المحاضرة 17: وَهْمُ دِيكَارْت

يقضي د. سبرول الوقت الكافي لتكرار المبادئ الأربعة من المحاضرة السابقة وينظر إلى كل واحد منها بتفصيل أكبر. الأول هو أنه وهم، والثاني هو أنه مخلوق ذاتيًّا، والثالث هو أنه موجود بذاته، والرابع هو أنه تم خلقه بواسطة شيء في النهاية موجود بذاته. في محاضرة "وهم ديكارت"، يقدم د. سبرول رينيه ديكارت، أبو العقلانية الحديثة ويوضح كيف تفسر أبحاث ديكارت وترتبط باستخدام عملية الإقصاء في المبادئ الأربعة.

فِي الْمُحَاضَرَةِ السَّابِقَةِ، اسْتَعْرَضْتُ الِاحْتِمَالَاتِ الْأَرْبَعَةَ الْعَامَّةَ لِتَفْسِيرِ الْوَاقِعِ الَّذِي نَرَاهُ، مُقْتَبِسًا قَلِيلًا مِنْ مَنْهَجِيَّةِ الْقِدِّيسِ أُوغُسْطِينُوسَ الْقَدِيمَةِ فِي تَنَاوُلِ الْمَسْأَلَةِ. سَأُكَرِّرُ هَذِهِ الْمَبَادِئَ الْأَرْبَعَةَ، وَأَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِمَزِيدٍ مِنَ التَّفْصِيلِ. وَهِيَ كَالْآتِي: "إِنْ كَانَ شَيْءٌ مَوْجُودًا - مِثْلُ هَذِهِ الطَّبْشُورَةِ أَوْ أَيُّ شَيْءٍ آخَرَ - فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَدَيْنَا أَرْبَعَةُ تَفْسِيرَاتٍ مُحْتَمَلَةٍ لِذَلِكَ. الْأَوَّلُ هُوَ أَنَّ هَذَا وَهْمٌ. وَالثَّانِي هُوَ أَنَّهُ خَلَقَ نَفْسَهُ. وَالثَّالِثُ هُوَ أَنَّهُ ذَاتِيُّ الْوُجُودِ. وَالرَّابِعُ هُوَ أَنَّ شَيْئًا ذَاتِيَّ الْوُجُودِ خَلَقَهُ". تِلْكَ كَانَتْ الِاحْتِمَالَاتِ الْأَرْبَعَةَ.

قَدْ يَبْدُو لِلْكَثِيرِينَ أَنَّ مَضْيَعَةً كَبِيرَةً لِلْوَقْتِ أَنْ نُحَاوِلَ اسْتِبْعَادَ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا نَظُنُّهُ مَوْجُودًا هُوَ مُجَرَّدُ وَهْمٍ. لَكِنَّ فَلَاسِفَةً كِبَارًا عَبْرَ التَّارِيخِ أَيَّدُوا تِلْكَ الْفِكْرَةَ، وَهِيَ أَنَّ الْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ مُجَرَّدُ حُلْمٍ، أَوْ وَهْمٍ، غَيْرِ مَوْجُودٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ. إِذَنْ، كَيْ نُنَاقِشَ هَذَا الْمَبْدَأَ الْأَوَّلَ، سَأَسْتَدْعِي أَوَّلَ شَاهِدٍ، وَهُوَ رِينِيهْ دِيكَارْتْ، أَبُو الْعَقْلَانِيَّةِ الْحَدِيثَةِ، وَمُفَكِّرُ الْقَرْنِ السَّابِعَ عَشَرَ، الَّذِي كَانَ مُتَخَصِّصًا فِي الرِّيَاضِيَّاتِ أَيْضًا، وَكَانَ شَدِيدَ الْقَلَقِ فِي أَيَّامِهِ حِيَالَ ظُهُورِ شَكْلٍ جَدِيدٍ مِنَ الشُّكُوكِيَّةِ فِي غَرْبِ أُورُوبَّا، بَعْدَ الْإِصْلَاحِ الْبُرُوتِسْتَانْتِيِّ لِلْقَرْنِ السَّادِسَ عَشَرَ، لِأَنَّهُ فِي أَعْقَابِ الْإِصْلَاحِ الْبُرُوتِسْتَانْتِيِّ، حَدَثَتْ أَزْمَةُ سُلْطَةٍ.

فَقَبْلَ الْإِصْلَاحِ، مَثَلًا فِي كَنِيسَةِ رُومَا الْقَوِيَّةِ، حِينَ كَانَ خِلَافٌ يَنْشَبُ بَيْنَ الْمَسِيحِيِّينَ، كَانُوا يَحْتَكِمُونَ إِلَى الْكَنِيسَةِ لِتُصْدِرَ حُكْمًا. وَمَتَى أَصْدَرَتِ الْكَنِيسَةُ حُكْمًا، كَانَ هَذَا يَحْسِمُ الْجَدَلَ، لِأَنَّ سُلْطَةَ الْكَنِيسَةِ كَانَتْ تُحْسَبُ عَلَى أَقَلِّ تَقْدِيرٍ مُقَدَّسَةً، وَعَلَى أَكْبَرِ تَقْدِيرٍ مَعْصُومَةً مِنَ الْخَطَأِ. لَكِنْ بِسَبَبِ الْمُعَارَضَةِ لِسُلْطَةِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي صَاحَبَتِ الْإِصْلَاحَ الْبْرُوتِسْتَانْتِيَّ، أَصْبَحَ السُّؤَالُ "كَيْفَ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ أَيِّ شَيْءٍ عَنْ يَقِينٍ؟" يُمَثِّلُ مُشْكِلَةً خَطِيرَةً. وَلَمْ يَحْدُثِ انْهِيَارٌ فَقَطْ لِسُلْطَةِ الْكَنِيسَةِ، بَلْ أَيْضًا لِلسُّلْطَةِ الْعِلْمِيَّةِ، لِأَنَّهُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْإِصْلَاحِ الَّذِي حَدَثَ فِي الْقَرْنِ السَّادِسَ عَشَرَ، انْدَلَعَتْ فِي الْقَرْنِ السَّادِسَ عَشَرَ أَيْضًا الثَّوْرَةُ الْكُوبِرْنِيكِيَّةُ فِي عِلْمِ الْفَلَكِ، الَّتِي سَبَّبَتْ أَزْمَةً كَبِيرَةً فِي الْمَنْظُورِ عَنِ السُّلْطَةِ الْعِلْمِيَّةِ الَّذِي نَشَأَ فِي أَعْقَابِ النِّظَامِ الْبَطْلَمِيِّ الْقَدِيمِ لِلْكَوْنِ. زَعْزَعَ كُوبِرْنِيكُوسُ هَذَا الِاسْتِقْرَارَ، وَأَثَارَ شَتَّى أَنْوَاعِ الشُّكُوكِ حِيَالَ جَدَارَةِ الْعِلْمِ بِالثِّقَةِ.

هَذَا الْجَدَلُ حَوْلَ الثَّوْرَةِ الْكُوبِرْنِيكِيَّةِ امْتَدَّ حَتَّى الْقَرْنِ السَّابِعَ عَشَرَ، حَيْثُ أَصْبَحَتْ حَادِثَةُ جَالِيلْيُو بَارِزَةً فِي حَيَاةِ الْكَنِيسَةِ، حِينَ قَامَ جَالِيلْيُو، بِاسْتِخْدَامِ تِلِسْكُوبِهِ، بِتَأْيِيدِ النَّظَرِيَّاتِ الْحِسَابِيَّةِ لِعُلَمَاءِ اَلْفَلَكِ فِي الْقَرْنِ السَّادِسَ عَشَرَ، عَبْرَ تَوْجِيهِ التِّلِسْكُوبِ إِلَى السَّمَاءِ، وَإِثْبَاتِ صِحَّةِ نَظَرِيَّاتِ الْقَرْنِ السَّادِسَ عَشَرَ. إِذَنْ، نَشَأَتْ أَزْمَةُ سُلْطَةٍ لَيْسَ فَقَطْ فِي عِلْمِ اللَّاهُوتِ وَالْفَلْسَفَةِ، بَلْ فِي الْعِلْمِ أَيْضًا. وَحَاوَلَ دِيكَارْتْ فِي بَحْثِهِ الْفَلْسَفِيِّ أَنْ يُعِيدَ إِرْسَاءَ أَسَاسٍ مِنَ الْيَقِينِيَّةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَقِّ. وَكَانَ يَبْحَثُ عَمَّا دَعَاهُ بِالْأَفْكَارِ الْوَاضِحَةِ وَالْمُمَيَّزَةِ - أَيْ الْأَفْكَارِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الشَّكَّ، وَلَا يُمْكِنُ رَفْضُهَا إِلَّا بِرَفْضِ الْمَنْطِقِ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ. وَعِنْدَئِذٍ، يُمْكِنُ لِهَذِهِ الْأَفْكَارِ أَنْ تُشَكِّلَ أَسَاسًا لِإِعَادَةِ بِنَاءِ الْمَعْرِفَةِ، سَوَاءٌ فِي الْمَجَالِ الْعِلْمِيِّ، أَوْ اللَّاهُوتِيِّ، أَوْ الْفَلْسَفِيِّ.

وَبِالتَّالِي، فَالْعَمَلِيَّةُ الَّتِي اتَّبَعَهَا دِيكَارْتْ لِبُلُوغِ الْيَقِينِ هِيَ اتِّبَاعُ خُطَّةٍ مِنْ عَدَمِ الْيَقِينِيَّةِ أَوْ الشُّكُوكِيَّةِ. فَشَرَعَ فِي سَعْيٍ حَثِيثٍ وَرَاءَ الشُّكُوكِيَّةِ، حَاوَلَ فِيهِ التَّشْكِيكَ فِي كُلِّ مَا يُمْكِنُ الشَّكُّ فِيهِ. بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، أَرَادَ أَنْ يُعِيدَ النَّظَرَ فِي كُلِّ حَقٍّ مُسَلَّمٍ بِهِ يَتَبَنَّاهُ الْبَشَرُ. فَطَرَحَ أَسْئِلَةً، كَالسُّؤَالِ الْمَعْرِفِيِّ التَّالِي: "هَلْ نَعْلَمُ حَقًّا أَنَّ هَذَا صَحِيحٌ؟"

أُحِبُّ الْعَوْدَةَ أَحْيَانًا إِلَى أُصُولِ الْأَشْيَاءِ. وَفِي الْوَاقِعِ، كَانَ كُلُّ هَدَفِي مِنَ الْبَحْثِ الْفَلْسَفِيِّ هُوَ الْعَوْدَةُ بِاسْتِمْرَارٍ إِلَى الْأُصُولِ الْأَسَاسِيَّةِ، وَالْحَقَائِقِ الْأَسَاسِيَّةِ. فَعَادَةً أُعِدُّ قَائِمَةً وَأَقُولُ لِنَفْسِي: "مَا الْأُمُورُ الْعَشَرَةُ الَّتِي أَعْلَمُهَا فِي يَقِينٍ؟" ثُمَّ أُدَوِّنُهَا، وَأُخْضِعُهَا لِأَدَقَّ نَقْدٍ مُمْكِنٍ، لِأَتَأَكَّدَ مِنْ أَنَّنِي لَا أُصَدِّقُهَا لِمُجَرَّدِ أَنَّ شَخْصًا أُحِبُّهُ عَلَّمَنِي إِيَّاهَا، أَوْ بِسَبَبِ مُيُولِي، أَوْ التَّقَالِيدِ أَوِ الثَّقَافَةِ الَّتِي أَنْتَمِي إِلَيْهَا. فَهَدَفِي هُوَ أَنْ أَعْرِفَ ذَلِكَ: " مِنْ أَيْنَ أَعْلَمُ أَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ الَّتِي أَعْتَبِرُهَا صَحِيحَةً هِيَ صَحِيحَةٌ حَقًّا؟" وَهَذَا وَاحِدٌ مِنْ أَهَمِّ الْمَبَادِئِ لِإِحْرَازِ تَقَدُّمٍ كَبِيرٍ فِي أَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعْرِفَةِ.

مِنْ أَعْظَمِ الْمَبَادِئِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى اكْتِشَافَاتٍ جَدِيدَةٍ هُوَ مَبْدَأُ مُعَارَضَةِ الْمُسَلَّمَاتِ، لِأَنَّهُ هَكَذَا يَتَقَدَّمُ الْفَلَاسِفَةُ، وَالْمُوسِيقِيُّونَ، وَالْعُلَمَاءُ، حِينَ يُعَارِضُونَ مُسَلَّمَاتٍ وَضَعَتْهَا الْأَجْيَالُ السَّابِقَةُ، وَقَبِلُوهَا دُونَ فَحْصٍ، وَسَلَّمُوهَا مِنْ جِيلٍ إِلَى آخَرَ. فَقَدِ اسْتَمَرَّ النِّظَامُ الْبَطْلَمِيُّ لِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ بِسَبَبِ قَبُولِ النَّاسِ لِنَظَرِيَّاتٍ غَيْرِ مُثْبَتَةٍ. فَيَجِبُ أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ بِأَنْفُسِنَا، مُخْضِعِينَ تَفْكِيرَنَا لِاسْتِجْوَابٍ دَقِيقٍ. رَأَيْتُمْ جَمِيعًا مَا يَحْدُثُ فِي الْمُحَاكَمَاتِ، حَيْثُ تَسْمَعُونَ أَحَدَهُمْ يَعْرِضُ قَضِيَّتَهُ، فَتَسْمَعُونَ جَانِبًا وَاحِدًا مِنَ الْأَمْرِ، فَيَبْدُو لَكُمْ مَنْطِقِيًّا. ثُمَّ تَجْلِسُونَ هُنَاكَ وَتُومِئُونَ بِرُؤُوسِكُمْ قَائِلِينَ: "نَعَمْ، نَعَمْ، نَعَمْ"، إِلَى أَنْ يَبْدَأَ الِاسْتِجْوَابُ، وَيَبْدَأَ الْآخَرُونَ فِي طَرْحِ أَسْئِلَةٍ حَوْلَ الشَّهَادَةِ الَّتِي سَمِعْتَهَا. وَبَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنَ الِاسْتِمَاعِ إِلَى الطَّرَفَيْنِ، تَكْتَشِفُ أَنَّكَ لَمْ تَعُدْ تَعْلَمُ مَنْ يَقُولُ الصِّدْقَ. وَلِذَلِكَ، يَحْمِلُ هَذَا قِيمَةً كَبِيرَةً.

لَا يَعْنِي ذَلِكَ أَنْ تَسْتَسْلِمَ لِلشُّكُوكِيَّةِ. لَكِنَّ هَذَا مَا فَعَلَهُ دِيكَارْتْ. قَالَ: "سَأَشُكُّ فِي كُلِّ مَا يُمْكِنُنِي الشَّكُّ فِيهِ. سَأَشُكُّ فِيمَا أَرَاهُ بِعَيْنِي، وَأَسْمَعُهُ بِأُذُنِي، لِأَنَّنِي أُدْرِكُ أَنَّهُ يُمْكِنُ لِحَوَاسِّي أَنْ تَخْدَعَ". تَحَدَّثْنَا عَنْ ذَلِكَ، وَأَشَرْنَا إِلَى مِجْدَافِ أُوغُسْطِينُوسَ الَّذِي حِينَ تَنْظُرُ فِي الْمِيَاهِ يَبْدُو لَكَ مَائِلًا. وَهَذَا مَا فَعَلَهُ دِيكَارْتْ. وَقَالَ: "لَيْسَ هَذَا فَقَطْ، لَكِنْ رُبَّمَا كَانَ هَذَا الْعَالَمُ تَحْتَ سَيْطَرَةِ الْمُخَادِعِ الْأَعْظَمِ، ذَلِكَ الْكَائِنِ الشَّيْطَانِيِّ الْكَذَّابِ، الَّذِي يُقَدِّمُ لَنَا بِاسْتِمْرَارٍ نَظْرَةً خَاطِئَةً عَنِ الْوَاقِعِ. فَهُوَ رَئِيسُ الْأَوْهَامِ. وَهُوَ يَضَعُ هَذِهِ الْأَوْهَامَ أَمَامِي بِاسْتِمْرَارٍ لِيَخْدَعَنِي. فَكَيْفَ لِي أَنْ أَعْرِفَ أَنَّ الْوَاقِعَ هُوَ كَمَا أَرَاهُ؟"

أَتَذْكُرُونَ الْمَبَادِئَ الْأَسَاسِيَّةَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي الْبِدَايَةِ؟ كَانَ أَحَدُهَا هُوَ الْمَوْثُوقِيَّةُ الْأَسَاسِيَّةُ لِلْإِدْرَاكِ الْحِسِّيِّ، لِأَنَّنَا إِذَا لَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نَثِقَ بِحَوَاسِّنَا فِي أَبْسَطِ الْأُمُورِ، لَنْ نَسْتَطِيعَ الْخُرُوجَ خَارِجَ عُقُولِنَا، لِنَتَوَاصَلَ مَعَ الْعَالَمِ الْخَارِجِيِّ. وَهَذَا مَا يُعْرَفُ بِأَزْمَةِ الذَّاتِيِّ-الْمَوْضُوعِيِّ. كَيْفَ أَعْلَمُ إِذَا كَانَ الْعَالَمُ الْمَوْضُوعِيُّ بِالْخَارِجِ هُوَ كَمَا أَرَاهُ تَمَامًا مِنْ مَنْظُورِي الذَّاتِيِّ؟ وَكَمَا ذَكَرْتُ، كَانَ دِيكَارْتْ عَلَى وَعْيٍ شَدِيدٍ بِذَلِكَ، فَقَدَّمَ بَعْضَ الِاحْتِمَالَاتِ الْمُسْتَحِيلَةِ، وَقَالَ: "رُبَّمَا لَيْسَ مَنْطِقِيًّا كَثِيرًا أَنْ نُفَكِّرَ فِي وُجُودِ مُخَادِعٍ عَظِيمٍ يُوَلِّدُ هَذَا الْوَهْمَ الْكَبِيرَ بِالْخَارِجِ، لَكِنَّ هَذَا مُحْتَمَلٌ". وَقَالَ: "إِذَنْ، إِذَا كَانَ الْأَمْرُ مُحْتَمَلًا، فَلَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَعْلَمَ عَنْ يَقِينٍ إِنْ كَانَ الْوَاقِعُ كَمَا أَرَاهُ تَمَامًا. إِذَنْ، مُجَدَّدًا مَا الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ أَعْلَمَهُ فِي يَقِينٍ؟" عَلَى أَيِّ حَالٍ، بَعْدَمَا انْخَرَطَ فِي هَذِهِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُوَسَّعَةِ مِنَ الشَّكِّ، خَرَجَ بِشِعَارِهِ الْمَعْرُوفِ، الَّذِي اشْتُهِرَ بِهِ، وَهُوَ "Cogito ergo sum"، "أَنَا أُفَكِّرُ، إِذَنْ أَنَا مَوْجُودٌ". وَقَالَ: "مَهْمَا أَصْبَحْتُ شُكُوكِيًّا، الْأَمْرُ الْوَحِيدُ الَّذِي لَا يُمْكِنُنِي الشَّكُّ فِيهِ، كُلَّمَا شَكَكْتُ فِيمَا أَشُكُّ فِيهِ، هُوَ أَنَّنِي أَشُكُّ. لِأَنَّنِي إِذَا شَكَكْتُ فِي كَوْنِي أَشُكُّ، فَسَيَلْزَمُ أَنْ أَشُكَّ فِي كَوْنِي أَشُكُّ. وَإِذَا شَكَكْتُ فِي كَوْنِي أَشُكُّ، سَيَكُونُ عَلَيَّ أَنْ أَشُكَّ فِي شَكِّي فِي كَوْنِي أَشُكُّ. وَبِالتَّالِي، لَا مَجَالَ لِلْهُرُوبِ مِنْ حَقِيقَةِ الشَّكِّ". فَقَدْ تَقُولُ: "أَشُكُّ فِي هَذَا الْأَمْرِ"، وَبِهَذَا تَكُونُ قَدْ أَثْبَتَّ الْفِكْرَةَ نَفْسَهَا مَحَلَّ النِّزَاعِ. وَقَالَ: "الْأَمْرُ الْوَحِيدُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ أَنَّنِي أَشُكُّ، لِأَنَّكَ إِذَا شَكَكْتَ فِي ذَلِكَ، أكُونُ قَدْ أَثْبَتُّ فَرَضِيَّتِي". وَبِالتَّالِي، تَوَصَّلَ إِلَى الِاسْتِنْتَاجِ بِأَنَّ لَا شَكَّ فِي كَوْنِي أَشُكُّ.

ثُمَّ طَرَحَ هَذَا السُّؤَالَ: "مَا اللَّازِمُ لِوُجُودِ شَكٍّ؟" وَقَالَ: "وُجُودُ الشَّكِّ يَسْتَلْزِمُ إِدْرَاكًا. فَالشَّكُّ يَسْتَلْزِمُ تَفْكِيرًا - تَفْكِيرًا وَاعِيًا - لِأَنَّ الشَّكَّ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ التَّفْكِيرِ. وَدُونَ تَفْكِيرٍ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ شَكٌّ. إِذَنْ، إِذَا كُنْتُ أَشُكُّ، فَمَاذَا سَأَعْلَمُ؟ أَنَّنِي أُفَكِّرُ. فَعَلَى الْأَقَلِّ، أَنَا أُفَكِّرُ فِي كَوْنِي أُفَكِّرُ. وَمَاذَا إِذَا قُلْتَ إِنَّكَ لَا تُفَكِّرُ فِي كَوْنِي أُفَكِّرُ؟ حَسَنًا، كَيْ تَقُولَ إِنَّكَ لَا تُفَكِّرُ فِي كَوْنِي أُفَكِّرُ، لَا بُدَّ مِنْ أَنَّكَ فَكَّرْتَ. إِذَنْ، لَا يَسَعُنِي الْهُرُوبُ مِنْ حَقِيقَةِ أَنَّنِي أُفَكِّرُ، لِأَنَّ الشَّكَّ يَعْنِي التَّفْكِيرَ".

ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْفَرْضِيَّةِ التَّالِيَةِ الْقَائِلَةِ: "كَمَا يَسْتَلْزِمُ الشَّكُّ وُجُودَ مُشَكِّكٍ، وَكَمَا يَسْتَلْزِمُ التَّفْكِيرُ وُجُودَ مُفَكِّرٍ، هَكَذَا إِذَا كُنْتُ أَشُكُّ، يَجِبُ أَنْ أَسْتَنْتِجَ مَنْطِقِيًّا أَنَّنِي أُفَكِّرُ. وَإِذَا كُنْتُ أُفَكِّرُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنَّنِي مَوْجُودٌ، لِأَنَّ مَا لَيْسَ مَوْجُودًا لَا يَقْدِرُ أَنْ يُفَكِّرَ. وَمَنْ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُفَكِّرَ، لَا يَقْدِرُ أَنْ يَشُكَّ. وَبِمَا أَنَّهُ لَا شَكَّ فِي كَوْنِي أَشُكُّ، فَهَذَا يَعْنِي أَيْضًا أَنَّنِي أُفَكِّرُ. وَإِذَا كُنْتُ أُفَكِّرُ، فَأَنَا مَوْجُودٌ أَيْضًا". وَأَضَافَ: "وَبِهَذَا، أَتَوَصَّلُ إِلَى الِاسْتِنْتَاجِ التَّالِي: Cogito - أَنَا أُفَكِّرُ - Ergo - إِذَنْ - Sum - أَنَا مَوْجُودٌ".

الَّذِينَ لَا يَدْرُسُونَ الْفَلْسَفَةَ يَنْظُرُونَ إِلَى هَذِهِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُطَوَّلَةِ الَّتِي خَاضَهَا دِيكَارْتْ وَيَقُولُونَ: "لِهَذَا السَّبَبِ الْفَلْسَفَةُ حَمَاقَةٌ كَبِيرَةٌ. كَيْفَ يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَصْرِفَ كُلَّ هَذَا الْوَقْتِ، وَيَبْذُلَ كُلَّ هَذَا الْجُهْدِ، لِيَكْتَشِفَ مَا يَعْلَمُهُ أَيُّ شَخْصٍ حَيٍّ وَيَقِظٍ وَوَاعٍ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ أَنَّهُ مَوْجُودٌ؟ فَلَا أَحَدَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ وُجُودَهُ. فَلَا أَحَدَ يُؤْمِنُ حَقًّا بِأَنَّهُ مُجَرَّدُ نَجْمَةٍ تَظْهَرُ فِي حُلْمِ شَخْصٍ آخَرَ. لَكِنْ مُجَدَّدًا، تَذَكَّرُوا هَدَفَ دِيكَارْتْ. فَقَدْ كَانَ مُتَخَصِّصًا فِي الرِّيَاضِيَّاتِ، وَكَانَ يَبْحَثُ عَنِ الْيَقِينِ، فِي الْمَجَالِ الْفَلْسَفِيِّ، الَّذِي يُسَاوِي - مِنْ حَيْثُ الْقُوَّةُ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْإِقْنَاعِ بِالْمَنْطِقِ - الْيَقِينُ الَّذِي يُمْكِنُ التَّوَصُّلُ إِلَيْهِ فِي الرِّيَاضِيَّاتِ. وَلِهَذَا خَاضَ هَذِهِ الْعَمَلِيَّةَ، وَأَرَادَ التَّوَصُّلَ إِلَى مَبْدَأٍ أَوَّلِيٍّ، فَقَالَ: "حَتَّى يَتَسَنَّى لِي الِاخْتِلَاءُ بِذَاتِي، وَاسْتِخْدَامُ فَنِّ الِاسْتِدْلَالِ، دُونَ الِاعْتِمَادِ عَلَى حَوَاسِّي لِإِدْرَاكِ الْحَقِّ. وَبِالتَّالِي، أَبْدَأُ بِمَعْرِفَةِ وَعْيِي الذَّاتِيِّ".

ذَكَرْتُ الْبَارِحَةَ، أَوْ مُنْذُ مُحَاضَرَتَيْنِ، حِينَ تَحَدَّثْنَا عَنِ الدِّفَاعِيَّاتِ الِافْتِرَاضِيَّةِ، أَنَّهُ فِي الدِّفَاعِيَّاتِ الْكْلَاسِيكِيَّةِ، لَيْسَتْ نُقْطَةُ الِانْطِلَاقِ هِيَ الْوَعْيُ بِاللَّهِ، لِأَنَّنَا نَقُولُ إِنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ هُوَ مَنْ يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْطَلِقَ مِنْ هُنَاكَ، بَلْ نُقْطَةُ الِانْطِلَاقِ الْمَعْرِفِيَّةُ لَدَى الدِّفَاعِيِّينَ الْمَسِيحِيِّينَ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْوَعْيُ الذَّاتِيُّ، حَيْثُ تَنْطَلِقُ مِنْ عَقْلِكَ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْعَقْلُ الْوَحِيدُ الْمُتَاحُ لَدَيْكَ. وَأَيُّ فِكْرٍ يَبْدَأُ مِنْ إِدْرَاكٍ - إِدْرَاكٍ وَاعٍ - لِتَفْكِيرِ الْمَرْءِ أَوْ وُجُودِهِ. وَهَذَا مَا أَرَادَ دِيكَارْتْ قَوْلَهُ: "بِغَضِّ النَّظَرِ عَمَّا هُوَ مَوْضِعُ شَكٍّ، لَا شَكَّ فِي أَنَّنِي شَخْصٌ وَاعٍ بِذَاتِي وَمَوْجُودٌ. لَيْسَ عَلَيَّ النَّظَرُ إِلَى رِجْلِيَّ لِأَعْلَمَ أَنَّنِي مَوْجُودٌ. فَلَسْتُ مُعْتَمِدًا عَلَى أَيِّ إِدْرَاكٍ حِسِّيٍّ خَارِجِيٍّ. لَكِنَّنِي أَكْتَشِفُ ذَلِكَ فَقَطْ مِنْ خِلَالِ عَمَلِيَّاتِ التَّفْكِيرِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّاخِلِيَّةِ. فَلَسْتُ مُعْتَمِدًا عَلَى مُعْطَيَاتٍ خَارِجِيَّةٍ". وَبِالتَّالِي، يَظَلُّ فِي اسْتِنْتَاجَاتِهِ دَاخِلَ إِطَارِ الِاسْتِنْتَاجِ الْمَنْطِقِيِّ.

هَذَا مُهِمٌّ لِأَنَّ دِيكَارْتْ تَخَلَّصَ بِذَلِكَ مِنَ الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاقِعَ وَهْمٌ. رُبَّمَا تُوجَدُ بِالْفِعْلِ أَوْهَامٌ فِي الْوَاقِعِ، لَكِنْ لَوْ قُلْنَا إِنَّ الْوَاقِعَ كُلَّهُ وَهْمٌ، فَهَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ لَا شَيْءَ مَوْجُودٌ، بِمَا فِي ذَلِكَ أَنَا نَفْسِي. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ أَشُكَّ فِي وُجُودِي إِلَّا لِأُثْبِتَ بِهَذَا حَقِيقَةَ وُجُودِي. هَذِهِ هِيَ الْفِكْرَةُ الَّتِي حَاوَلَ الْوُصُولَ إِلَيْهَا، وَهِيَ أَنَّ الْبَدِيلَ الْأَوَّلَ مِنَ الْبَدَائِلِ الْأَرْبَعَةِ يَجِبُ أَنْ يُسْتَبْعَدَ مِنْ كَوْنِهِ سَبَبًا كَافِيًا لِتَفْسِيرِ الْكَوْنِ، لِأَنَّ حُجَّتَهُ تُثْبِتُ أَنَّ شَيْئًا مَا مَوْجُودٌ، وَهَذَا الشَّيْءُ الْمَوْجُودُ هُوَ وَعْيُهُ بِذَاتِهِ.

بِتَعْبِيرٍ آخَرَ، لَوْ كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الطَّبْشُورَةَ وَهْمٌ، وَرُبَّمَا تَكُونُ كَذَلِكَ - لَمْ أَقُلْ إِنَّ هَذِهِ الطَّبْشُورَةَ تُثْبِتُ وُجُودَ اللَّهِ، بَلْ أَقُولُ إِنَّهُ إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الطَّبْشُورَةُ مَوْجُودَةً حَقًّا، فَهَذَا يُثْبِتُ وُجُودَ اللَّهِ. لَكِنَّ هَذِهِ الطَّبْشُورَةَ قَدْ تَكُونُ وَهْمًا؛ وَبِالتَّالِي، يَجِبُ أَنْ أَتَّخِذَ مَنْحًى آخَرَ، وَأَقُولَ إنَّهُ إذَا كَانَ شَيْءٌ مَوْجُودًا، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ مَوْجُودًا. وَبِذَلِكَ، لَنْ أَكُونَ مُنْحَصِرًا فِي هَذَا الْجُزْءِ الصَّغِيرِ مِنَ الْوَاقِعِ، أَيْ فِي تِلْكَ الطَّبْشُورَةِ، لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ وَهْمًا. لَا أَظُنُّ ذَلِكَ، لَكِنَّ هَذَا مُمْكِنٌ، نَظَرِيًّا. لَكِنَّ مَا يَنْبَغِي إِثْبَاتُهُ، إِذَا أَرَدْتُ لِنِظَامِي أَنْ يَنْجَحَ، هُوَ وُجُودُ شَيْءٍ مَا. وَهُنَا أَشْكُرُ دِيكَارْتْ عَلَى حَلِّ تِلْكَ الْمُشْكِلَةِ بِإِثْبَاتِ وُجُودِ ذَاتِهِ.

وَمَا الْأُمُورُ الَّتِي افْتَرَضَهَا لِيَتَوَصَّلَ إِلَى اسْتِنْتَاجِهِ؟ فَثَمَّةَ فَلَاسِفَةٌ لَا يُوَافِقُونَ عَلَى فَرْضِيَّةِ cogito ergo sum، وَيُصِرُّونَ عَلَى عَدَمِ وُجُودِ أَسَاسٍ فِي الْوَاقِعِ لِتَوَصُّلِهِ إِلَى ذَلِكَ الِاسْتِنْتَاجِ. فَأَشَارُوا، مُحِقِّينَ، إِلَى حَدٍّ مَا عَلَى الْأَقَلِّ، إِلَى وُجُودِ افْتِرَاضَاتٍ مُعَيَّنَةٍ طَرَحَهَا دِيكَارْتْ طَوَالَ الْوَقْتِ، كَيْ يَتَوَصَّلَ إِلَى هَذَا الِاسْتِنْتَاجِ. فَطَرَحَ افْتِرَاضَيْنِ رَئِيسِيَّيْنِ لِيَتَوَصَّلَ إِلَى اسْتِنْتَاجِ أَنَّهُ لِأَنَّهُ يَشُكُّ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنَّهُ يُفَكِّرُ، وَلِأَنَّهُ يُفَكِّرُ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنَّهُ مَوْجُودٌ.

الِافْتِرَاضُ الْأَوَّلُ الَّذِي طَرَحَهُ بِوُضُوحٍ هُوَ الْمَبْدَأُ الْمَعْرِفِيُّ الْمُتَعَلِّقُ بِقَانُونِ عَدَمِ التَّنَاقُضِ. فَهُوَ يَفْتَرِضُ الْمَنْطِقَ، وَيَفْتَرِضُ الْعَقْلَانِيَّةَ، أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ لِأَنَّهُ يَقُولُ: "إِذَا كُنْتُ أَشُكُّ، وَإِذَا كَانَ الشَّكُّ مَوْجُودًا. إِذَا كُنْتُ أَشُكُّ، وَإِذَا كُنْتُ أَشُكُّ فِي كَوْنِي أَشُكُّ، فَلَا بُدَّ أَنَّنِي أَشُكُّ". هَذَا اسْتِنْتَاجٌ مَنْطِقِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى قَانُونِ عَدَمِ التَّنَاقُضِ. وَيُمْكِنُ لِلشَّخْصِ الْوُجُودِيِّ غَيْرِ الْعَقْلَانِيِّ أَنْ يَقُولَ: "وَمَا الْمُشْكِلَةُ أَلَّا يَكُونَ الْأَمْرُ عَقْلَانِيًّا؟ فَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُوَاصِلَ الْعَيْشَ فِي وَهْمٍ، وَيُمْكِنُ لِلْمُشَكِّكِينَ أَنْ يَشُكُّوا دُونَ أَنْ يَشُكُّوا". هَذَا مَا يَقُولُهُ غَيْرُ اَلْعَقْلَانِيِّينَ. لَكِنْ تَذَكَّرُوا أَنَّ الدِّفَاعِيَّاتِ الْكِلَاسِيكِيَّةَ تُحَاوِلُ فَقَطْ أَنْ تُبَيِّنَ أَنَّ الْمَنْطِقَ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ كَائِنٍ أَزَلِيٍّ ذَاتِيِّ الْوُجُودِ. فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمْ مُلْحِدًا وَقَالَ: "لَا أُؤْمِنُ بِوُجُودِ اللَّهِ لِأَنَّنِي لَا أُؤْمِنُ بِالْعَقْلَانِيَّةِ"، فَسَأُعْطِيهِ الْمَيِكْرُوفُونَ قَائِلًا: "رَجَاءً، أَخْبِرِ الْعَالَمَ كُلَّهُ بِأَنَّ بَدِيلَكَ لِلْإِيمَانِ بِوُجُودِ اللَّهِ مُنَافٍ لِلْعَقْلِ. وَفِّرْ عَلَيَّ عَنَاءَ وَمَشَقَّةَ إِثْبَاتِ ذَلِكَ. لَيْسَ عَلَيَّ أَنْ أُثْبِتَ ذَلِكَ إِذَا كُنْتَ تُقِرُّ بِهِ". فَقَدْ نَأَى هَؤُلَاءِ بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ أَيَّةِ مُنَاقَشَةٍ فِكْرِيَّةٍ بِاعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّ فَرْضِيَّتَهُمْ غَيْرُ عَقْلَانِيَّةٍ. وَحَاوَلَ دِيكَارْتْ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ كَمَا أَنَّ مَجَالَ الرِّيَاضِيَّاتِ مَنْطِقِيٌّ، وَكَمَا أَنَّ الْعِلْمَ السَّلِيمَ مَنْطِقِيٌّ، يَجِبُ عَلَى الْفَلْسَفَةِ السَّلِيمَةِ أَنْ تَكُونَ مَنْطِقِيَّةً. وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ عَقْلَانِيًّا، وَمَنْطِقِيًّا، لَنْ تَسْتَطِيعَ إِنْكَارَ أَنَّكَ كَيْ تَشُكَّ، لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَشُكَّ.

ثُمَّ الْفَرْضِيَّةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي طَرَحَهَا هِيَ الْقَانُونُ الثَّانِي الَّذِي تَحَدَّثْنَا عَنْهُ فِي بِدَايَةِ هَذِهِ السِّلْسِلَةِ، وَهُوَ قَانُونُ السَّبَبِيَّةِ. فَحِينَ قَالَ إِنَّ الشَّكَّ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ مُشَكِّكٍ، قَصَدَ أَنَّ الشَّكَّ نَتِيجَةٌ تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ سَبَبٍ يَسْبِقُهَا. وَلِذَلِكَ، قَالَ بَعْضُ نُقَّادِ دِيكَارْتْ: "مَهْلًا، لَا يَثْبُتُ هَذَا أَنَّهُ مَوْجُودٌ، لِأَنَّهُ يَفْتَرِضُ الْمَنْطِقَ، وَيَفْتَرَضُ السَّبَبِيَّةَ، وَنَحْنُ لَا نَقْبَلُ هَاتَيْنِ الْفَرْضِيَّتَيْنِ". وَنُجِيبُ عَنْ ذَلِكَ وَنَقُولُ: "حَسَنًا، لَا بَأْسَ فِي رَغْبَتِكُمْ أَنْ تَكُونُوا غَيْرَ عَقْلَانِيِّينَ"، لِأَنَّنَا رَأَيْنَا، كَمَا تَذْكُرُونَ، أَنَّ قَانُونَ السَّبَبِيَّةِ مُجَرَّدُ امْتِدَادٍ لِقَانُونِ عَدَمِ التَّنَاقُضِ، وَأَنَّ قَانُونَ السَّبَبِيَّةِ الْقَائِلَ إِنَّهُ لِكُلِّ نَتِيجَةٍ لَا بُدَّ من أَنْ يُوجَدَ سَبَبٌ يَسْبِقُهَا، هُوَ حَقٌّ قَاطِعٌ. وَهُوَ قَاطِعٌ كَمَا أَنَّ اثْنَيْنِ زَائِدُ اثْنَيْنِ يُسَاوِي أَرْبَعَةً، لِأَنَّهُ صَحِيحٌ بِحُكْمِ تَعْرِيفِهِ. إِذَنْ، إذَا افْتَرَضْنَا - تَذَكَّرُوا أَنَّنِي قُلْتُ فِي الْبِدَايَةِ إِيَّاكُمْ وَالتَّفَاوُضَ فِي قَانُونِ عَدَمِ التَّنَاقُضِ، وَإِيَّاكُمْ وَالتَّفَاوُضَ فِي قَانُونِ السَّبَبِيَّةِ، لِأَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ، يَنْتَهِي بِكُمُ الْحَالُ إِلَى عَدَمِ الْعَقْلَانِيَّةِ. لَكِنْ إِذَا اسْتَخْدَمْتُمْ تِلْكَ الْمَبَادِئَ الضَّرُورِيَّةَ لِخَوْضِ أَيِّ حَدِيثٍ مَفْهُومٍ فِي كُلٍّ مِنَ الْعُلُومِ، وَالْفَلْسَفَةِ، وَعِلْمِ اللَّاهُوتِ، فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّكُمْ سَتَنْجَحُونَ مِنَ الْإِفْلَاتِ مِنَ الِاسْتِنْتَاجِ الَّذِي تَوَصَّلَ إِلَيْهِ دِيكَارْتْ، وَهُوَ أَنَّنَا نَسْتَطِيعُ، عَبْرَ مَنْطِقٍ لَا يُمْكِنُ مُقَاوَمَتُهُ، وَبِالتَّفْكِيرِ الْمَنْطِقِيِّ وَحْدَهُ، التَّوَصُّلَ إِلَى الِاسْتِنْتَاجِ بِأَنَّنَا مَوْجُودُونَ، الْأَمْرُ الْكَافِي لِاسْتِبْعَادِ الْفَرْضِيَّةِ الْأُولَى الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْوَهْمِ مِنْ كَوْنِهَا بَدِيلًا يُمْكِنُ أَنْ يُمَثِّلَ سَبَبًا كَافِيًا لِوُجُودِ الْعَالَمِ.