المحاضرة 22: إِلَهُ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ فِي مُقَابِلِ إِلَهِ الْفَلْسَفَةِ

هناك الكثير عن الله الذي يتجاوز فهمنا. لكن هل هذا يجعل الله غير معروف؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فهل من الممكن أن يكون لدى بعض الفلاسفة معرفة عن خالقنا؟ مستكملاً هذه السلسلة من "علم الدفاعيات"، يستكشف د. سبرول إمكانية وجود تشابه بين الله المُعلن عنه في الكتاب المقدس وما اكتشفه الفلاسفة في الطبيعة.

نُتَابِعُ دِرَاسَتَنَا لِعِلْمِ الدِّفَاعِيَّاتِ. فِي الْمُحَاضَرَاتِ السَّابِقَةِ، فَتَّشْنَا عَنْ سَبَبٍ كَافٍ يُفَسِّرُ الْوَاقِعَ الَّذِي نَرَاهُ. وَأَشَرْنَا إِلَى الِاحْتِمَالَاتِ الْأَرْبَعَةِ، وَهِيَ أَنَّ الْعَالَمَ وَهْمٌ، أَوْ أَنَّهُ جَاءَ بِالْخَلْقِ الذَّاتِيِّ، أَوْ أَنَّهُ ذَاتِيُّ الْوُجُودِ، أَوْ خَلْقَهُ فِي الْأَصْلِ شَيْءٌ ذَاتِيُّ الْوُجُودِ. وَحَاوَلْنَا إِثْبَاتَ أَنَّ كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يَنْطَوِي عَلَى شَيْءٍ أَزَلِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ. وَفِي الْمُحَاضَرَةِ السَّابِقَةِ، تَنَاوَلْنَا مَسْأَلَةَ مَا إِذَا كَانَ هَذَا الْكَائِنُ الْأَزَلِيُّ ذَاتِيُّ الْوُجُودِ مُتَسَامِيًا. وَحَاوَلْتُ أَنْ أُبَيِّنَ أَنَّهُ حِينَ يَتَحَدَّثُ الْفَلَاسِفَةُ وَاللَّاهُوتِيُّونَ عَنِ التَّسَامِي، يَقْصِدُونَ مَا هُوَ أَعْلَى رُتْبَةً وُجُودِيًّا، وَلَيْسَ مَكَانَ الشَّيْءِ.

لَكِنَّنَا خَتَمْنَا الْمُحَاضَرَةَ بِالسُّؤَالِ التَّالِي: إِذَا كَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ أَزَلِيٌّ وَذَاتِيُّ الْوُجُودِ - سَوَاءٌ كَانَ الْجَوْهَرَ النَّابِضَ لِلْكَوْنِ أَوْ إِلَهَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ - فَنَحْنُ لَا نَزَالُ بَعِيدِينَ عَنِ الْكَائِنِ الشَّخْصِيِّ الَّذِي نَجِدُهُ فِي الْيَهُودِيَّةِ-الْمَسِيحِيَّةِ، أَيْ إِلَهِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. نَسْتَطِيعُ الْقَوْلَ إِنَّ كُلَّ مَا نَجَحْنَا فِي إِثْبَاتِ وُجُودِهِ حَتَّى الْآنَ هُوَ شَيْءٌ أَقْرَبُ إِلَى إِلَهِ الْفَلَاسِفَةِ - أَيْ مَفْهُومٍ نَظَرِيٍّ عَنْ كَائِنٍ أَزَلِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ. وَيَتْرُكُنَا هَذَا أَمَامَ مُشْكِلَتَيْنِ خَطِيرَتَيْنِ يَجِبُ التَّطَرُّقُ إِلَيْهِمَا بِإِيجَازٍ. الْأُولَى هِيَ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ هَذَا الْمَفْهُومِ الْفَلْسَفِيِّ وَإِلَهِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. ثُمَّ الثَّانِيَةُ بِالتَّأْكِيدِ هِيَ: كَيْفَ نَنْتَقِلُ مِنْ كَائِنٍ أَزَلِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ إِلَى إِلَهٍ شَخْصِيٍّ؟ وَقَطْعًا، كِلَا السُّؤَالَيْنِ شَدِيدُ الْأَهَمِّيَّةِ، وَسَنَبْدَأُ الْآنَ بِالسُّؤَالِ الْأَوَّلِ.

فِي الْكَنِيسَةِ الْأُولَى، تَرْتِلْيَانُ، أَحَدُ آبَاءِ الْكَنِيسَةِ، اُشْتُهِرَ بِتَصْرِيحِهِ التَّالِي: "أُؤْمِنُ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُنَافٍ لِلْعَقْلِ". حَاوَلَ تَرْتِلِيَانُ هُنَا أَنْ يُبَيِّنَ الِاخْتِلَافَ الْجَذْرِيَّ بَيْنَ إِلَهِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ وَإِلَهِ الْفَلَاسِفَةِ الْيُونَانِيِّينَ. وَطَرَحَ السُّؤَالَ الْبَلَاغِيَّ التَّالِيَ: "مَا لِأُورْشَلِيمَ بِأَثِينَا؟" وَأَجَابَ بِنَفْسِهِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ الْبَلَاغِيِّ قَائِلًا: "مَا مِنْ عَلَاقَةٍ بَيْنَهُمَا". فَمَا مِنْ صِلَةٍ حَقِيقِيَّةٍ بَيْنَ إِلَهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الشَّخْصِيِّ وَهَذَا الْمَفْهُومِ أَوْ الْمَبْدَأِ النَّظَرِيِّ وَالْمُبْهَمِ الْمَوْجُودِ فِي الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ.

هَذَا الاعْتِرَاضُ لَمْ يُبْدِهِ تَرْتَلِيَانُ وَحْدَهُ فِي أَوَائِلِ تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ، لَكِنَّهُ أُبْدِيَ مُجَدَّدًا وَبِقُوَّةٍ فِي الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ، بِظُهُورِ مَدْرَسَةِ اللَّاهُوتِ اللِّيبْرَالِيَّةِ، وَأَتْبَاعِهَا، مِثْلِ الْمُؤَرِّخِ الْكَنَسِيِّ أَدُولْفْ فُونْ هَارْنَاكْ، وَاللَّاهُوتِيَّةِ رِيتْشِيلْ - أَلْبِرِخْتْ رِيتْشِيلْ - الَّتِي قَالَتْ إِنَّهُ مُنْذُ فَتْرَةٍ مُبَكِّرَةٍ مِنْ تَارِيخِ الْكَنِيسَةِ، فَسَدَتِ الْكَنِيسَةُ بِسَبَبِ زَحْفِ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ إِلَيْهَا. فَحِينَ نَعُودُ إِلَى الْقَرْنِ الرَّابِعِ، إِلَى مَجْمَعِ نِيقِيَّةَ، حَيْثُ عُرِفَ الثَّالُوثُ، وَقِيلَ إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ فِي الْجَوْهَرِ وَثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ، تَلَخَّصَ تَعْرِيفُ الثَّالُوثِ وَطَبِيعَتَيْ الْمَسِيحِ آنَذَاكَ فِي عِبَارَةِ "هُومُو أُوسِيُوسْ"، أَيْ إِنَّ الْمَسِيحَ مُسَاوٍ لِلْآبِ فِي الْجَوْهَرِ. هَذِهِ اللُّغَةُ اللَّاهُوتِيَّةُ فِي نِيقِيَّةَ كَانَتْ مُحَمَّلَةً بِمَفَاهِيمَ فَلْسَفِيَّةٍ يُونَانِيَّةٍ، وَلِذَا كَانَ يَنْبَغِي التَّحَرُّرُ مِنْ هَيْمَنَةِ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ عَلَى فِكْرِ اللَّاهُوتِيِّينَ عَبْرَ الْعُصُورِ. وَكَانَ هَذَا أَحَدَ الْمَفَاهِيمِ الَّتِي قَدَّمَهَا اللِّيبْرَالِيُّونَ فِي الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ.

تِلْكَ النَّظْرَةُ اللِّيبِرَالِيَّةُ غَزَتِ الْكَنِيسَةَ الْإِنْجِيلِيَّةَ بِقُوَّةٍ فِي الْقَرْنَيْنِ الْعِشْرِينَ وَالْحَادِي وَالْعِشْرِينَ، حَيْثُ نَشْهَدُ هَذَا التَّوَجُّهَ الْجَدِيدَ الرَّافِضَ لِلَّاهُوتِ النِّظَامِيِّ، بِسَبَبِ سَعْيِهِ إِلَى اكْتِسَابِ فَهْمٍ عَقْلَانِيٍّ وَمُتَرَابِطٍ لِلنِّطَاقِ الْكَامِلِ لِلْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، بَدَلًا مِنْ دِرَاسَةِ نَصِّ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ آيَةً آيَةً وَجُزْءًا جُزْءًا، وَالسَّمَاحِ لِلْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ بِالتَّحَدُّثِ عَنْ نَفْسِهِ. وَفَحْوَى الِاتِّهَامِ هُوَ أَنَّ النِّظَامِيِّينَ يَفْرِضُونَ نِظَامًا فَلْسَفِيًّا عَلَى الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَيُحَاوِلُونَ إِرْغَامَ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى أَنْ يُلَائِمَ هَذَا النِّظَامَ الْمَوْضُوعَ مُسْبَقًا، وَالْمُسْتَمَدَّ مِنَ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ.

أَنَا لَاهُوتِيٌّ نِظَامِيٌّ، وَأَعْرِضُ تِلْكَ الْمُلَاحَظَةَ لِأَنَّنِي أَسْمَعُ هَذَا النَّقْدَ طَوَالَ الْوَقْتِ. قَطْعًا، لَمْ تَكُنْ مُهِمَّةُ اللَّاهُوتِ النِّظَامِيِّ قَطُّ هِيَ فَرْضُ نِظَامٍ غَرِيبٍ عَلَى الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، ثُمَّ إِرْغَامُ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ عَلَى مُلَاءَمَتِهِ، بَلْ مَا نُحَاوِلُ فِعْلَهُ كَنِظَامِيِّينَ هُوَ النَّظَرُ إِلَى النِّطَاقِ الْكَامِلِ لِلْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَمُحَاوَلَةُ اكْتِسَابِ فَهْمٍ مُتَرَابِطٍ، وَاكْتِشَافُ النِّظَامِ الْفِكْرِيِّ الْمَوْجُودِ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، وَلَيْسَ فَرْضَ نِظَامٍ عَلَيْهِ. يَفْتَرَضُ هَذَا ضِمْنًا أَنَّ اللَّهَ حِينَ يَتَكَلَّمُ، يَنْطِقُ بِكَلَامٍ مُتَرَابِطٍ، وَيَفْتَرِضُ ضِمْنًا أَنَّ اللَّهَ أَعْطَانَا عُقُولًا لِنَفْهَمَ كَلِمَتَهُ بِطَرِيقَةٍ عَقْلَانِيَّةٍ وَمُتَرَابِطَةٍ، وَلَيْسَ بِطَرِيقَةٍ مُنَافِيَةٍ لِلْعَقْلِ، أَوْ مُفَكَّكَةٍ، أَوْ غَيْرِ مَنْطِقِيَّةٍ. غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ الْمُنَاهِضَ لِلَّاهُوتِ النِّظَامِيِّ الْيَوْمَ مُتَّصِلٌ، فِي حَالَاتٍ وَأَوْسَاطٍ مُتَعَدِّدَةٍ، بِنُفُورِ النَّاسِ مِنَ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ.

أَحَدُ الْأُمُورِ الَّتِي عَلَيْنَا إِدْرَاكُهَا هُوَ أَنَّهُ بِغَضِّ النَّظَرِ عَنِ النَّتَائِجِ، وَسَوَاءٌ أَعْجَبَنَا أَمْ لَا، اخْتَارَ اللَّهُ الرُّوحُ الْقُدُسُ اللُّغَةَ الْيُونَانِيَّةَ لِكِتَابَةِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. وَمَا دَامَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ كُتِبَ بِاللُّغَةِ الْيُونَانِيَّةِ، سَتُلازِمُنَا لُغَةُ الْيُونَانِيِّينَ دَائِمًا فِي فَهْمِنَا لِلإِنْجِيلِ.

هَذَا لَا يَعْنِي أَنْ نُفَسِّرَ يُونَانِيَّةَ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ فَقَطْ فِي ضَوْءِ الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ. يَجِبُ أَلَّا نَفْعَلَ ذَلِكَ. وَيَجِبُ أَنْ تُدْرِكُوا أَنَّهُ مَعَ أَنَّ لُغَتَهُ يُونَانِيَّةٌ، لَكِنَّ مَفَاهِيمَهُ جَاءَتْ مِنَ الْعَالَمِ الْعِبْرِيِّ، وَنُقِلَتْ بِبَسَاطَةٍ بِاسْتِخْدَامِ أَدَاةِ اللُّغَةِ الْيُونَانِيَّةِ. وَصَحِيحٌ أَنَّ الْكِتَابَةَ الْعِبْرِيَّةَ تَمِيلُ إِلَى أَنْ تَكُونَ تَخَيُّلِيَّةً وَتَصْوِيرِيَّةً بِدَرَجَةٍ أَكْبَرَ، بِمَعْنَى أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ صُوَرًا أَكْثَرَ مِنْ مَفَاهِيمَ نَظَرِيَّةٍ، لَكِنَّنَا نُهِينُ الْيَهُودَ إِذَا افْتَرَضْنَا أَنَّ الْيُونَانِيِّينَ كَانُوا مُتَرَابِطِينَ فِي فِكْرِهِمْ، بَيْنَمَا لَمْ يَكُنِ الْعِبْرَانِيُّونَ كَذَلِكَ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَى الْيُونَانِيِّينَ عُقُولًا لَمْ يُعْطِهَا لِلْعِبْرَانِيِّينَ. فَالْفِكْرُ الْعِبْرِيُّ لَا يَزَالُ مَنْطِقِيًّا، وَلَا يَزَالُ يَسْعَى إِلَى أَنْ يَكُونَ مُتَرَابِطًا. وَالْعَقْلُ لَهُ أَهَمِّيَّةٌ بَالِغَةٌ فِي الْفَهْمِ الْيَهُودِيِّ لِأُمُورِ اللَّهِ، كَمَا هُوَ الْحَالُ لَدَى الْيُونَانِيِّينَ.

لَكِنْ بَعْدَ قَوْلِنَا ذَلِكَ، لَا زِلْنَا نُوَاجِهُ مُشْكِلَةَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَفْكَارِ عَنِ اللَّهِ الَّتِي نَجِدُهَا، مَثَلًا، لَدَى أَرِسْطُو، وَالْأَفْكَارِ عَنِ اللَّهِ فِي الْمَسِيحِيَّةِ. عَرَّفَ أَرِسْطُو اللَّهَ بِأَنَّهُ "الْفِكْرَةُ ذَاتِيَّةُ التَّفْكِيرِ"، وَعَرَّفَ اللَّهَ بِأَنَّهُ "الْمُحَرِّكُ الَّذِي لَا يُحَرِّكُهُ شَيْءٌ"،" أَوْ "الْعِلَّةُ الْأُولَى لِكُلِّ شَيْءٍ". لَكِنَّ مَفْهُومَ أَرِسْطُو عَنِ اللَّهِ هُوَ أَنَّهُ لَا يُخْلَقُ بِفِعْلٍ إِرَادِيٍّ، بَلْ يُخْلَقُ، إِنْ جَازَ التَّعْبِيرُ، بِدَافِعِ الضَّرُورَةِ. وَهُوَ مُتَبَاعِدٌ تَمَامًا وَغَيْرُ شَخْصِيٍّ. فَهُوَ يَظَلُّ مُنْفَصِلًا عَنِ الْعَالَمِ الَّذِي تَكَوَّنَ مِنْ كَيْنُونَتِهِ. لَكِنْ فِي الْمَسِيحِيَّةِ، الْإِلَهُ الَّذِي نَقْرَأُ عَنْهُ فِي الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ، مُنْذُ الصَّفْحَةِ الْأُولَى - بَلْ وَالْآيَةِ الْأُولَى - يَعْمَلُ لِخَلْقِ كُلِّ مَا هُوَ مَوْجُودٌ. وَيَعْمَلُ بِطَرِيقَةٍ مَنْطِقِيَّةٍ وَمُتَعَمَّدَةٍ لِإِيجَادِ الْأَشْيَاءِ. وَكُلُّ مَا يَخْلُقُهُ، هُوَ يَحْفَظُهُ، وَيَتَعَهَّدُهُ. وَالْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ هُوَ قِصَّةُ الْخَلْقِ وَالْفِدَاءِ. فَاللَّهُ مُهْتَمٌّ كَثِيرًا بِشُؤُونِ التَّارِيخِ، وَبِالْعَمَلِ عَلَى إِدَارَةِ الْكَوْنِ الَّذِي يَخْلُقُهُ. إِذَنْ، مِنَ الْوَاضِحِ أَنَّهُ تُوجَدُ فُرُوقٌ شَاسِعَةٌ فِي مَفْهُومِ أَرِسْطُو، مَثَلًا، عَنِ اللَّهِ، وَمَفْهُومِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ عَنِ اللَّهِ.

كَذَلِكَ، نَجِدُ فِي الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ مَفْهُومَ اللُّوجُوسْ، أَوْ الْكَلِمَةِ، أَوْ الْمَنْطِقِ، الَّذِي هُوَ فِي الْفَلْسَفَةِ الْيُونَانِيَّةِ بِمَثَابَةِ فِكْرَةٍ مُجَرَّدَةٍ ضَرُورِيَّةٍ لِإِضْفَاءِ نِظَامٍ وَانْسِجَامٍ عَلَى الْعَالَمِ. أَمَّا فِي الْمَسِيحِيَّةِ الْكِتَابِيَّةِ، فَاللُّوْجُوسْ هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ الْمُتَجَسِّدِ. وَهُوَ شَخْصٌ. وَهَذَا يَخْتَلِفُ جَذْرِيًّا عَمَّا قَدْ نَجِدُهُ فِي الرِّوَاقِيَّةِ، أَوْ فِي فَلْسَفَةِ هِرَقْلِيطِسْ، اللَّذَيْنِ اسْتَخْدَمَ كِلَاهُمَا مَفْهُومَ اللُّوجُوسْ فِي فَلْسَفَتِهِ الْيُونَانِيَّةِ.

لَكِنْ مَا أُرِيدُ أَنْ نَفْهَمَهُ حِينَ نَسْمَعُ الْمَسِيحِيِّينَ يَعْتَرِضُونَ عَلَى إِثْبَاتِ عِلْمِ الدِّفَاعِيَّاتِ لِوُجُودِ كَائِنٍ أَزَلِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ، قَائِلِينَ إِنَّ ذَلِكَ فَقَطْ يُوَصِّلُنَا إِلَى عِلَّةٍ أَوْلَى، وَإِلَى كَائِنٍ أَزَلِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ، وَيَقْتَادُنَا فَقَطْ إِلَى بَابِ "اللِّيسْيُومْ" - الْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَسَّسَهَا أَرِسْطُو. فَكُلُّ مَا أَثْبَتْنَا وُجُودَهُ هُوَ إِلَهُ أَرِسْطُو، وَلَيْسَ إِلَهَ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. وَلِذَلِكَ، يَرْفُضُ النَّاسُ مَنْهَجِيَّةَ عِلْمِ الدِّفَاعِيَّاتِ بِأَكْمَلِهَا، الَّتِي اجْتَهَدْتُ لِعَرْضِهَا مُنْذُ بِدَايَةِ هَذِهِ السِّلْسِلَةِ. وَهُنَا أُذَكِّرُ النَّاسَ بِأَنَّ أَحَدَ الْمَبَادِئِ الْأُولَى فِي اللَّاهُوتِ النِّظَامِيِّ، حِينَ نَتَحَدَّثُ عَنْ عَقِيدَةِ اللَّهِ، هُوَ عَقِيدَةُ غُمُوضِ اللَّهِ، وَمَعْنَاهَا أَنْ لَا أَحَدَ سَيَتَمَكَّنُ يَوْمًا مِنْ أَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ أَوْ يُدْرِكَهُ بِشَكْلٍ كَامِلٍ. فَاَللَّهُ غَيْرُ مَحْدُودٍ فِي سُمُوِّهِ. وَحَتَّى فِي السَّمَاءِ، لَنْ نَتَمَتَّعَ بِبَصِيرَةٍ غَيْرِ مَحْدُودَةٍ نَقْدِرُ بِهَا أَنْ نُدْرِكَهُ. فَنَحْنُ مَخْلُوقَاتٌ مَحْدُودَةٌ. وَبِسَبَبِ طَبِيعَتِنَا الْمَخْلُوقَةِ، إِدْرَاكُنَا لِلَّهِ مَحْدُودٌ.

حِينَ نَقُولُ إِنَّ اللَّهَ غَامِضٌ، لَسْنَا نَقْصِدُ بِذَلِكَ أَنَّنَا لَا نَعْرِفُ اللَّهَ، بَلْ مَعْنَى هَذَا بِبَسَاطَةٍ أَنَّنَا لَا نَعْرِفُ اللَّهَ بِشَكْلٍ كَامِلٍ وَشَامِلٍ. يَقُولُ الَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ عَلَى مُحَاوَلَتِنَا إِثْبَاتَ وُجُودِ كَائِنٍ أَزَلِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ إِنَّ هَذَا فَقَطْ يَقْتَادُنَا إِلَى الْعِلَّةِ الْأُولَى، وَإِلَى إِلَهِ الْفَلَاسِفَةِ، وَلَيْسَ إِلَى إِلَهِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ. وَبِالتَّالِي، فَالْمَنْهَجِيَّةُ خَاطِئَةٌ، وَالِاسْتِنْتَاجُ الَّذِي نَسْتَخْلِصُهُ خَاطِئٌ، لِأَنَّهُ لَا يُمَثِّلُ الصُّورَةَ كَامِلَةً، لَكِنَّهُ مُجَرَّدُ صُورَةٍ جُزْئِيَّةٍ عَنِ الْإِلَهِ الْحَقِيقِيِّ.

وَالسُّؤَالُ الْآنَ هُوَ: هَلْ يَجِبُ أَنْ نَعْرِفَ اللَّهَ مَعْرِفَةً كَامِلَةً حَتَّى نَعْرِفَهُ مَعْرِفَةً حَقِيقِيَّةً؟ أَعُودُ بِهَذَا إِلَى الْمَبْدَأِ الْأَوَّلِ فِي لَاهُوتِنَا. فَلَوْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَكْتَسِبَ صُورَةً شَامِلَةً وَكَامِلَةً عَنِ اللَّهِ، حَتَّى نَفْهَمَهُ فَهْمًا حَقِيقِيًّا، فَهَذَا سَيَعْنِي فَقَطْ - إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْعَقِيدَةُ صَحِيحَةً - أَنَّنَا لَا نَعْرِفُ اللَّهَ مَعْرِفَةً حَقِيقِيَّةً، لِأَنَّنَا حَتْمًا لَا نَعْرِفُهُ مَعْرِفَةً شَامِلَةً. بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، أَقْصِدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ حَتَّى وَإِنْ كَانَتْ مَعْرِفَتُنَا بِاللَّهِ جُزْئِيَّةً، فَهَذَا لَا يَعْنِي أَنَّهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ. فَهِيَ صَحِيحَةٌ بِحَسَبِ مِقْدَارِهَا. وَمَعَ أَنَّنَا نُقِرُّ بِأَنَّ مَا تَوَصَّلْنَا إِلَيْهِ حَتَّى الْآنَ بِتَفْكِيرِنَا الْمَنْطِقِيِّ فَقَطْ يُثْبِتُ وُجُودَ كَائِنٍ أَزَلِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ، لَكِنَّ هَذَا قَطْعًا جُزْءٌ مِمَّا يُعْلِنُهُ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ بِالْفِعْلِ عَنْ طَبِيعَةِ اللَّهِ. لِأَنَّ أَحَدَ الْأُمُورِ الَّتِي يُعْلِنُهَا الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ عَنْ طَبِيعَةِ اللَّهِ هُوَ بِالتَّأْكِيدِ أَنَّهُ أَزَلِيٌّ، وَذَاتِيُّ الْوُجُودِ، وَأَنَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. حَتَّى هُنَا، يَقُولُ أَرِسْطُو "نَعَمْ وَآمِينَ". هَلْ أَرِسْطُو مُخْطِئٌ؟ كَلَّا. فَمُوَافَقَةُ فَيْلَسُوفٍ وَثَنِيٍّ عَلَى ضَرُورَةِ وُجُودِ كَائِنٍ أَزَلِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ لَا يُكَذِّبُ التَّصْرِيحَ الْمَسِيحِيَّ، بَلْ يَتَّفِقُ مَعَهُ. وَنَقُولُ: "أَجَلْ، نَتَّفِقُ مَعَ أَرِسْطُو عَلَى حَتْمِيَّةِ وُجُودِ عِلَّةٍ أَوْلَى، وَتِلْكَ الْعِلَّةُ الأَوْلَى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ ذَاتِيَّةَ الْوُجُودِ، وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقِيَّةً تَمَامًا، وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ كَائِنًا بَحْتًا، وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ أَزَلِيَّةً". وَهُنَا أَقُولُ: "شُكْرًا جَزِيلًا يَا أَرِسْطُو. أَنْتَ تُوَافِقُنَا الرَّأْيَ، وَنَحْنُ نُوَافِقُكِ الرَّأْيَ حَوْلَ هَذِهِ الْفِكْرَةِ الْأَسَاسِيَّةِ". هَذَا مُجَرَّدُ جُزْءٍ مِنْ مَعْرِفَتِنَا بِاللَّهِ، لَكِنَّهُ جُزْءٌ حَيَوِيٌّ لِأَنَّهُ، أَيُّهَا السَّادَةُ، هَذَا هُوَ تَحْدِيدًا الْجَانِبُ مِنَ الْمَفْهُومِ الْمَسِيحِيِّ عَنِ اللَّهِ الَّذِي يَتَعَرَّضُ لِلْهُجُومِ الْمُسْتَمِرِّ مِنْ نُظُمِ الْفِكْرِ الْإِلْحَادِيَّةِ.

فَالْمُلْحِدُونَ يُهَاجِمُونَ إِيمَانَ الْمَسِيحِيَّةِ بِالْخَلْقِ، وَبِوُجُودِ كَائِنٍ مُتَسَامٍ، وَذَاتِيِّ الْوُجُودِ، وَأَزَلِيٍّ. وَلِذَلِكَ أَرَى أَنَّهُ مِنَ الْمُهِمِّ جِدًّا أَنْ نُؤَكِّدَ أَنَّهُ لَيْسَ الْإِيمَانُ وَحْدَهُ، بَلْ الْمَنْطِقُ أَيْضًا، يَسْتَدْعِي الضَّرُورَةَ الْمَنْطِقِيَّةَ لِوُجُودِ كَائِنٍ أَزَلِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ، وَذَلِكَ حَتَّى يَخْرُجَ الْمَسِيحِيُّ مِنَ الْمَعْرَكَةِ حَوْلَ عَقِيدَةِ اللَّهِ غَالِبًا، بَدَلًا مِنْ تَخَلِّيهِ عَنِ الْكَثِيرِ مِنَ الْحَقَائِقِ.

لَكِنْ أَقُولُ مُجَدَّدًا، وَبِاخْتِصَارٍ، إِنَّنَا نُقِرُّ بِأَنَّ إِثْبَاتَ وُجُودِ كَائِنٍ أَزَلِيٍّ وَذَاتِيِّ الْوُجُودِ لَا يَقْتَادُنَا إِلَى فَهْمٍ كَامِلٍ لِلَّهِ، أَوْ حَتَّى إِلَى فَهْمٍ مُسَاوٍ لِمَا يُقَدِّمُهُ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ، لَكِنَّهُ فَقَطْ يُؤَيِّدُ الْجَانِبَ أَوْ الْوَجْهَ الْأَهَمَّ لِعَقِيدَةِ اللَّهِ الَّذِي يُعْلِنُهُ الْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ بِالْفِعْلِ. فَالْكِتَابُ الْمُقَدَّسُ، وَلَيْسَ فَقَطْ أَرِسْطُو، يُعْلِنُ أَنَّ اللَّهَ ذَاتِيُّ الْوُجُودِ وَأَزَلِيٌّ. إِذَنْ، لَسْنَا نَلْعَبُ هُنَا مُبَارَيَاتٍ فَلْسَفِيَّةً، لَكِنَّنَا نُدَافِعُ عَنْ جَوَانِبَ حَيَوِيَّةٍ مِنْ عَقِيدَةِ اللَّهِ الْكِتَابِيَّةِ.

لَكِنْ مُجَدَّدًا، السُّؤَالُ هُوَ: كَيْفَ نَنْتَقِلُ مِنْ هَذَا الشَّيْءِ الْأَزَلِيِّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ إِلَى وُجُودِ إِلَهٍ شَخْصِيٍّ؟ يَتَطَلَّبُ ذَلِكَ بَحْثًا أَشَدَّ تَعْقِيدًا وَصُعُوبَةً بَعْضَ الشَّيْءِ. ذَكَرْتُ سَابِقًا أَنَّ وَاحِدَةً مِنْ أَشْهَرِ الْحُجَجِ الْمُؤَيِّدَةِ لِوُجُودِ اللَّهِ تُعْرَفُ بِالْحُجَّةِ الْغَائِيَّةِ. وَاسْمُهَا (teleological) مُشْتَقٌّ مِنْ الْكَلِمَةِ الْيُونَانِيَّةِ "telos"، الَّتِي مَعْنَاهَا "غَايَةٌ، أَوْ غَرَضٌ، أَوْ هَدَفٌ". وَتُسَمَّى الْحُجَّةُ الْغَائِيَّةُ أَحْيَانًا بِالْحُجَّةِ الْمُسْتَوْحَاةِ مِنَ التَّصْمِيمِ.

تَذَكَّرُوا أَنَّ اثْنَيْنِ مِنْ أَبْرَزِ الشُّكُوكِيِّينَ فِي التَّارِيخِ بِشَأْنِ الْحُجَجِ التَّقْلِيدِيَّةِ لِإِثْبَاتِ وُجُودِ اللَّهِ هُمَا إِيمَانُوِيلْ كَانْطْ، وَدَافِيدْ هِيُومْ. وَمَعَ ذَلِكَ، شَعَرَ كِلَاهُمَا بِأَنَّ أَقْوَى حُجَّةٍ تُؤَيِّدُ وُجُودَ اللَّهِ هِيَ الْحُجَّةُ الْغَائِيَّةُ. قَالَ كَانِطْ نَفْسُهُ إِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ تَجَاهُلَ أَمْرَيْنِ: السَّمَاءُ بِالْأَعْلَى الْمَلِيئَةُ بِالنُّجُومِ، وَالْقَانُونُ الْأَخْلَاقِيُّ فِي الدَّاخِلِ. فَلَمْ يَكُنْ كَانِطْ مُجَرَّدَ فَيْلَسُوفٍ، بَلْ كَانَ عَالِمًا أَيْضًا. وَقَدْ أَفْحَمَتْهُ الْبَرَاهِينُ الدَّامِغَةُ عَلَى وُجُودِ تَصْمِيمٍ فِي عَالَمِ الطَّبِيعَةِ. وَمِنَ الصَّعْبِ نَسْبُ تَصْمِيمٍ إِلَى الطَّبِيعَةِ دُونَ افْتِرَاضِ وُجُودِ مُصَمِّمٍ. فَهَلْ يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ تَصْمِيمٌ غَيْرُ مُتَعَمَّدٍ؟ هَذَا هُوَ السُّؤَالُ.

تَذَكَّرُوا أَنَّنَا تَحَدَّثْنَا عَنِ الْمَثَلِ الَّذِي قَدَّمَهُ أَنْطُونِي فْلُوْ لِمُسْتَكْشِفِينَ فِي الْأَدْغَالِ، كَانُوا يَجْتَازُونَ أَرْضًا مَجْهُولَةً، وَيَسْتَعِينُونَ بِمَنَاجِلَ لِيَشُقُّوا طَرِيقَهُمْ عَبْرَ تِلْكَ الْغَابَةِ الِاسْتِوَائِيَّةِ الْكَثِيفَةِ. ثُمَّ وَصَلُوا، فِي مُنْتَصَفِ تِلْكَ الْغَابَةِ، إِلَى حَدِيقَةٍ جَمِيلَةٍ مُشَذَّبَةٍ، مَحْرُوثَةٍ بِعِنَايَةٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِيهَا مُرَتَّبٌ تَمَامًا، دُونَ وُجُودِ أَيِّ عُشْبَةٍ ضَارَّةٍ بَيْنَ الْمَزْرُوعَاتِ. فَقَالُوا: "لَا بُدَّ أَنَّ بُسْتَانِيًّا مَوْجُودٌ فِي الْأَنْحَاءِ". فَأَخَذُوا يَبْحَثُونَ حَوْلَهُمْ عَنْ بُسْتَانِيٍّ، فَلَمْ يَجِدُوا. وَابْتَدَأُوا يُفَكِّرُونَ فِي أَنَّ الْبُسْتَانِيَّ رُبَّمَا كَانَ غَيْرَ مَنْظُورٍ أَوْ غَيْرَ مَادِّيٍّ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ. وَأَخِيرًا، فِي خِتَامِ مَثَلِ فْلُو، قَالَ إِنَّنَا تَتَجَاهَلُ الْمَنْطِقَ، وَنَتَمَلَّصُ مِنَ الْحَقِيقَةِ، حِينَ نَصِفُ اللَّهَ بِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْظُورٍ وَغَيْرُ مَادِّيٍّ، وَبِأَنَّ لَا أَحَدَ يَرَاهُ الْبَتَّةَ، إِلَى آخِرِهِ. وَقَالَ: "مَا الْفَرْقُ إذَنْ بَيْنَ هَذَا الْإِلَهِ وَعَدَمِ وُجُودِ إلَهٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ؟" وَالْجَوَابُ الْأَكِيدُ هُوَ الْحَدِيقَةُ. فَإِنَّنَا لَمْ نُفَسِّرْ بَعْدُ الْوُجُودَ الْجَلِيَّ لِتَصْمِيمٍ فِي الْحَدِيقَةِ.

هَذِهِ هِيَ الْفِكْرَةُ الَّتِي لَمْ يَسْتَطِعْ فَلَاسِفَةُ التَّنْوِيرِ التَّمَلُّصَ مِنْهَا، فَتَحَوَّلُوا مِنَ الْإِيمَانِ الْمَسِيحِيِّ بِوُجُودِ اللَّهِ إِلَى الْفَلْسَفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ. فَقَدْ عَجَزُوا عَنْ تَجَنُّبِ دَلَالَاتِ وُجُودِ تَصْمِيمٍ، وَقَالُوا إِنَّ الْعَالَمَ يَعْمَلُ كَسَاعَةٍ مِثَالِيَّةِ الصُّنْعِ، بِتُرُوسِهَا وَآلِيَّاتِهَا الدَّاخِلِيَّةِ. وَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَرَى سَاعَةً دُونَ أَنْ يَفْتَرِضَ وُجُودَ مُصَمِّمٍ أَوْ صَانِعِ سَاعَاتٍ. فَكِّرُوا مَعِي كَيْفَ تَعْمَلُ عَيْنُ الْإِنْسَانِ. فَهِيَ أَشَدُّ تَعْقِيدًا مِنْ أَيَّةِ سَاعَةٍ مَصْنُوعَةٍ. وَافْتِرَاضُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ التَّصْمِيمِ وَالْقَصْدِ الذَّكِيِّ دُونَ اسْتِنْتَاجِ وُجُودِ مُصَمِّمٍ ذَكِيٍّ هُوَ تَهَرُّبٌ مِنَ الْحَقَائِقِ. وَبالعَوْدَةِ إِلَى أَرِسْطُو، قَالَ أَرِسْطُو إِنَّ أَهَمَّ صِفَةٍ لِلشَّخْصِيَّةِ هِيَ التَّعَمُّدُ، أَوْ مَا دُعِيَ فِي الْفَلْسَفَةِ الْأَحْدَثِ - أَيْ فَلْسَفَةِ الْقَرْنِ التَّاسِعَ عَشَرَ - "التَّعَمُّدُ الشَّخْصَانِيُّ". وَالسُّلُوكُ الْمُتَعَمَّدُ يَسْتَلْزِمُ عَقْلًا، وَقُدْرَةً عَلَى اخْتِيَارِ مَا يُخَطِّطُ لَهُ الْعَقْلُ. قَالَ أَرِسْطُو إِنَّ الشَّخْصِيَّةَ تَسْتَلْزِمُ تَعَمُّدًا، وَالتَّعَمُّدُ يُفْتَرَضُ ضِمْنًا وُجُودَ شَخْصِيَّةٍ، وَجَوْهَرُ التَّعَمُّدِ يَكْمُنُ فِي الْعَقْلِ وَالْإِرَادَةِ.

لَيْسَ لِلْقُوَى غَيْرِ اَلشَّخْصِيَّةِ عَقْلٌ أَوْ إِرَادَةٌ. وَلَا يُمْكِنُهَا تَصْمِيمُ شَيْءٍ. وَأَعْتَقِدُ أَنَّنَا حِينَ نُحَاوِلُ اخْتِزَالَ اللَّهِ إِلَى مُجَرَّدِ قُوَّةٍ مُجَرَّدَةٍ، غَيْرِ شَخْصِيَّةٍ، وَغَيْرِ ذَكِيَّةٍ، وَبِلَا إِرَادَةٍ، فَإِنَّنَا نَتَهَرَّبُ مِنْ دِينُونَةِ ذَلِكَ الْكَائِنِ الذَّكِيِّ الَّذِي يَعْمَلُ وَفْقًا لِتَصْمِيمٍ. فَهَذِهِ وَسِيلَتُنَا لِلتَّهَرُّبِ مِنَ الْإِدَانَةِ الْأَخْلَاقِيَّةِ. سَنَتَطَرَّقُ إِلَى ذَلِكَ لَاحِقًا. لَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ قَصْدٌ تَصَادُفِيٌّ، أَوْ ذَكَاءٌ غَيْرُ ذَكِيٍّ. فَانْعِدَامُ الشَّخْصِيَّةِ لَا يُثْمِرُ شَخْصِيَّةً، لِأَنَّ هَذَا سَيَكُونُ تَعَمُّدًا غَيْرَ مُتَعَمَّدٍ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ تَعَمُّدٌ غَيْرُ مُتَعَمَّدٍ. هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ الْمَوْجُودُ فِي الْخَلْقِ الذَّاتِيِّ. فَالتَّعَمُّدُ غَيْرُ الْمُتَعَمَّدِ مُنَافٍ لِلْعَقْلِ. إِذَنْ، إِذَا نَظَرْنَا إِلَى التَّصْمِيمِ، وَإِلَى تِلْكَ الْأَشْيَاءِ عَنْ كَثَبٍ، سَنَرَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ هُنَاكَ تَصْمِيمٌ فِي الْكَوْنِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ الْأَزَلِيَّ ذَاتِيَّ الْوُجُودِ، الْمَسْؤُولَ عَنْ تَكْوِينِ الْكَوْنِ الَّذِي نَرَاهُ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَائِنًا ذَاتِيَّ الْوُجُودِ، وَأَزَلِيًّا، وَذَكِيًّا. وَإِذَا كَانَ ذَكِيًّا، فَهُوَ شَخْصٌ. وَإِذَا كَانَ شَخْصًا، نَكُونُ قَدِ ابْتَعَدْنَا عَنِ الْحَقَائِقِ الْمُجَرَّدَةِ، وَهَبَطْنَا فَوْقَ صَفَحَاتِ الْكِتَابِ الْمُقَدَّسِ مُبَاشَرَةً.