَأَقُولُ إِنَّ هَذَا الْإِلَهَ الَذِي أُنَادِي بِهِ، إِذَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ مُسْتَقِلًّا عَنِّي، فَكُلُّ صَلَاتِي لَهُ، وَتَرْنِيمِي، وَقِرَاءَتِي عَنْهُ، وَإِيجَادِ مَعْنًى لِحَيَاتِي فِي الْإِيمَانِ بِهِ، كُلُّ هَذَا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُقَهُ. وَأَكُونَ بِبَسَاطَةٍ مُتَوَهِّمًا ومُخْطِئًا. فِي الْمُقَابِلِ، الْإِلَهُ الَّذِي أَتَكَلَّمُ عَنْهُ، إِذَا كَانَ مَوْجُودًا، فَكُلُّ عَدَمِ إِيمَانِكِ وَعَدَمِ اكْتِرَاثِكِ بِهِ، وَاعْتِبَارِكِ بِأَنَّهُ لَا يَعْنِي لَكِ شَيْئًا، لَا يَقْدِرُ أَنْ يُبِيدَهُ.
هَذَا مَا نَتَحَدَّثُ عَنْهُ. فَلْنَضَعْ فِي اعْتِبَارِنَا أَنَّنَا عِنْدَمَا نُنَاقِشُ وُجُودَ اللَّهِ، فَإِنَّنَا نَتَكَلَّمُ عَنِ الْوُجُودِ الْمَوْضُوعِيِّ لِلَّهِ، وَلَيْسَ عَنْ مَشَاعِرِي الشَخْصِيَّةِ تِجَاهَ الْأَمْرِ. لَكِنَّ هَذِهِ الْحَرَكَةَ اللَّاهُوتِيَّةَ وَالْفَلْسَفِيَّةَ قَالَتْ إِنَّ الْكَلَامَ عَنِ اللَّهِ يُمْكِنُ اخْتِزَالُهُ بِبَسَاطَةٍ إِلَى عَوَاطِفَ بَشَرِيَّةٍ، وَإِنَّ التَّصْرِيحَاتِ عَنِ اللَّهِ لَا تَقُولُ شَيْئًا لَهُ مَعْنًى عَنِ الْوَاقِعِ الْمَوْضُوعِيِّ الْمَوْجُودِ خَارِجَ الَذِينَ يُدْلُونَ بِالتَصْرِيحَاتِ. هَذَا تَوَجُّهٌ شُكُوكِيٌّ تُجَاهَ وُجُودِ اللَّهِ. وَسَيَكُونُ عَلَيَّ أَنْ أَسَأَلَ: "مَا اَلَّذِي يَكْمُنُ وَرَاءَ ذَلِكَ؟"
مِنَ الْأُمُورِ الرَئِيسِيَّةِ الْكَامِنَةِ وَرَاءَ ذَلِكَ هُوَ الصِرَاعُ الَذِي دَارَ فِي الْفَلْسَفَةِ وَعِلْمِ اللاهُوتِ، فِي الْقَرْنَيْنِ التَاسِعَ عَشَرَ وَالْعِشْرِينَ. فِي الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ، وَبَعْدَ حَرَكَةِ التَنْوِيرِ، شَهِدْنَا مُحَاوَلَةً كُبْرَى بَيْنَ الْفَلَاسِفَةِ وَاللَاهُوتِيِّينَ لِإِعَادَةِ تَعْرِيفِ الدِينِ، وَإِعَادَةِ تَعْرِيفِ الْمَسِيحِيَّةِ التَقْلِيدِيَّةِ بِصِفَةٍ خَاصَّةٍ، بِاسْتِخْدَامِ مُفْرَدَاتِ الْمَذْهَبِ الطَبِيعِيِّ. تَذَكَّرُوا أَنَّ أَهَمَّ تَصْرِيحٍ لِحَرَكَةِ التَنْوِيرِ فِي الْقَرْنِ الثَامِنَ عَشَرَ، أَيْ مَبْدَأِ فِكْرِ التَنْوِيرِ، هُوَ أَنَّ فَرْضِيَّةَ اللَّهِ - أَوْ فِكْرَةَ اللَّهِ - لَمْ تَعُدْ ضَرُورِيَّةً لِتَفْسِيرِ وُجُودِ وَأَصْلِ الْكَوْنِ، أَوْ أَصْلِ الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ. فَقَبْلَ اَلتَنْوِيرِ، حَتَّى اَلْعَلْمَانِيُّونَ أَنْفُسُهُمْ كَانُوا مُنْبَهِرِينَ لِلْغَايَةِ بِالْحُجَجِ التَّقْلِيدِيَّةِ اَلْمُؤَيِّدَةِ لِوُجُودِ اَللَّهِ، بِاعْتِبَارِهَا مُسْلَّمَاتٍ ضَرُورِيَّةً لِتَفْسِيرِ اَلْكَوْنِ، وَتَفْسِيرِ اَلْحَيَاةِ اَلْبَشَرِيَّةِ. وَفَقَطْ فِي حَرَكَةِ التَنْوِيرِ، أَحْدَثَ بَدِيلٌ مَعْقُولٌ لِلْخَلْقِ تَأْثِيرًا عَلَى الْفِكْرِ الْغَرْبِيِّ، وَلَا سِيَّمَا فِي أَلْمَانْيَا، وَإِنْجِلْتِرَا، وَفَرَنْسَا، بِظُهُورِ الْعُلَمَاءِ الْفَرَنْسِيِّينَ.
لَمْ يُوَافِقِ الْجَمِيعُ فِي عَصْرِ التَنْوِيرِ عَلَى هَذِهِ الْمَبَادِئِ كُلِّهَا، وَكَانَ الْعُلَمَاءُ الْفَرَنْسِيُّونَ هُمُ الْأَكْثَرُ تَمَسُّكًا بِهَا، وَلَا سِيَّمَا دِيدْرُو، الَذِي عَرَّفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ "الْعَدُوُّ الشَخْصِيُّ لِلَّهِ". وَقَالَ هَؤُلَاءِ: "لَمْ نَعُدْ بِحَاجَةٍ إِلَى تَأْيِيدِ وُجُودِ اللَّهِ، لِأَنَّنَا بِمَجِيءِ الْعِلْمِ الْحَدِيثِ، صِرْنَا نَعْلَمُ أَنَّ الْكَوْنَ وَالْحَيَاةَ الْبَشَرِيَّةَ وَكُلَّ شَيْءٍ آخَرَ جَاءَ مِنْ خِلَالِ التَوَلُّدِ التِلْقَائِيِّ". أَصْبَحَ ذَلِكَ هُوَ الْبَدِيلُ الْمَقْبُولُ عِلْمِيًّا لِلْخَلْقِ فِي فِكْرِ التَنْوِيرِ، وَهُوَ فِكْرَةُ التَوَلُّدِ التِلْقَائِيِّ، أَيْ إِنَّ الْأَشْيَاءَ وُجِدَتْ فَجْأَةً مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهَا. فِي جُزْءٍ لَاحِقٍ مِنْ هَذِهِ السِلْسِلَةِ، سَنَتَنَاوَلُ هَذَا الْمَفْهُومَ بِالتَفْصِيلِ. لَكِنَّنِي الْآنَ أُحَاوِلُ تَفْسِيرَ مَصْدَرِ هَذِهِ الْأَزْمَةِ اللُغَوِيَّةِ.
فِي الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ، وَفِي أَعْقَابِ نَقْدِ فِكْرِ التَنْوِيرِ لِلْإِيمَانِ بِوُجُودِ اللَّهِ - وَكَانَ هَذَا نَقْدًا لِلْإِيمَانِ بِمَا هُوَ فَائِقٌ لِلطَبِيعَةِ - سَعَتِ الْفَلْسَفَةُ وَاللَاهُوتُ فِي الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ إِلَى التَكَيُّفِ مَعَ هَذَا النَوْعِ مِنَ الشُكُوكِيَّةِ، بِإِعَادَةِ صِيَاغَةِ الْمَسِيحِيَّةِ بِمُفْرَدَاتِ الْمَذْهَبِ الطَبِيعِيِّ. وَبِالتَالِي، رَفَضَتْ لِيبْرَالِيَّةُ الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ كُلَّ مَا هُوَ فَائِقٌ لِلطَبِيعَةِ فِي الْمَسِيحِيَّةِ التَقْلِيدِيَّةِ، مِثْلَ نُبُوَّاتِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ الَتِي قِيلَتْ قَبْلَ وُقُوعِ الْأَحْدَاثِ. وَبَعْدَ فَحْصِهَا قَالُوا: "هَذِهِ نِتَاجُ قِيَامِ مُحَرِّرِينَ لَاحِقِينَ بِإِقْحَامِ ظُرُوفِهِمْ الْمُعَاصِرَةِ عَلَى النَصِّ. وَبِالتَالِي، لَا وُجُودَ لِأَيِّ عُنْصُرٍ فَائِقٍ لِلطَبِيعَةِ، كَالنُبُوَّاتِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ". فَرُفِضَ الْمِيلَادُ الْعَذْرَاوِيُّ لِلْمَسِيحِ، لِأَنَّهُ فَائِقٌ لِلطَبِيعَةِ. ورُفِضَتِ الْكَفَّارَةُ كَحَدَثٍ كَوْنِيٍّ، لِأَنَّهَا فَائِقَةٌ لِلطَبِيعَةِ. كَمَا رُفِضَتْ كُلُّ مُعْجِزَاتِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، سَوَاءٌ فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ أَوْ الْجَدِيدِ، بِاعْتِبَارِهَا إِضَافَاتٍ أُسْطُورِيَّةً إِلَى الْوَثَائِقِ التَارِيخِيَّةِ، إِلَى آخِرِهِ. وَرُفِضَتْ قِيَامَةُ الْمَسِيحِ. وَأَصْبَحَ مَعْنَى الْمَسِيحِيَّةِ هُوَ أَنْ تُحِبَّ قَرِيبَكَ، وَتَضَعَ بَرْنَامَجًا لِلْأَعْمَالِ الْاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ، عَلَى الصَعِيدِ الطَبِيعِيِّ، دُونَ إِيمَانٍ بِمَا هُوَ فَائِقٌ لِلطَبِيعَةِ.
هَذَا اَلْمَفْهُومُ عَنْ دِيَانَةٍ ذَاتِ طَابَعٍ طَبِيعِيٍّ، اقْتَرَنَ أَيْضًا بِالْفَلْسَفَةِ فِي الْقَرْنِ التَاسِعَ عَشَرَ، التِي كَانَتْ ذَاتَ طَابَعٍ تَطَوُّرِيٍّ إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ، وَهُوَ مَا يُدْعَى "الْحُلُولِيَّةَ"، بِمَعْنَى أَنَّ اللَّاهُوتَ الَذِي سَادَ هُوَ وَحْدَةُ الْوُجُودِ. يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ أَسْمَى مِنَ الْكَوْنِ، وَإِنَّمَا إِذَا كَانَ اللَّهُ مَوْجُودًا، فَهُوَ جُزْءٌ مِنَ الْكَوْنِ. نُدْرِكُ أَنَّ مَذْهَبَ وَحْدَةِ الْوُجُودِ فِي أَبْسَطِ صُوَرِهِ يَعْنِي أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ. فَالْكُلُّ هُوَ اللَّهُ، وَاَللَّهُ هُوَ الْكُلُّ. فَكِّرُوا فِي الْأَمْرِ لُغَوِيًّا. لَوْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ، وَاَللَّهُ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ، فَكَلِمَةُ اللَّهِ نَفْسُهَا لَنْ تُشِيرَ إِلَى شَيْءٍ مُحَدَّدٍ. فَلَوْ كَانَتْ تُشِيرُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ بِوَجْهٍ عَامٍّ، لَنْ تُشِيرَ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ بِوَجْهٍ خَاصٍّ. وَبِالتَالِي، لَنْ يَكُونَ لِكَلِمَةِ "اللَّهِ" مَعْنًى أَوْ مَدْلُولٌ خَاصٌّ. وَبِهَذَا الْمَفْهُومِ الْحُلُولِيِّ، تَنْشَأُ أَزْمَةٌ لُغَوِيَّةٌ، تَتَعَلَّقُ بِمَا إِذَا كَانَ بِإِمْكَانِنَا قَوْلُ أَيِّ شَيْءٍ لَهُ مَعْنًى عَنِ اللَّهِ.
أَحْدَثَ ذَلِكَ أَزْمَةً فِي الْفَلْسَفَةِ وَاللَاهُوتِ. وَفِي مَطْلَعِ الْقَرْنِ الْعِشْرِينَ، نَشَأَ فِي أُورُوبَّا رَدُّ فِعْلٍ مُضَادٌّ لِلِّيبْرَالِيَّةِ، فِي مُحَاوَلَةٍ لِاسْتِعَادَةِ تَسَامِي اللَّهِ، أَيْ سُمُوِّ اللَّهِ عَلَى الْكَوْنِ وَعَلَى مَجْرَى التَارِيخِ. وَهَذِهِ الْمُحَاوَلَةُ مِنْ جَدِيدٍ لِتَحْرِيرِ الْمَسِيحِيَّةِ مِنَ اللِيبِرَالِيَّةِ، وَإِعَادَةِ مَا هُوَ فَائِقٌ لِلطَبِيعَةِ إِلَيْهَا، فَعَلَتْ مَا يُفْعَلُ عَادَةً فِي أَيَّةِ مُحَاوَلَةٍ لِتَصْحِيحِ خَطَأٍ، حَيْثُ يَمِيلُ الْبَنْدُولُ نَحْوَ الطَرَفِ الْآخَرِ بِإِفْرَاطٍ. وَبِهَذَا، خَرَجَ الْفَلَاسِفَةُ وَاللَّاهُوتِيُّونَ الَذِينَ تَحَدَّثُوا عَنْ تَسَامِي اللَّهِ بِلُغَةٍ مِثْلِ: أَنَّ اَللَّهَ آخَرُ، وَأَنَّ اَللَّهَ مُخْتَلِفٌ تَمَامًا عَنِ الْكَوْنِ. فَلِلْهُرُوبِ بِقُوَّةٍ وَسُرْعَةٍ مِنْ مُسَاوَاةِ اللَّهِ بِالْكَوْنِ، كَمَا فَعَلَ مَذْهَبُ وَحْدَةِ الْوُجُودِ، نَقُولُ إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَقَطْ مُخْتَلِفًا عَنِ الطَبِيعَةِ، وَلَيْسَ فَقَطْ يَسْمُو عَلَى الطَبِيعَةِ، لَكِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي سُمُوٍّ مُطْلَقٍ عَلَى الطَبِيعَةِ. وَهُوَ لَيْسَ فَقَطْ مُخْتَلِفًا عَنَّا، لَكِنَّهُ، كَمَا قَالَ الْفَيْلَسُوفُ الْأَلْمَانِيُّ: "غَانْزْ أَنْدِرَا"، أَيْ مُخْتَلِفٌ كُلِّيَّةً. وَبِالتَالِي، وَصَفَتِ الْأَجْيَالُ التَالِيَةُ اللَّهَ بِأَنَّهُ آخَرُ. هَذِهِ الْمُحَاوَلَةُ لِإِنْقَاذِ تَسَامِي اللَّهِ، بِقَدْرِ حُسْنِ نِيَّتِهَا، مَهَّدَتِ السَبِيلَ لِأَزْمَةٍ أَسْوَأَ تَتَعَلَّقُ بِلُغَةِ الْكَلَامِ عَنِ اللَّهِ، أَسْوَأُ حَتَّى مِمَّا سَبَّبَتْهُ الْحَرَكَةُ السَابِقَةُ. وَسَنَرَى كَيْفَ حَدَثَ ذَلِكَ فِي مُحَاضَرَتِنَا الْقَادِمَةِ.